الدروس
course cover
تفسير الوصيّة الأولى
10 Jun 2015
10 Jun 2015

6435

0

0

course cover
الرسائل التفسيرية للمتقدمين

القسم الثاني

تفسير الوصيّة الأولى
10 Jun 2015
10 Jun 2015

10 Jun 2015

6435

0

0


0

0

0

0

0

تفسير الوصيّة الأولى






قال الله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
تضمّنت هذه الآية الكريمة أوّل وصيّة بلغتنا أوصى الله بها الجنس البشري عند بدء هذه الحياة الدنيا؛ وهي وصيّة عظيمة الدلائل، جليلة المقاصد، لطيفة الإشارات، تضمّنت إرشاداً عظيماً ووعداً كريماً تقوم عليهما سنّة هذه الحياة، من لدن بدئها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمن عقل هذه الوصية فقد أدرك معرفة أعظم سنن الحياة؛ وأبصر طريق النجاة، وعرف كيف يسلك الصراط المستقيم المفضي إلى رضوان الله وجنّات النعيم، وعرف كيف يتّقي الآفات والمكائد، وكيف ينجو من المزالق والمصائد، وكيف يحيا حياة طيّبة، يطمئنّ فيها قلبه، وتقرّ بها عينه، وتحسن بها عاقبته.

{قلنا اهبطوا}
القائل هو الله تعالى، والضمير إذا عاد إلى مفرد وصيغ بصيغة الجمع فهو للتعظيم .
والخطاب: لآدم وحواء وإبليس، وهذا أمر كونيّ قدّره الله على آدم وزوجه فسرى أثره على ذريّتهما من بعدهما، وسيبقى أثره إلى آخر يوم من أيام الحياة الدنيا.
وقد زوّدهم الله عند هبوطهم بهذه الوصيّة العظيمة التي تصلح لمن خوطب بها في ذلك الوقت، ولمن أتى بعدهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
قال ابن جرير رحمه الله: (وذلك وإن كان خطابًا من اللّه جلّ ذكره لمن أهبط حينئذ من السّماء إلى الأرض، فهو سنّة اللّه في جميع خلقه)ا.هـ.
ولفظ الهبوط له أثر لا يخفى على النفس المؤمنة والقلوب المخبتة؛ فتحنّ إلى ما كان عليه الأبوان من القرب والتكريم، والعيش الكريم، والسلامة من الأنكاد واللأواء.
فتحنّ إليها كما يحنّ الفرع إلى أصله، والمرء إلى أهله.
كما قال ابن القيّم رحمه الله تعالى:

فحي على جنـات عـدن فإنـهـا ... منازلك الأولى وفيها المخيــــم

ولكننا سبى العـدو فـهـــــل تـرى ... نعـــــــــــــود إلى أوطاننـا ونسلّــــم

فنحن في الدار التي اقتضاها هذا الهبوط؛ وما تبع هذا الهبوط من الابتلاءات والمحن، واللأواء والفتن.

والسعيد الموفّق هو الذي يتوق إلى دار العلوّ والخلود، ويحنّ إلى ما كان عليه أبواه من القرب والتكريم، ويفقه السبب الذي أخرجا به من الجنّة؛ فيكون حذراً من مخالفة أمر الله، حريصاً على اتّباع هداه؛ فيقوده حرصه إلى الأخذ بما أخذ به أبواه من أسباب النجاة بالتوبة إلى الله، والإقرار بالذنب، وطلب العفو والمغفرة والهداية {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة}.

والشقيّ المخذول هو الذي يتعامى عن بذل أسباب النجاة، ويوغل في اتبّاع هواه؛ حتى يلاقي جزاء غيّه وبغيه وإعراضه عن هدى الله.


{منها} أي من الجنّة التي في السماء؛ فهبطوا منها إلى الأرض على كيفية الله أعلم بها.

{فإمّا يأتينّكم مني هدى} وهذا وعد وتبصير بأنّه سيأتينا هدى من الله.

