18 Sep 2016
مقدمات في أساليب التفسير
تمهيد
الحمد لله الذي جعل كتابه الكريم هدى للناس في جميع شؤونهم، وحاكماً على أحوالهم وأعمالهم، وقائداً لمن اتّبعه إلى أرشد الأمور، يتبصّرون ببصائره، ويهتدون بهداه، ويفرّقون به بين الحقّ والباطل، ويجدون فيه تبيان كلّ شيء؛ فهو دليلٌ للعقول، وموعظة للقلوب، وزكاة للنفوس، ومنهلٌ للعلم والحكمة، لا يُحاط بعلمه ولا تنقضي عجائبه.
والصلاة
والسلام على رسوله الأمين، الذي بلّغ البلاغ المبين، وبيّن كتاب ربّه أحسن
التبيين، حتى استقامت الملّة، وقامت الحجّة، واستنار الطريق للسالكين؛
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من رحمة
الله تعالى أن يسّر القرآن للذكر، وقرّبه للناس يقرأه كبيرهم وصغيرهم،
وذكرهم وأنثاهم، وعربيهم وأعجميهم، ويقرأه العالم المتبحّر في العلوم،
والعالم المتخصص في علم من العلوم، وطالب العلم، وطالب الحكمة، وطالب زكاة
النفس، وطالب المخرج من ظلمة تعتريه، وأزمة يعانيها، وبلاء نزل به.
ويقرأه العامّي الذي لا يدرك كثيراً من المعاني، ويقرأه من يتتعتع فيه وهو عليه شاق.
ويقرأه من يريد
الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ معانيه لمن يدعوهم على اختلاف مذاهبهم،
وتنوّع مطالبهم؛ فيجد كلّ أؤلئك فيه ما يكفيهم ويغنيهم إذا صدقوا وأحسنوا .
والناس وإن تنوّعت حاجاتهم فإن كفاياتهم تتنوّع كذلك، وقد جعل الله تعالى لكلّ شيء قدراً.
فالقرآن كتاب هداية، ولذلك أنزل، كما قال الله تعالى:
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ}.
وقال تعالى: {
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ
اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (16)}
وقال تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
وهذه الهدايات
تتنوّع إلى أنواع، لتنوّع حاجات الناس ومعارفهم ومطالبهم، وفي هذا التنوّع
حكمة بالغة، وآيات باهرة، تدلّ على بديع حكمة الله تعالى، وإحاطته بكلّ شيء
رحمة وعلماً.
ومن أَجْلِ ذلك
تنوّعت عنايات العلماء بالقرآن الكريم رواية ودراية ورعاية، وتنوعت
عنايتهم في تفسيره وعلومه، وتنوّعت أساليبهم كذلك في تبليغ معانيه، وبيان
هداياته.
معنى أساليب التفسير
والمقصود بأساليب التفسير هنا: طرق تبليغِ معاني القرآن للمتلقّين وتقريبها لهم بما يناسب حال المخاطَبين ومقامَ الحديث.
وذلك أن طالب
العلم إذا أحسن دراسة مسائل التفسير، ومسائل أصول التفسير وعلوم القرآن،
وعرف كيف يحسن تلخيص دروس التفسير ويحرر الأقوال فيها فإنه يحتاج بعد ذلك
إلى أن يلقي مادة التفسير إلى المتلقين إلقاءً مكتوباً أو مسموعاً أو
مرئياً؛ ويحتاج إلى تجويد طريقة تبليغه لمعاني القرآن؛ ولذلك كان من أهمّ
ما يحتاج إليه أن يتعرّف الأسلوبَ الأمثل لإلقاء تلك المادة العلمية.
وتحديد الأسلوب يترتّب عليه تصفية تلك المسائل وتهذيبها والإضافة عليها
وتحسين طريقة عرضها بما يناسب الأسلوب الذي اختاره؛ لتكون كلمته أقرب إلى
القبول والتأثير ونفع المتلقّين.
