24 Sep 2016
أسلوب الحِجَاج
الحِجَاجُ بكسر الحاء مصدر حاجَجْتُ أحاجُّ وأُحَاجِجُ مُـحَاجَّةً وحِجَاجاً.
وحجَجْتُه أي غلبتُه بالحُجَّة، ومنه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (فحَجَّ آدمُ موسى).
والحجَّةُ البرهان على الصواب.
فالمحاجّ هو الذي يحاول إقامة الحجج والبراهين على صحّة قوله وإبطال قول خصمه.
وأسلوب الحِجاج من
الأساليب التي اعتنى بها العلماء عناية بالغة في مقام الانتصار للشريعة،
والرد على أهل الملل والنحل، وكشف الشبهات، وتفنيد الحجج الباطلة، وتقرير
الحقّ بأدلّته.
وهذا الأسلوب يتطلّب
معرفة حسنة بأصول الدين، ودراية بمنهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال
ومعاملة المخالفين، وبصيرة بأقوال المخالفين وأصولها، وطرق ردّها.
وهو من مقامات الجهاد
بالقرآن لما يترتب عليه من إظهار حجج القرآن وتبيينها، وإقامة البراهين على
بطلان ما يخالف هدى القرآن، وقد قال الله تعالى: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}.
ومن فُتح له باب الإحسان في هذا الأسلوب فهو من المجاهدين بالقرآن.
آداب أسلوب الحجاج:
لهذا الأسلوب أحكام وآداب على المفسّر أن يعتني بمراعاتها، وقد بيّنتُ بعضها في رسالة تقدمت الإشارة إليها بعنوان: تأملات في قول الله تعالى:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}.
طرق تحسين أسلوب الحجاج:
أسلوب الحجاج قائم على
تقرير الأدلّة، والإلزام بالحجة، وتزييف الباطل، ولذلك يُحتاج فيه إلى
مخاطبة العقل للتبصير، ومخاطبة القلب للتأثير.
والمحاجُّ البارع هو الذي يُحسن الجمع بينهما.
ولتحسين هذا الأسلوب
ينبغي للمفسّر أن يعتني بدراسة حجج القرآن، وطرق تقريرها، وأن يعتني بقراءة
رسائل الأئمة التي كتبت بهذا الأسلوب وردودهم على المخالفين ومناظراتهم،
وأن يقتبس من طرائقهم ما تتقوَّى به حجّته، وينمّي به ملكتَه في الحجاج.
وأن يتعرَّف الأدوات
العلمية التي يستعملها العلماء في الحجاج، ومن أشهرها: السبر والتقسيم،
والمنع والتسليم، وبراعة التعليل، وإعمال المفهوم، والقول بالموجَب،
والإضراب والانتقال، والمعارضة والمناقضة، والمجاراة والإعثار، والتبكيت
والتشنيع.
وغير ذلك من الأدوات التي تُستعمل في الجدالِ الحسن لإظهار الحقّ ودمغ الباطل.
وهذه الأدوات العلمية
من أهم ما يحتاج إليه طالب العلم في المناظرة والمجادلة، ويستعمل العلماء
بعضها في عدد من العلوم مع اختلاف في التطبيق في كل علم.
- فالسبر والتقسيم في
علم الجدل والمناظرة يراد به حصر الأقوال الممكنة في المسألة بطريقة من
طرق الحصر كالقسمة العقلية أو الاستقراء التام أو غيرهما؛ وهذا الجزء هو
التقسيم، والسبر أن يأتي إلى كلّ قول منها فيبطله بما يظهر به بطلانه إلى
أن يبقى قول واحد هو الحق.
وتسمى هذه الطريقة أيضاً بالتقسيم والترديد، وتسمى في علم المنطق بالشرطي المنفصل.
ويمثّل جماعة من العلماء لهذه الأداة بقول الله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} فحصرت الاحتمالات في ثلاثة؛ الأولان مذكوران بما يبطلهما وهو الاستفهام الإنكاري، والثالث هو الحق.
فالاحتمال الأول: أنهم وُجدوا من غير خالق لهم، وهذا ظاهر البطلان؛ متفق على بطلانه.
