29 Sep 2016
الدرس التاسع: خطوات إعداد الرسالة التفسيرية
وصايا وإرشادات: 1. العناية بالتحرير العلمي ينبغي
لطالب علم التفسير أن يعتني غاية العناية بتحرير المسائل التفسيرية
بالقدر الذي يتلاءم مع أسلوب الرسالة ونوع المخاطبين ؛ ومن الخطأ أن يظن
الكاتب أن اختياره للأسلوب الوعظي يعفيه من التحرير العلمي ؛ فإن الوعظ
بالتفسير يجب أن يكون قائما على أساس علمي صحيح، وبيان ناتج عن تحرير حسن
للمعنى.
والمسائل التي يحتاج الكاتب إلى بيانها لا تخلو من حالين:
- إما أن تكون
مسائل لا خلاف فيها؛ فينبغي له أن يعتني بحسن بيان تلك المسائل بما
يوضّحها ويجلّيها، وقد يحتاج لتحقيق ذلك إلى أن يجوّد عبارته بأسلوب أدبي
حسن أو يستشهد ببعض الآثار وأقوال العلماء، أو يعضد قوله بما يجلّي
مراده من ضرب مثل أو سَوقِ حكاية، فيقع ذلك في نفس القارئ والسامع موقعاً
حسناً، وتصله الرسالة بطريقة أكمل وأجمل.
- وإما أن
تكون تلك المسألة من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم؛ ففي أسلوب
التقرير العلمي يتأكد على الكاتب أن يعتني بتحرير الأقوال في تلك
المسألة؛ بحصر الأقوال وترتيبها وحسن العبارة عنها، ونسبتها إلى من قال
بها؛ وبيان أدلتهم، وبيان القول الراجح في تلك المسألة بما يَظهر له من
إعمال أصول التفسير وقواعد الترجيح التي درسها؛ فإن لم يمكنه الترجيح فلا
أقلّ من إحسان حكاية الخلاف في تلك المسألة وبيان الأقوال فيها وذكر
الأدلة والاعتراضات بعبارة قريبة من أفهام المتلقين.
وإن كانت
الكتابة بأسلوب غير أسلوب التقرير العلمي فينبغي أن يكون التحرير العلمي
حاضراً في ذهن الكاتب، وأن يكون انطلاقه في بيان معنى الآية انطلاق
المطّلع على أقوال العلماء العارف بأدلتهم وما يحتاج إلى بيانه منها؛
فيذكر من الأقوال ما يناسب الأسلوب الذي يكتب به على أن يكون المقدّم فيها
هو القول الراجح، ويمكن أن يكتفي بالقول الراجح ولا يذكر الخلاف؛ لكن
ينبغي له عند ذلك أن يحسن تقرير هذا القول الراجح ويحسن التعبير عنه.
2. حسن اختيار المراجع
المسائل التي يحتاج الكاتب إلى تحرير القول فيها والإفاضة في الحديث عنها على أنواع:
أ: فمنها ما يحتاج فيه إلى التحقق من صحة النقل
كالتفسير النبوي وكثير من تفاسير الصحابة والتابعين ؛ وفي هذا النوع من
المسائل يكون الرجوع لكتب التفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير وابن أبي
حاتم وعبد الرزاق والدر المنثور وتفسير ابن كثير والبغوي وغيرها، وفي
كثير من الأحيان يحتاج الباحث إلى مراجعة دواوين السنة ، وقد يجد فيها ما
لا يجده في هذه الكتب على أهميتها.
ومشروع "جمهرة تفاسير السلف" في جمهرة العلوم، يختصر على الباحث شيئاً كثيراً في هذا النوع بإذن الله تعالى.
ب:
ومنها مسائل لغوية؛ فينصح الكاتب بالرجوع إلى التفاسير المعتنية بهذا
النوع من المسائل كمعاني القرآن للفراء والزجاج والنحاس، ومجاز القرآن لأبي
عبيدة وغريب القرآن لابن قتيبة وتأويل مشكل القرآن له وغريب أبي عبيد
ونحو هذه الكتب.
وفي كثير من
الأحيان يحتاج الباحث إلى مراجعة دواوين اللغة ومن أجلها تهذيب اللغة لأبي
منصور الأزهري، ومن أجمعها لسان العرب لابن منظور، ومن أحسنها المحكم
والمخصص لابن سيده ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس.
ومشروع "جمهرة
التفسير اللغوي" في موقع "جمهرة العلوم" يجمع للباحث عامّة أقوال هؤلاء
العلماء وغيرهم، وينظر في تفصيل الحديث عن هذا المشروع: موضوع مقدّمة جمهرة التفسير اللغوي.
ج:
وإذا كان المراد محاولة جمع أقوال المفسرين في الآية وحصره؛ فينصح
بالرجوع إلى تفسير ابن جرير الطبري والمحرر الوجيز لابن عطية، وزاد
المسير لابن الجوزي، والنكت والعيون للماوردي، وتفسير الثعلبي، فهذه
التفاسير قد حوت عامّة أقوال المفسّرين ؛ ولم يفت أصحابها إلى شيء قليل
جداً، وإن رجع معها إلى تفسير القرطبي فحسن.
على أن الباحث ينبغي له أن يتنبّه إلى أهمية التحقق من صحة نسبة الأقوال إلى قائليها في بعض هذه التفاسير.