فوائد التعرف على أساليب التفسير
والتعرف على أساليب العلماء في التفسير يفيد طالب العلم بفوائد عزيزة منها:
1: أن يعرف أن للتفسير مقامات وأساليب، ولكلّ مقام أسلوبه الذي يلائمه.
2:
أن يتعرّف على النماذج الحسنة في كلّ أسلوب، ليجتهد في تدريب نفسه على
الأخذ بأحسنها، والاقتباس من طريقة العلماء فيها، ومحاولة محاكاتها.
3:
أن يستكشف جوانب الإحسان لديه؛ فإنّ لدى كل طالب علم ما أنعم الله به
عليه من الملَكات العلمية والقدرات الذهنية والمعرفية؛ فإذا عرف الأسلوب
الذي يحسنه ويبرع في محاكاته وتحسينه؛ فقد انفتح له باب عظيم من أبواب
الدعوة إلى الله تعالى وتعليم العلم النافع؛ فيجتهد في العناية بهذا
الأسلوب وتجويده وتحسينه وإعداد الدروس والكلمات التفسيرية به، وذلك من
شكر الله تعالى على ما أنعم به عليه، وقد وعد الله الشاكرين بالمزيد.
4:
أن يحاول طالب العلم تدريب نفسه على تنويع الأساليب في التفسير بحسب ما
يقتضيه المقام وحال المخاطبين، وأن يحرص على اجتياز الحدّ الأدنى في كل
أسلوب بتطبيق نماذج منه يقوّمها له عارفٌ بالتفسير وأساليبه؛ ثم يجتهد في
الأسلوب الذي يرى أنه قد فُتح له فيه.
5:
بيان هذه الأساليب ووضع المعايير المعينة على تحقيق الجودة العلمية فيها
يعين - بإذن الله تعالى - على تأهيل عدد من طلاب العلم يحسنون إعداد
الكلمات التفسيرية والمقالات التفسيرية، والدعوة إلى الله تعالى بتبليغ
معاني القرآن وبيان الهدى للناس انطلاقا من هدي القرآن الحكيم.
6:
معرفة طالب العلم بالأسلوب الذي يناسبه في التفسير له أثر كبير على بنائه
العلمي؛ فيدعوه ذلك إلى أن يحسن البناء العلمي واستعمال الأدوات المعرفية
بما يخدم ذلك الأسلوب على وجه الخصوص؛ ليكون بناؤه العلمي أحسن وأنفع.
أنواع أساليب التفسير:
يمكن تقسيم أساليب العلماء في تفسير القرآن إلى الأنواع التالية:
النوع الأول: أسلوب التقرير العلمي، وهو أسلوب قائم على إرادة تحرير المسائل العلمية وبيانها بأدلتها.
والنوع الثاني: الأسلوب الوعظي، وعمدته على التبصير بالهدى والترغيب والترهيب، وإرادة التأثير على النفوس بخطاب الوعظ.
والنوع الثالث: الأسلوب الاستنتاجي، وعمدته على استنباط الفوائد والأحكام واستخراجها.
والنوع الرابع: أسلوب الحِجَاج الشرعي، وهو
أسلوب يراد به الانتصار للحق، وبيان أوجه الردود على المخالفين، ودلالة
القرآن على ما يحقّ به الحق، ويتبيّن به بطلان الباطل.
والنوع الخامس: الأسلوب البياني، وهو أسلوب قائم
على الكشف عن حسن بيان القرآن، ولطائف دلالة الألفاظ على المعاني الجليلة،
وأسرار اختيار بعض الألفاظ والتراكيب على بعض.
والنوع السادس: الأسلوب المقاصدي، وهو قائم على بيان مقاصد الآيات وهداياتها، وتحرير موافقتها لمقاصد القرآن العامة.
وهذه
الأنواع استخرجتُها باستقراء الرسائل التفسيرية، وسَبْرِ أساليب العلماء
فيها، وتأمّل مقاصدها، وأدواتها العلمية، ولغة الخطاب في تلك الرسائل،
وتصنيفها إلى أصناف، وربّما فاتني شيء منها، لكنّي أرجو أني قد ذكرت
المهمّ منها، ونبّهت بما ذكرتُ على ما تركتُ؛ لأن الغرض بيان الفكرة
وتوضيحها بالأمثلة، وينبغي أن لا نتوقف كثيراً عند حدود الأسماء
والمصطلحات إذا اتّضح المراد، لأن المقصود تحصيل الثمرة المرجوة وهي إحسان
إعداد دروس التفسير وإحسان تبليغها للمتلقّين.