{منّي} أي من الله، لا من غيره؛ فالهدى الذي ينفع صاحبه وينجّيه هو الهدى الذي يكون مصدره من الله؛ وكل هدى ليس من الله فهو ضلال؛ لا يعدو أن يكون اتّباعاً للظنّ والهوى؛ كما قال الله تعالى: {إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى} فجعل الهدى منه جلّ وعلا، وما يقابله هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس.

- وقال تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} وهذا أسلوب حصر مؤكد.

- وقال تعالى: {قل إن الهدى هدى الله}.

وهذا كلّه يدلّ دلالة واضحة على أن الهدى النافع المنجي هو الهدى الذي يأتي من الله تعالى، وأن ما سواه فإنما هو اتّباع للهوى؛ كما قال تعالى:{ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدى من الله}.

ومصداق ذلك في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلّ وعلا أنّه قال: [يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم] أخرجه الإمام مسلم.

وهذا يشمل جميع ما يحتاجون إلى الهداية فيه.


وهذا يفيدنا فائدة جليلة في منهجنا في الحياة وتعاملنا مع الأحداث، وكيف نصنع فيما نبتلى به من الفتن والمحن وتقلّبات الأمور ومكائد الأعداء، وكيف نميّز الناصح الصادق من الغرور الكاذب، ولو أضفى على قوله من زخرف القول ما أضفى، ولو قاسمنا بالله إنه لمن الناصحين، ولو كان صاحب مكانة سابقة، وذا علم وتصدّر.

فإننا نعرض تلك الوصايا والنصائح على الهدى الذي أتانا من الله؛ فما وافقه فسيكون له نوره وبهجته وطمأنينته، وما خالفه فسرعان ما ينكشف زيفه لمن كانت له بصيرة بهدى الله، فإنّ المؤمن المتّبع لهدى الله يجعل الله له في قلبه نوراً وفرقانا يميّز به الحقّ من الباطل، ويكشف له زيف المزيّفين، وإن انخدع به من انخدع ، وإن اغترّ به أصحابه وظنّوا ما يأتونه حسناً ورشداً، فإنّ الحقّ والتبيّن يورث الطمأنينة واليقين بحسن العاقبة لمن اتّبع الهدى؛ كما قال الله تعالى: {أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتّبعوا أهواءهم}.

ومن أسباب ذلك أنّ المؤمن لديه أصول بيّنة محكمة يعرفها من هدى الله، تدعو إلى عبادته تعالى وتوحيده، والخضوع له وتمجيده، وتعظيم أمره، وتصديق وعده، وتدعو إلى المحاسن والمكارم، وتنهى عن القبائح والمآثم، وغير ذلك من الأصول المحكمة التي لا يمكن أن تنخرم؛ فيعرفها المؤمن ويوقن بأنّ ما يخالفها ضلال وباطل؛ فإذا أتى المبطل بزخرف قوله ليغرّ به من يستمع إليه عرف المؤمن من كلامه ما يخالف الأصول البيّنة التي لديه؛ فاحترز منه ولم يفتنه قوله.

وأمّا الجاهل فإنّه ربّما اغترّ بزخرف القول ووجد في أقوالهم ما يوافق هوى نفسه فيتبّعه ويظنّه حقّا؛ فإذا ذكّر بآيات الله البيّنة الواضحة أعرض عنها وأقبل على ما تهواه نفسه، حتى يبتلى بأن يزيّن له سوء عمله، والعياذ بالله.

{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا}

والإعراض عن ذكر الله جريمة متوعّد عليها بالنقمة؛ كما قال الله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثمّ أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون}.


{فإمّا يأتينّكم منّي هدى}

وقوله تعالى:{فإمّا يأتينّكم منّي هدى} فيه تبصير للمخاطبين به ولمن بعدهم بأنهم سيأتيهم هدى من الله؛ وقد وقع هذا الوعد؛ فكلّ أمّة من الأمم قد أتاها هدى من الله، كما قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً} وقال تعالى: {وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير}، وقال جلّ وعلا : {ولكل أمّة جعلنا منسكاً}.

