19 Mar 2017
بيان أوجه فضل علم التفسير
فضل علم التفسير يتبيّن من وجوه مهمّة تدلّ اللبيب على ما ورائها، وتعرّفه ببعض دلائلها وآثارها؛ ليتفكّر فيها، ويتعرّف أسبابَ إقبالِ العلماء على علم التفسير؛ وعنايتهم به تعلّماً وتعليماً ودعوة وتأليفاً.
1: فأصل فضائل التفسير وأعظمها أنه معين على فهم كلام الله عز وجل؛ ومعرفة مراده، ومن أوتي فهم القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه قال: (قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟
قال: « لا، والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة ».
قلت: وما في الصحيفة؟
قال: « العَقْلُ، وفِكَاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافرٍ »).
وفَهْمُ القرآن مَعين لا ينضب، إذ يُستخرج به من العلم شيءٌ كثيرٌ مبارك لا يُحدّ ولا يُستقصى، والناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتاً كبيراً؛ فيقرأ الرجلان من أهل العلم الآية الواحدة؛ فيظهر لأحدهما من العلم بها وبما تضمنته من المعاني واللطائف البديعة أضعاف ما يظهر لصاحبه، وهذا أمر معروف مشتهر بين أهل العلم.
قال ابن القيم رحمه الله: (والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآيةِ حُكْماً أو حُكْمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخصُّ من هذا وألطفُ ضَمُّه إلى نصٍّ آخر متعلّق به؛ فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبَّه له إلا النادرُ من أهلِ العلمِ؛ فإنَّ الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا (15)}[الأحقاف] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (233)}[البقرة] أنَّ المرأة قد تلدُ لستةِ أشهر، وكما فهم الصدّيق من آية الفرائضِ في أوَّل السورةِ وآخرِها أنَّ الكلالةَ مَنْ لا وَلدَ لهُ ولا والد).ا.هـ.
والمقصودُ أنَّ فهم القرآن يفتحُ لطالب العلم أبواباً من العلم يغفل عنها غيره، بل ربما سمع كلمةً من رجُلٍ فذكَّرته بآية كان يتأمّلها؛ فينفتح له بذلك بابٌ أو أبوابٌ من العلم، وهذه مرتبة عزيزة من مراتب العلماء، كما قال عكرمة مولى ابن عباس: « إني لأخرج إلى السوق ، فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ». رواه ابن سعد في الطبقات من طريق ابن علية عن أيوب عن عكرمة، وهذا إسناد صحيح.
وعكرمة من خاصّة أصحاب ابن عباس رضي الله عنه، وأعلمهم بالتفسير؛
قال فيه سلام بن مسكين: « كان أعلم الناس بالتفسير ».
وقال الشعبي: « ما بقى أحدٌ أعلم بكتاب الله من عكرمة ».
ومن أسبابِ سَعَةِ علم عكرمة بالتفسير ما أوتيهُ من فَهْمِ القرآن حتى إنَّه كان يَذكرُ لابنِ عباسٍ بعض الأوجه في التفسير فيستحسنها ابن عباس ويجيزه عليها بجائزة.
وسبيل فهم القرآن هو معرفة تفسيره، وتنوّع دلائل ألفاظه على المعاني، وفقه أنواع تلك الدلالات ومراتبها.
والمقصود أن من أجلِّ فضائل علم التفسير أنه يعين على فهم القرآن الذي هو رسالة الله تعالى إلينا، وقد علم الناس أن الرسائل على قدر مرسلها، فمن أرسلت له رسالة من ملك أو معظّم من الناس كانت قراءته لرسالته وتمعّنه فيها، وحرصه على فهمها، وفرحه بها أعظم مما يجده لرسالة من هو دونه؛ فكيف ينبغي أن يكون حال المؤمن وهو يقرأ الكتاب الذي أرسل الله به خير رسله بواسطة خير ملائكته في أشرف ليلة وخير بلد؛ وقد تضمّن خير هدى أرسل إلى أمّة من الأمم؟!!
