29 Sep 2016
الدرس الثامن: تنمية ملكة التفسير
التعلّم بالمحاكاة والاتّباع
التعلم
بالمحاكاة والاتّباع من طرق التعلّم العتيقة والنافعة، وقد أرشد الله تعالى
إليها آدم عليه السلام، وجعلها سنّة في ذريته؛ ففي الصحيحين من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على
أولئك النفر من الملائكة، جلوس، فاستمع ما يحيونك؛ فإنها تحيتك وتحية
ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة
الله ... » الحديث.
وأرشد الله إليها ابن آدم الأول كما في قوله تعالى:
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:« صلوا كما رأيتموني أصلي » ، وقال: « خذوا عني مناسككم »
ولأجل نفع هذه
الطريقة ضربت الأمثال، وحكيت القصص التي فيها عبر؛ فإن اللبيب يقتبس من
المثل نوراً يمشي به، ويتّخذ من العبرة درساً ينتفع به.
وهي طريقة
موافقة لطبيعة الإنسان وما جبل عليه من الملاحظة والتقليد؛ فالصبي أوّل
ما يُعلّم الكتابة يكتب له الحرف ويكرر له، ثم يُنقط له رَسْمُ الحرفِ حتى
يكتمل له بِوَصْلِ النقط رَسْمُ صورة الحرف، ثمّ يكرر ذلك كثيراً ؛ حتى
يمكنه أن يكتب الحرف استقلالاً من غير أن يعتمد على تلك النقط، ولا يزال
يتعلّم على هذه الطريقة حتى يحسن الكتابة؛ فعماد تعلّمه هو المحاكاة مع
الإشراف والتوجيه.
وبهذه الطريقة
يتعلم المبتدئون في الصناعات والحرف المهارات الأساسية فيها، حتى إذا
أتقنوها أمكنهم أن يتصرّفوا في أدوات تلك المهنة تصرفا ينتفعون به وينفعون
غيرهم، ويضيفون إلى تلك المهارات ما يبتكرونه وما يستفيدونه بمعرفة
الأشباه والنظائر، ونقل التجربة الصحيحة من مجال إلى مجال، والمزاوجة بين
طريقتين أو أكثر؛ ينتج بالجمع بينها نتيجة أفضل وأنفع.
ولكل صنعة
رجالها العارفون بها، ومن ذلك العلوم والمهارات العلمية؛ فلكلّ علم أهله
المتقدّمون فيه، ولهم أدواتهم العلمية وطرقهم في تحصيله وتبيينه؛ فمن أراد
أن يتعلّم علماً من العلوم؛ فلينظر في طريقة الحاذقين به وليترسّمها؛
وليداوم على ذلك حتى يعدّ من أهل ذلك العلم.
وهذا كما يقال
في العلوم يقال أيضاً في المهارات على اختلاف أنواعها؛ فمن أراد أن يقوّم
لسانه في الحديث ويمهر في الفصاحة وحسن البيان؛ فينبغي له أن يكثر
الاستماعَ إلى كلام الفصحاء وأرباب البيان، وأن يجتنب- ما أمكنه- كلام
أولي اللحن وضعف الأسلوب؛ لأن اعتياد الأذن على سماع الفصيح من الكلام،
يعين على نطق اللسان به.
ومن أراد أن يحسّن أسلوبه في الكتابة ينبغي له أن يحسن اختيار من يقرأ كتبهم من الكتّاب البارعين.
ومن أراد أن يمرّن ذهنه على فهم الدقائق وحل المشكلات وكشف المعضلات فينبغي أن يقرأ كتب من عرفوا بذلك من العلماء المحققين.
وهكذا في كلّ علم من العلوم، ومهارة من المهارات، يجد الطالب فيها أئمّة حاذقين فيستفيد من طريقتهم وينتفع بكتبهم ورسائلهم.
والمقصود أن
طريقة التعلم بالمحاكاة والاتباع طريقة نافعة جداً، ولا سيّما في تعلم
المهارات، وتختصر على المعلّم كثرة الشرح النظري لأمور قد لا يتصوّرها
الطالب ذهنياً كما ينبغي.
فإنّه إذا أقام
الأنموذج للطالب، وطلب منه أن يحكيه وعرّفه الطريقة بمثالها أغناه ذلك عن
كثير من الشرح والتوضيح، ويبقى على الطالب العناية بجودة الملاحظة وحسن
المحاكاة؛ حتى يتفهم الطريقة ويتقنها؛ ثمّ يضيف إليها ما يفتح الله له من
جوانب الإحسان والتميّز.