د: وإذا
كان المقصود نقد الأقوال وتمييز صحيحها من ضعيفها والترجيح بين الأقوال
المعتبرة، والتعرف على علل الأقوال الخاطئة، ونحو ذلك فيكون الرجوع إلى
تحريرات ابن جرير وابن عطية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير
وابن عاشور وأضواء البيان للشنقيطي، واعتياد الطالب على البحث في كتبهم
يعينه على سرعة الوصول إلى مراده، ونسعى في مشروع "جمهرة التفاسير" إلى
جمع أقوالهم في كل آية في موضعها، وما زلنا في مراحل العمل لإتمام هذا
المشروع الكبير، ونسأل الله تعالى الإعانة والتسديد.
ه: وإذا
كانت المسألة مسألة عقدية؛ فيعتني بالرجوع إلى التفاسير التي عُرف
أصحابها باتّباع السنّة ونصرتها، والتنبيه على البدع والانحرافات؛ كتفسير
ابن جرير، وتفسير أبي المظفّر السمعاني، وتفسير ابن كثير،وأضواء البيان
للشنقيطي، وما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم في التفسير
والتنبيه على انحرافات أهل البدع والأهواء.
ومن الخطأ البيّن أن يأخذ الباحث تقرير مسائل الاعتقاد من التفاسير التي سلك أصحابها غير طريقة أهل السنة في تقرير تلك المسائل.
و:
وإذا كانت المسألة بلاغية فيرجع إلى تحرير ابن عاشور وإرشاد أبي السعود
وكشاف الزمخشري وروح المعاني للألوسي وبعض حواشي البيضاوي، ويحتاج مع هذا
إلى النظر في بعض كتب البلاغة، وكتب بيان المشكل.
وهكذا في سائر
أنواع المسائل التفسيرية؛ يجد الطالب أن طائفة من التفاسير اعتنت بذلك
النوع عناية حسنة، وذلك النوع وثيق الصلة بعلم من العلوم له كتبه المرجعية
وأئمته المعروفون، وأصولهم في دراسة تلك المسائل.
وهذا التقسيم
لتلك الكتب إنما هو على ما يغلب من عناية أصحابها، وليس المقصود منه خلو
تلك الكتب من العلوم الأخرى، ولكن لكل علم مصادره وأئمته.
ومداومة الطالب على البحث والكتابة تعينه على بناء ملكة حسنة في انتقاء المصادر، وسرعة الوصول إلى ما يبحث عنه.
3. العناية بحسن الصياغة وحسن العرض
وهذا له أثر كبير في إيصال الرسالة إلى المتلقّي بطريقة حسنة، وأسلوب واضح، ومؤدّ للمقصد من الرسالة بإذن الله تعالى.
وينبغي أن يلحظ
الطالب جوانب الإحسان في الصياغة والعرض، ويحرص على تنميتها مع مداومته
على الكتابة حتى يصل فيها إلى مرحلة متقدّمة من الإتقان بإذن الله تعالى.
4. تجنّب الأخطاء العلمية.
قد يبذل الكاتب
جهداً كبيراً في تحرير رسالته وإثرائها علمياً ويحسن الصياغة والعرض
لكنّه قد يقع في خطأ علمي يفسد عليه ما أحسن فيه، وربما ذهب بثمرة
الرسالة؛
والخطأ في الرسالة العلمية نظير النجاسة في الثوب الحسن؛ يلفت الأنظار وينفّر منه، ومن العامّة من يطير بالخطأ كلَّ مَطِير.
فيجب على الكاتب
أن يتحرّى الصحة فيما يكتب، وأن يجتنب الغرائب التي تستنكر، وإذا ذكر
شيئا منها فليعزه إلى مصدره إن كان محتملاً للصحة، وإن تبيّن له ضعفه
فليتركه.
وليجتنب الدعاوى العريضة والأحكام المطلقة التي قد يمليها عليها حال الحماسة عند الكتابة واستغراق مسائل البحث لنظره وتأمّله.
ويعينه على السلامة من ذلك أن يضبط كتابته بقواعد الاستدلال الصحيح.
5. المداومة على الكتابة
"أحبّ العمل إلى
الله أدومه وإن قل"، وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمة ، والعمل
الذي يداوم عليه صاحبه يُبارك له فيه، ولو أنّ الطالب داوم على كتابة
رسالة حسنة كلّ شهر؛ لكتب في سنوات يسيرة عشرات الرسائل، واكتسب بهذه
المداومة بركات كثيرة:
- منها: ازدياد علمه وتوسّع اطلاعه وخبرته بالمصادر العلمية.
- ومنها: تنمية مهارة التحرير العلمي لديه.
- ومنها: تحسين أسلوبه في الكتابة والعرض.
- ومنها: إعداد العدّة العلمية للإلقاء الكلمات والدروس والمحاضرات.
إلى غير ذلك من
البركات العظيمة التي لو تأمّلت سببها لوجدته المداومة على كتابة رسالة
تفسيرية حسنة في كل شهر ، وقد يزيد الطالب ما شاء الله أن يزيد إذا بلغ
مرحلة النضج العلمي، وهذه الرسائل يمكن أن ينتفع بها وينفع بها بأوجه كثيرة
إذا أحسن النظر.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبّ ويرضى، وأن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يستعملنا في طاعته، ويمنّ علينا ببركته
وأن يدخلنا في رحمة منه وفضل ويهدينا إليه صراطاً مستقيما
وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.