الدروس
course cover
الدرس الثالث: الأسلوب الوعظي
21 Sep 2016
21 Sep 2016

9240

0

0

course cover
أساليب التفسير

القسم الثاني

الدرس الثالث: الأسلوب الوعظي
21 Sep 2016
21 Sep 2016

21 Sep 2016

9240

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثالث: الأسلوب الوعظي


الأسلوب الوعظي هو الأسلوبُ الذي يكون غرضُ المتكلم به وعظ المتلقّين وتبصيرهم بالهدى وتذكيرهم بآيات الله، وترقيق القلوب، وتزكية النفوس، والحث على التقوى والإحسان، والتحذير من الفتن والأهواء، وغير ذلك من مقاصد الوعظ التي تقوم على التبصير والتذكير، والترغيب والترهيب، والبشارة والنذارة.
وهو من أنفع الأساليب وأحسنها أثراً، وأعظمها ثمرة إذا كان قائماً على أصول علمية صحيحة، وقد بيّن الله تعالى أن من مقاصد إنزال القرآن الكريم وعظَ المؤمنين وتذكيرَهم؛ فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
وقال تعالى: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}.
وقال تعالى: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}

بل لعظمة هذا المقصد وحُسْنِ أثره ذُكر بصيغة الحصر المنبّهة على تقديمه والعناية به؛ فقال تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}

وقال الله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وهذا فيه أمرٌ بخطاب الوعظ والتذكير، وتنبيهٌ على أهميته وحاجة الأمة إليه، وفيه أيضاً تنبيه على أنّ الوعظ منه حسن ومنه غير حسن، والمأمور به هو الوعظ الحسن، وهو الذي يُتّبع فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون قائماً على العلم ورعاية المصلحة الشرعية لمن يدعى به.
وأمّا الوعظ القائم على الجهل ونشر الأقوال الباطلة والأخبار الواهية والقصص الخرافية؛ فهو وعظ غير حسن، وإن كان له تأثير على بعض النفوس.
وكذلك الوعظ الذي لا تراعى فيه مصلحة الملتقّي؛ فإنّه قد يُسئ فيه الواعظ من حيث يحتسب النفع؛ فخطاب الخائف الوجل الذي يشفق على نفسه من شدة الخوف وربما اشتكى أذى شديدا من الوسوسة التي تدعوه إلى اليأس من رحمة الله لا يصلح أن يكون كخطاب الذي يعرف منه التهتّك والمجاهرة بالمعاصي، ويظهر منه الفرح بها، والتفاخر بما أصاب منها.
وينبغي للواعظ أن يفقه المقصد الأعظم من الوعظ وهو تعظيم الله تعالى وحَمْدِه وتمجيده وتنزيهه عما لا يليق به؛ ودعوة الناس لتوحيده وعبادته محبّة وتعظيماً وخوفاً ورجاءً على طريقة التسديد والمقاربة.
فمن الوُعّاظ من يتشدد في الترهيب والتحذير أو يتوسّع في الترغيب والانبساط؛ فيذكر في حديثه من الأقوال الباطلة والآثار الواهية أو التي تفهم على غير وجهها ما يلقي به إلى أذهان المتلقين معاني لا تليق بالله جل وعلا؛ حتى يكون أحقَّ بالوَعْظِ ممن يَعِظُهم.

أصناف الواعظين بالقرآن
والمتكلّمون في تبليغ معاني القرآن الكريم بأسلوب الوعظ والتذكير على أصناف:
1. صنف تكلّموا فيه بحقّه؛ فجمعوا الأهلية العلمية وإحسان الخطاب بهذا الأسلوب، فانتفعوا ونفع الله بهم، وقد سلك هذا المسلك جماعة من العلماء في بيان معاني القرآن للناس، وتعريفهم بهداه؛ فكتبوا الرسائل والكتب في تفسير بعض الآيات، وكانت لغتهم فيما كتبوا لغةً وَعْظيةً مؤثرة، قائمة على أصول علمية صحيحة، ومن أشهر من كتب في ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب، والسعدي.
2. وصنف تكلّموا بهذا الأسلوب وكانت لهم براعة في مخاطبة العامّة به، وقدرة على تقريب المعاني، واسترعاء الانتباه، وإيصال الفكرة إلى المتلقّين بطريقة مدهشة ممتعة، أو مؤثرة تأثيراً بالغاً، لكن دخل عليهم الغلط من جانب ضعف الأهلية العلمية؛ فأشاعوا بعض الأقوال الباطلة، والروايات الواهية، والتأملات الخاطئة.
3. وصنف تكلموا فيه بأهليّة علمية حسنة لكن لم تكن لهم عناية بإحسان الأسلوب الوعظي؛ فدخل الضعف في كلماتهم وعباراتهم، وضَعُفَ تأثيرها بسبب ضعف أسلوبهم.