خطوات المحاكاة
حتى يحسن الطالب التعلّم بهذه الطريقة ويبرع فيها ينبغي له أن يعتني بالخطوات التالية:
1: تأسيس المحاكاة
وذلك بأمرين:
أحدهما: حسن
اختيار الأنموذج؛ وهذا مما ينبغي للمعلّم الناصح أن يقدّمه لطلابه؛
وعناية المعلّم باختيار النماذج الحسنة للطلاب تكفيهم هذه المؤونة في أوّل
طريقهم في المحاكاة، ثم ليحرص الطالب على أن يحسن الاختيار بعد ذلك.
وقد قيل: (لكل شيء صناعة، وصناعة العقل حسنُ الاختيار).
وهذه المقولة نسبت للخليل بن أحمد، ونسبت لغيره، وهي مقولة صحيحة بليغة.
وقال أبو إسحاق الوطواط (ت:718هـ): (تصرف الناس في حسن الاختيار معدود من المواهب).
والأمر الآخر: التعرّف على أسلوب الرسالة التي يريد أن يتّبع طريقتها، والأدوات العلمية التي استعملها المؤلف في رسالته.
فإذا أحسن الطالب معرفة هذين الأمرين أمكنه أن يؤسّس للمحاكاة تأسيساً حسنا بإذن الله تعالى.
2: بناء المحاكاة
إذا قعّد الطالب
للمحاكاة قواعدها؛ بقي عليه أن يبني تلك المحاكاة على طريقة المؤلف في
استخراج المسائل واستعمال الأدوات العلمية، ويعينه في ذلك حسن الملاحظة،
والتفطّن لتصرّف المؤلف في تناول المسائل العلمية وتفنّنه في ترتيبها
وعنايته بترتّب بعضها على بعض حتى يصل إلى تحقيق مقصد تلك الرسالة.
وهذه المرحلة هي
لبّ عمل المحاكاة؛ فإذا أحسنه الطالب كان ما بعده سهلاً، وهو أمر قد لا
يصل الطالب فيه إلى مرتبة الإجادة إلا بكثرة التجريب وطول المران.
3: تهذيب المحاكاة.
إذا أنهى الطالب
كتابة مسوّدة الرسالة؛ فإنّه ينبغي له أن يعود إليها بالتهذيب؛ فيصحح
الأخطاء، ويلغي ما لا يحسن بقاؤه كالعبارات التي يختصّ بها المؤلف اختصاصاً
ظاهراً ؛ لأنّ الغرض ليس هو المحاكاة الشكلية، وإنما تحصيل الملكة
العلمية في تناول تلك المسائل والتعبير عنها.
وليجتنب كذلك
محاكاة العبارات التي يطلقها بعض العلماء بناء على سعة اطلاعهم وكثرة
معاناتهم للبحث والقراءة وطول تتبّعهم؛ فيجري منهم إطلاق عبارات بالنفي
المطلق لأمور لا يمكن للطالب أن يصل إليها إلا بتتبّع حسن أو إسناد إلى
عالم يوثق بإطلاقه لتلك الأحكام؛ مثل حكاية الإجماع أو نفي وجود قول من
الأقوال المدّعاة، أو تقرير قاعدة أو ضابط علمي ونحو ذلك مما يطلقه بعض
العلماء بناء على سعة اطّلاعهم وطول معاناتهم للبحث والتنقيب في الكتب.
والمقصود أن
مرحلة التهذيب مهمّة لتنقية الرسالة من الأخطاء العلمية، والدعاوى العريضة،
والتسّرع في تحصيل النتائج قبل تقرير مقدّماتها.
وفيها يحذف
الطالب ما لا يحسن بقاؤه مما لا يُحتاج إليه، وقد ذكر أبو الطيّب
الوشّاء(ت:325هـ) في موشّاه عن الخليل بن أحمد أنه قال: (لا يحسن الاختيار
إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام)ا.هـ.
وهذه العبارة
بليغة دقيقة؛ فإنّ الطالب إذا كان يحسن اختيار الجمل ويرتّب أفكار الرسالة
حتى يصل إلى النتيجة التي يريد تقريرها بأسلوب بيّن واضح يحتاج إلى
استثمار كلّ جملة في رسالته، وبقاء كلام لا يُحتاج إليه يشتت الذهن ويطيل
الطريق من غير فائدة.