وكيف ينبغي أن يكون حرصه على تفهّمه ومعرفة تفسيره وتبيّن هداه وتفصيل أحكامه؟!!
وكيف ينبغي أن يكون فرحه بالقرآن واعتزازه برسالة ربّه إليه، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}[يونس].
وقد نقل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عن العلامة المفسّر الشيخ عبد الرحمن الدوسري صاحب تفسير "صفوة الآثار والمفاهيم" أنه سُئل عن أهمّ شروط المفسّر؛ فأجاب على البديهة: (أن تملأ قلبَه الفرحةُ بالقرآن).
ولا ريب أنّ الفرحة بالقرآن إذا ملأت قلب صاحبها كانت لها آثار مباركة من حسن الإقبال على تلاوته وتفهّمه، والتبصّر به واتّباع هداه، والاعتبار بما فيه، فيزداد علماً وهدى، وخشية وإنابة، ويزداد بذلك توفيقاً في فهم القرآن والانتفاع به والارتفاع به.
2: ومن فضائل علم التفسير تعلّقه بأشرف الكلام وأحسنه وأصدقه وأحكمه، وأعظمه بركة وأجلّه قدراً، وهو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وقد روي من طرق متعدّدة أن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
فالاشتغال بالتفسير اشتغال بأفضل الكلام وأحسنه تعلّما وتفهّماً، ومدارسة وتعليماً، فيكتسب المشتغل بالتفسير من علوم القرآن وكنوزه، ويقتبس من نوره وهداياته؛ ما يجد حسن أثره، وعظيم بركته عليه، ولا يزال العبد ينهل من هذا العلم ويستزيد منه حتى يجد بركته في نفسه وأهله وماله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}[ص].
3: ومن فضائل علم التفسير أنّ متعلّمه من أعظم الناس حظّا وأوفرهم نصيباً من فضائل العلم؛ وذلك أن الله فضَّل العلم وشرَّفَه وشرَّف أهله ورفع درجتهم، والعلمُ بالقرآن هو أفضل العلوم وأحسنها، وأشرفها وأجمعها، وقد فصَّل الله في القرآن كل شيء؛ فمن ابتغى العلم من أفضل أبوابه وأحسنها؛ فعليه بتدبر القرآن وتفهّمه ومعرفة معانيه وتفسيره.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من أراد العلمَ فليثوّر القرآن، فإنَّ فيه علمَ الأوَّلين والآخرين». رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والطبراني في المعجم الكبير واللفظ له.
وهذا أمر معلوم لمن اشتغل بتفسير القرآن فإنه يجده جامعاً لأنواع العلوم النافعة، ومبيّناً لأصولها، ومعرّفاً بمقاصدها، ودالاً على سبيل الهدى فيها:
- فأصول الإيمان والاعتقاد الصحيح والتعريف بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله وسننه في خلقه مبينة في القرآن الكريم أحسن بيان وأتمّه.
-وأصول الأحكام الفقهية في مسائل العبادات والمعاملات والمواريث وأحكام الأسرة والجنايات كلها مبينة في القرآن بياناً حسناً شاملاً.
- وأصول المواعظ والسلوك والتزكية كلها مبينة في القرآن الكريم بياناً شافياً كافياً وافياً بما تحتاجه النفوس.
- وسنن الابتلاء والتمكين وأنواع الفتن وسبيل النجاة منها والوصايا النافعة؛ كلها مبيّنة في كتاب الله تعالى بما يشفي ويكفي.
- وكذلك أصول الآداب الشرعية والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة؛ قد تضمّن القرآن بيانها بما لا يجتمع في غيره بمثل بيانه وحسن تفصيله.