ركائز الأسلوب الوعظي:
الوعظ قائم على ركيزتين:
إحداهما: التبصير بالهدى فيما يُحتاج إليه، والتذكير به.
والأخرى: استحثاث محركات القلوب الثلاثة ( المحبة والخوف والرجاء ) فإنَّ هذه العبادات العظيمة هي أصل صلاح القلوب، وإذا صلح القلب صلح الجسد كلّه.
- فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له ، لكن الذي يغلب على قلبه سلطانُ المحبة وصدق التقرب إلى الله عز وجل.
- ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه؛ فالذي يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات غالباً إنما هو خوفه من الله.
- ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أنَّ أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة ، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه ، ورجاء لثوابه وفضله.

والمقصود أن وعظ العلماء قائم على هاتين الركيزتين:
فالركيزة الأولى تثمر التبصّر واليقين وحسن المعرفة بالله تعالى وبهداه.
والركيزة الثانية تثمر الاستقامة والتقوى.
والجمع بينهما هو في حقيقته جمع بين العلم والعمل، لأن صحة العلم مرجعها إلى تعرّف هدى الله تعالى والتبصّر به وتذكّره، وصلاح العمل مرجعه إلى صلاح الإرادة الذي مبعثه صلاح القلب.

تصحيح مقاصد الوعظ:
يجب على الواعظ أن يعتني بتصحيح مقاصده في الوعظ وأن يجتهد في تحقيق الصدق والإخلاص فيه.
وكلُّ عَمَلٍ يعمله العبدُ صادقاً مخلصاً لله تعالى فيه؛ فإنَّه لا يضيع عند الله تعالى؛ لأنَّ اجتماع الصدق والإخلاص يحصل به معنى الإحسان، وقد قال الله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}.
وقد ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية أنَّ الإمام أحمد ذُكرَ له الصدق والإخلاص فقال: (بهذا ارتفع القوم).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يكثر في كلام مشايخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولون: "قل لمن لا يصدق لا يتعنَّى، ويقولون: "الصدق سيف الله في الأرض ما وضع على شيء إلا قطعه"، ويقول يوسف بن أسباط وغيره: "ما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له"، وأمثال هذا كثير).
وقال أيضاً: (والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص)ا.هـ.

والمقصود أن الموعظة الخالصة الصادقة تنفع صاحبها والمخاطَبين بها بإذن الله؛ ويرجى أن يُكتب لها القبول والبركة وحسن الأثر.
وقد قيل: إن الحديث إذا خرج من القلب وقع في القلب.
وتصحيح المقاصد يشمل جميع ما يصحّ أن ينويه الواعظ بموعظته، وهو باب واسع، وأصله إخلاص النية لله تعالى في الموعظة، والصدق في اتّباع هداه وامتثال أمره.
ثمّ يصحب ذلك مقاصد صالحة يثاب عليها ثواباً زائداً بحسب نيّته وعمله؛ ومن ذلك: إرادة نفع الموعوظين، والتقرب إلى الله تعالى بالدعوة إليه على بصيرة، والسعي في الإصلاح، والدلالة على أبواب الخير، والإعانة عليه، وصدق الرغبة في فضل الله تعالى وبركاته، والتعرّض لرحماته ونفحاته، وإعداد النفس وتمرينها لتصل إلى مرتبة الإحسان في الوعظ، والله تعالى قد كتب الإحسان على كلّ شيء، وهو يحبّ مِن كل عامل أن يُحسن عمله، وأخبر أنه مع المحسنين.
فالمقاصد الصالحة في الوعظ كثيرة متنوّعة، ويرجى أن يضاعف للواعظ الصالح أجره بتعدد مقاصده الصالحة.
وليكن الواعظ على حذر وتوقٍّ مما يفسد النية، ويحبط العمل، ويجلب المقت، ويضعف الإرادة، من التسميع والمراءاة، والتنطع والتكلّف، ومخالفة العمل للقول، والاستجابة لما يثبّط ويعوّق عن الدعوة إلى الله تعالى.