4: تحسين المحاكاة
مرحلة تحسين المحاكاة مهمّة لأمرين:
أحدهما: تجويد الرسالة وتحسينها؛ ومعالجة ما قد يظهر عليها من ضعف في الأسلوب.
والأمر الآخر:
أن يصل الطالب بتحسين الأسلوب إلى أن يختطّ لنفسه أسلوبا يلائمه ويتميّز
به يستفيده بالجمع بين محاسن عدد من النماذج التي أراد محاكاتها.
وقد يكون لدى
الطالب موهبة في مجال من المجالات فيجمع بينها وبين محاسن الأنموذج الذي
يريد محاكاته فينتج له من ذلك تحسين موهبته وتقوية طريقة بيانه معاني
القرآن.
من أعظم ما ينبغي لطالب علم التفسير أن يعتني به تنمية مَلَكَته التفسيرية،
والملَكة صفة تفيد حسن المعرفة بالعلم الذي يُعنى به الطالب والمهارة في
معرفة مسائله وتحريرها والإبانة عنها.
فالملكة التفسيرية قائمة على أصلين:
الأصل الأول: المعرفة الحسنة بأصول التفسير
وتحرير مسائله، فيعرف المصادر التي يرجع إليها في دراسة كلّ مسألة، ومراتب
المفسّرين وتفاسيرهم، ومصادر تحصيل الأقوال وأدلة المسائل، ومعرفة مواضع
الإجماع والخلاف، والقدرة على تحرير محلّ النزاع، ونضج المعرفة بطرق الجمع والترجيح والنقد والإعلال.
وهذا هو الجانب العلمي الذي تستند عليه الملكة التفسيرية، وهو
مما يتفاوت فيه العلماء وطلاب العلم، ولذلك ينبغي لطالب علم التفسير أن
يُعنى بتقوية هذا الأصل لديه، شيئاً فشيئاً على مرّ الأيام والليالي، وأن
تكون لديه نهمة في علم التفسير تعينه على إحسان تحصيل هذا الأصل وتقريب
مدّته.
والأصل الثاني: المهارة في معرفة علل التفسير والجواب عن المشكل وحسن البيان عن معاني القرآن.
والمهارة في العمل أداؤه بإتقان من غير كلفة ولا تردد.
وهذه المهارة لا تحصل لمن قصّر تقصيراً مخلاً في تحصيل الأصل الأول.
فمتى حصلت المهارة لطالب العلم في عامّة دروس التفسير فهو صاحب مَلَكة حسنة
في التفسير، وهذه الملكة هي لبّ التحصيل العلمي وثمرته العلمية، وهي معيار
مهمّ لقياس جودة المنهج التعليمي الذي سار عليه الطالب.
والعناية بأساليب التفسير وكتابة الرسائل التفسيرية من أفضل ما يعين على تنمية ملكة التفسير لثلاثة أسباب:
السبب الأول: أن الطالب عند كتابته لرسالة
تفسيرية يجد حاجته ماسّة لتحرير مسائله وحسن الإبانة عن المعاني فيقوده ذلك
إلى الاجتهاد في دراسة مسائل التفسير وتحريرها والإجابة على ما قد يثار من
الأسئلة في موضوع درسه، واعتياد هذا الأمر يعين الطالب على التمكن من
دراسة مسائل التفسير، وحسن المعرفة بمصادر الأقوال ومراتب التفاسير، وأنواع
المراجع التي يحتاجها، إلى أن تحصل له خبرة حسنة في علم التفسير.
والسبب الثاني: أن كتابته للرسائل التفسيرية
تعرّفه بالأساليب التي يحسنها، ويفتح له فيها؛ فيجتهد فيما فتح له فيه،
ويكثر من الكتابة فيه إلى أن يجد من نفسه مهارة في كتابة الرسائل التفسيرية
بالأساليب التي يحسنها.
وكلما وجد عسراً في بعض مراحل كتابته لرسالته التفسيرية اجتهد في معرفة
سببه وعلاجه ومرَّن نفسه حتى تتحقق له المهارة ويذهب عنه ما يجد من المشقة
والعسر.
والسبب الثالث: أن مداومة طالب علم التفسير على
كتابة الرسائل التفسيرية ترسّخ فقه المسائل التي كتبها في نفسه؛ وتنمّي
بناءه العلمي في التفسير، وتثري أصوله العلمية، وتعينه على الدعوة إلى الله
تعالى وبيان هدى القرآن للناس بما تعلم من التفسير، وما أحسن من الأساليب.