والاحتمال الثاني: أنهم هم الذين خلقوا أنفسهم، وهذا باطل أيضاً ببداهة العقل أن المعدوم لا يخلق نفسه.
فتعيّن الاحتمال الثالث، وهو أنّ لهم خالق من غير أنفسهم ، وهو الله جلّ جلاله.
فهذا هو المراد بالسبر
والتقسيم هنا، والأصوليون لهم اصطلاح خاص في السبر والتقسيم، وهو عندهم من
طرق استنباط علة الحكم، ويكون بحصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريقة من طرق
الحصر ثم إبطال ما لا يصلح علة بطريقة من طرق الإبطال، وهو من أنواع تنقيح
المناط.
وهذه الأداة العلمية
مستعملة في عدد من العلوم، استعملها الفقهاء في مناظراتهم وردودهم،
واستعملها النحاة والصرفيون في مسائل الخلاف وفي علل النحو والتصريف كما
فعل ابن الأنباري وابن الحاجب وغيرهما.
واستعملها عدد من الأئمة في مناظراتهم لأهل البدع والأهواء.
وهي طريقة عقلية لإقامة
الحجة وإبطال الاحتمالات الباطلة ليتعيّن الاحتمال الصحيح، ولهذه الطريقة
أصل في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة.
ومن الأمثلة الحسنة لتوضيح تطبيق هذه الأداة في التفسير ما ذكره الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتينّ مالا وولدا أطّلع الغيب أم اتّخذ عند الرحمن عهد}
قال رحمه الله: (والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث.
وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه يُؤتى يوم القيامة مالاً وولداً.
أما
وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تُؤتَى مالاً وولداً
يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول: أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني: أن يكون الله أعطاك عهداً بذلك، فإنه إن أعطاك عهداً لن يخلفه.
الثالث: أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله:{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}،
مبطلاً لهما بأداة الإنكار، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل؛ لأن العاص
المذكور لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا، فتعين القسم الثالث وهو
أنه قال ذلك افتراءً على الله، وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو
الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله: {كَلاَّ}،
أي: لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن
عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله، لأنه لو كان أحدهما حاصلاً لم يستوجب
الردع عن مقالته كما ترى)ا.ه.
وقد توسّع رحمه الله في التمثيل لهذه القاعدة وشرحها شرحاً حسناً في تفسيره لسورة مريم ؛ فليراجعها من أراد الاستزادة.
- وأمّا طريقة المنع والتسليم؛
فهي طريقة مناسبة للرد على اعتراضات المبطلين على دلالات الأدلة الشرعية
ونفيها وتأويلها ودفع ما يوردونه من الشبه، وهذه الطريقة استعملها بعض
الأئمة في الردّ على أهل البدع، وقد أكثر الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -
من استعمالها في شرحه للعقيدة الواسطية، ومن أمثلة ذلك قوله في الرد على
نفاة صفة المحبة لله تعالى من المتكلمين بدعوى أن العقل لا يدلّ عليها.
قال رحمه الله: ( ونحن نرد عليهم فنقول: نجيبكم عن الأول، وهو أن العقل لا يدل عليها بجوابين:
أحدهما: بالتسليم.
والثاني: بالمنع.
التسليم: نقول: سلمنا أن العقل لا يدل على المحبة، فالسمع دل عليها، وهو دليل قائم بنفسه، والله عز وجل يقول في القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}
، فإذا كان تبياناً، فهو دليل قائم بنفسه، "وانتفاء الدليل المعين، لا
يلزم منه انتفاء المدلول"، لأن المدلول قد يكون له أدلة متعددة، سواء
الحسيات أو المعنويات؛ فالحسيات: مثل بلد له عدة طرق توصل إليه، فإذا انسد
طريق ذهبنا مع الطريق الثاني.
أما المعنويات، فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة، وجوب الطهارة للصلاة مثلاً فيه أدلة متعددة.
فإذاً، إذا قلتم: إن العقل لا يدل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، فإن السمع دل عليه بأجلى دليل وأوضح بيان.