طرق تحسين الأسلوب الوعظي:
ينبغي للمفسّر أن يعتني بتحسين أسلوبه الوعظي في التفسير لأنه أرجى لكثرة الانتفاع بعلمه، وتوسيع دائرة المخاطبين به، وبقاء أثره في النفوس.
ولتحسين هذا الأسلوب ينبغي للمفسّر أن يعتني ثم بما يؤثّر على نفس المخاطَب من حسن البيان عن معاني القرآن، والبعد عن التعقيد اللفظي والمعنوي، وترك الإسهاب فيما لا صلة له بمقام الوعظ، وتحلية خطابه بالآثار والأخبار والقصص والأمثال ونحو ذلك مما له تأثير بالغ على القلوب؛ فيضيف إلى تفسيره ما يتقوّى به سلطان الوعظ على القلوب، وليحرص على الاستزادة من القراءة في الكتب والرسائل التي أحسن أصحابها الحديث بهذا الأسلوب، وكان لحديثهم قبول وتأثير؛ فيقتبس من طريقتهم ما يحسّن به أسلوبه.
ومما يقوّي تأثير الرسالة التفسيرية الوعظية تحليتُها بالعبارات الموجزة المؤثّرة التي تُنتقى من كلام أهل العلم وحِكَمِهم ووصاياهم، وكذلك ما يُنتقى القصص والأخبار التي فيها عِبَرٌ وآيات، ولها تأثير على نفوس المتلقّين.
ومما يعين على تحسين الأسلوب الوعظي أيضاً: استخراجُ الفوائد السلوكية من الآيات ثم تضمينها في الرسالة في المواضع المناسبة.

الاقتصاد في الوعظ:
أسلوب الوعظ تحتاجه جميع النفوس بالقدر الذي يقيمها ولا يُملّها، وينفعها ولا يضرّها؛ فإن النفس إذا أهمل وعظها وتذكيرها أدركتها الغفلة وتسلط عليها الجهل والهوى، وإذا أُكثر عليها من الوعظ سئمت وأدبرت ولم تنتفع بالموعظة، ولذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلّم وهدي أصحابه الاقتصاد في الوعظ والتذكير.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: كان عبد الله [بن مسعود] يذكّر الناس في كل خميس؛ فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟
قال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بها، مخافة السآمة علينا). متفق عليه.

المخاطَبون بأسلوب الوعظ:
أسلوب الوعظ يناسب العامّة والخاصّة:
- فإذا كان المفسّرُ يخاطب العامّة فلتكن موعظته ميسَّرة قريبة لأفهامهم، وليجتنب الإسهاب فيما لا يناسب أفهامهم من المسائل العلمية.
- وإذا كان يخاطب طلاب العلم وأهله؛ فليكن وعظه مبنياً على تحرير علمي حسن، وعناية بتقرير الفوائد السلوكية، وإفادة المخاطبين بما ينفعهم من النقول والتقريرات ولطائف الاستدلالات.

وقد تعرض للمفسّر مسألة يحتاج فيها إلى استخدام أسلوب التحرير العلمي في الرسالة الوعظية؛ فيكون تحريره على مرتبتين بحسب المتلقين:
1. فإذا كان التفسير موجهاً للعامّة فيكفي أن يذكر لهم الخلاصة في مسائل الخلاف القوي، وأما مسائل الخلاف الضعيف فالأولى أن لا يشير إليه إلا لفائدة عارضة.
2. وإذا كان التفسير موجهاً لطلاب العلم والدعاة والعلماء فيفصّل فيه بالقدر الذي يحتمله المقام، وقد يحتاج إلى التفصيل في بعض المسائل لدفع إشكال، أو بيان خطأ فهم شائع، أو بيان علّة قول مشتهر لا يصحّ، ونحو ذلك من غير أن يخرج عن مقاصد الأسلوب الوعظي.

عناية العلماء بالأسلوب الوعظي العلمي في التفسير:
عناية العلماء بأسلوب الوعظ العلمي عناية ظاهرة بيّنة، وما كتبوه من الرسائل والفصول التفسيرية شاهد على ذلك، ومن أمثلة ما كُتب بالأسلوب الوعظي العلمي:

1. رسالة في تفسير قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم ...} لابن القيم

2. رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} لشيخ الإسلام ابن تيمية.

الأمثلة:
1.رسالة في تفسير قول الله تعالى: {وبشّر المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضلاً كبيراً}
2. رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}

التطبيق:
- اكتب رسالة تفسيرية بالأسلوب الوعظيّ.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

