20 Sep 2016
الدرس الثاني: أسلوب التقرير العلمي
أمثلة:
1. رسالة في تفسير قول الله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرَّك بربّك الكريم}
2. فصل في تفسير قول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}.
3. رسالة في تفسير المثل الأعلى.
الأسلوب العلمي هو أصل أساليب التفسير، وأكثرها شيوعاً في رسائل التفسير وكتب المفسّرين، وعناية
أهل العلم به ظاهرة بيّنة، وهو الأسلوب الأليق بمقام التعليم، ومخاطبة
طلاب العلم ومن له حظ من المعرفة والنظر في الأدلة وأوجه الاستدلالات.
وهذا الأسلوب قائم على إحسان تحرير المسائل العلمية في الآيات المفسَّرة، وإحسان عرضها للمتلقي بأسلوب علمي صحيح.
ولذلك فإنه يستدعي حسن
الإلمام بأصول التفسير وطرق استخراج المسائل التفسيرية وتحرير أقوال
العلماء فيها وبيان حججها وعللها وإعمال قواعد الجمع والترجيح، والنقد
والإعلال، وغير ذلك من الأدوات العلمية التي يحتاج إليها المفسّر.
لغة الخطاب في أسلوب التقرير العلمي:
المخاطَبون بهذا
الأسلوب عامّتهم من أهل العلم وطلابه، ومِن فِقْه المتحدّث وحكمته أن يحدّث
كلّ فئة بما يناسبها من الأسلوب ولغة الخطاب ومقام الحديث؛ فلذلك ينبغي أن
تكون لغةُ الخطاب في هذا الأسلوب لغةً علميةً رصينةً محررةً، وأن يستوفي المفسّرُ المسائلَ التفسيريةَ استيفاء حسناً بحسب وُسْعه وما يحتمله المقام.
وأن يحرص على التثبّت في حكاية الأقوال ونقل كلام أهل العلم، وأن يحسن
الفهم، ويؤصّل البحث، ويقرّب الفائدة العلمية لطلاب العلم، وأن يجتنب
الحدّة والتشنيع في المسائل الاجتهادية، وأن يحذر من العجلة في إطلاق
الأحكام بما يبدر إلى ذهنه قبل التحقق من صحة ما يكتب، وأن يتجنّب التوسّع
في الدعوى بما لا يمكنه إقامة الدليل عليه.
تنوّع المسائل العلمية في التفسير
علم التفسير أوسع العلوم وأجمعها؛ ولذلك تتنوّع المسائل التفسيرية فيه إلى أنواع متعددة:
- فمنها مسائل متعلقة بعلوم الآية التي يفسّرها كقراءاتها ومقاصدها وسبب نزولها.
- ومنها مسائل متعلقة بمعاني مفردات الآيات ودلالات الأساليب والتراكيب.
- ومنها مسائل متعلقة بتعيين المراد ببعض الألفاظ العامة والمجملة كتعيين المبهم، وتسمية المضمر، وتبيين المجمل، وتقييد المطلق.
- ومنها مسائل متعلقة
بفقه أحكام الآية، ومسائل متعلقة بالعقيدة، وأخرى بعلم السلوك وبيان هدايات
الآية إلى غير ذلك من أنواع المسائل التفسيرية التي تدل عليها الآيات
دلالة مباشرة.
ويحتاج المفسّر في المسائل التي يفصّل الحديث فيها إلى إحسان تحريرها على
ما تقتضيه أصول بحث تلك المسائل بحسب العلوم التي تنتمي إليها تلك المسائل
أصالة:
- فإذا تعلّق البحث
ببيان مسائل الآية الاعتقادية كان عليه أن يكون حسن المعرفة بأصول عقيدة
أهل السنة والجماعة حسن التوقّي من أقوال المخالفين لهم على تفاوت
مخالفاتهم.
- وإذا تعلق البحث
بتحرير أقوال السلف في تفسير الآية كان عليه أن يستخرج تلك الأقوال من
مصادرها الأصلية أو البديلة، ولا يكتفي بالمصادر الناقلة، وأن يميز بحسب
استطاعته ما تصح نسبته من تلك الأقوال إلى من ذُكرت عنهم من السلف مما لا
يصحّ، وفي هذا النوع من البحث تفاوت كبير بين المفسّرين.