ونحن قد جاءنا أعظم الهدى من الله؛ فأرسل الله إلينا خير رسله وأعظمهم بركة وأحسنهم بياناً، وأنزل معه أفضل كتبه، وأعظمها هداية وبركة، وجعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من الله، والقرآن منزّل من عند الله كما قال الله تعالى: {وإنك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم}، وقال تعالى: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيّمة} ، وقال جل وعلا: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}.

وقال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنّور الذي أنزلنا}، وقال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.

فنصيب هذه الأمّة من الهدى هو أعظم نصيب أعطيته أمّة من الأمم، ولذلك كانت خير أمّة أخرجت للناس، وكان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر أتباع الأنبياء، فكانوا أكثر أهل الجنّة.

فالهدى الذي أتانا من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن القرآن كلّه هدى من الله.


{هدى}

الهدى هنا: البيان والإرشاد.

وهدى الله على أنواع؛ كما قال أبو العالية الرياحي رحمه الله: (الهدى: الأنبياء والرسل والبيان). رواه ابن جرير.

وهذه كلمة جليلة من هذا التابعيّ الجليل.

فالأنبياء والرسل هم أصل بيان الهدى، وما معهم من الكتب التي بعثهم الله بها فيها هدى ونور.

وأمّا البيان فهو معنى جامع لأنواع:

- فمنه البيان الذي تقوم به الحجّة، وهو كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي شرحه.

- ومنه التذكير الذي يوعظ به المرء؛ فيذكّره بما كان يعرفه من الهدى، وهذا التذكير له أنواع كثيرة؛ فمنه التذكير بالقرآن، ومنه التذكير بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وبأقوال الصالحين ووصاياهم، ومنه واعظ الله في قلب كلّ مؤمن.

- ومنه التذكير ببعض الأقدار المؤلمة كما قال الله تعالى: { أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّةً أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون}.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (التّذكّر اسمٌ جامعٌ لكلّ ما أمر اللّه بتذكّره ).

- ومنه التذكير بالآيات الكونية، كما قال الله تعالى: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارًا وسبلًا لعلّكم تهتدون (15) وعلامات وبالنّجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون (17)}

وقال تعالى: { هو الّذي يريكم آياته وينزّل لكم من السّماء رزقًا وما يتذكّر إلّا من ينيب}.

وقال تعالى: { ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون}.

وقال تعالى: {أفرأيتم النّار الّتي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرةً ومتاعًا للمقوين }؛ فقدّم الفائدة الدينية وهي التذكرة على الفائدة الدنيوية وهي متاع المقوين تنبيها على تقديم مراد الله تعالى على مراد العبد.

ومن البيان: العبر والآيات التي يراها المرء في الآفاق وفي نفسه، وما يرى من عقوبات المخالفين لهدى الله، والسعيد من وعظ بغيره، وقد قال الله تعالى: {أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير}.

قال الأمين الشنقيطي: (فجعل تعمير الإنسان عمرًا يتذكّر فيه وينيب إلى ربّه حجّةً عليه كالرسول، فعلينا جميعًا ألا نضيع أعمارنا، ونعرف قدر قيمتها).

وقال ابن تيمية: ({أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير} أي قامت الحجّة عليكم بالنّذير الّذي جاءكم وبتعميركم عمرًا يتّسع للتّذكّر).


ومن البيان أيضاً: الأمثال التي يضربها الله للناس؛ فمن عقلها تبيّن له الهدى وانتفع بها، كما قال الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}، وقد بيّن الله تعالى أنّ من مقاصد ضرب الأمثال أن نتذكّر بها؛ كما قال الله تعالى: {ولقد ضربنا للنّاس في هذا القرآن من كلّ مثل لعلّهم يتذكّرون (27)}

وقال تعالى: { مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ والبصير والسّميع هل يستويان مثلًا أفلا تذكّرون}.