21 Sep 2016

المثال الأول: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً}


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد:
فهذه تأملات في قول الله تعالى: {وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً}.
هذه الآية تضمّنت دلائل عظيمة ولطائف بديعة، تدبّرها والتفكّر فيها يزيد المؤمن إيماناً ويقيناً ومحبّة لله تعالى، وبصيرة في دينه.
فمن ذلك تصدير الآية بالأمر بالتبشير؛ لما للتبشير من أثر عظيم على النفس البشرية؛ فهو ينمّي الرجاء في القلب ويعظّمه، ويشرع أبواب الأمل، ويعين على الاجتهاد في العمل، ويدفع عن النفس كثيراً من كيد الشيطان وتوهينه وتضليله؛ فإنّ عين البصيرة إذا انفتحت على سبيل الفضل والتكريم، وأيقنت بحسن عاقبة سلوك هذا السبيل لم تلتفت إلى غيره.
وتبشير الله تعالى لعباده المؤمنين دليل من جملة دلائل على عنايته تعالى بهم، ومحبته لهم، ولهذه العناية والمحبة آثارها العظيمة المباركة، فهي محبة من لا يعجزه شئ، ولا يخفي عليه شئ، ولا يغيض من ملكه كثرةُ عطائه.
ومما يدل على تأكيد عناية الله تعالى بهم ومحبته لتبشيرهم؛ أنه كرر الأمر على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن مرارًا أن يبشرهم، فورد قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بهذا اللفظ في القرآن في خمسة مواضع، وورد أيضًا في موضعين: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وفي موضعين: {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.

وما يقوم في قلب المؤمن عند تلقّيه البشرى من الله تعالى ومن نبيّه صلى الله عليه وسلم له اعتبار عظيم عند الله جلّ وعلا، وقد تضافرت النصوص على أن تلقّي البشرى بالقبول والشكر والفرح بفضل الله تعالى من دلائل الإيمان ومن موجبات رحمة الله تعالى ومحبّته لمن يقوم بقلبه تلك العبادات التي يحبّها الله.
كما أنّ الإعراض عن تلك البشرى، ومقابلتها بالتشكيك والتهوين، من دلائل مرض القلب ونفاقه، واستحقاقه للحرمان من فضل الله تعالى.
فإنّ نظر الله تعالى إلى القلوب والأعمال لا إلى الصور والأجسام.
فالمؤمن الذي يتلقّى البشارة التي تأتيه من الله بقلب منيب إلى الله فرح بفضله ورحمته شاكر لنعمته يرجى له أن يهديه الله إلى فقه دلائل تلك البشرى العظيمة ، ومعرفة مقاصدها، والتبصّر بشروطها وآثارها وآدابها وما أراد الله تعالى من عبده المؤمن بها؛ فإنّ فقه ذلك من العلم الجليل ، بل هو صفو العلم وخلاصته، الذي يختصّ الله به أهل البصائر وأولي الألباب من عباده؛ فإنّ الخطاب في القرآن أشرف الخطاب، ومعانيه أجلّ المعاني،وشأنه أعظم الشأن؛ فمن عقله وفقه دلائله ومقاصده فقد أوتي علماً عظيماً وخيراً كثيراً.

وهذه الآية قد اجتمع فيها على وجازة لفظها من اللطائف الدالة على عظم هذه البشرى ما يحملنا على تدبّرها والتفكر فيها وتذكير النفس بمقاصدها ودلائلها حتى نكتسب اليقين بفضل الله تعالى، وأنه فضل كبير؛ فيحملنا هذا اليقين المبني على حسن التصديق على السعي لتحقيق الشرط الذي تُنال به هذه البشارة العظيمة، وهو شرط قد تضمّنت الآية بيانه.

1: فأوّل اللطائف في هذه الآية؛ أن توجّه الأمر بالتبشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبلّغه أمّته، وتعيين الرسول الكريم واسطة لتبليغ هذا الأمر دليل على عظم شأنه؛ فالأمور العظيمة يُختار لتبليغها العظماء.

2: واللطيفة الثانية التوكيد بأنّ؛ وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً، والتوكيد له أثر لا يخفى على نفس المخاطب.

3: واللطيفة الثالثة: تقديم اللام المشعرة بالاختصاص "لهم" لا لغيرهم، فهو فضل خاص بالمؤمنين، وهذه اللام مع دلالتها على الاختصاص تدلّ على التمكين والتمليك بمقتضى هذا الوعد الكريم.

4: واللطيفة الرابعة: النصّ على أنّ هذا الفضل من الله تعالى، {وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله }.
فالنص بأن هذا الفضل من الله وبالصيغة المؤكدة يحمل دلائلَ عظيمةَ الأثر في قلوب المؤمنين:
· فمن ذلك: دلالتها على أن هذا الفضل فضل عظيم، جدّ عظيم؛ لأنه فضل من الله، وليس من غيره، والله تعالى عليم بما يُرضي عباده، وما تقر به عيونهم، وتحسن به عاقبتهم.
· ومن ذلك: دلالتها على محبة الله تعالى لهم؛ بأن نص على أن هذا الفضل منه -جل وعلّا-، وأنه اختصاص خصّهم به.
· ومن ذلك: تحصيل اليقين بقدرة الله تعالى على الوفاء بما وعدهم من الفضل الكبير؛ فإنّه وعد من قادر لا يعجزه شيء.
· ومن ذلك: أنه فضل يكفي عن وصفه وتعيين نوعه وأفراده، أنه فضل من الله؛ وكل عطية موعودة، يزنها الناس بقدر معطيها، ألا ترون أن الناس يستشرفون لأعطيات الكبراء من الملوك والتجّار، لمظنة أن أعطياتهم جزلة كثيرة؟!

