الدروس
course cover
الدرس السادس: الأسلوب البياني
28 Sep 2016
28 Sep 2016

13252

0

0

course cover
أساليب التفسير

القسم الخامس

الدرس السادس: الأسلوب البياني
28 Sep 2016
28 Sep 2016

28 Sep 2016

13252

0

0


0

0

0

0

0

الدرس السادس: الأسلوب البياني


الأسلوب البياني هو الأسلوب الذي يُعنى فيه صاحبه ببيان بلاغة القرآن، والتعريف بسمو ألفاظه، وسعة معانيه، وائتلافها وعدم اختلافها، وتناسب الألفاظ والمعاني، وتبيين لطائف الفروق بين الألفاظ، واستخراج الحكم من اختيار بعضها على بعض، وتجلية معاني الأساليب والتراكيب، وبيان أسرار التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والذكر والحذف، والإظهار والإضمار، والالتفات في الخطاب، والإسهاب والاقتضاب، وبيان معاني الحروف والإطلاقات، إلى غير ذلك من المباحث البيانية التي يُعنى بها المفسّرون بهذا الأسلوب.

ثمرات التفسير البياني:
التفسير البياني لون من ألوان تبليغ معاني القرآن، والدعوة إلى الله تعالى بتمجيد كلامه، وبيان حسنه وعظمته، وذبّ الطعن عنه، ونفي الاختلاف فيه.
وله ثمرات جليلة:
منها: بيان سعة معاني القرآن وسمو ألفاظه وتسنّمه الذروة العليا من البيان.
ومنها: تقرير ائتلاف معاني القرآن وعدم اختلافها، والجواب عما يثيره بعض الطاعنين في بيان القرآن.
ومنها: الجواب عما يشكل على بعض العلماء والعامة من المسائل التي يرون في ظاهرها إشكالاً يسبق إلى أذهانهم يستحثّهم للسؤال عما يرفعه، وطلب الكشف عن المعنى الصحيح الذي لا إشكال فيه؛ فيحصل بالبحث والسؤال واستعمال الأدوات البيانية ما يفيد السائل بأكثر مما سأل عنه غالباً، ويعرّف بحسن بيان القرآن واتساق ألفاظه وائتلاف معانيه.
ومنها: أن الأدوات البيانية تفيد فوائد جليلة في تقرير الاستدلال لبعض أقوال المفسّرين وتقوية حجّتهم، وإعلال الأقوال الضعيفة وبيان ما يردّها، والترجيح بين أقوال المفسرين.
ومنها: التأثير بقوّة بيان القرآن بسبب ما يحصل من إدهاش المتلقّي بما يذهب حيرته، ويكشف له عن معانٍ بديعة كانت غائبة عنه؛ وهذا الاندهاش والانبهار له تأثير بالغ على بعض النفوس فتنقاد به ويؤثر فيها ما لا يؤثره الأسلوب الوعظي.