- وقد تضمّن القرآن بيان أمورٍ مهمّة ضلَّت فيها أمم وطوائف كثيرة منذ بدء الخلق إلى يومنا هذا، وتضمّن قصص الأنبياء وأخبار بني إسرائيل كما قال الله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}[النمل].
{يختلفون} فعل مضارع يدل على التجدد؛ فهم قد اختلفوا ولا يزالون يختلفون، وهذا القرآن يقص عليهم أكثر الذي يختلفون فيه؛ فمن فقه ما قصَّه الله في القرآن من أخبار بني إسرائيل حصل له العلمُ بأكثر ما يختلفون فيه، وهو علمٌ يقينيّ بدلائل بيّنة يميّز به صحيح أقوالهم من خطئها، ويحكم به بين أقوالهم.
-ومما تضمَّنه القرآن من العلوم علمُ الدعوةِ إلى الله تعالى على بصيرة، ففيه بيان أصول الدعوة وأنواعها ومراتبها وصفات الدعاة إلى الحق، وكشف شبهات المضلين، وأصول الاحتجاج للحق، ومعاملة المخالفين على اختلاف مراتبهم.
- ومما تضمنه القرآن من العلوم علم المقاصد الشرعية والسياسة الشرعية، وكيف تُرعى الرعية وتساسُ بأحكام القرآن، وتقاد به إلى ما فيه نجاتها وسعادتها.
-وفيه بيان الهدى في كل ما يحتاج إليه العبد في شؤون حياته وكيف يتخلص من كيد الشيطان وشر النفس وفتنة الدنيا وسائر الفتن التي تعترضه، وكيف يهتدي إلى الصراط المستقيم.
إلى غير ذلك من العلوم الجليلة النافعة التي ينتفع بها أحسنَ الانتفاع مَنْ فَهِمَ مراد الله تعالى فَهْمَ المؤمنِ المسترشدِ الصادقِ في اتباع الهدى.
ويجمع ذلك كله قول الله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9)}[الإسراء].
فحذف المتعلق هنا لإرادة العموم؛ فهو يهدي للتي هي أقوم في كل شيء، في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك، وسائر ما يحتاج المسلم فيه إلى الهداية.
وقال الله تعالى: {ما كانَ حَديثًا يُفتَرى وَلـكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ(١١١)}[يوسف].
فمن أراد الهداية فعليه بفهم القرآن.
ومن أراد الرحمة فعليه باتّباع القرآن؛ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}[الأنعام].
ولله ما أعظم الرحمات التي يفوز بها متّبع القرآن!
وأوّل تلك الرحمات نجاته من العقوبات والآفات التي تصيب من خالف هدى القرآن، وأعلاها أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته.
ومن أراد العلم فعليه بتدبر القرآن، فهو جامع لأنواع العلوم النافعة، والهدايات الجليلة، والوصايا الحكيمة، والبصائر والبشارات، والتنبيهات والتحذيرات، وفيه تفصيل كلّ شيء.
وقد أحسن ابن القيّم رحمه الله إذْ قال:
فتدبر القرآن إن رُمْتَ الهدى.....فالعلم تحت تدبر القرآن
والحاجة في كلّ ما سبق إلى علم التفسير ظاهرة بيّنة؛ فهذا وجه من أوجه تفضيل علم التفسير، ويتّصل به وجهٌ آخر، وهو أنّ المفسّر يحتاج إلى التمكّن من علوم كثيرة متنوعة؛ يستلزمها اشتغاله بعلم التفسير؛ فينفتح له بتلك العلوم والأدوات العلمية أبواب من فهم القرآن ومعرفة معانيه؛ فيحتاج إلى معرفة معاني المفردات ومعاني الحروف والأساليب والإعراب والصرف والبلاغة والاشتقاق، ويحتاج إلى معرفة أصول الفقه وقواعد الترجيح والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وأحوال النزول وفضائل الآيات والسور وأمثال القرآن والمبهمات وغيرها من العلوم المتنوعة التي يكتسبها المفسر شيئاً فشيئاً بتدرج تعلمه للتفسير.