5: واللطيفة الخامسة: التنكير في قوله: "فضلاً" وهو تنكير إبهام لغرض التفخيم والتعظيم.
وإبهام العطية الموعودة من قادر عليها يشوّق النفس إليها.
فلو أنّ ملكاً من الملوك أو ثريّا من الأثرياء وعد رجلاً بعطيّة فأبهمها إبهام تفخيم؛ لعلم الموعود أنه إنما أبهمها لتعظيمها، فيحصل له يقين بعظمها بسبب هذا الإبهام، وتذهب آماله كل مذهب لثقته بقدرة ذلك الملك أو ذلك الثريّ على الوفاء بالأعطيات العظيمة.
ونحن نعلم أن هؤلاء الملوك والأثرياء والكبراء لا يساوون في ملك الله عز وجل شيئًا يذكر، ولو اجتمعوا جميعًا من أول ما خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن يعطوا أعطية عظيمة؛ فإنهم لن يبلغوا في ملك الله تعالى نقرة عصفور في بحر عظيم، ولا ينقصون من ملك الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ثم أُخرج منه، فهذا القدر من الماء الذي يعلق بالإبرة لا يساوي شيئًا يذكر بالنسبة للبحر العظيم ، فهذا مثل ما ينفقون ولو اجتمعوا عليه بالنسبة لفضل الله تعالى، فما ظنكم بفضل الله العظيم؟

6: واللطيفة السادسة: التعبير عنه بلفظ الفضل؛ فسمّاه فضلاً؛ لأنّهم يمتازون به عن غيرهم، ويفضلونهم به، والفضل في اللغة الزيادة في الخير.
يقال: رجل ذو فضل إذا كان له ما يفضل به غيره من أبواب الخير؛ أي يزيد به على غيره؛ من فضل مال أو جاه أو علم قال الله تعالى: {ويؤت كل ذي فضل فضله}.
والنفس البشرية تتعلّق بما تحبّ أن تمتاز به من الفضل؛ فوعد الله عباده المؤمنين بأنّ لهم فضلاً كبيراً.

7: واللطيفة السابعة: وصف هذا الفضل بأنّه كبير، فمع ما تقدّم من اللطائف ودلالتها على عظم هذا الفضل نصّ هنا على وصفه بأنّه فضل كبير، وهذا الوصف يورث المؤمن يقينا بعظم هذا الفضل الموعود.

والمقصود أن التبشير بهذا الفضل، وبيان اختصاصه بالمؤمنين، والنص على أنه فضل من الله، وإبهام هذا الفضل إبهام تعظيم وتفخيم؛ ووصفه بأنّه كبير، كل ذلك من دلائل تعظيمه لتشرئب الأعناق إليه، وتتطلع النفوس إليه، ويزداد شوقها إليه، وزادهم الله عز وجل بيانًا وتشويقاً بأن وصف هذا الفضل بأنه كبير: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}.