ومن البيان: الوصايا التي يوصي الله بها، كما قال الله تعالى: {ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكّرون} ؛ فإنّ من أعظم مقاصد الوصايا: التذكر.


ومن أنواع بيان الهدى: واعظ الله في قلب كلّ مؤمن، ذلك الواعظ الذي يذكّره بما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه؛ فإذا حدّثته نفسه بمعصية أو همّ بها ذكّره واعظ الله في قلبه بأن يدعها لله؛ وأن يخشى عقابها وعذابها ومغبّتها، وأن يستحيي من الله؛ فلا يقابل إحسانه بإساءة العمل؛ فإن استجاب وانتهى عمّا همّ به من المعصية أمر الله ملائكته أن يكتبوها له حسنة لأنّه لم يتركها إلا لله.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصّراط سوران فيهما أبوابٌ مفتّحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصّراط داع يقول: أيّها النّاس، ادخلوا الصّراط جميعًا، ولا تتعرّجوا، وداع يدعو من فوق الصّراط، فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنّك إن تفتحه تلجه، والصّراط الإسلام، والسّوران: حدود اللّه، والأبواب المفتّحة: محارم اللّه، وذلك الدّاعي على رأس الصّراط: كتاب اللّه، والدّاعي من فوق الصّراط: واعظ اللّه في قلب كلّ مسلم ".

قال ابن تيمية رحمه الله: (فقد بيّن في هذا الحديث العظيم - الّذي من عرفه انتفع به انتفاعًا بالغًا إن ساعده التّوفيق؛ واستغنى به عن علوم كثيرة - أنّ في قلب كلّ مؤمن واعظًا، والوعظ هو الأمر والنّهي؛ والتّرغيب والتّرهيب، وإذا كان القلب معمورًا بالتّقوى انجلت له الأمور وانكشفت؛ بخلاف القلب الخراب المظلم؛ قال حذيفة بن اليمان: إنّ في قلب المؤمن سراجًا يزهر. وفي الحديث الصّحيح: (( إنّ الدّجّال مكتوبٌ بين عينيه كافرٌ يقرؤه كلّ مؤمن قارئ وغير قارئ)) فدلّ على أنّ المؤمن يتبيّن له ما لا يتبيّن لغيره؛ ولا سيّما في الفتن وينكشف له حال الكذّاب الوضّاع على اللّه ورسوله؛ فإنّ الدّجّال أكذب خلق اللّه مع أنّ اللّه يجري على يديه أمورًا هائلةً ومخاريق مزلزلةً حتّى إنّ من رآه افتتن به فيكشفها اللّه للمؤمن حتّى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلّما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها وكلّما ضعف الإيمان ضعف الكشف وذلك مثل السّراج القويّ والسّراج الضّعيف في البيت المظلم)ا.هـ.

وقال ابن القيّم: (فليتأمّل العارف قدر هذا المثل، وليتدبّره حقّ تدبّره، ويزن به نفسه، وينظر أين هو منه؟ ، وباللّه التّوفيق)ا.هـ.

وقال في موضع آخر: (لا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن؛ فمن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ)ا.هـ.

والمقصود أنّ هذا الواعظ في قلب المؤمن هو تذكير من الله لعبده المؤمن، وهو من أنواع الهدى الذي يأتينا من الله تعالى.


فهذا جملٌ لأهم أنواع البيان الذي هو من هدى الله تعالى؛ وأجلّ أنواعه وأعظمها: البيان الذي تقوم به الحجّة، وهو البيان بالرسل وبالكتب؛ وقد تكفّل الله تعالى بهذا الهدى حتى يتبيّن للناس وتقوم به الحجّة؛ كما قال الله تعالى: {إنّ علينا للهدى}، وقال: {إنّ علينا بيانه} ، وقال تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}، وقال جل وعلا: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تعالى: {وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتّقون}، وقال تعالى: {أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير}، وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم}.