- وكذلك إذا تعلّق
البحث بالمسائل اللغوية على تنوّعها احتاج المفسّر إلى دراسة كل نوع منها
على ما تقتضيه أصول البحث في ذلك العلم بالقدر الذي يحتاجه المفسّر؛ فإذا
اختلف المفسّرون في معنى مفردة من مفردات القرآن، كان على المفسّر الحصيف
البحث عن معاني تلك المفردة في معاجم اللغة وكتب علماء اللّغة المتقدّمين،
والتعرّف على إطلاقاتها وشواهدها، وموازنة أقوال اللغويين بأقوال
المفسّرين، وإعمال قواعد التفسير اللغوي.
وإذا اجتهد المفسّر في
حصر الأقوال، وتحرير نسبتها، وأحسنَ دراستها وتصنيفها، وأجرى ما يقتضيه
البحث العلمي من الجمع والترجيح والإعلال بقيت عليه بعد ذلك مسألة مهمّة
وهي الأسلوب الذي يعرض به دراسته لتلك المسألة على المتلقّين من طلاب
العلم.
عرض المسائل التفسيرية في الأسلوب العلمي:
تنوّعت طرق العلماء في
عرض ما تحرَّر لهم من المسائل العلمية في التفسير وأقوال المفسّرين فيها؛
وهذا التنوّع يفيد طالب العلم أن ترتيب عرض الأقوال والمسائل العلمية في
التفسير قضية اجتهادية يتوخّى فيها المفسّر أحسن الطرق لإفادة المتلقّي
وتفهيمه، وقد ينوّع المفسّر نفسُه في الترتيب في عدد من رسائله.
فمن المفسّرين من يبدأ
بتقرير القول الصحيح في الآية ثم يعرّج على الأقوال الضعيفة والباطلة
ويبيّن ما يردها؛ ليكون أول ما يتلقاه المتلقي هو القول الصحيح.
ومنهم من يعكس الأمر
فيبدأ بذكر الأقوال الضعيفة ثمّ يثير الأسئلة التي تبيّن ضعفها ليستحثّ ذهن
القارئ على التفكّر في المعنى الصحيح، ثم يسترسل في عرض الأقوال حتى
يتوصّل إلى بيان القول الذي يرجّحه.
ومنهم يبدأ بحصر الأقوال وتحرير نسبتها ثم يعقّب ببيان ما يترجّح له ويعلّق على تلك الأقوال بما يراه.
وتختلف مناهجهم في
استيعاب الأقوال التفسيرية؛ فمنهم من يجتهد في استيعابها وتلخيصها، ومنهم
مَن يرى الإعراض عن الأقوال البعيدة والباطلة.
ومن المفسّرين من يكون
غرضه الأكبر من كتابة الرسالة التفسيرية التنبيه على مسألة مهمة من مسائل
تفسير الآية وتقرير الاستدلال لها بأوجه متعددة تبيّن صحة القول الذي
يرجّحه فيها، ولذلك
قد يغلب عليه النظر في تلك المسألة فيسهب فيها حتى يتجاوز ذكر بعض المسائل
المهمة في تفسير الآية لاشتغاله بما يتعلّق بمقاصد كتابته لتلك الرسالة.
تنوع أوجه العناية العلمية لدى المفسرين:
ومما ينبغي أن يُعلم أن أوجه العناية العلمية لدى المفسّرين متنوعة إلى أنواع:
- فمنهم المعتني
بالأحاديث وآثار السلف، ويظهر ذلك في اجتهاده في تقصي تلك الأحاديث والآثار
من مظانها وبيان طرقها، وتحرير نسبتها، والتنبيه على ما يتصل بذلك من
الفوائد والعلل في جانبي الرواية والدراية.
- ومنهم المعتني بجمع
وتحرير الأقوال التفسيرية في مصنفات المفسرين وتعرّف مصادر كلّ قول، وبيان
مأخذه ونشأته، وموقف العلماء منه، وطرق نقل المفسرين بعضهم عن بعض، وبيان
ما يتصل بذلك من الفوائد والعلل التي لها أثر على تحرير دراسته لتلك
المسائل التفسيرية.
- ومنهم المعتني بالمسائل اللغوية وطرق استخراجها وجمع أقوال اللغويين فيها، والموازنة بينها.
- ومنهم المعتني
بالمسائل السلوكية والوقوف عند هدايات الآيات وتدبّرها، واستخراج فوائدها،
وطرق دلالة الآية عليها، وجمع أقوال علماء السلوك في تلك المسائل،
واستخراجها من مظانها.
ومِن أهل العلم مَن يُوفَّق للجمع بين أنواع من تلك الأوجه، ويظهر ذلك جليّا في رسائله التفسيرية.