وإذا رزق طالب علم التفسير الصدق والإخلاص في كتابة رسائله التفسيرية رُجي
أن يبارك الله له في علمه، وأن ينفع به، وأن يزيده الله علماً نافعاً
مباركاً، وأن يذلل له ما يجد من صعوبات في طلب العلم.
فكتابة الرسائل التفسيرية وإلقاء الكلمات التفسيرية من أعظم أنواع الدعوة
إلى الله تعالى ، وهي من شكر طالب العلم لربّه على ما علّمه وفهّمه، ومن
شكر نعمة الله زاده الله من فضله، وشكر له عمله، وبارك له فيه.
ولذلك فإنَّ العناية بأساليب التفسير من أهمّ ما ينبغي أن يجتهد فيه طالب علم التفسير.
وسنتناول في هذا الدرس بيان محددات الأسلوب الذي ينبغي أن يجتهد طالب علم
التفسير في الكتابة فيه، وبيان طريقة تحسين كتابة الرسائل التفسيرية.
محددات الأسلوب:
إذا أراد المفسّر أن يلقي كلمة تفسيرية أو يكتب رسالة تفسيرية فإن اختيار الأسلوب المناسب يعتمد على ثلاثة محدّدات:
المحدد الأول: ما يجيده المفسّر من العلوم والمهارات، فإنّ
انطلاق المتكلّم مما يجيده أقوى وأبلغ من تكلّفه ما لا يحسن، فمن كان
متبحّراً في علم من العلوم فإن الأنفع لمن يستمع إليه أن يفيدهم من علمه
الذي تمكّن فيه ورسخت فيه قدمه؛ فيكون اختياره للأسلوب الموافق لذلك العلم
أجمل به وأنفع، وكذلك يقال في المهارات؛ فمن كان ذا مهارة معيّنة في
الكتابة أو الإلقاء فإن عنايته بما فتح له فيه أولى به من تكلّف ما لا
يحسن.
فمن الناس من
يفتح له في الكتابة ؛ فيكون لكتاباته أثر على من يقرأ له، لكنّه إذا تكلّم
لم يكن لكلامه ذلك الأثر، لضعف أسلوبه في الحديث، وكثرة تردده وتلعثمه،
واضطراب صوته؛ ومن الناس من يكون على عكس ذلك؛ فإذا تكلّم أخذ بالأسماع ،
واسترعى الانتباه، وشدّ الحاضرين إليه؛ فكان لكلامه في نفوسهم أثراً
بالغاً، ولحديثه قبولاً ، ولحضوره بهجة.
ومنهم من يفتح له في الأمرين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والمقصود أن من
فتح له في علم أو مهارة فإن من شكر ما أنعم الله به عليه أن يستعمله في
الدعوة إلى الله تعالى ، وتعليم العلم النافع، وبيان الهدى للناس.
وإذا وجد في
نفسه ضعفاً في مهارة يحتاج إليها أو علم يحتاج إليه في دعوته وتبليغه؛
فينبغي أن يتعلّم ذلك العلم، ويتمرّن على تلك المهارة حتى يتقنها أو يكون
أداؤه فيها مقبولاً على الحدّ الأدنى.
المحدد الثاني: ما يناسب حال المتلقّين، فإنّ
المقصود من الحديث حصول الفائدة، وانتفاع المتلقين بما يلقى إليهم من
المادة العلمية؛ وتحديث الناس بما يعسر عليهم فهمه، أو تنفر منه طباعهم، أو
بما لا عناية لهم به ليس من الحكمة في شيء.
فلذلك ينبغي للمفسّر إذا حدّث قوماً أن يختار الأسلوب الأقرب إلى أفهامهم، والأحظى بقبولهم وإقبالهم، والأرجى لانتفاعهم.
فمخاطبة طالب
العلم الذي يريد أن يتعلّم التفسير على وجهه فيبيّن له مواضع الإجماع
والخلاف والمسائل المتعلّقة بالآيات وطرق تحريرها وتمييز الأقوال الصحيحة
من الضعيفة، ونحو ذلك من المعارف والأدوات العلمية التي يحتاجها طالب
العلم؛ يستدعي من المتكلّم أن يختار له الأسلوب الأنفع لإلقاء تلك المادة
العلمية.
ومخاطبة العامّة الذين غايتهم التعرّف على خلاصة بيان الهدى الذي تضمّنته تلك الآيات ينبغي أن يختار له الأسلوب الأنسب لهم.