فضائل الإيمان
وما وعد الله به المؤمنين من الفضل العظيم منه ما بيّن في نصوص الكتاب والسنة، ومنه ما أخفي تشويقا لهم، ولأن عقولهم في هذه الحياة الدنيا لا تحتمله، وأمانيهم لا تبلغه.
ومما يحسن أن نذكّر به أنفسنا ما بيّنه الله تعالى وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم من فضائل الإيمان في الدنيا والآخرة، وهذا التذكر ينفع المؤمن فيتبصّر وينيب إلى ربّه، ويجتهد في تحقيق الإيمان واستكماله.
وقد قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً لا يستوون}.
فمما جعله الله للمؤمنين من الفضل الكبير:
1: أعلى الفضائل وأشرفها رؤيته جلّ وعلا في دار الكرامة.
2: ودخول جنّته دخول تكريم، والتمتع بما فيها من النعيم، والإقامة فيها إقامة دائمة لا تحوّل عنها، ولا نكد فيها: { يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
3: ومن أعظم فضائل الإيمان: النجاة من سخط الله وعذابه، بل جعل الله تعالى ذلك حقاً أوجبه على نفسه كما قال الله تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
4: ومن أجلّ فضائل الإيمان وأشرفها: معيّة الله تعالى لعباده المؤمنين كما قال الله تعالى: {وأنّ الله مع المؤمنين} ، وهذه المعية الخاصة لها آثارها المباركة، وأعظم آثارها محبّة الله تعالى لهم وحفظه وتأييده.
5: ومن فضائل الإيمان: ما جعله الله لعباده المؤمنين، من الحياة الطيّبة المباركة بطمأنينة القلب، وسكينة النفس، وانشراح الصدر، وقرّة العين، وكفايتهم، والتكفّل لهم بحسن عاقبتهم.
وإذا عصى العبد ربّه وأراد الله به خيراً عجّل له عقوبته في الدنيا.
روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن مغفل، أن رجلا لقي امرأة كانت بغيا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت المرأة: مه، فإن الله عز وجل قد ذهب بالشرك وجاءنا بالإسلام؛ فتركها وولى، وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه الحائط فشجَّه؛ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: (( أنت عبد أراد الله بك خيرا، إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة كأنه عير))
6: ومن فضائل الإيمان: ما أوجبه الله لعبده المؤمن من حرمة حقّه، وتكفّله بحفظ حقه والمدافعة عنه، وانتصاره له ممن يظلمه، أو يناله بكلمة فأكثر أو يسيء به الظنّ به، أو يكيده بمكيدة، فكلّ ذلك محفوظ للمؤمن لا يضيع عند الله تعالى، يعجّل الله لبعض المؤمنين بعض حقّهم من ذلك في الحياة الدنيا، ويدّخره لبعضهم فيأتيهم موفوراً يوم تنصب الموازين، وقد قال الله تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}.
7: ومن فضائل الإيمان: ما أكرم الله به عباده المؤمنين من إجابة دعواتهم وذكره لهم إذا ذكروه، كما قال تعالى: {فاذكروني أذكركم}، وسماعه لما يبثونه من الشكوى والحاجات، وإجابته لهم في صلواتهم؛ ورحمته إياهم؛ بكشف كروبهم، وإنزال السكينة عليهم، وكشف الغمّ عنهم، وهداية قلوبهم عند نزول المصائب {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم}
8: ومن فضائل الإيمان: ما جعله الله من روابط الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، وهذه الأخوة لها حقوق وآثار مباركة، فأوجب للمؤمن على إخوانه حقوقاً ، وأدّبهم في معاملته والحديث معه.
9: ومن فضائل الإيمان: ما فتحه الله للمؤمن من أبواب الخير الكثيرة ، حتى جعله له من كلمات يسيرة يقولها أجوراً عظيمة مضاعفة، ومن تأمل ما جعله الله من ثواب الأذكار والأعمال الصالحة والأجور العظيمة المضاعفة عليها أدرك هذه الحقيقة، وأنها من دلائل محبّة الله تعالى لعباده المؤمنين، ومحبّته لأن يستكثروا من فضله، وهذا الفضل خاصّ بالمؤمنين، فغير المؤمن لو عمل من هذه الأعمال ما عمل لم يقبله الله منه.
10: ومن فضائل الإيمان: أنّ المؤمن ما بقي صحيح الإيمان فإنّه يستجاب دعاء المؤمنين له، دعاء الملائكة ودعاء الأنبياء والصالحين، من أوّل ما خلق الله الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذا الدعوات المتقبّلة ينالها كلّ عبد مؤمن صحيح الإيمان، ويحرم منها من حرم الإيمان.

فهذه عشرة أنواع من فضائل الإيمان ؛ كلّ نوع منها خير من الدنيا وما فيها.