وموضوع هذه الدورة العلمية هو في التعريف بهذه الأساليب، وبيان عناية
العلماء بها، والتعريف بالأدوات العلمية التي يستعملها العلماء في كلّ
أسلوب منها، وبيان طرق تحسين تلك الأساليب، وذكر أمثلة من رسائل أهل العلم في التفسير بتلك الأساليب، واقتراح تطبيقات يؤدّيها الطالب لكلّ أسلوب من أساليب التفسير.
تداخل الأساليب
الغرض من بيان أنواع الأساليب والنصّ على ما شاع منها في كلام المفسّرين في
رسائلهم التفسيرية خصوصاً وفي كتب التفسير، إنما هو لأجل إبراز تلك
الأساليب والتعريف بها وبيان سِمَاتها ومقاصدها وما يعين على الإحسان فيها.
ولا يقتضي هذا
التنويع خلوّ كل نوع منها من شوائب سمات الأنواع الأخرى؛ فهي أساليب
متكاملة لا متزايلة، ومقتبسة من مشكاة واحدة، ويسعى أصحابها إلى غاية
واحدة؛ وإنما يكون التصنيف على ما يغلب من أسلوب الرسالة التفسيرية، وقد
يجمع المفسّر بين أسلوبين أو أكثر؛ فيميّز ذلك طالب العلم، ويعرفه ولا
يتحيّر فيه.
فالأسلوب الوعظي
القائم على أصول علمية صحيحة لا بدّ أن يظهر فيه شيء من أثر أسلوب
التقرير العلمي، لكن تظل الصبغة الظاهرة على الأسلوب هي الصبغة الوعظية.
وكذلك يقال في
الأساليب الأخرى؛ فالعبرة في التصنيف بما يغلب على أسلوب المفسّر، وقد يجمع
المفسّر بين أسلوبين جمعاً ظاهراً يصعب معه تصنيفه إلى أحدهما.
ومقصود دراسة أساليب التفسير إنما هو التعرّف على هذه الأساليب ليعرف الطالب ما يلائمه منها، وليجتهد في تحسينه.
الفرق بين مناهج المفسرين وأساليب التفسير
من المهمّ
التنبيه على الفرق بين مناهج المفسّرين وأساليب التفسير ؛ فمنهج المفسّر
أعمّ من حيث تناوله لطريقة المفسّر وأصوله في الاستمداد المعرفي ونوع
العناية العلمية ، وطريقته في استخراج المسائل ودراستها وعرضها؛ وقد تكون
له اختيارات خاصة وخطّة يختطّها لنفسه في دراسة مسائل التفسير تُعرَف بنصّه
على ذلك أو باستقراء تفسيره.
وأمّا أسلوب التفسير فهو الطريقة التي تُلقى بها المادّة العلمية للمتلقّي، والقالَب الذي يُخرجها المفسّرُ به.
سبب العناية بالرسائل التفسيرية
لجماعةٍ من
المفسّرين رسائلُ تفسيرية مفردة في تفسير بعض الآيات أو السور، وفي تلك
الرسائل مجالٌ رَحْبٌ لبيانِ مسائل التفسير، وهداياتِ القرآن وفيها
متنفَّس للإطناب في البيان، وجريان القلم بما في ذهن المفسّر مما له صلة
بالآيات التي يفسّرها، وفيها متّسع لتنوّع أساليب التفسير، والتفنّن فيها
بما يناسب أنواعاً من المخاطَبين، وهذا مما يشقّ التزامُه في التفاسير
التامّة لِسُوَرِ القرآنِ الكريم.