ومن تعسّر عليه
أن يحدّث العامّة بما يناسبهم لغلبة اللغة العلمية العالية في خطابه؛
فليوجّه خطابه إلى نوع من المتلقّين يكون أسلوبه قريباً إلى أذواقهم، لذيذا
في أسماعهم، محبوباً لديهم، عزيزاً عليهم، وإن لم يعرف الآخرون له قدره
ونفعه ، ولم يستلذّوه للعوائق الحائلة دون فهمه على وجهه، واستجلاء حسنه
وفائدته.
فالمتبحّر في
علوم اللغة - على سبيل المثال- قد يشقّ عليه الانسلاخ من اللغة العالية في
خطابه ، وكذلك الذي غلبت عليه محاجّة قوم من أهل الضلال لهم اصطلاحات
خاصة، وعبارات معقّدة، وأفهام غريبة على العامة ؛ إذا أراد الحديث بما
يحسنه شقّ عليه التخلّص من تأثير تلك العبارات والاصطلاحات.
فمن كان كذلك
فإمّا أن يروّض نفسه ويعوّدها على أن يخاطب العامّة بالأسلوب الذي يناسبهم،
ويخاطب الخاصة بما يناسبهم، وإمّا أن يختار لحديثه النوع الأنسب من
المتلقّين ، ويتخصص في ذلك.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله» رواه البخاري في صحيحه معلقا، وبوّب عليه: (باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا).
وذلك أن تحديث الناس بما يشتبه عليهم علمه، ويعسر عليهم فهمه؛ من الفتنة لهم؛ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة» رواه مسلم.
وقال عروة بن الزبير: «ما حدثت أحدا بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالا عليه» رواه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله.
وقال أبو قلابة الجرمي - تلميذ ابن عباس- : «لا تحدث بحديثٍ من لا يعرفه؛ فإن من لا يعرفه يضره ولا ينفعه» رواه ابن عبد البر.
المحدد الثالث: المقام ؛
فإنّ لكل مقامٍ مقالاً، وكل مناسبة اقتضت الحديث أو الكتابة في التفسير
لها أثرها في اختيار الأسلوب الأليق بها؛ فمقام التدريس وتقريب المسائل
العلمية وبيانها لطلاب العلم أليق به أسلوب التقرير العلمي.
ومقام التعريف بالفوائد والأحكام التي تضمّنتها الآيات أليق به الأسلوب الاستنتاجي.
ومقام الوعظ والتذكير به وإرشاد الناس إلى هدايات القرآن وتقريبها لهم أليق به الأسلوب الوعظي في الغالب.
والمقام الذي تثار فيه الشّبه وتروّج فيه الأغاليط ينبغي عليه أسلوب الحجاج والرد.
وهكذا في سائر المقامات؛ يختار المتحدّث الأسلوب الأليق بذلك المقام.
وقد تقتضي بعض المقامات التنويع بين الأساليب؛ والتنويع بينها يتطلب مهارة حسنة من المتحدّث.
التنويع بين الأساليب:
قد يحتاج المفسّر إلى التنويع بين الأساليب، لأسباب متعدّدة يقتضيها المقام وحال المخاطبين، وطبيعة المادّة العلمية التي يلقيها.
وقد ظهر في
رسائل بعض الأئمة براعة في التنويع بين تلك الأساليب؛ مما أكسب رسائلهم
قوّة في التأثير، وإحساناً لعرض المادّة العلمية، وتوسيعا لدائرة الانتفاع
بها، وإذهابا للرّتابة والسآمة.
فمنهم من يعتمد
أسلوب التقرير العلمي كأصل له ثمّ ينتقل في مواضع من كلمته أو رسالته إلى
الأسلوب الوعظي تارة بقدر مناسب، وينتقل تارة أخرى إلى الأسلوب
الاستنتاجي، وهكذا في تنوّع حسن يكون له أثره في انتفاع المتلقّي، وإحسان
عرض المادّة بالعلمية بأكثر من وجه، فيكون ذلك أدعى لحسن بيانها، وكثرة
بركتها.
وينبغي لطالب
العلم أن يمرّن نفسه على مهارة التنويع الحسن بين أساليب التفسير، وأن تكون
لديه أهلية حسنة في كلّ أسلوب منها، ولو أن يتجاوز الحدّ الأدنى في كلّ
أسلوب، ويكون تركيزه على الأسلوب الذي فتح له فيه فأتقنه وبرع فيه.
وفقني الله وإياكم لما يحبّ ويرضى