شرط الفوز بالبشارة في هذه الآية:
والمقصود أنّ هذه البشرى العظيمة بالفضل الكبير من الله تعالى لها شرط قد تضمّنته هذه الآية، وهو شرط الإيمان؛ فمن كان مؤمنا كان من أهل هذه البشرى العظيمة، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان.
ومما ينبغي أن يعلم أن الإيمان يتفاضل، فأعظم المؤمنين نصيباً من هذه البشرى أحسنهم إيماناً، والإيمان قول وعمل واعتقاد؛ وشأن إيمان القلب عظيم وهو أصل صلاح الجوارح، فإذا صلح القلب صلح سائر الجسد، وكم من الأعمال التي تتشابه في صورتها الظاهرة ويكون تفاوت الناس فيها عند الله تعالى تفاوتاً عظيماً في المحبّة والأجر والتكريم.
ومن تأمّل فضائل الإيمان العظيمة، وتأمّل عظيم الخسران لمن حرم هذه الفضائل، وسوء عاقبته، علم سبب شدة خوف السلف رحمهم الله من أن يُسلب أحدهم الإيمان؛ فإن الفتن والمعاصي قد تغري العبد فيسترسل فيها حتى يسلب الإيمان وينسلخ من الدين ؛ فيشقى الشقاء العظيم، والعياذ بالله تعالى.
بل قد يقول المرء كلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنّم، كما صحّ بذلك الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في صحيح البخاري وغيره.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»
وكان سفيان الثوري رحمه الله يبكي ويقول: (أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت).
ولذلك اشتدّ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم وتحذير العلماء من التهاون في الذنوب والمعاصي؛ فإن العبد ما دام مصرّا على ذنب فهو على خطر من عقوبته؛ ومرض قلبه، وتعرّضه لذنوب أعظم بسبب تهاونه في ذلك الذنب وإصراره عليه؛ فالمعاصي بريد النفاق؛ ومن كثر غشيانه للمعاصي حصل له من مرض القلب أو موته بسبب تفشّي النفاق فيه ما يخشى عليه أن يزيد به حتى يموت قلبه بالكلية ويسلب الإيمان عند الموت والعياذ بالله تعالى.
قال ابن تيمية: (إذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، وفعل ما نهي عنه، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة، وإن أصر على الكبائر، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان، فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات)ا.هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: (اعلم أن العقوبات تختلف فتارة تعجَّل، وتارة تؤخَّر، وتارة يجمع الله على العاصي بينهما.
وأشد العقوبات: العقوبة بسلب الإيمان، ودونها العقوبة بموت القلب، ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة منه، وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بهما؛ فتعمى البصيرة.
وأهون العقوبة ما كان واقعا بالبدن في الدنيا، وأهون منها ما وقع بالمال)ا.هـ.

اللهم أحينا مؤمنين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، يا أرحم الراحمين.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

21 Sep 2016

المثال الثاني: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}*



أصدق علامات الإنابة : طمأنينة قلب المؤمن بذكر الله ، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
قال قتادة: (سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). رواه ابن جرير.
فطمأنينة القلب بذكر الله: سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر الله وما دلَّ عليه.
والباء فسرت بالسببية والمصاحبة والملابسة والاستعانة والتبرك، وكلها معانٍ صحيحة تتسع لها دلالة هذا الحرف.
وهذه العلامة [طمأنينة قلب المؤمن بذكر الله] جامعة لمعانٍ عظيمة، يدلّ عليها ما فسّر به ذِكْر الله هنا؛
فقيل: الذكر: هو القرآن.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه بلسانه.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه في نفسه.
وقيل: الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره في آيات الله ومخلوقاته.
وكل هذه المعاني صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر الله جلَّ وعلا، وبها تحصل طمأنينة القلب، ؛ فإن المؤمن إذا دهمه ما يُزْعِجُه ويُجْزِعه ثم ذَكَرَ ربَّه في نفسه وعلم أن له ربّا سميعاً بصيراً رحيماً ودوداً لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء ولا يخذل أولياءه ولا يتخلَّى عنهم، بل يهديهم وينصرهم ويحفظهم اطمأنَّ قلبُه لما تذكَّر من أسماء الله وصفاته وآثارها التي لا تتخلف عنها.
- وإذا ذكرَ وَعْدَ الله تعالى لمن اتبع هداه أن لا يخاف ولا يحزن وأن لا يضل ولا يشقى، وأن الله مع عباده المؤمنين المتقين يحبهم ويؤيدهم وينصرهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: اطمأنَّ قلبه بذكر الله، وصدق وعده.
- وإذا تلا آيات الله وجد من نفسه طمأنينة لها وفرحاً بها ورضا ينشرح به الصدر وتسكن به النفس فيطمئنُّ القلب بذكر الله الذي أنزله على عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من الهدى، ويعتبر بما فيه من العبر والمواعظ، ويعقل ما فيه من الأمثال، فيثبت بإذن ربه على الحق والهدى فيزيده الله هدى وفضلاً وثباتاً على الحق.
- وإذا تأمَّل آيات الله الكونية واعتبر بما فيها من العبر العظيمة وتعرَّف بها على أسماء الله وصفاته ، وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم منه، ومن سيَّر هذه الأفلاك العظيمة بنظام دقيق عجيب محكم حكيم عليم قدير، وأن من يدبّر أمور الكائنات على كثرتها الهائلة وتنوعها العظيم واختلافها وتزامنها لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ولا يزال يتفكر في نفسه وفي الآفاق وفي ما يراه من عجائب خلق الله تعالى للكائنات وتدبيره لأحوالها وتقديره لأوصافها وقسمه لأقواتها وأرزاقها وطبائعها وأخلاقها.
فيكون هذا التفكر دليلاً يذكّره بالله فيطمئنّ قلبه بذكر الله، ويثمر له هذا التفكر والتذكر ما يثمر من خشية الله والإنابة إليه وتعظيمه ومحبته والخضوع لأمره، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
ويدلّ على هذا المعنى قول الله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
- وإذا ذَكَرَ العبدُ ربَّه بلسانه مؤمناً بالله جلَّ وعلا عَصَمَه الله من كيد الشيطان الوسواس الخناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ربَّه خنس، وَوُقِي أيضاً شرَّ وسوسة نفسه الأمارة بالسوء وشر وسوسة شياطين الإنس والجن، وإذا اندفعت هذه الوساوس عن القلب وعُصم العبد من شرها اطمأن القلب لعصمته من الأذى الذي كان يزعجه ويقلقه ؛ فإن ما يحجب الطمأنينة عن القلب راجع إلى معانٍ متقاربة من التحزين والتيئيس والتشكيك والتخويف وكلها إنما مصدرها شرور النفوس ووساوس الشياطين؛ فإذا عُصم العبد منها بقي القلب مطمئناً بذكر الله جلَّ وعلا.
وهذه المعاني إذا تأملتها حقَّ التأمل وجدتها من أظهر علامات الإنابة إلى الله تعالى.
وأن الشقي المحروم هو المعرض عن ذكر ربه ، الذي إذا ذكر الله اشْمَأَزَّ قلبه، وإذا تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من المجرمين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
ومن تأمَّل العقوبات التي جعلها الله لمن أعرض عن ذكره علم شدة انتقام الله جلَّ وعلا ممن لا يُنيب إليه ولا يطمئنّ قلبه بذكره.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}
فتأمّل شدة هذه العقوبة، وكيف أنها في مقابل ما يمنّ الله به على أهل الإنابة والخشية من فهم القرآن وفقهه والانتفاع به.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
فانظر حفظني الله وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب وهو عمل قلبي وكيف أنه سبب لهذه العقوبات العظيمة من الشقاء والخذلان، وتسلط الشياطين ، والحرمان من الهدى والانتفاع بالقرآن، وسبب ذلك : الإعراض عن ذكر الله.
وعلاجه : الإنابة إلى الله تعالى، وطمأنينة القلب بذكره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يدلك على أن القلوب لا طمأنينة لها على الحقيقة إلا بذكر الله جلَّ وعلا؛ الذي هو ربّها وخالقها ومعبودها الحق لا إله إلا هو.
وأنَّ ما يحصل لأهل المعصية والإعراض من الفرح والانبساط إنما هو سكرة نفسية وخفَّة شيطانية كما يسكر صاحب الهمّ بالخمر فيجد لها انبساطاً فإذا صحا من سكرته عاد إليه كَدَرُه، وحضَرَهُ ضيقُه وهمُّه أشد مما كان عليه؛ فيدفع أثر السُّكْرِ بِسُكْرٍ مثلِهِ أو أشد.