وسائل تحسين الأسلوب البياني
التفسير بالأسلوب البياني يستدعي أهلية علمية حسنة في علوم البلاغة وفقه اللغة ومعاني الحروف والمفردات وأوجه الإعراب والتصريف.
ويجب - مع ذلك - أن يكون التفسير البياني قائماً على قدر حسن من التأصيل العلمي في علم أصول التفسير وعلم العقيدة؛ لئلا يقود المفسِّرَ استحسانُه بعض ما يقرأ أو يخطر له من الأوجه البيانية إلى الخروج بقول باطل في التفسير أو مخالف لصحيح الاعتقاد.
ومما يعين على تحسين الأسلوب البياني:
1. دراسة مختصرات في علوم اللغة المتقدّم ذكرها دراسة حسنة يُعنى فيها بالأمثلة التطبيقية على مسائل التفسير، وهذا القدر مهمّ ليحصل للطالب تصوّر حسن ومعرفة جيدة بمسائل التفسير البياني، وليُحْسن فهمَ كلام المفسرين في هذا النوع من المسائل.
2. قراءة التفاسير التي تُعنى بعلم البيان ومن أجودها التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور، وتفسير أبي السعود، وروح المعاني للألوسي، والكشاف للزمخشري مع الاحتراز من اعتزالياته، ونظم الدرر للبقاعي مع الاحتراز مما فيه من التكلف والأغلاط في بعض المواضع، وحاشية الطيبي على الكشاف، وحاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي، وغيرها.
3. قراءة الرسائل التفسيرية التي يُعنى أصحابها بالتفسير البياني، والاجتهاد في محاولة محاكاتهم، واستعمال أدواتهم العلمية، وهي من أهمّ الأسباب المعينة على تنمية ملكة التفسير البياني.
4. قراءة الكتب التي تعدّ أصولاً في علم البلاغة ككتابي عبد القاهر الجرجاني "أسرار البلاغة" و "دلائل الإعجاز"، وأساس البلاغة للزمخشري، والإيضاح للقزويني، وغيرها، وهذه الكتب يحتاجها طالب العلم لبحث المسائل البلاغية وتفصيلها.
5. قراءة الكتب التي تعنى بالبلاغة القرآنية؛ ويكثر أصحابها من ذكر الأوجه البيانية في آيات القرآن، ومن أجودها: "بديع القرآن" لابن أبي الإصبع المصري، و"سرّ الفصاحة" لابن سنان الخفاجي، و"التبيان في علم البيان" للطيبي، وغيرها.
6. القراءة في كتب مُشْكِل القرآن؛ والتعرف على أنواع الإشكالات التي تُثار، وأصول الرد عليها، والأدوات العلمية التي يستعملها العلماء في الجواب عنها، وتكرار هذه المسائل ينمّي ملكة طالب العلم في التعرف على أسباب الإشكالات وطرق كشفها، ومن أجود تلك الكتب: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، و"أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل" لمحمد بن أبي بكر الرازي صاحب مختار الصحاح، و"تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء" لابن تيمية، و"دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" لمحمد الأمين الشنقيطي.
7. التمرّن على استخراج المسائل التفسيرية من الآيات؛ وهي من أهمّ المهارات المفيدة في تنمية ملكة الأسلوب البياني.
والمتأمل في رسائل العلماء المتقدمين في الأسلوب البياني يجد لديهم براعة في استخراج المسائل واستنتاج الفوائد والأحكام، فقد ذكر ابن القيّم في فصل له في تفسير قول الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم...} الآية عشرين مسألة.
- وذكر ابن الجزري في رسالة له في تفسير قول الله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي..} الآية خمساً وأربعين مسألة.
- وذكر الزجاج في رسالته في تفسير البسملة ثمانين مسألة.
- وذكر السيوطي في رسالة له في تفسير قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا ...} مائة وعشرين فائدة بلاغية.
وهذه البراعة في استخراج المسائل لها أثر كبير في التفطن لأوجه البيان والجواب عن الإشكالات التي تعرض لبعض السائلين.

وهذه الكتب وإن بدا للناظر أنها كثيرة بادئ الأمر إلا أن المعتني بالأسلوب البياني يجد في قراءتها ودراسة مسائلها من الفائدة والمتعة والوقوف على اللطائف والعجائب ما يذهب عنه كثيراً من عناء البحث والمدارسة؛ ويثري معرفته بمسائل التفسير البياني، ويُكْسبه التأصيل الحسن في هذا العلم.

المخاطَبون بالأسلوب البياني:
الخطاب بالأسلوب البياني له درجات فمنه ما يناسب أهل العلم وتستخدم فيه المصطلحات البيانية المعروفة لدى المعتنين بهذه العلوم.
ومنه ما يكون الغرض منه تفهيم العامة ببعض بيان القرآن فيوصى المفسّر أن يخلي كلامه مما لا تدرك العامة معناه من المصطلحات والعبارات التي تناسب الخاصة، وأن يجتهد في تيسير أسلوبه وتقريب عباراته لأفهام المخاطّبين، وأن يتجنب التعقيد والحشو.