وكثير من الأئمة
البارعين في التفسير ليس لهم تفاسير مؤلفة، وإنما ظهر لنا علمهم في
التفسير بما كتبوه من الرسائل التفسيرية التي تدل على سعة اطلاعهم وحسن
معرفتهم وجودة تحريرهم لمسائل التفسير وإحسان عرضها.
وتنوّع أساليب
التفسير في تلك الرسائل أظهر منه في كتب التفسير التي تكون موجّهة غالباً
لطلاب العلم والعلماء، والتفاسير المختصرة المؤلفة للعامّة لا يتّسع
المجال فيها لإبراز المعاني ومخاطبة المتلقّي بما يُروي غليله.
ومخاطبة
العامة وطلاب العلم بما يشفيهم ويكفيهم من بيان هدى القرآن مطلب مهمّ،
وقد كان ذلك من هدي السلف الصالح رضي الله عنهم؛ فهذا ترجمان القرآن وإمام
المفسّرين ابن عباس رضي الله عنه كان يفسّر القرآن للناس في الموسم
تفسيراً حسناً يأخذ بمجامع القلوب ويستأثر بالأسماع ويشفي العليل ويروي
الغليل، حتى قيل فيه: إذا قــال لم يترك مقــــــــالا لقـــــــــــــــــــائل ... بملتقــطـــــــــات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
وقد قال أبو وائل شقيق بن سلمة: حججت أنا وصاحبٌ لي، وابنُ عباس على الحجّ، فجعل يقرأ سورة النور ويفسّرها؛ فقال صاحبي: (يا سبحان الله، ماذا يخرج من رأسِ هذا الرجل، لو سمعت هذا التركُ لأسلمت). رواه الحاكم في المستدرك وصححه.
والمقصود
أنه ينبغي لطالب العلم إذا تكلّم في مسألة من مسائل العلم أن يبيّن الهدى
فيها بما يشفي ويكفي؛ فإذا كان في مقامِ وعظٍ أحسنَ الموعظة، وإذا كان في
مقامِ تعليمٍ أحسنَ التعليم، وإذا كان في مقام مناظَرة وردٍّ على مُبطِلٍ
ونصرة للشريعة أحسن النصرة وأحسن الذبّ عن الشريعة ودمغ الباطل، وقرَّر
الحقّ تقريراً حسناً.
وهكذا في سائر المقامات التي يُحتاج فيها إلى من يبيّن للناس ما يحتاجون إليه من الهدى.
وسبيل التأهل لهذه المرتبة يتطلّب ثلاثة أمور مهمّة:
الأمر الأول: العناية بالتحرير العلمي للمسائل؛ فإنّه
يُكسِب الطالبَ حُسْنَ الإلمام بما قيل في المسألة، ويعينه على الجمع بين
الأقوال الصحيحة، وترجيح الراجح، وردّ الضعيفِ، تزييف الباطل، والتنبيه
على العلّة، وكشف الشبهة، وبيان المُشْكِل، حتى يُمكنه أن يعرض المسألة
على المتلقّي عرضاً حسناً.
وإذا أهمل طالب العلم التدرّب على التحرير العلمي فاته خيرٌ كثير ، والطالب
الذي يقنع بخلاصة ما قيل في المسألة، ولا يحرّر القول فيها، ولا يتعرّف
مآخذ الأقوال وعللها، وطرق استخراج المسائل والمرجّحات يفوته التحقيق في
كثير من المسائل إذا كان هذا دأبه، وتضعف لديه ملكة التحرير العلمي.
وأمّا الذي
يُعنى بتحرير المسائل ويجتهد في معرفة أصولها، ونشأة الأقوال فيها، وحجّة
كل قول، وطرق النقد والإعلال، والجمع والترجيح؛ فإنّه يكتسب بهذا التمرّن
فوائد جليلة من حسن الفهم وسعة الأفق في العلم الذي يدرسه، وتقوى لديه
مَلَكَةُ التحرير العلمي، والقدرة على عرض المسألة بأساليب متنوّعة.