ويجد لكل علم من هذه العلوم أثره في التفسير واستخراج المعاني الجليلة واللطيفة، وهذا مما يدلّ على سعة علم التفسير وشرفه وتعدّد معارف أهله.
والمقصود أن علم التفسير من أوسع العلوم؛ فمن أقبل عليه وأحسن العناية به؛ فإنه يكتسب المعرفة الواسعة الحسنة بعلوم كثيرة.
4: ومن فضائل علم التفسير أنه يدلّ صاحبه على ما يعتصم به من الضلالة، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ (101)}[آل عمران] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}[النساء].
وقد بين الله تعالى في كتابه كيف يكون الاعتصام به، والمفسّر من أحسن الناس علماً بما يكون به الاعتصام بالله.
ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم خطبة في الإسلام في أشرف جمع كان على وجه الأرض وذلك في خطبته في حجة الوداع قال: « وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ». قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس « اللهم اشهد اللهم اشهد ». ثلاث مراتٍ)). رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
ونحن نشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلّغ وأدّى ونصح، وقد ترك لنا كتاب الله عصمة من الضلالة؛ فمن اعتصم به فلن يضلّ بإذن الله.
والمقصود أن الاعتصام بكتاب الله لا يكون إلا بفهم ما أنزل الله فيه، واتّباع ما فيه من الهدى، وسبيل ذلك معرفة تفسيره؛ وكلما كان المؤمن أكثر نصيباً من فهم مراد الله تعالى واتباعاً لما بينه الله من الهدى كان أعظم حظاً من الهداية والعصمة من الضلالة.
5: ومن فضائل علم التفسير أنه من أعظم الأسباب المعينة على صلاح القلب والعمل لمن حسنت نيّته في طلبه؛ فإنّه يبصر به ما بيّنه الله في الكتاب من البصائر والهدى، ويكثر من تلاوة القرآن وتدبّره والتفكّر فيه؛ فيتبصّر ويتذكّر، ويخشع وينيب، ويعرف علل قلبه ونفسه، وكيف يطهّر قلبه ويزكّي نفسه بما يعرف من هدى القرآن.
وقد أثنى الله على من يفقهون ما أنزل الله في كتابه؛ فقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} [المائدة].
وقال تعالى: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر].
فكان تصديقهم لما أنزل الله وشهادتهم له بالحقّ شهادة العارف الموقن؛ سبباً لبلوغهم درجة الإحسان، وفوزهم برضوان الله تعالى وفضله العظيم.
وهذه المعرفة القلبية تزداد بازدياد العلم بمعاني القرآن والبصيرة في الدين، وتصديق القول بالعمل.
وكلما كان المرء أكثر علماً بتفسير القرآن كانت تلاوته له أحسن؛ لأنه يظهر له من المعاني والفوائد واللطائف في كلّ مرة يقرأه ما يزداد به إيماناً، وتوفيقاً لمزيد من العلم، ويجد في نفسه من حلاوة القرآن وحسنه وبهجته ما يحمله على الاستكثار من تلاوته.
وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال: سمعت أبا جعفر [يريد شيخه محمد بن جرير الطبري] يقول: (إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟!!).
6: ومن فضائل علم التفسير أنَّ المفسِّرَ وارثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه، وهو بيان معاني القرآن الكريم، ومن أحسن تحمُّلَ أمانةِ علمِ التفسيرِ وأحسنَ أداءَها كان من أخصِّ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « بلّغوا عني ولو آية ». رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)}[إبراهيم]، وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44)}[النحل].
فالمفسِّرُ مبلِّغٌ ومبيّنٌ؛ والبلاغ المبين هو أخصّ وظائف الرسل كما قال الله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}[النحل]، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}[العنكبوت].