عناية العلماء بالأسلوب البياني:
التفسير البياني نوع من أنواع التفسير اللغوي، وللعناية به أصل لدى السلف لكن كانت طريقتهم فيه التنبيهُ والإشارة، ولم يعرف الاسترسال في التفسير البياني إلا بعد نضج التأليف في علوم البلاغة وتقرُّر مصطلحاتها.
ولذلك قد يأخذ بعض البلاغيين الكلمة الواحدة من تفسير السلف فيفصّلون القول فيها تفصيلاً كثيراً ويطنبون في شرحه وتقريره وإظهار محاسنه.
ومن أمثلة ذلك:
قول قتادة في تفسير قول الله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ}: قال: أي من هذه الأمّة، يعني بذلك القلب: القلب الحيّ). رواه ابن جرير.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {لمن كان له قلبٌ} قال: (قلبٌ يعقل ما قد سمع من الأحاديث الّتي عذّب اللّه بها من عصاه من الأمم).
فهذا القول مبني على أصل لغويّ وهو أن العرب تُسمّي من لا ينتفع بالآلة باسم فاقدها؛ فيقال لمن لا يبصر الحق مع وضوحه: أعمى، ومن لا يسمعه: أصمّ، وقد قال الله تعالى في الكفار: {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}.
فهذا المعنى الذي عبّر عنه بعض السلف بعبارة موجزة أخذه عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز وحبَّره تحبيراً حسناً فقال: (قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه؛ فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر.
فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى "من كان له عقل"، فإنه إنما يصح على أن يكون قد أراد الدلالة على الغرض على الجملة، فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن "القلب" اسم "للعقل"، كما يتوهمه الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، وإلى تحريف الكلام عن صورته، وإزالة المعنى عن جهته.
وذاك أن المراد به الحث على النظر، والتقريع على تركه، وذمُّ من يخلُّ به ويغفل عنه، ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدّمتُه، وإلا بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر، كأنه ليس بذي قلب، كما يجعل كأنه جماد، وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس.
وليس سبيل من فسر "القلب" ههنا على "العقل" إلا سبيل من فسر عليه "العين" و "السمع" في قول الناس: "هذا بين لمن كانت له عين، ولمن كان له سمع" وفسر "العمى" و "الصمم" و "الموت" في صفة من يوصف بالجهالة، على مجرد الجهل، وأجرى جميع ذلك على الظاهر، فاعرفه.
ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، ومكان الشرف، وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق)ا.هـ.
ثم جاء ابن القيّم بعده فزاد في هذا التفسير وبالغ في تحبيره وتحريره وأسهب فيه وأطنب، وأدهش وأعجب، واستعمل السبر والتقسيم، ووقف على معاني الحروف والأساليب، ومقاصد الآية وسياقها، وتوافقها مع مقاصد القرآن واتّساقها، فخرج ببيان بديع معجِب.
فقال في كتابه مدارج السالكين: (وقال تعالى في آياته المشهودة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجل له قلب حي مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب، ليس حاضرا، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
الثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، مُلْقِ السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.
فإن قيل: فما موقع " أو " من هذا النظم على ما قررت؟
قيل: فيها سر لطيف، ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو، كما يقوله ظاهرية النحاة.
فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقّاد، مليء باستخراج العبر، واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله، وأعظمهم إيمانا وبصيرة، حتى كأنّ الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجلين دخلا دارا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها أمورا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا، فسأله عما رأى في الدار؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه، لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية، ولا تستبعد أن يمنّ الله المنان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان.
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نوراً إلى نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا {فإن لم يصبها وابل فطل} والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها، وأهل الجنة سابقون مقربون، وأصحاب يمين، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا، قال الله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} فكل مؤمن يرى هذا، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر)ا.هـ

والمقصود من هذا العرض أن العلماء المتقدمين كانت لهم عناية بهذا النوع لكنهم كانوا يجتزئون عن التطويل بالإشارة، وعن التفصيل بالتنبيه.
قال عبد الله بن دينار: كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس عن الشيء من القرآن ثم يقول: «غُصْ غَوَّاص» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
وقال ابن عباس لرجل سأله عن مسائل في القرآن أشكلت عليه، ومنها قول الله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} ونظائرها؛ قال: ما شأنه يقول: {وكان الله} يشير إلى أن (كان) لما مضى.
فقال له ابن عباس: (وأما قوله تعالى: {وكان الله}؛ فإن الله كان لم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم قدير، لم يزل كذلك؛ فما اختلف عليك من القرآن فهو شِبْهُ ما ذكرت لك؛ فإنَّ الله لم يُنزِل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون). رواه عبد الرزاق وابن أبي حاتم، وعلَّقه البخاري في صحيحه.

ثم لما توسّع العلماء في علوم البلاغة ظهر أثر العناية بتلك العلوم على تعاطيهم مسائلَ التفسير، واشتهر بالعناية بالتفسير البياني جماعة من المفسّرين منهم: الزمخشري والطيبي وابن القيم والبقاعي وأبو السعود والشهاب الخفاجي والألوسي وابن عاشور.
ولبعض العلماء رسائل مفردة أو فصول من بعض كتبهم، ومن أجودها:

1. فصل في تفسير قول الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم...} الآية لابن القيم.
2. كفاية الألمعي في تفسير قول الله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي...} للحافظ ابن الجزري.
3. فتح الجليل للعبد الذليل لجلال الدين السيوطي.

أمثلة:
رسالة في تفسير قول الله تعالى: {نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم . وأنّ عذابي هو العذاب الأليم}

التطبيق:
- اكتب رسالة تفسيرية مختصرة بالأسلوب البياني

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

14 Apr 2017


بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة في تفسير قول الله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) }



تضمنت هاتان الآيتان من الأوجه البيانية البديعة، والفوائد واللطائف العجيبة ما يملأ قلب متأمّلهما تعظيماً لكلام الله جلّ وعلا، ويقيناً بحسن بيانه، وأنّه ليس كمثل كلام الله تعالى كلام، ولا كمثل خطابه خطاب، قد بهر الألباب بإحكامِ بيانه، وشفى النفوس بهداه وبصائره، ووعظ القلوب فأحياها، وزجر النفوس عن أهوائها المردية وزكّاها، ودلّ أولي الألباب على سبيل الحكمة بأحسن بيان وألطف خطاب.