ولا يبلغ المفسّر مرتبة متقدمة في التفسير حتى يحسن الجمع بين أنواع من العلوم بما يؤهله لحسن البحث في مسائلها وتحرير أقوالها.
والجامع بين الأنواع المتقدمة هو غلبة الأسلوب العلمي واعتماده على تحرير المسائل العلمية.
المخاطَبون بالأسلوب العلمي:
تقدّم أن أسلوب التقرير
العلمي يخاطَب به طلاب العلم والعلماء في الأصل؛ ولذلك يوصى المفسّر أن
تكون لغته بهذا الخطاب لغة علمية هادئة محررة تناسب مَن يُخاطبهم، ويلقي
إليهم تلك المادّة العلمية.
عناية العلماء بالأسلوب العلمي:
هذا الأسلوب هو الغالب
على كتب التفسير وكتب معاني القرآن على تفاوت ظاهر بينهم في التفصيل
والإجمال، وتنوّع في أوجه العناية العلمية، وتنوّع في مسالك العرض والتقرير
وترتيب المسائل.
ولبعض المفسّرين في
رسائلهم التفسيرية عناية حسنة بهذا الأسلوب وبراعة ظاهرة فيه، ومن أجود
الرسائل والفصول التفسيرية التي كتبت بهذا الأسلوب:
1.رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن...} لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
2. فصل في تفسير قول الله تعالى: {أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم...} لابن القيّم رحمه الله
3. رسالة في تفسير قول الله تعالى: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله
4. تفسير الباقيات الصالحات للحافظ العلائي
5. القسم الأول من رسالة تفسير آية الكرسي للشيخ محمد بن صالح العثيمين
تطبيقات:
- اكتب رسالة تفسيرية مختصرة بأسلوب التقرير العلمي.
توضيح: [يكفي أن يختار الطالب من الآيات التي سبق له تلخيصها وتحرير
مسائلها؛ فيعيد النظر فيها، ويحسّن من تحريرها بعد الاستفادة من الرسائل
التفسيرية، ويصوغها بأسلوب علمي محرر].
تنبيه: لا يكرر الطالب الرسالة في الدروس الأخرى.
تعليمات:
- مقدار التطبيق: صفحة إلى صفحتين.
- توضع التطبيقات في مشاركات تابعة لهذا الدرس.
المثال الأول: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}
إن من غرَّه النساء بشيء .. بعد هندٍ لجاهل مغرور أبا منذر كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي فقل لدودانَ عبيدَ العصا ... ما غرَّكم بالأسد الباسل؟!
الغُرور في اللغة مصدر غرَّ يغُرُّ غُروراً ، وهو الخداع بالباطل بسبب
الجهل والغفلة وقلة التجربة، ومنه الانخداع بالأماني الباطلة ، قال الله
تعالى في الشيطان: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}
وقال آكل المرار والد امرئ القيس :
وقال طرفة بن العبد:
والمغترّ: المنخدع.
ورجل غرَّته الدنيا: أي خدعته بزينتها وباطلها؛ فهو مغرور منخدع بها.
وغرَّرَ الرجلُ بنفسه إذا عرَّضها للهلكة.
والغِرُّ الذي لم يجرّب الأمور فيسهل انخداعه.
والتغرير بالشخص تعريضه للخديعة لضعف رشده.
والغَرور هو الذي يَغُرُّ غيرَه.
والمغرور هو المنخدع به.
والغُرور هو وصف فعل الخديعة؛ قال الله تعالى: {فدلاهما بغرور}، وقال: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}
قال الأصمعي: (الغَرور الذي يغرُّك، والغُرور الأباطيل).
فهذا تلخيص كلام علماء اللغة في معنى الغرور ، وأقوال المفسرين في تفسير الآية لا تخرج عن هذا المعنى اللغوي.
وما شاع في القرون المتأخرة من إطلاق لفظ الغرور على معنى الزهو والعجب ،
وقولهم عن صاحب العجب والزهو : إنه مغرور، هو تخصيص لمعنى اللفظ وصرف له عن
صريح دلالته في اللغة.
وصاحب العجب يصدق عليه أنه مغرورٌ لأنه منخدع بما غرَّه وفتَنه حتى أصابه ما أصابه من العجب والزهو .
لكن من الخطأ أن يظن أن دلالة اللفظ اللغوية على هذا المعنى هي باعتبار العجب والزهو، وإنما هي باعتبار الجهل والانخداع.