الجواب الثاني: المنع: أن نمنع دعوى أن العقل لا يدل عليها، ونقول: بل العقل دل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، كما سبق)ا.هـ
وتدرّب طالب العلم على إحسان استعمالها يفيده كثيراً في الردّ على إيرادات أصحاب الشُّبَه والأقوال الباطلة.
- وأمّا براعة التعليل؛ فالمراد بها هنا أمران:
أحدهما: أن
يستخرج المناظر علّة قول خصمه، ويتعرّف الحامل له على قوله؛ فإنّ ما يورده
المبطل من الأدلة والشبه والاعتراضات شيء، والحامل له على ذلك قد يكون
شيئاً آخر؛ فالتعرف على العلة الحقيقية يفيد تركيز القول على ما تُعالج به
هذه العلة، واستعمال الأسلوب الأمثل لها، واختصار كثير من الكلام، وهذا له
أمثلة من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه}، وقال تعالى: {إن هي إلا أسماء سمتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}.
والمعنى الآخر: أن يورد المبطل لشبهته حججا فيستخرج المناظر العلّة التي بنى عليها هذا المبطل حججه، وينقضها، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا
هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ
لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)} فهذه
ثلاثة إيرادات بنوها على أنهم نزّلوا أنفسهم منزلة الخبير بما يأتي من عند
الله ؛ فحكموا على ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه إفك مفترى،
وأنه إنما يريد أن يصدّهم عما يعبد آباؤهم وهذا تعريض باتّهامه بطلب صرف
الوجوه إليه ، وأن تأثيره على من اتّبعه من المؤمنين إنما هو سحرٌ سحرهم
به؛ وهذا كِبْرٌ بالغ نقض الله عليهم أساسه بقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)} فلم
يأتهم رسول قبل النبي صلى الله عليه وسلم وليس لديهم كتاب من عند الله
يحكمون به على ما خالفه بأنه إفك مفترى؛ فسقطت حججهم وادعاءاتهم لما سقط
أصلها الذي بُنيت عليه.
- ومن الطرق المتّصلة بهذه الطريقة: طريقة نقض العلّة؛ وهي أن يبني المبطل حجّته على علّة؛ فينقضها المجادل بالحق فينكشف زيف المبطل، ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى:
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) }.
- وأمّا إعمال المفهوم؛
فالمفهوم منه مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة؛ فأمّا مفهوم الموافقة فيسميه
بعضهم فحوى الخطاب، ويستفاد منه إثبات حكم المسكوت عنه بما يوافق حكم
المنطوق، ويمثّلون له بقوله تعالى: {ولا تقل لهما أفّ} على تحريم الإيذاء بما هو أعظم من قول "أف" كالسبّ والشتم والمضارّة.
وأما مفهوم المخالفة
ويسمّى "دليل الخطاب" فيستفاد منه استخراج حكم للمسكوت عنه يقابل حكم
المنطوق، ويتعلق بمقابل معناه؛ كما في قول الله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ، قال الأمين الشنقيطي: (صرح في هذه الآية بأن هذا القرآن {هدى للمتقين}
، ويفهم من مفهوم الآية - أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب - أن
غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله:
{قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}، وقوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} وقوله: {وإذا
ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا
فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى
رجسهم وماتوا وهم كافرون}، وقوله تعالى: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} الآيتين )ا.هـ.
وإعمال مفهوم المخالفة
له شروط على المناظر أن يراعي تحققها، وله أنواع أوصلها بعضهم إلى عشرة،
وهي: مفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم العلة، ومفهوم اللقب، ومفهوم
الاستثناء، ومفهوم العدد، ومفهوم الزمان، ومفهوم المكان، ومفهوم الحصر،
ومفهوم الغاية.
وقد جمعها ابن غازي رحمه الله في بيت واحد فقال:
صِفْ واشترِطْ عَلّلْ وَلَقِّبْ ثُنيا ... وعُدَّ ظرفين وحصراً إغْيا
تفسير قول الله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة...}
قال الله تعالى: {لقد
كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم
ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ (73)أفلا يتوبون إلى
الله ويستغفرونه والله غفورٌ رحيمٌ (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد
خلت من قبله الرسل وأمه صديقةٌ كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم
الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا
ولا نفعًا والله هو السميع العليم } [المائدة: 73-76].