وهذه الرسالة فيها بيان لما يسّر الله معرفته من الأوجه البيانية في هاتين الآيتين، وبديع اختيار بعض الألفاظ على بعض، وقوّة دلالتها على المعاني المرادة، وسعة آثارها ولوازمها، ووفائها بما تحتاجه النفس البشرية من بيان الهدى؛ وشفاء أدوائها، بأبينِ الألفاظ وأجلّ المعاني، وأحسنها أثراً، وأشدّها تأثيراً على من عقل الخطاب وفهم المراد.

وأوّل ذلك إخراج هاتين الآيتين مخرج الرسالة العظيمة ذات الشأن الكبير، وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلّغ هذه الرسالة العظيمة ذات الشأن؛ إذ من المعلوم المتقرر أن الرسائل العظيمة يُختار لتبليغها عظيمُ القَدْرِ والأمانة، فعِظَم قَدْرِ المرسَل بهذه الرسالة من دلائل عظمة الرسالة نفسها، وأنّها ذات شأن كبير، وأثر جليل.

فقال تعالى: {نبّئ عبادي..}
والإنباء أخصّ من مجرّد الإخبار؛ فهو إخبار صادق عن أمرٍ ذي شأن يفيد علماً له أثرٌ على المنبَّأ به، وهذه خلاصة ما ذكرَ أهل العلم من الفرق بين الإخبار والإنباء، وقد ذكر بعضَ ذلك الراغبُ في مفرداته والزبيديُّ في تاج العروس وغيرهما، وهو ما يدلّ عليه استقراء ورود هذا اللفظ في كلام العرب؛ فلا يكادُ يُطلق لفظ النبأ على الخبر التافه إلا على سبيل التهكّم، كما لا يكاد يطلق إلا على الخبر الذي له أثرٌ على المنبَّأ به؛ فيهتمّ له ويُعنى به، كما قال كعب بن زهير:
نُبّئت أنّ رسول الله أوعدني .. والعفو عند رسول الله مأمول

وقال الحارث بن حلّزة اليشكري:
وأتانا منَ الحوادثِ والأنبــــــــــــــا ... ءِ خَطـــبٌ نُعْــــــــنَى بِهِ وَنُسَاءُ
أنَّ إخوانَنا الأراقـــــــــــــــــــــــــمَ يَغلُو ... نَ علــــــــينا في قيلهمْ إحفاءُ
يخلطونَ البريءَ منّا بذي الذَّنْـــــــــــــــب ولا يَنفـــــــــــعُ الخليَّ الخلاءُ

وقال امرؤ القيس بن حجر:
تَطاولَ لَيلُك بالأثمـــدِ ... ونـــــــام الخَلِيُّ ولَمْ ترْقُـــــــدِ
وبات وباتتْ لهُ ليلةٌ ... كَلَيْلةِ ذي العائرِ الأرْمَدِ
وذلكَ من نَبَأٍ جاءني ... وَخُبِّرْتُهُ عَنْ أبي الأسْوَدِ

وقد نُسبت هذه الأبيات إلى غير امرئ القيس، والمشهور أنها له، وشواهد هذا المعنى كثيرة في كلام العرب وأشعارهم.

والمقصود أنّ قوله تعالى: {نبّئ} يدلّ على الإخبار بأمر له شأن، يجب على المنبَّئين به أن ينصتوا له، ويعوه بقلوبهم، ويعرفوا له قدره.
واختير لفظ {نبّئ} بالتشديد على [أنبئ] في هذا المقام للدلالة على التوكيد، وبيان عِظَم الأمرِ المنبّأ به.
وتصدير الآية بالأمر بـ{نبّئ} يهيّئ النفس لتلقّي هذا النبأ ذي الشأن، فيلقي إليه السامع سمعه، ويُحضرَه عقلَه، ويتفكّر فيه، ويتبصّر به، حتى يدرك مقصده وأثره؛ ويتّبع ما فيه من الهدى.

وقوله تعالى: {عبادي} اختيار هذا اللفظ على غيره من الألفاظ فيه تذكير للناس بعبوديتهم لربّهم جلّ وعلا، وأنّهم مهما بلغوا فهم عباد مخلوقون لعبادته، مقهورون تحت حكمه، لا يخرجون عن سلطانه؛ ففيه من توكيد وجوب الاستماع إلى هذا النبأ ما لا يخفى؛ إذ هو خطاب ربّهم ومالكهم الذي لا ربّ لهم سواه، ولا خالق لهم غيره؛ فكذلك يجب أن لا يكون لهم معبود سواه، ولا أعظم في قلوبهم منه.