ولذلك أرى أنّه
من الخطأ الشائع لدى كثير من طلاب العلم ضعفُ العنايةِ بتحرير المسائل،
والاكتفاءُ بخلاصة ما قيل فيها؛ فيكون الطالبُ مقلّداً لمن رجّح واختصر،
وهو لا يعرف ما بنى عليه ترجيحه، ولا مصادره التي اختصر منها بحثَه
للمسألة.
الأمر الثاني: البناء العلمي الحسن،
فإنّ طالب العلم في حديثه عن مسألة من مسائل التفسير لا بدّ أن يجرّه
الحديث إلى مسائل متنوّعة في علوم متعدّدة؛ منها مسائل من علوم الآية
كالقراءات الواردة فيها والوقف والابتداء وعدّ الآي وسبب النزول وغير ذلك
من العلوم التي ينبغي لطالب العلم أن يمرّن نفسه على سرعة الوصول إلى
مصادرها وحسن الإفادة منها وطرق استعمالها في كتاباته في التفسير.
وقد يجرّه
الحديث إلى مسائل في علوم أخرى كالعقيدة والسلوك والفقه وأصوله والنحو
والصرف والاشتقاق والبلاغة والمفردات اللغوية، وغيرها من العلوم التي
ينبغي لطالب التفسير أن يجتاز فيها مرحلة المبتدئين على الحدّ الأدنى، وأن
يتعلّم طرق البحث في مسائلها ويتعرّف مصادرها حتى يكتسب سرعة الوصول إلى
المعلومة التي يريد البحث عنها.
وضعف العناية بالبناءِ العلمي يظهرُ أثرُه على الطالب، وقد يجرّه إلى الوقوع في أخطاءٍ علمية فادحة.
الأمر الثالث: مهارة النشر العلمي، وإتقان الأسلوب الذي يناسبه ويجد من نفسه إمكان البراعة فيه، وهذا هو مقصود هذه الدروس؛ فإنّ العطاء ثمرة البناء العلمي، والثمرة الحسنة لا تكون إلا بنبات حسن.
ومعرفة طالب علم التفسير بالأسلوب الذي له فيه نوع إجادة وإحسان تعينه على
سلوك السبيل الذي ينبغي له أن يسلكه حتى ينشر علمه، وينتفع الناس به بإذن
الله، وقيمة كلّ امرئ ما يحسنه.
أجوبة المشرف العام -حفظه الله- على أسئلة سابقة لطلاب دورة أساليب التفسير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخنا الفاضل : عند كتابة تفسير آية نستعين بكتب المفسرين في فهم معناها
ويغلب أن ننقل المعنى نصا من كلام المفسر إذا كان المعنى لم يتوارد على
ذهننا لقلة بضاعتنا سواء معنى أو فائدة فهل هذه الطريقة صحيحة أو ممكن بعد
فهم المعنى نصوغه باسلوب مقارب ونكتبه دون أن ننسبه للمفسر فإني اتحرج من
ذلك كثيرا فأفيدونا جزاكم الله خيرا ماهو الطريقة الصحيحة والتي تحفظ
للمفسر حقه
.
جواب الشيخ عبد العزيز الداخل:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ينبغي أن يفرّق بين نقل كلام مفسّر بأسلوبه المختص دون نسبته إليه؛ وبين
النظر في كلام عدد من المفسّرين وتفهّم المسائل وتفصيلها ثمّ التعبير
بأسلوبك؛ فهذا لا يلزم فيه النسبة إلا إذا نقلت بعض كلامهم بنصّه في بعض
حديثك فتنسبينه إليهم.
وطالب العلم في أيّ علم من العلوم لو اقتصر على عبارات شيوخه لم يتقدّم في
علمه، ولم تنمُ ملكته العلمية، وليست هذه هي الطريقة التي يحصل بها العلم،
وكثير من أجوبة أهل العلم وفتاواهم لم ينشؤوها من لا شيء، وإنما هي حصيلة
ما استفادوه من أشياخهم، ومما فتح الله عليه به من الفهم، ولذلك حرصنا في
هذا البرنامج من أوّل مستوى فيه على أن يتمرّن طالب العلم على الإجابة على
أسئلة مجالس المذاكرة بأسلوبه، وأن لا يلجأ إلى النسخ واللصق المجرد، وهذا
أمر مهمّ في مقام التعلم والمحاكاة لأنه بذلك ينمّي ملكاته العلمية ولا
يتقيّد بعبارات الشيخ ولا بأسلوبه بل يجد المجال رحباً للتوسّع والإضافة
والتفنن في الأساليب.