وأما قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}
ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ما معنى هذا الأسلوب في اللغة ؟ أي: ما غرك بكذا؟ أو ما غرك بفلان؟
المسألة الثانية: ما معنى الاستفهام في الآية؟
المسألة الثالثة: ما جواب الاستفهام؟ وما مناسبة ذكر اسم الله (الكريم) في هذه الآية؟
فأما جواب المسألة الأولى: فالعرب تقول: ما غرك بفلان؟! تريد: ما جرَّأك
عليه؟ وما خدعك حتى أصابك منه ما أصابك أو فاتك من خيره ما فاتك؟
- قال الأصمعي: (ما غرك بفلان؟ أي: كيف اجترأت عليه؟). ونقله أبو علي القالي عن أبي نصر الباهلي.
- وفي مواعظ عبد الله بن عمرو بن العاص أن القبر يقول لصاحبه إذا وضع فيه:
(يا بن آدم ما غرَّك بي؟! قد كنت تمشي حولي فِدَادا). رواه ابن أبي شيبة
وغيره، فداداً أي اختيالاً.
- وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي بعد أن ظفر ببني أسد وقتل منهم من قتل بعد أن اجترؤا عليه ونالوا منه:
قال أبو إسحاق الزجاج في تفسير هذه الآية: (أي ما خدعك وسوَّل لك حتى أضعت ما وجبَ عليك؟ ).
وقد تناقله كثير من المفسرين.
وأما جواب المسألة الثانية: فالاستفهام جامع لمعنى الإنكار والتوبيخ والتقريع، والقول في معنى الاستفهام فرع عن فهم دلالة الآية.
ولذلك كان مِنَ السلف مَن يَعِظُ بهذه الآية لما فهم منها من معنى الزجر،
كما قال سعيد بن عبيد: رأيت سعيد بن جبير وهو يؤمّهم في رمضان يردد هذه
الآية: {إذ الأغلال في أعناقهم}، {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم
الذي خلقك فسواك} يرددها مرتين أو ثلاثا). رواه عبد الرزاق.
وأما جواب المسألة الثالثة فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّ الذي غرّه هو جهله، وروي هذا المعنى عن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري والربيع بن خثيم والحسن البصري.
والقول الثاني: أنَّ الذي غرَّه هو الشيطان، وهذا قول قتادة رواه عنه ابن جرير بإسناد صحيح.
واستدلَّ له بقول الله تعالى: {وغركم بالله الغرور} أي خدعكم وجرأكم على عصيان الله الغَرورُ وهو الشيطان في أظهر الأقوال.
والقول الثالث: أنَّ الذي غرَّه هو كرم ربّه، وهذا القول نقل معناه عن
الفضيل بن عياض ويحيى بن معاذ وأبي بكر الوراق، وذكر الماوردي ما في معناه
احتمالاً، ثم ذكره ابن الجوزي من غير نسبة، ثم اشتهر هذا القول في كتب
التفسير.
فالقولان الأولان صحيحان متلازمان؛ فالشيطان هو مصدر التغرير، وجهل الإنسان هو منفذ الاغترار، وبه تسلط الشيطان على المغرور.
وأما القول الثالث فخطأ بيّن وهو معارض لمقصد الآية، لأنَّ كرم الله لا
يغرُّ بل يوجب الشكر، وتذكّر العبد لكرم الله تعالى وتنزّهه عن النقائص
والعيوب يحمله على خشيته والاستحياء منه، وإنما الذي يغر جهل الجاهل بما
يجب أن يقابل به هذا الكرم، وعمايته عن العبر والآيات.
والجهل هنا ليس المراد به مجرّد عدم العلم الذي يُعذر به غالباً، وإنما
المراد به الجهل الحكميّ الناتج عن الغفلة والإعراض عن ذكر الله؛ فيوصف به
صاحبه بأنه من الجاهلين وصاحب جهالة، كما في قول الله تعالى: {إنما التوبة
على الله للذين يعملون السوء بجهالة} وكل ما عصي الله به فهو عن جهالة
ونوع سفاهة منافية للرشد.
وقد أحسن ابن القيم وابن كثير في رد هذا القول فقال ابن كثير: وقوله:
{يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}: هذا تهديد، لا
كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: "الْكَرِيمِ"
حتى يقول قائلهم: "غرَّهُ كرمه".
بل المعنى في هذه الآية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم-أي: العظيم-حتى
أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: "يقول الله يوم
القيامة: ابنَ آدم! ما غرك بي؟ ابنَ آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟").