والإضافة في {عبادي} تحمل معنيين متسقين غير مختلفين:
المعنى الأول: إضافة الملك والاختصاص، أي هم عباده لا عباد غيره، وهي إضافة تقتضي أنّهم مخلوقون مربوبون محكومون بحكم الله تعالى، لا يخرجون عن حُكْمِه وسلطانه، وهذا باعتبار معنى العبودية العام، كما قال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} ، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}
والمعنى الثاني: إضافة التشريف، وهي خاصة لعباده الذين يعبدونه وحده لا شريك له؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} ، وقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)}

ولكل عبد ما يناسبه من هذه الإضافة؛ فالمؤمنون لهم منها حظ التشريف والتكريم، والكفّار لهم منها حظّ العبودية اللازمة لهم التي لا يخرجون عنها بحال من الأحوال، وهي حجّة عليهم؛ إذ عبدوا غيره، وهم عباده في الحقيقة.

والإضافتان تقتضيان عناية الله تعالى بعباده، وأنّه لم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم هملاً، بل أرسل إليهم الرسل، وبيّن لهم الهدى.
وهذه الإضافة تفيد المؤمنين فائدة أخرى عظيمة الشأن والأثر، وهي أنها تحرّك محبّة الله تعالى في قلوبهم،وتعظّمها وتنمّيها، ويزيدها الاعتزاز بتشريفه إيَّاهم بإضافتهم إليه؛ فهم عبادُه، وهو معبودهم الذي يعبدونه وحده لا شريك له؛ فيحبّونه غاية المحبة، ويعظّمونه غاية التعظيم، ويخضعون له غاية الخضوع، ولا تسمّى العبادة عبادة حتى يجتمع فيها معنى المحبة والتعظيم والخضوع، وبذلك يكون المرء عابداً لله حقاً.
فالأمر منه تعالى ليس كالأمر من غيره، والنبأ منه ليس كالنبأ من غيره؛ بل هو نبأ جليل؛ حقّه أن يُتلقّى بالتعظيم والإجلال، وأن يُفقه أحسن الفقه.

وقوله تعالى: {أنّي} استهلال لبيان موضوع النبأ، وأنّه أشرف موضوع وأجلّ منبَّأ به، إذ هو نبأ عن الله جلّ وعلا، صيغ بأداة التوكيد {أنّ}، وحذفت منه نون الوقاية التي تكون في [أنني] للإشعار بجلالة النبأ، وسرعة الدخول في المراد.

{أنا} ضمير الفصل هنا دالٌّ على معنى الحصر والتوكيد لمعنى الإضافة في {أني}؛ وفي هذا من بيان رهبة الرسالة وجلالة قدرها، وعِظَمِ خَطَرها ما يجعل النفوس المؤمنة بهذا الخطاب تتلقّاه بالتعظيم والإجلال، وإلقاء السمع لما يكون من هذا النبأ.

{الغفور الرحيم} البدء بذكر المغفرة والرحمة فيه إذهاب لما في النفس من رهبةِ أوّل الخطاب؛ ليحلّ محلّها الرجاء، فيكون ذلك أوقع في النفس، وأحسن أثراً.
{الغفور} الذي يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء، عظيم المغفرة، واسع المغفرة، كثير الغُفْران، لا يستعظمه ذنبه أن يغفره، يغفر الذنوب ولا يبالي، وفي هذا من الدعوة إلى استغفاره، ورجاء مغفرته ما لا يخفى، وأنّ العبد مهما بلغت ذنوبه فيجب أن لا ييأس من مغفرة ربّه جلّ وعلا.
{الرحيم} الذي وسعت رحمته كل شيء؛ فهو عظيم الرحمة ، كثير الرحمة، إذ المبالغة في "رحيم" تأتي لمعنى الكثرة، ولمعنى العَظَمة، والله تعالى هو الرحيم بالمعنيين؛ فرحمته عظيمة واسعة، وهو كثير الرحمة، وفي هذا من قذف رجاء رحمة الله في القلب ما لا يخفى أثره؛ حتى يكاد يمتلئ قلب المؤمن الموقن بهذا الخطاب من رجاء رحمة ربّه.
فلكثرة رحمة الله تعالى يرجو العبد أن تناله تلك الرحمة وأن لا تضيق عنه فيحرم منها، ولِعِظَمِ رحمته جلّ علا يرجو أن يصيبه منها ما يُسْعده في دنياه وأخراه.
والرجاء من أعظم الدوافع للعمل؛ فلعظمة الرجاء في القلب يتحمل العبد المشاقّ، ويعاني الصعاب، وهو فرح مسرور؛ لا يأسف على ما فاته مما تهواه نفسه؛ إذ كان ما يرجوه أعظم في نفسه ، وأجلّ خطراً؛ فهان عليه ما يلقى في سبيله.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
فلمّا عظم الرجاء في قلوبهم أقدموا على هذه الأعمال الجليلة بنفوس مؤمنة مقبلة.
ولمّا تخلّف هذا الرجاء عن الكفار والمنافقين هان عليهم ترك الفرائض، وارتكاب المحرمات، والإعراض عن هدى الله؛ لأنّ قلوبهم لم يكن فيها من الرجاء ما يحملهم على الطاعة والاتّباع، {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا}.
ومما يبيّن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين: (( أثقلُ صلاة على المنافقين : صلاةُ العِشاء ، وصلاةُ الفجرِ ، ولو يعْلَمُونَ ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا )) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
فلو كان في قلوبهم رجاء صحيح قائم على التصديق بوعد الله واليقين بفضله؛ لدفعهم إلى شهود الصلاة مع المؤمنين.