فهذا هو هدى الدلالة والإرشاد ، وهو البيان الذي تقوم به الحجّة، ويستحقّ العقاب من خالفه.

فمن خالف الهدى بعدما تبيّن له فهو على خطر من عقوبتين عظيمتين:

العقوبة الأولى: أن يفتتن بما خالف فيه؛ فتحبّب إليه المعصية وتزيّن في قلبه، ويشرب حبّها؛ فيزداد ضلالاً وزيغاً ويبتعد عن طريق الحقّ بقدر ما اكتسب من إثم المخالفة، أو تسلّط عليه فتنة لا يهتدي فيها لطريق النجاة.

والعقوبة الثانية: أن يعذّب على مخالفته عذاباً أليماً.

وبيان ذلك في قول الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.

فكم من إنسان أقدم على مخالفة الأمر ولم يكن له في تلك المعصية كبير تعلّق، ولو أنّه تركها من أوّل الأمر لكان تركها يسيراً عليه، ولأثيب على تركها لله بأنواع من الثواب.

لكنّه لمّا أعرض عن هدى الله وارتكب تلك المعصية افتتن بها، ولم يزل يعاودها حتى تعلّق قلبه بها، وعسر عليه التخلّص منها.


{فمن تبع هداي}

هذا تفريع للتنبيه على أن المكلفين سينقسمون في مواقفهم من هذا الهدى إلى موقفين، موقف المتّبع، وموقف المعرض؛ فبدأ بالمتّبع، وبيّن جزاءه، ثم ذكر المعرض المتولّي وبيّن جزاءه.

{فمن تبع هداي} أعاد ذكر الهدى بالاسم الظاهر دون الضمير مع قربه؛ تعظيماً لشأنه وتنويهاً بظهوره، فلم يقل: (فمن تبعه) ؛ بل ذكره في جواب الشرط بالاسم الظاهر (فمن تبع هداي) وأضاف الهدى إليه إضافة تشريف، وترغيب باتّباعه، فلهذه الإضافة في قلوب المؤمنين المحبين لربهم أثر ظاهر في تعظيم هذا الهدى والثقة به وبحسن عاقبته، ويقطع الأطماع عن ابتغاء هدى أفضل منه؛ فلا أفضل من هدى الله؛ فهي إضافة جليلة تفيد مع التشريف والترغيب معنى الضمان لحسن العاقبة، ومعنى تفضيله على ما سواه.


{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}

{فلا} الفاء هنا تفيد أن النتيجة سريعة الاقتضاء لمن امتثل شرطها؛ وهي بشرى عاجلة لمن يتّبع الهدى؛ بالسلامة مما يضرّه؛ بأسلوب بياني محكم؛ يسارع بطمأنينته من أوّل ما يقرؤه؛ {فلا خوف عليهم} ؛ فقدّم ذكر ما يطمئنهم من الخوف لأنه أعظم ما يخشى ويحذر؛ فكأن النفس بعد أن اطمأنت من خوف ما أمامها ؛ قد ترجع بالتذكّر إلى ما مضى ؛ من أمور فاتتها أو آلام تبعث الأسى؛ فجاء الشفاء الناجع والدواء الضامن {ولا هم يحزنون}.

إن الشرور التي يخشاها الإنسان لا تعدو أن تكون شروراً مستقبلية أو ماضية؛ فأمّا شرور المستقبل فيجمعها الخوف؛ فبشّر من يتّبع هدى الله بأن لا خوف عليه.

وأما شرور الماضي فهي التي تبعث على الحزن والأسى ؛ فبشّر من يتّبع هدى الله بأن لا يحزن.

- لا خوف عليه؛ لأنه متّبع لوصيّة الله تعالى التي يضمن الله له بها حسن العاقبة، وأن لا يضرّه شيء ما دام متّبعا لهدى الله.

- ولا يحزن؛ لأنّ ما فاته وهو متّبع لهدى الله فسيأتيه خير منه باتّباعه لهدى الله؛ وما أصابه مما يكره فعند الله من الثواب على الصبر عليه ما يذهب عنه الحزن.