تضمنت هذه الآيات الكريمات من الحجج القاطعة، والآيات البينات ما أظهر الله
به بطلان ما اعتقدته طوائف كثيرة من النصارى في عيسى بن مريم وأمّه عليهما
السلام، واتخاذهم إياهما إلهين من دون الله، وزعمهم أن الله ثالث ثلاثة.
وقد صرَّف اللهُ الآياتِ في خطابهم تنبيهاً وتعريفاً، وتبصيراً وتذكيراً،
وترغيباً وترهيباً، ببيان بديع محكم، وإلزام بالحجة الظاهرة التي لا يردّها
إلا مكابرٌ معاند.
ومن تأمّل هذه الآيات بقلب حيّ منيب تبيّن له ما يفيد اليقين ببطلان مقالاتهم الكفرية، وضلالهم عن الصراط المستقيم.
وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: الحكم بتحقق كفر قائلي هذه المقالة الشنيعة، {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}.
فحرف (قد) مفيد للتحقيق، واللام مؤكّدة لهذا الحكم.
وهو حكم إلهيّ قُدّم في أوَّل عرض القضيّة ليقذف في نفسِ المخاطَب حكمها،
وشناعة جرم أصحابها، وليقطع عليه جميع محاولات البحث عن تخريجٍ لمقالتهم،
أو تبريرٍ لها؛ إذ بيّن الله تعالى أنَّ حكمها الكفر المتحقق الذي لا ريب
فيه.
والثاني: قوله تعالى: {وما من إلهٍ إلا إله واحد}؛ وهذا نفي قاطع بأسلوب الاستغراق والحصر، (ما) نافية، و(من) للاستغراق، أي ليس في الكون كلّه إلا إله واحد.
وكلّ ما يُدعى من دون الله فإنَّما عُبد بغير حقّ، فالإله الحق لا يكون إلا واحداً، و { لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا }، وهذا يبطل التثليث.
والوجه الثالث: قوله تعالى: { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ}
وهذا فيه تقريع شديد، وتشنيع على قائلي هذه المقالة الكفرية.
وقال: {ليمسنّ الذين كفروا منهم} ولم يقل:
(ليمسنّهم) لتأكيد بيان كفر قائلي هذه المقالة، وليشمل الحكم كلَّ من قال
مقالة كفرية منهم غير هذه المقالة؛ فإنَّ لضُلَّال النصارى أقوالاً كفرية
ذكرها الله تعالى عنهم في القرآن؛ فمنهم من قال: إن الله هو المسيح ابن
مريم، ومنهم من قال: المسيح ابن الله، ومنهم من قال: إن الله ثالث ثلاثة.
فهذا الحكم شامل لكلّ مقالاتهم الكفرية.
وقوله: {وإن لم ينتهوا..} فيه فتح لباب النجاة من هذا الكفر ما داموا في دار الحياة الدنيا قبل أن تقبض أرواحهم.
وهذا له وقع عظيم على نفس المذنب الذي في قلبه جذوة من إرادة الحقّ ليتدارك نفسه، ويسلك سبيل النجاة.
والوجه الرابع: قوله تعالى: { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } ؛ وهذا فيه تقرير أنّهم أذنبوا ذنباً عظيماً بهذه المقالة الكفرية؛ يستوجب التوبة والاستغفار.
وتأمل سعة رحمة الله عز وجل وعظيم حلمه كيف دعاهم - وقد قالوا هذه المقالة الشنيعة - إلى التوبة بأجمل عرضٍ وألطفه:{ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } ثم ذكر ما يرغبهم في ذلك ويزيل اليأس والقنوط من قلوبهم إن صدقوا التوبة بقوله: {والله غفورٌ رحيمٌ}
كثير المغفرة، واسع المغفرة، لا يستعظمه ذنبٌ أن يغفره، ورحمته وسعت كل
شيءٍ، وعمت كل حي، وفي ضمن ذلك وعدهم بالمغفرة والرحمة والعفو عما بدر منهم
إن هم تابوا إليه واستغفروه.
فإذا علم العبد ذلك تحركت دواعي الرجوع إلى الله في قلبه، ولم يقنط من رحمة الله عز وجل مهما بلغت ذنوبه.