وبهذا يظهر أنّ مقصد الآية تعظيم الرجاء في قلوب المؤمنين، وأنها تقتضي منهم الاجتهاد في طلب فضل الله ورحمته، والسعي في الأعمال الصالحة التي هي سبب الرحمة وموجِبتها بإذن الله.

وفي ضمير الفصل {أنا} في قوله تعالى: {أني أنا الغفور الرحيم} معنى لطيف بديع، وهو الدلالة على الضمانة التي يطمئنّ لها قلب المؤمن، فيصدّق بوعد الله، ويرجو رحمته ومغفرته.
ألا ترى أنّك إذا قلت لمن يطلبُ شيئاً وتريد أن يطمئنّ لوعدك وكفايتك له: (أنا أعطيك) ، وربما أشرت إلى صدرك لتحقيق معنى الضمانة، وهذا أوقع في نفس السائل وأعظم أثراً من قولك: (سأعطيك) مجردة من هذا المعنى.

وقوله تعالى: {وأنّ عذابي هو العذاب الأليم}
{وأنّ} الواو للعطف ، و{أنّ} للتوكيد، وهذا شروع في بيان نبأ عظيم آخر؛ مؤكّد بأداة التوكيد {أنّ}.
{عذابي } أضاف العذاب إليه إضافةً تقتضي التعريف والاختصاص، بما يدلّ على أنه عذاب عظيم ليس كأيّ عذاب، بل هو عذاب لا مثيل له، كما قال تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ }

وفي المراد بهذا العذاب وجهان في التفسير:
أحدهما: أنّه شاملٌ لكلّ عذابٍ من الله تعالى في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ}
- وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
- وقال تعالى في شأن الأمم المكذّبة التي أهلكها بعذاب من عنده: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) }
- وقال تعالى في شأن المنافقين: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}
- وقال تعالى في توعّد من يريد التخلّف عن الجهاد الواجب: { إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}.
والآيات في عذاب الله تعالى للعصاة عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة كثيرة، وهذا القول مبنيّ على أنّ لفظ العذاب في الآية نكرة مضافة؛ فأفادت العموم.
ويدلّ على هذا المعنى ما ورد من العقوبات على كثير من المعاصي، كما قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
- وقال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}
- وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} والراجح أنّها ليست بمنسوخة، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية يمنع القول بنسخها.
- وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما من حديث يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن عبد الله بن مغفَّل المزنيّ رضي الله عنه أن رجلا لقي امرأة كانت بغيَّا في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت المرأة: مَهْ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ذهب بالشرك وجاءنا بالإسلام؛ فتركها وولَّى، وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه الحائط فشجَّه؛ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: (( أنت عبد أراد الله بك خيرا، إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة كأنه عَيْر))
فهذه النصوص وما في معناها تدلّ على أنّ من العذاب ما يُعجَّل عقوبةً لصاحبه؛ فأمّا المؤمن فيكون فيه تكفير لذنوبه أو بعضها، وأمّا الكافر والمنافق فيكون لهما من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر.

والوجه الآخر: أنّ العذاب هنا يُراد به العذاب الأكبر، وهو عذاب الخلود في النّار، والعياذ بالله منها، وهذا مبني على أنّ لفظ العذاب في الآية عامٌّ أريد به الخصوص، وهو العذاب المذكور في قوله الله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)}
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (( تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، قال الله تبارك وتعالى للجنة:[ أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي]، وقال للنار: [إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها]
فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحداً، وأما الجنة: فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا)).
والشاهد قوله تعالى للنار: [إنما أنت عذابي]
فمن حمل الآية على هذا الوجه؛ فتخريجها أنّ لفظ العذاب عامّ مرادٌ به الخصوص لمناسبة الوعيد المقابل للوعد، ولمناسبة أسلوب الحصر في قوله تعالى: {هو العذاب الأليم} .