وفي قوله: {فلا خوف عليهم} ولم يقل ؛ فلا يخافون؛ فيه لطيفة؛ وهي أنّه قد يخافون لكن لا خوف عليهم؛ بمعنى أنّهم لن يصيبهم ما يضرّهم؛ فكلّ ما يصيبهم فهو خير لهم؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عجبا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له، وإنْ أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له». رواه مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.


وهذا كما يأتي إليك الفَزِع من شيء يخافه فتقول له: لا خوف عليك؛ أي أنت في مأمن مما تخافه؛ فهو وإن كان يخاف حقيقة لكنه لا خوف عليه بمعنى أنه في مأمن مما يخاف لأنّك أمّنته بذلك.

فكذلك المؤمن المتّبع لهدى الله لا خوف عليه؛ لأنه في ضمان الله تعالى له بالنجاة وبحسن العاقبة.


وفي قوله: {ولا هم يحزنون} لطيفتان:

إحداهما: العدول عن مقابلة الاسم باسم مثله إلى الفعل؛ فلم يقل: (ولا حزن)، وإنما قال: (ولا هم يحزنون) وهذا فيه دلالة على نفي وقوع الحزن منهم، واختلف في ذلك هل هو على إطلاقه أو مختص بحالهم في الآخرة؟

وعلى القول بأنّه على إطلاقه يكون هذا الوصف مختصاً بأصحاب اليقين؛ لأنّ اليقين بحسن عاقبة من اتّبع هدى الله يُذهب الحزن؛ وهذا اليقين يتفاضل فيه المؤمنون؛ وأكملهم في ذلك حالاً الأنبياء ثم الصديقون، وقد قال الله تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر الصديق: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا}؛ فدفع عنه الحزن بما يقتضيه اليقين بمعيّة الله تعالى الخاصّة.

ولا ينقض هذا وقوع الحزن من بعض المؤمنين لضعف عارض في اليقين؛ فإنّ ضعف اليقين العارض يصاحبه حَزَن عارض؛ ولا يكاد المؤمن يثبت على حال واحدة من كمال اليقين، ولكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» رواه مسلم.


وهذا بخلاف الخوف فإنّهم يخافون من عذاب الله وعقابه ، وإن كانوا في حقيقة الأمر لا خوف عليهم لأن لهم عهداً ووعداً من الله يأمنون به من العذاب؛ كما قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}.

واللطيفة الأخرى في قوله تعالى: {ولا هم يحزنون} المجيء بالضمير (هم) ليدلّ مفهوم الكلام على وقوع الحزن من غيرهم؛ كما تقول: (ما أنا الخاسر) لتبيّن وجود خاسر لكنه ليس أنت.

وقد ذكر هذه اللطائف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه وابن عاشور في تحريره.


والمقصود أن السلامة من الشرور وضمان صلاح الحال وحسن العاقبة كلّ ذلك لا يكون إلا باتّباع هدى الله.

ودلّت الآية على أنّ من لم يتّبع هدى الله ؛ فهو عرضة للخوف والحزن.

وقال تعالى في موضع آخر: { قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوٌّ فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى}

فضمن لمن اتّبع هداه أن لا يضلّ عن الصراط المستقيم، ولا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة.

وكلما كان المرء أعظم حظا ونصيبا من هدى الله كان أبعد عن درك الشقاء، وأسلم من شرّته وآثاره، وإنما يلحق المسلم بعض الشقاء لمخالفته هدى الله في بعض أمره؛ فيجد من مغبّة العصيان وألوان الشقاء ما يجد حتى يرجع إلى ربّه ويحسن الإنابة إليه.

فمن أناب إلى الله هداه الله؛ كما قال الله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} ،وقال تعالى: {قل إن الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}.

اللهمّ اهدنا بهداك، ومنّ علينا برضاك، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.