والوجه الخامس: أنَّ هذا العرض الكريم اللطيف
أتى بعد التقريع الشديد ليجتمع في هذه الآيات خطاب الترهيب والترغيب، وخطاب
العقل والقلب؛ فبصَّرهم وذكَّرهم، ووعظهم وزجرهم، ثم فتح لهم باب المغفرة
والتوبة التي تجبّ ما قبلها؛ فلا يتخلّف عن هذه الدعوة إلا شقيّ محروم
مكابر مستحقّ للعذاب الشديد.
والوجه السادس: تبصيرهم بالأدلّة التي يتبيّن
بها لكل عاقل بطلان غلوّهم في عيسى ابن مريم وأمّه، من غير أن ينقص قدرهما،
ولا أن يسلبهما ما مَنَّ به عليهما من الفضل العظيم، والمنزلة العالية بين
عباده، بل أثبت لعيسى الرسالةَ ولأمّه الصديقية.
والوجه السابع: قولـه تعالى:{ ما المسيح ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل } فهو رسولٌ من جملة رسلٍ ماتوا وهو على إثرهم سيموت، والإله الحق إنما هو الحي الذي لا يموت.
والوجه الثامن: أنَّه رسولٌ مكلَّف بأداء
الرسالة؛ يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ كما هو ظاهر مستفيض لديهم من
كلامه ووصاياه، ولو كان إلهاً يستحقّ العبادة لأمر بعبادة نفسه لا بعبادة
غيره.
والوجه التاسع: أن الرسل أعظم الناس عبادة
لربّهم وافتقاراً إليه، وهذا أمر معلوم علماً قطعياً من أحوالهم وأخبارهم،
والعابد محتاج إلى إلهه الذي يعبده، والمحتاج لا يمكن أن يكون إلهاً، إنما
إلههم الله الغنيّ الحميد الذي تحتاج إليه جميع المخلوقات ولا يحتاج إلى
أحد.
والوجه العاشر: قوله تعالى: { وأمّه صدّيقةٌ } وفي هذا عدة أدلةٍ:
- أولها: أنه مخلوقٌ كائنٌ بعد أن لم يكن، فلم يوجد إلا بعد ولادة أمه له؛
ومثل هذا لا يصلح أن يكون إلهاً؛ فإن الإله الحق إنما هو الأول الذي ليس
قبله شيء.
- الثاني: أنه محتاجٌ في أصل حياته إلى غيره فوجوده إنما كان بواسطة أمه؛
والإله الحق إنما هو الحي القيوم الذي قيام كل شيءٍ به، الغني الحميد الذي
لا يحتاج إلى أحدٍ سواه طرفة عينٍ.
- الثالث: أنه مولودٌ؛ والإله الحق إنما هو الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
- الرابع: أنه خارجٌ من المكان الذي قد علموا؛ ومثل هذا لا يصلح أن يكون
إلهاً؛ فالإله الحق إنما هو القدوس السلام المتنـزه عما لا يليق بجلاله
وعظمته.
- الخامس: أن أمه صديقةٌ؛ فهي أمةٌ عابدةٌ فقيرةٌ إلى من تعبده، والفقير لا ينتج إلا فقيراً.
والوجه الحادي عشر: قوله: { كانا يأكلان الطعام } وفي هذا عدة أدلةٍ:
- الأول: أن كونهما يأكلان الطعام دليلٌ على حاجتهما وفقرهما إليه، والفقير المحتاج لا يصلح أن يكون إلهاً.
- الثاني: أن العقلاء قد علموا أن الذي يأكل الطعام له جوفٌ وآلاتٌ تهضم
الطعام، وقنواتٌ يسير فيها الطعام، والإله الحق إنما هو الصمد الذي لا جوف
له، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر.
- الثالث: أن الذي لا يستطيع تصريف الطعام داخل جسده وتسييره في قنواته،
وإيصال كل موضعٍ من جسمه ما يحتاج إليه من الغذاء؛ وإنما الذي يسيره ويصرفه
فيه غيره كيف يستطيع أن يدبر شئون الخلائق، ويجيب دعواتهم، ويعلم سرائرهم
وأحوالهم؟!!