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: (كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يا
أيها الانسان ما غرك بربك الكريم} فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقَّن
المغترَّ حجته!!
وهذا جهل قبيح، وإنما غرَّه بربه الغَرور، وهو الشيطان ونفسه الأمارة
بالسوء وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم المطاع الذي
لاينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه؛ فوضع هذا المغتر الغرور فى غير موضعه
واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به)ا.هـ.
وقال البغوي: (وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر أسمائه وصفاته، كأنه لقنه الإجابة).
قال ابن كثير معقباً على هذا القول: (وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس
بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه الْكَرِيم لينبه على أنه لا ينبغي أن
يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء).
والكريم من أسماء الله الحسنى ومعناه المتصف بكل كمال وصفات حسنى، فهو كريم
في ذاته، كريم في صفاته، كريم في أفعاله، كريم في أحكامه لا يأمر إلا
بالعدل والإحسان، كريم في ثوابه، كريم في إنعامه لا تحصى نعمه، ولا يُحَدُّ
فضله، وهو الكريم الذي بيده الخير كله، فكل خير هو موليه والمتفضل به،
وهو الكريم المتنزه عن كل نقص وسوء.
وهو الكريم فيما يأمره به وينهى عنه ويرشد إليه، إن الله نعما يعظكم به
فما الذي غرَّ هذا الجاهل المغرور بربه الكريم المكرَّم عن كلّ سوء الذي لا يليق أن يقابلَ إحسانُه بعمل السيئات؟!
وما الذي غرَّه بربّه الكريم الذي أنشأه من العدم وأسبغ عليه النعم وعرَّفه
بحقّه عليه وعاقبة عصيانه؛ فما الذي غرَّه حتى صرفه عن طاعته وعرَّضه
لسخطه؟!
وما الذي غرَّه بربّه الكريم فمنعه من تصديق وعده واتّباع هداه؟! وحرمه من ثواب ربه وعطائه وفضله العظيم؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي لا أكرم منه في ذاته وصفاته، الذي من كرمه
تشتاق نفوس العارفين به أعظم شوق إلى لقائه والنظر إلى وجهه الكريم فما
الذي غره بربه وحجبه عنه؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي لا يأمر إلا بالعدل والإحسان وما فيه زكاة
نفس العبد وطهارتها وقيام مصالح العبد ورشاد أمره، فما الذي غرَّه بربّه
وأوقعه في أسر الهوى وعواقب الذنوب وتسلط الشيطان؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي أنعم عليه بالنعم العظيمة من مبدأ خلقه إلى موته فقابلَ نعمه وإحسانه بهذا الكفر والنكران؟!!
فتدبُّر هذه المعاني ومعرفة أوجه اتصالها بمعنى اسم الكريم وآثاره في الخلق
والأمر والجزاء يفتح لك أبواباً من فهم القرآن، والله الموفق والمستعان.
المثال الثاني: تفسير قول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}
* مبحث مستلّ من شرح ثلاثة الأصول وأدلّتها ( هنا )
التفريق بين الإسلام والإيمان استُدِل له بآيات من القرآن الكريم: ومقصود الآية أن قرى قوم لوط لم يكن فيها بيت على الإسلام إلا بيت لوط عليه السلام.
منها: قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]
وللسلف في تفسير هذه الآية قولان مشهوران:
القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام ، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان.
القول الثاني: أن
الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه مسلماً
حقاً في الباطن ، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر ، وإن كانوا
كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس هو على ما يظهر منهم ؛ فمن أظهر
الإسلام قبلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله ، فيعامل معاملة المسلمين
ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
القول الأول هو قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
والقول الثاني هو قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي.
واستدل أصحاب القول الثاني بقوله تعالى:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} قالوا
: فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن ، ومن لم يدخل الإيمان في
قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم
إنما هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما
أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام، فيكون معنى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي لم تباشر حقيقةُ الإيمان قلوبَكم.
وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين، فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى:{لَمْ تُؤْمِنُوا} نفي
أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام ؛ فهؤلاء كفار في الباطن ، مسلمون
في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم
ويهديه للإيمان.
وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان
الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل
الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف
الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!))
قيل: من يا رسول الله؟
قال:((الذي لا يأمن جاره بوائقه)).
فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام.
والذي يوضح هذا الأمر أن قول {أَسْلَمْنَا} قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر.
وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
ولهذا قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فعلق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل
الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني، وهذا يبيّن جواز
أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من
هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
والمقصود أن الآية على القول الأول في تفسيرها فيها دلالة على التفريق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
قال محمد بن نصر المروزي: (نقول إن الرجل قد يسمى مسلما على وجهين:
أحدهما: أن يخضع لله بالإيمان والطاعة تدينا بذلك يريد الله بإخلاص نية.
والجهة الأخرى: أن
يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين خوفا من القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع
خوفا وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا بالإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه
الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه).
وكذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35-36]
وقوله : { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} دليل على أنه لم يكن في قرى قوم لوط إلا بيت واحد على الإسلام، وهو بيت لوط عليه السلام.
وأهل لوط كلهم مؤمنون إلا امرأته كانت كافرة بنص القرآن كما في قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} ، لكن اختلف أهل العلم:
هل كانت مسلمة في الظاهر أو كانت على دين قومها ظاهراً وباطنا على قولين:
القول الأول: أنها كانت على دين قومها، وإنما كانت خيانتها أنها تدل قومها الذين يعملون السوء على أضياف لوط، وهذه خيانة له.
القول الثاني: أنها كانت تظهر الإسلام وتبطن الكفر.
والقول الأول أصح وأشهر وهو المأثور عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
فإن قيل: كيف يبقيها في ذمته وهي كافرة؟
قيل: إن ذلك كان جائزاً في شريعتهم، كما كان جائزاً في أول الإسلام ثم نسخ.
وسواء أكانت امرأة لوط مسلمة في الظاهر أم غير مسلمة
في الظاهر؛ فإن ذلك لا ينقض الحكم على البيت بأنه بيت إسلام،كما أن وجود
بعض الكفار في بلاد الإسلام لا يجعلها بلاد كفر.
وهذه الآية فيها لطيفة وهي أن المؤمنين
موعودون بالنجاة ، والمسلم غير المؤمن ليس له عهد بالسلامة من العذاب
والنجاة منه؛ فقد يعذب بمعاصيه في الدنيا وقد يعذب في قبره وقد يعذب في
النار ، لكنه لا يخلد فيها.
وهذا نظيره ما ورد في قصة أصحاب السبت فإن
الله تعالى أنجى المؤمنين الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتين عن إنكار
المنكر وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، فتبين أن أصحاب الكبائر من المسلمين
ليس لهم عهد أمان من العذاب كما جعل الله ذلك لأهل الإيمان؛ فقد
يُعذَّبون، وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، وهذا يبين لك الفرق العظيم
بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
فالمؤمن له عهد أمان بأن لا يعذبه الله ولا
يخذله، وأنه لا يخاف ولا يحزن، ولا يضل ولا يشقى، وقد تكفل الله له
بالهداية والنجاة والنصر والرفعة .
وهو في أمان من نقمة الله تعالى وسخطه، وفي أمان من عذاب الآخرة كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
المثال الثالث: تفسير المثل الأعلى
إذَا سَكَن الغَديرُ على صَفَاء ....... وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ
ترى فيه السَّمَاء بَلا امْترَاء ....... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ
كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي ....... يُرَى في صَفْوها اللهُ العَظيمُ).
الحمد لله الذي له المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على
الرسول النبي الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد ورد ذكر المثل الأعلى – بهذا اللفظ - في آيتين من القرآن العظيم:
-إحداهما في سورة النحل وهي قوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}
-والأخرى في سورة الروم وهي قوله تعالى: {وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}
وقد تنوعت عبارات السلف في بيان معنى المثل الأعلى ومن رويت عنهم آثار من الصحابة والتابعين في بيان معنى المثل الأعلى ثلاثة:
الأول: ابن عباس رضي الله عنه؛
فروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل : {ولله المثل الأعلى} قال : ( يقول: ليس كمثله شيء). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في كتاب الاعتقاد وفي كتاب الأسماء والصفات.
وهذا
تفسير بعض المعنى باللازم؛ فكونه تعالى له المثل الأعلى يقتضي أنه ليس
كمثله شيء، قال ابن القيم –رحمه الله –في كتابه الصواعق المرسلة: (يستحيل
أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من
الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحدَه، يستحيل أن يكون
لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير).
وقد استدل رحمه الله بهذه الآية على تفرد الله تعالى بصفات الكمال.
الثاني: قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله؛
روى عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {ولله المثل الأعلى}؛ قال: شهادة أن لا إله إلا الله
ورواه أيضاً ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الدعاء.