والوجهان يدلّ بعضهما على بعض؛ فمن حمل الآية على الوجه الأول فالوجه الثاني داخلٌ فيه دخولاً أولياً إذ هو أولى ما يُطلق عليه العذاب، مع ظهورِ اقتضاء هذا الوجه الترهيب من كلّ معصية؛ لأنّ مخالفة أمر الله تعالى متوعّد عليها بعذاب أليم.
ومن حملها على الوجه الثاني ففيه دلالة على الترهيب من التعرّضّ لأسباب ذلك العذاب؛ فدلّ على التحذير من المعاصي لأنّها سبب للعذاب الأكبر، وكذلك فإنّ من يعذّب على الفسق الأكبر بالعذاب الأكبر قادر على أن يعذّب صاحب الفسق الأدنى ببعض العذاب الأدنى.
ففي كلا الوجهين تحذير من عذاب أليم على مخالفة أمر الله؛ وعلى قدر عظم المعصية يعظم الوعيد.

{هو} ضمير الفصل هنا لإفادة الحصر، وهذا الحصر على معنى الأولوية في اعتبار الصفة.
فإذا حُمل المراد بالعذاب على الوجه الثاني: فكلّ عذاب إذا نُسب إلى عذاب الله الأكبر فنسبته إليه كلا شيء؛ فكأنّه وحدَه العذاب الأليم، وما سواه فلا يعدّ ألمُه على شدّته ألماً بإزاء هذا العذاب الأليم.
فما يعرفه الناس من ألوان العذاب الذي تقتضيه شؤون هذه الحياة من آلام الأمراض والولادة والموت والقتل إذا نسبت آلامها إلى ألم العذاب الأكبر كانت تلك النسبة ضئيلة جداً، بل كأنها معدومة لا تستحقّ أن تذكر.
وهذا كما قال الله تعالى: {إذا زُلزلت الأرض زلزالها} ؛ فأفرد لها زلزالاً واحداً وهو زلزال يوم القيامة؛ فكأنّ ما يعرفه الناس من أنواع الزلازل على كثرتها وشدّتها لا يعدّ شيئاً في جنب ذلك الزلزال العظيم؛ فإذا وقع ذلك الزلزال؛ فكأنّه زلزالها الذي لا زلزال لها غيره من شدّته وعِظَم هوله؛ إذ ترجّ به الأرض كلها رجّا، وتزول الجبال كلها، ويقع من هول تلك الزلزلة ما يذهل المرضعة عما أرضعت، كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}.

فلمّا كان هولُ ذلك الزلزال لا نسبة لزلازل الأرض كلها إليه سمّي زلزالها؛ فكذلك عذاب الله تعالى المراد في هذه الآية {هو العذاب الأليم}.
الأليم: الموجِعُ بألَمِه، و"أليم" صيغة مبالغة تدلّ على معنى الشدّة، وعلى معنى الطول؛ فهو عذاب أليمٌ شديد الإيلام، طويل الإيلام، لا ينقطع إيلامه ولا يخفّ، والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)}
- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
- وقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}

وأصل ما يخافه الناس ويجتهدون في السلامة منه هو "الألم"، بل إنّ من أهل العلم من أرجع معاني الشرّ كلّها إلى الألم وأسبابه؛ كما قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد: (الشرّ يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه، وليس له مسمّى سوى ذلك؛ فالشرور هي الآلام وأسبابها؛ فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرورٌ وإن كان لصاحبها فيها نوعُ غَرَضٍ ولذَّة، لكنها شرور لأنها أسباب الآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبَّباتها؛ فترتُّب الألم عليها كترتّب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضيةً إلى مسبباتها ولا بد، ما لم يمنع السببيةَ مانعٌ أو يعارضِ السببَ ما هو أقوى منه وأشدّ اقتضاءً لضدّه، كما يعارض سببَ المعاصي قوةُ الإيمان وعظمةُ الحسنات الماحية وكثرتُها فيزيد في كميّتها وكيفيتها على أسبابِ العذاب؛ فيدفع الأقوى الأضعفَ، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض وأسباب الضعف والقوة).ا.هـ.

وإذا أريد بالعذاب الوجه الثاني؛ فهو تنبيه على الموازنة بين ما يصيب الإنسان من العذاب بسبب معصية الله، وبين ما يصيب المؤمن من ألم الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، وألم الأقدار المؤلمة، فما يصيب المؤمن من ذلك فهو خيرٌ له لإفضائه إلى ما يحبّ من رفعة الدرجات ومضاعفة الحسنات وتكفير السيئات.
فإن كان يجد ألماً في الصبر فالألم الحقيقي هو في ترك الصبر؛ لأنّ ترك الصبر على الطاعات، وترك الصبر عن المعاصي، وترك الصبر على الأقدار المؤلمة كلّ ذلك يفضي إلى عذاب أليم لا نسبة إلى ما يجده من ألم الصبر إلى ألم العذاب على تركه.
وهذا المعنى نبّه إليه في أكثر من آية
كما قال الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
- وقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}
أي إنّ الألم الذي يفضي إليه ترك القتال أشدّ عليكم من ألم الصبر على القتال؛ إذ ترك القتال يفضي بكم إلى الفتنة في الدين والتعرض للعذاب الأليم بتسلّط عدوّكم عليكم، وبعقاب الله لكم على عصيانكم لأمره.
وقال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}

وما يصيب المسلم من العذاب بسبب معصيته ففيه تكفير له، وتعجيل لعقوبته حتى يأتي يوم القيامة خفيف الحمل من الأوزار، وفيه تذكيرٌ له بشؤم المعصية وقبح أثرها؛ فيذوق من جنس ما يذوقه أهل المعصية حتى يرجع إلى ربّه وينيب إليه.