* هذه الرسالة مستلة من شرح لم يكتمل بعد على التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية.

هيئة الإشراف

#4

17 Nov 2016


اقتباس:
كيف أستخدم التحرير العلمي مع الأسلوب الوعظي؟

جواب الشيخ عبد العزيز الداخل:
استخدام التحرير العلمي في الأسلوب الوعظي على مرتبتين بحسب فئة المتلقين:
1. فإذا كان التفسير موجهاً للعامة فيكفي أن يذكر لهم الخلاصة في مسائل الخلاف القوي، وأما مسائل الخلاف الضعيف فالأولى أن لا يشير إليه.
2. وإذا كان التفسير موجهاً لطلاب العلم والدعاة والعلماء فيفصّل فيه بالأسلوب الذي يحتمله المقام، وقد يحتاج إلى التفصيل في بعض المسائل لدفع إشكال، أو بيان خطأ فهم شائع، أو بيان علّة قول مشتهر لا يصحّ، ونحو ذلك.

هيئة الإشراف

#5

17 Nov 2016

تنبيهات عامة، للشيخ عبد العزيز الداخل:
1. الإكثار من النقول العلمية يضعف الأسلوب الوعظي، ولذلك ينبغي أن يكون الأسلوب الوعظي ظاهرا في الرسالة، ويمكن أن تُحلَّى الرسالة ببعض النقول بشرط أن لا تغلب على الرسالة، ولا تخرجها عن موضوعها الوعظي.
2. الأحاديث والآثار التي تذكر في الرسالة لا بد من تخريجها.
3. مما يعين على تحسين الأسلوب الوعظي استخراج الفوائد السلوكية بدقة ثم تضمينها في الرسالة في المواضع المناسبة.
4. مما يقوّي تأثير الرسالة التفسيرية تحليتها بالعبارات الموجزة التي تنتقى من كلام أهل العلم وحكمهم ووصاياهم، وكذلك القصص والأخبار من غير إكثار.