إنما إلههم الملك القيوم الذي قام بشؤونهم ووسعهم علمه وحفظه ورحمته.
- الرابع: أن العقلاء قد علموا أن الذي يأكل الطعام لا بد له من إخراجه بعد
هضمه، والذي تخرج منه هذه الفضلات المستقذرة لا يصلح أن يكون إلهاً؛ بل
الإله الحق إنما هو القدوس السلام المتنـزه عن مثل هذا وسائر ما لا يليق
بجلاله وقدسيته.
- الخامس: أن الذي يأكل الطعام عرضةٌ لأن يأكل ما يضره أو يسيء أكل ما فيه نفع فيمرض ويسقم؛ ومثل هذا لا يصلح أن يكون إلهاً.
فهذه الأدلة البينة التي نبه عليها بقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} قاطعة ببطلان ما زعموه من إلهية عيسى وأمه.
والوجه الثاني عشر: قوله تعالى بعد هذا البيان البديع: { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}،
وهذا فيه بيان للسبب الذي صرفهم عن الحقّ بعدما تبيّن لهم، وأنهم مأفوكون
بإفكٍ عظيم؛ أضاعوا حياتهم وخسروا سعادتهم باتّباعهم هذا الإفك.
ولفظ (الإفك) هنا جامع بين معنيين: الكذبِ العظيم، والصرفِ عن الحقّ.
فالإفك هو الفرية الكبيرة.
وتقول العرب: أرض مأفوكة، أي محرومة من المطر، قد صُرف المطرُ عنها إلى غيرها.
ويقولون: أُفِكَ الرجُلُ عَن الخيْرِ أَي صُرف عَنهُ؛ فانقلب خائباً.
والوجه الثالث عشر: التبكيت في قوله تعالى: {أنّى يؤفكون}
ولهذا التبكيت وقع شديد على النفس لمن عقل معناه، إذ كيف يرضى المرء لنفسه
أن يُحرم الخير والسعادة بسبب اتّباع من يخادعه ويزيّن له الطريق المفضية
إلى النار حتى يدخلها.
والوجه الرابع عشر: عدم النصّ على ذِكْرِ من
أَفَكَهُم وصَرَفَهُم عن الحقّ والهدى وما فيه نجاتهم وسعادتهم، ليشمل ذلك
كلّ مشترك في تضليلهم وخداعهم وصرفهم عن الحقّ، وليتفكّروا في كلِّ سبب
أدّى إلى ضلالهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم.
ومن تأمّل ذلك وجد أن أعظم أسباب انحرافهم:
- اتّباعهم لخطوات الشيطان وتضليله.
- واتّباعهم لأهوائهم المردية، ورغباتهم المخزية.
- وإعراضهم عن الحقّ البيّن الذي أتاهم من الله تعالى.
- وطاعتهم لمن فَسَدَ من أحبارهم ورهبانهم ومعظّميهم الذين زيّنوا لهم تلك المقالات الكفرية وأمروهم باعتقادها واتّباعهم عليها.
فهذه من أعظم الأسباب التي أُفكوا بها عن الحقّ، وخُدِعُوا بها عن سلوك سبيل الفوز والسعادة.
والوجه الخامس عشر: قوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعًا}
فإن العبد العاقل إنما يعبد من يجلب له النفع ويدفع عنه الضر، وليس هذا
لغير الله تعالى؛ فهو النافع الضار، وغيره إنما ضرره ونفعه بمشيئة الله
تعالى، وهو مربوبٌ مدبرٌ، ناصيته بيد ربه لا يستقل بنفعٍ ولا ضر؛ فمن
الحماقة عبادة من هذا شأنه!!
والوجه السادس عشر: ما دلّت عليه هذا الآية من
التنبيه على ما عرفوا من أنَّ اليهود قد همّوا بقتل عيسى عليه السلام،
وأنَّ عيسى لم يكن له طاقة بقتالهم ولا بدفعهم عن نفسه ولا تحصين أتباعه
منهم، فلم يكن يملك الضرّ لأعدائه ولا النفع لأتباعه، وإنما الذي بيده
النفع والضرّ هو الله تعالى، فكيف يزعمون أنّه إله من دون الله أو أنّه ابن
الله.