وهذا الأمر لا ينزعج منه المعلّم بل يُسرّ به، وليس فيه بخس لحقّه؛ لأن
غرضه التعليم والإفادة وإعداد طلاب علم يحسنون فهم المسائل العلمية والبيان
عنها، ومن المعلوم أن طالب العلم لا يصل إلى درجة المهارة في محاكاة
أساليب أهل العلم من أوّل الأمر، بل لا بدّ له من طول مِران.
الحمد لله لم يشكل علي سوى نسبة الاقوال إلى قائليها هل يجب فعل ذلك أم
لا خصوصا في الأسلوب الوعظي والاستنتاجي والمقاصدي ،يعني عندما أذكر القول
هل يجب أن أكتب بجانبه من ذكره من المفسرين أم لا ؟
وهل مثلا لو عدت إلى التفاسير وحاولت قراءتها ثم بعد ذلك قمت بصياغة رسالة تفسير وعظية بأسلوبي بدون ذكر مصدر هذا مما لا بأس به؟ |
التهيب من الكتابة والقول بغير علم
اقتباس:
مشكلتي قصوري في التعبير بإسلوب موجز وجامع في تقرير مسألة ،وتهيب من
التعبير باسلوبي خاصة في المسائل العقيدية ، فاضطر لنقل عبارات المفسر.
وصية من الشيخ عبد العزيز الداخل إلى طلاب برنامج إعداد المفسر
أوصيكم جميعاً بأن يختار كلّ واحد منكم نحو عشر رسائل ( ولو كان بعضها مما
قدمه من تطبيقات أو لخّصه من دروس) ويجعلها في مسودات لديه.
وأن يجعل في حاسوبه مجلداً لرسائله التفسيرية ثم يجعل لكل رسالة ملفاً
إلكترونيا يضيف إليه كل ما يقف عليه من الفوائد واللطائف والتحريرات
العلمية والنقول النفيسة، ويعتني بهذه الرسائل، ويكرر النظر فيها من وقت
لآخر، ويهذبها ويزيد فيها، ويبالغ في تحريرها وإثرائها على رويّة وتمهّل،
ولو مكث سنة في هذه الرسائل أو أكثر فإنه سيجد ثمرة إتقانه بعد ذلك بإذن
الله تعالى حتى إذا أحسن إعدادها وتحريرها أمكنه نشرها ثم الشروع في عشر
رسائل أخرى.
وهذا له سبب نفسي مهمّ وهو أن اشتغال ذهن الباحث بمسائل رسائله التفسيرية
ينمّي ملكته التفسيرية ويستحثّ القوى العقلية الكامنة، ويمرّنه على استعمال
الأدوات العلمية، وإذا وجد صعوبة أو إشكالاً اجتهد في حلّه، وسأل الله
تعالى أن يفتح له ويفهّمه ويعلّمه؛ فإنّه لا يلبث إلا قليلاً - بإذن الله -
حتى يجد من الفتح والتفهيم والتعليم ما لم يكن يخطر على باله.
ثم إذا عاود كتابة رسالة تفسيرية أخرى وجد من المعرفة والمهارة لديه ما لم يكن يعهده من نفسه قبل ذلك.
وهذه المرتبة لا ينالها من يكتب كتابة متعجّلة ثم يترك الكتابة، ويشغل ذهنه بأمور أخرى.
وقد حدثني الشيخ عبد الله الأمين بن الشيخ محمد الأمين صاحب أضواء البيان
عن أبيه أنه كان كثير التفكير في مسائل التفسير، فيراه المرء جالساً ، وهو
في حقيقة أمره يعمل ذهنه في مسائل التفسير ويستخرج الفوائد واللطائف وأوجه
الاستدلالات ومناقشة الأقوال حتى إذا تحرر له بحث تلك المسألة دوَّنه في
كتابه.