وروى
ابن جرير من طريق يزيد عن سعيد عن قتادة أن المراد بالمثل الأعلى الإخلاص
والتوحيد، وفي لفظ عنده: (مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره).
وقد نسبه أبو المظفر السمعاني لمجاهد وتبعه على ذلك القرطبي والشوكاني وهو خطأ.
الثالث: محمد بن المنكدر؛
قال ابن كثير: (وعن مالك في تفسيره المروي عنه، عن محمد بن المنْكَدِر، في قوله تعالى: { وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى } ، قال: لا إله إلا الله).
فهذا ما علمته أُثر عن الصحابة والتابعين في تفسير المثل الأعلى.
وأكثر
المفسرين على أن المثل الأعلى الصفات العليا التي تستوجب إخلاص العبادة
له وحده لا شريك له، واعتقاد الكمال المطلق له جل وعلا ، وأنه لا يساميه
في ذلك أحد.
قال ابن جرير (ت:310 هـ): ( {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} يقول: ولله المثل الأعلى، وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره).
وقال في تفسير آية الروم: (وقوله:{وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى}
يقول: ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده
لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدّس).
قال أبو جعفر النحاس (ت:338هـ): (وله المثل الأعلى في السموات والأرض آية، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال يقول ليس كمثله شيء.
وقيل: يعني لا إله إلا الله
وحقيقته في اللغة وله الوصف الأعلى).
قال أبو الليث السمرقندي (ت:375هـ): ({ وَلِلَّهِ المثل الاعلى } أي: الصفة العليا ، وهي شهادة أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له).
وقال الثعلبي (ت:427هـ): ({ولله المثل الأعلى} الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص).
وقال أبو المظفر السمعاني (ت: 489هـ): (وقوله : {ولله المثل الأعلى}أي: الصفة العليا، وذلك مثل قولهم : عالم وقادر ورازق وحي، وغير هذا).
وقال البغوي (ت:516هـ): ({ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } الصفة العليا، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو.
وقيل: جميع صفات الجلال والكمال، من العلم، والقدرة، والبقاء، وغيرها من الصفات).
وقال ابن الجوزي(ت:597هـ): (قوله تعالى : { وله المَثَلُ الأعلى } قال المفسرون : أي : له الصِّفة العُليا { في السماوات والأرض } وهي أنَّه لا إِله غيره).
والمثَل في اللغة يطلق على معانٍ:
المعنى الأول: الصفة، وهذا المعنى كثير في الاستعمال، وله شواهد كثيرة، منها قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غيرآسن....} الآية فوصفها وسمَّى ذلك الوصف مَثَلاً.
وروى أبو منصور الأزهري عن محمد بن سلام الجمحي قال: (أخبرني عمر بن أبي خليفة، قال: سمعت مقاتلا صاحب التفسير يسأل أبا عمرو بن العلاء عن قول الله تعالى: {مَثَلُ الجنّة التي وُعِد المُتّقون} ما مثلها؟
قال: {فيها أنهارٌ من ماء غير آسن}.
قَالَ: مَا مثَلها؟ فسكَت أَبُو عَمْرو.
قال: فسألت يونس عنها، فقال: (مَثَلُها: صِفَتُها) ).
قال محمد بن سلام: (ومثل ذلك قوله تعالى: {ذَلِك مَثَلُهم في التَّوْرَاة ومَثَلُهم في الإنْجِيل} أي صِفتهم).
المعنى الثاني: الآية ، ومنه قوله تعالى: {وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} أي آية لهم ، كما قال تعالى: {ولنجعله آية للناس}، وقال: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية}، قال ابن جرير: ( {وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} يقول: وجعلناه آية لبني إسرائيل). وروى مثله عن قتادة.
المعنى الثالث: العبرة والعظة، ومنه قوله تعالى: {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين}
قال ابن جرير: (وقوله: {وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} يقول: وعبرة وعظة يتعظ بهم مَنْ بعدهم من الأمم، فينتهوا عن الكفر بالله). وروى نحوه عن مجاهد وقتادة والسدي.
ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}
المعنى الرابع: القول السائر، وفيه يقال: (فأرسلها مثلاً) أي جعل كلمته قولاً سائراً يتمثل الناس به في نظائره.
المعنى الخامس: المثل المضروب ، ومنه قوله تعالى: {ضرب مثل فاستمعوا له}
وهذه المعاني
الخمسة بينها تناسب واشتراك في قدر من المعنى، ولذلك تنوعت عبارات المفسرين
في تفسير ما ورد فيه هذا اللفظ بما يدل على تقارب بين هذه المعاني.