وما يُسمّى عذاباً مما يقع على العبد فلا يخرج عن أحد نوعين:
النوع الأول: ما يقع ابتلاءً للعبد من الأقدار المؤلمة له إيلاماً جسدياً أو نفسياً ؛ كألم المرض ، وألم فقد العزيز، وألم اللأواء والنَّصَب، وهذا النوع يصحّ أن يُسمّى عذاباً لأنّ النفس تتعذّب به، وفي الصحيحين من حديث سُميّ عن أبى صالح عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه؛ فإذا قضى أحدُكم نهمته من وجهِهِ فلْيعْجَلْ إلى أهله ».
والنوع الآخر: ما يقع عقوبة على ذنب.
والعبد لا يكاد يسلم من تقصير وتفريط، وقد قال الله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}
وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}
وقال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }
ولذلك فإنّ كثرة الاستغفار والتوبة نافعة في دفع كثير من العذاب، وقد يقع ما صورته في الظاهر عذاب فيخفّفه الله على بعض عباده المؤمنين رحمة بهم حتى لا يجدوا من ألمه إلا شيئاً يسيراً محتملاً.

وقد يجتمع في حقّ المسلم عذاب الابتلاء وعذاب العقوبة؛ فيكون عقوبة لهم على ذنب سابق وابتلاء لهم؛ كما قال الله تعالى لمن تولّى عن الجهاد: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}
وقد تشتبه صورة عذاب العقوبة بصورة عذاب الابتلاء ستراً من الله لعباده؛ وقد يقع أمرٌ فيه عذاب عامّ؛ فيكون لبعض الناس عقوبة ولبعضهم ابتلاء.
والعبرة بحال العبد؛ فإنْ كان مستقيماً على طاعة الله تعالى؛ فهو ابتلاء له، ورفعة لدرجاته وتكفير سيئاته، وإن كان مقترفاً لمآثم ظاهرة أو باطنة فهو من عقوبة ذنبه؛ فليبادر بالتوبة والاستغفار ليتطهّر من ذنوبه ما دام في دار المهلة قبل أن يعذّب في سكرات الموت أو في قبره أو في عرصات يوم القيامة أو النار ما لم تدركه رحمة أرحم الراحمين؛ فإنّ الله تعالى قد كتب أنّ الجنّة لا تدخلها إلا نفس طيّبة، والمعاصي خَبَثٌ ؛ فمن لم تطهّره التوبة والأعمال الصالحة في الدنيا عذّب حتى يتطهّر من ذنوبه كلّها، إلا أن تدركه رحمة من ربّه.
ومقصد هذه الآية ظاهرٌ في التخويف من معصية الله تعالى ومخالفة أمره؛ فمن أيقن بهذا الإنذار خاف أن يقع في شيء مما يجرّ عليه عذاب الله تعالى.
فهاتان الآيتان على وجازة ألفاظهما تضمنتا الدلالة على أصول محرّكات القلوب الثلاثة: المحبّة والرجاء والخوف، وهي أصول العبادات الباطنة التي هي أصل العبادات الظاهرة.

وقد جعل الله هاتين الآيتين مقدمة بين يدي قصص عظيمة الشأن والأثر تدلّ على مغفرته تعالى ورحمته لمن أطاعه، وتعذيبه لمن عصاه، ليتفكّر المرء في أصلي الثواب والعقاب، وأنّ سنّة الله تعالى ماضية لا تبديل لها.
قال ابن عاشور: ( وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء مَن بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب)ا.ه.

فانظر إلى هاتين الآيتين ما أجلّ نبأهما، وما أعظم أثرهما على من تفكّر فيهما، وآمن بهما، فلو أنّ قلوبنا تطهّرت مما بها لوجدنا من أثرها ما يحرّك الأشجان، ويُسبل الدموع، ويقضّ المضاجع.
والقول كما قال الشاطبي رحمه الله:
فلو أنّ عيناً ساعدت لتوكّـــــــــــــفت ... سحائبــــهــا بالدمــــع ديما وهطّلا
ولكنّها عن قسوة القلب قحطها .. فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا

اللهمَّ إنا نسألك مغفرتك ورحمتك، ونعوذ بك من عذابك.


وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.