توجيهات عامة من الشيخ عبد العزيز الداخل:
- ينبغي التفريق بين التفسير الموضوعي وكتابة الرسائل التفسيرية التي
يتطرّق فيها إلى النظائر التفسيرية؛ فمن الممكن والمستحسن أن يختار الباحث
الآيات التي يرى استيفاءها لأكثر مباحث الموضوع فيفصّل في تفسيرها ويجعلها
هي محور رسالته، ثم يذكر من النظائر التفسيرية ما يتمّم به بحثه، ويمكن أن
يقسم الرسالة إلى محاور متكاملة.
- من الملحوظات العامة اقتصار بعض الرسائل على المصادر المقررة في البرنامج
وهذا لا ينبغي عند كتابة الرسائل التفسيرية؛ فتوسيع دائرة الاطلاع يثري
الرسالة بأنواع من الفوائد واللطائف وأوجه الاستدلالات، وليس المطلوب من
الطالب تلخيص جميع ما ورد في مصادره؛ فمقام كتابة الرسائل يختلف عن مقام
التلخيص، ولذلك ينبغي للمفسّر اللبيب أن يحسن الاستفادة من كلام المفسّرين
فربما ذكره بعض كلامهم ببعض الفوائد التي لم ينصّوا عليها؛ فيذكر ما فتح له
فيه من تلك الفوائد، والمداومة على هذه الطريقة تنمّي الملكة التفسيرية
وتعين على جريان القريحة بالفوائد المتسلسلة.
- من المهمّ عند كتابة الرسائل التفسيرية الرجوع إلى أمهات كتب التفسير،
كتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والزجاج والفراء وابن عطية فهذه التفاسير هي
مظنة جمع الأقوال التفسيرية والتعرف على نشأتها ومآخذها. ثم يرجع طالب علم
التفسير بحسب موضوع رسالته إلى التفاسير المعتنية بالتحرير العلمي.
- عند النقل عن العلماء ينبغي أن تذكر أسماؤهم بما اشتهروا به وليس بالكنية
المجردة، فـ"أبو جعفر" كنية لاثنين من المفسرين المشهورين: أبو جعفر ابن
جرير الطبري، وأبو جعفر النحاس، ولذلك ينبغي التوضيح.
- يجب أن نفرّق بين مقامين مهمّين:
المقام الأول: مقام البناء العلمي الذي يكون مراد صاحبه أن يتعرّف هو على
مسائل الدرس وأقوال العلماء فيها ويحرر أقوالها، ليكون على علم بمسائل
الدرس؛ ففي هذا المقام ينبغي لطالب علم التفسير أن يحسن تلخيص دروسه حتى
يكون لديه أصل علمي في التفسير يستفيد منه فيما بعد فوائد كثيرة.
والمقام الثاني: مقام النشر العلمي، والدعوة إلى الله تعالى، وهذا المقام
ينبغي أن ينظر فيه طالب العلم التفسير إلى ما يناسب المخاطبين، وأن يهّذب
رسالته، ويحذف ما لا يرى مناسبته لهم من المسائل والأقوال، والأهمّ من ذلك
أن تكون لغته في الخطاب لغة مناسبة لمن يُخاطبهم.
وهذا المقام يختلف عن المقام السابق، ولذلك ينبغي التفريق بينهما.
وقد يكون من الأفضل في أوّل الأمر أن يبني طالب العلم إعداد رسالته التفسيرية على مرحلتين:
المرحلة الأولى: إعداد ملخّص علمي للآيات التي يفسّرها، وأن يحرص على توسيع دائرة مراجعه بما يتيسّر له.
والمرحلة الثانية: أن يجعل هذا الملخّص مرجعاً ينطلق منه إلى كتابة رسالته
التفسيرية بالأسلوب الذي يحدده، وذلك لأجل أن يكون كلامه في رسالته
التفسيرية كلاماً مبنيّاً على معرفة حسنة بمسائل الدرس وأقوال العلماء فيه.