قال ابن فارس:
(والمَثَل: المِثْل أيضاً، كشَبَه وشِبْه. والمثَلُ المضروبُ مأخوذٌ من
هذا، لأنَّه يُذكَر مورَّىً به عن مِثلِه في المعنى).
وكلام
السلف في تفسير المثل الأعلى غير مخالف لما ذكره علماء اللغة من معنى
المثل ، فإن الله تعالى هو الإله المتفرد بصفات الكمال المستحق لأن يعبد
وحده لا شريك له،فكونه الإله الحق يتضمن اتصافه بصفات الكمال واستحقاقه
لأعظم الحقوق.
قال ابن كثير (ت:774هـ): ({ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } أي: النقص إنما ينسب إليهم،{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } أي: الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }).
وقال في تفسير آية الروم: (وقد أنشد بعض المُفَسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف:
وقال ابن رجب في فتح الباري: (وحديث حارثة هو من هذا المعنى ؛ فإنه قال : كأني أنظرإلى عرش ربي بارزًا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عرفت فالزم، عَبْدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه)) وهو حديث مرسل ، وقد روي مسندا بإسناد ضعيف.
وكذلك قول ابنعمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.
ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض: يقول الله : ما أنا مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ،ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري.
وبهذا فسرالمثل الأعلى المذكور في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}، ومثله قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَاكَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّشَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} ، قال ابن كعب وغيره من السلف: مثل نوره في قلب المؤمن .
فمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأَنِسَ به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك...)
إلى أن قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اعبد الله كأنك تراه)) إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه . وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية - فهو زعم باطل).
وهذا الذي ذكره هو ما يسمى بالمثال العلمي، وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً في مواضع من كتبه، ومن أفضل من عبر عنه فيما اطلعت عليه ابن القيم رحمه الله تعالى إذ قال في كتابه شفاء العليل: (إذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان وحقائق العبودية وما يصححها ومايفسدها وتفاوت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور.
قال تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}
وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به}
فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن؛ فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا أكبرَ من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر علىأصبع، والثرى على أصبع، ثم يهزُّهن ثم يقول: أنا الملك.
فالسماوات السبع في كفِّه كخردلة في كف العبد، يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولا يدركونه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًا واحدًا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جواد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطى الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.
ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطى كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش.
ولو كان جودهم على رجل واحد وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.
وكذلك علم الخلائق إذا نسبة إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.
وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته فلو فرض البحر المحيط بالأرض مداد تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام لفني ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفد.
فهو أكبر في علمه من كل عالم وفي قدرته من كل قادر، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي علوه من كل عالٍ، وفي رحمته من كل رحيم.
استوى على عرشه واستولى على خلقه، متفرد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ولا منع ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضر إلا بيده، لا مالك غيره ولا مدبر سواه، لا يستقلأحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا له شركة في ملكها، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعيَا فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء؛ فهو أول مشاهد المعرفة، ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإلهية؛ فيشهده سبحانه متجلياً في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وفضله في ثوابه فيشهد ربًّا قيومًا متكلمًا آمرًا ناهيًا، يحب ويبغض ويرضى ويغضب، قد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدى من يشاء منه نعمة وفضلاً، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلاً، يُنزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سدًى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم حُكْمٌ وأمر في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ ولحظةٍ ولفظةٍ.
وَينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه وأحكامه، وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم، قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفِطَر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة، وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال، وإن كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به وأولى، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزه متعالٍ عنه.
وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به؛ فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا ولا منفذًا، والله الموفق المعين.
وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام} ).
الشيخ عبد العزيز الداخل:
- كتابة رسالة تفسيرية بأسلوب التقرير العلمي تختلف عن التلخيص؛ فالرسالة
ينبغي أن يظهر فيها أسلوب الكاتب، وتمكّنه من فهم المسائل، وقدرته على
مناقشة الأقوال والتعرّف على أدلتها ومآخذها وعللها، وتدرّب طالب علم
التفسير على كتابة الرسائل التفسيرية بأسلوب التقرير العلمي مهمّ جداً في
تنمية ملكته التفسيرية
- أسلوب التقرير العلمي ينبغي أن يعتنى فيه جيدا بتحرير المسائل العلمية
وحسن تقسيم الأقوال فيها، وكذلك مناسبة الانتقال من مسألة إلى أخرى.