والوجه السابع عشر: قوله تعالى: {والله هو السميع العليم } يسمع دعاءهم ويعلم أحوالهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أمرهم؛ وهذا هو الإله الحق، ليس الذي لا يسمع دعاء عابديه ولا يعلم أحوالهم.
فاستبدال عبادة الله تعالى الذي بيده النفع والضر وهو السميع العليم بعبادة
من لا يملك لهم ضرا ولا نفعاً، ولا يسمع دعاءهم ولا يعلم أحوالهم من أعظم
الجهل والسفه.
والوجه الثامن عشر: أسلوب الحصر في قوله تعالى: {هو السميع العليم}
وهذان الاسمان الجليلان لو تفكّر العباد فيهما لعلموا أنه لا ينبغي أن
يعبد غير الله تعالى، فهو الذي وسع سمعه جميع الأصوات، على اختلاف اللغات،
وتعدد الدعوات وتزامنها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا يخفى عليه شيء، يعلم قصد
كلّ داعٍ بدعوته، ومطّلع على حاله ونيّته، ويسمع كلّ ما ينطق به، ويعلم كل
ما يحدّث به نفسه.
وهذا لا يكون إلا لله تعالى؛ فكيف يُعبد غيره؟!!
والوجه التاسع عشر: ما تضمّنه قوله تعالى: {والله هو السميع العليم} من الوعد باستجابة الدعاء لمن وحّد الله تعالى واستجاب لدعوته.
فيستجيب الله دعاء من يستجيب لدعوته؛ ويعرض عمن أعرض عن دعائه واستجابة
دعوته، استجابة باستجابة، وإعراض بإعراض، والله تعالى يعلم حال المستجيبين
والمعرضين.
ويوم القيامة يجزي الذين استجابوا أحسن الجزاء في جنات النعيم، ويعاقب المعرضين أشدّ العقاب في نار جهنّم وبئس المصير.
فرجع الأمر إلى أنّ كلَّ إنسان يكون حكمه بحسب ما يضع نفسه من دعوة ربّه
له، وحجة الله قائمة على كلّ خلقه، فمن أطاع الله واستجاب لدعوته سعد وفاز،
ومن أعرض فلا يلومنّ إلا نفسه.
والوجه العشرون: ما تضمنته هذه الآيات الجليلة
من الدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، ولو تأمّلت كلَّ وجه من
الأوجه المتقدّمة وجدت أنَّه من آثار بعض أسماء الله وصفاته.
فانظر كيف اجتذب القلوب إلى عبادته وتوحيده بما له من الأسماء الحسنى
والصفات العلى، وانظر إلى كمال حجة الله وإحكامها، حيث لا يبقى بعدها لذي
باطل ما يستمسك به.
وفقني الله وإياكم، لحسن تدبر كتابه الكريم، وتلاوته حق تلاوته، وفقه حججه، ونصرة دينه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
اقتباس:
( عدا أني أخذت وقتا أكبر في أسلوب الحجاج لأنه جديد علي، ولا زلت أشعر
بحاجة لمزيد من التدرب على التعرف على الأداة العلمية التي استخدمت في
الآية، وسرعة التعرف على الأداة دون الرجوع لشرحها)
جواب الشيخ عبد العزيز الداخل:
أسلوب الحجاج من الأساليب المهمة، ومما يعين على المهارة فيه قراءة الأمثلة
المتفرقة في حجج القرآن، والتدرب على حسن البيان عنها، ومن أجود تلك
الأمثلة ما كتبه ابن القيّم رحمه الله في كتابيه "الصواعق المرسلة" و"شفاء
العليل"
فإنه أكثر من استخراج أوجه الرد على المخالفين من الآيات التي يفسرها، وكنت قد بدأت في استخلاص مسائل التفسير في كتاب شفاء العليل ( هنا ) ولم أكمله، وأرجو أن ييسر الله إكماله، ثم أستخرج مسائل التفسير من كتاب "الصواعق المرسلة"
وقراءة كتاب "استخراج الجدل من القرآن" لابن الحنبلي يصلح مقدمة نافعة في هذا الباب، و ( هنا ) تقرير موجز عن هذا الكتاب.