والمفسّر الحقّ وارثٌ لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم، متّبع له، سائر على منهاجه؛ يدعو بما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكّر بما ذَكَّرَ به، ويبشّر بما بشّر به، وقد قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}[ق] ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ (51)}[الأنعام]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}[مريم].
فجعل الله وظائف الرسول قائمة على البلاغ المبين الذي يتضمن البشارة والنذارة؛ كما قال الله تعالى في موضعين من كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الإسراء 105، الفرقان 56].
فهو يبشر بالقرآن، وينذر بالقرآن، ويبلغ القرآن بلاغاً مبيناً، وهذا هو عماد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أرسل به.
والمفسّر الصالح وارثٌ لهذه الدعوة قائم بها، بل هو من أخصِّ ورثتها إذا أحسن تحمّل علمِ التفسير وأحسن أداءَه؛ فهو يبلغ القرآن ويبين معانيه للناس ليهتدوا به، ويبشر به المؤمنين، وينذر به الذين ظلموا أنفسهم، وهذه هي حقيقة مقاصد إرسال الرسل.
7: ومن فضائل علمِ التفسير أن المفسّر كثير الاشتغال بالقرآن ومعانيه وهداياته ؛ بل يكاد يكون أكثر وقته في مصاحبة القرآن تلاوة وتدبرا ودراسة ، وهذا من أجلِّ أنواع مصاحبة القرآن، أن تكون مصاحبته مصاحبة تلاوة وتفقّه فيه، واهتداء بهداه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ». رواه مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
فالمفسّر الحق كثير الاشتغال بتلاوة القرآن، والتفكّر فيه، وتدبّر معانيه، واستخراج كنوزه وفوائده وبدائعه؛ حتى يعلم بذلك علماً كثيراً مباركاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر حياته لما سجن في سجن القلعة: « قد فتح الله علي في هذه المرَّة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء كان كثيرٌ من العلماءِ يتمنَّونَها، وندمتُ على تضييعِ أكثرِ أوقاتي في غيرِ معاني القرآن » ا.هـ.
وذلك لما رآه مما فتح الله عليه به من معاني القرآن وسعة دلائلها لأحكام الدين عقيدة وشريعة وسلوكاً.
8: ومن فضائل علم التفسير أنه يدخل صاحبه في زمرة خيرِ هذه الأمة ، كما في صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
قال سعد: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرةِ عثمان حتى كان الحجاج قال: « وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ».
وأبو عبد الرحمن السلمي - واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة - هو القائل: « حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل؛ قالوا: فعلمنا العلم والعمل ». رواه الإمام أحمد.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن ». رواه ابن جرير.
فدلَّ هذا على أن تعلم القرآن يشمل تعلم ألفاظه ومعانيه واتباع هداه؛ فمن جمع هذه الأمور الثلاثة كان من خير هذه الأمة.
ومعرفة معاني القرآن إنما تتحقق بمعرفة تفسيره.
قال الشافعي رحمه الله: (من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفَّقَه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفتْ عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة).
فهذه ثمانية أوجه من تأمَّلها حق التأمل أيقن بفضل علم التفسير، وأن الاشتغال به اشتغال بخير العلوم وأجلها.
ومما ينبغي أن يُتفطَّن له أنه لا يشترط في وصف المفسّر أن يكون له كتاب تفسير، فالتفسير علمٌ ومَلَكَةٌ؛ فمن حصَّل العلم الذي يكون به مفسّراً، وكانت له ملكة حسنة في التفسير؛ وله اشتغال ببيان معانيه للناس؛ فهو من أهل التفسير، وأما التأليف في التفسير فكثير من الأئمة المفسّرين الثقات لم يؤلفوا في التفسير، وهم من أحسن الناس فهماً للقرآن، وقد نقلت عنهم آثار متفرفة في التفسير تدل على ما وراءها، كالإمام مالك والشافعي وأحمد والبخاري وابن خزيمة وبعدهم النووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم لم يؤلّفوا تفاسير تامّة للقرآن وكلامهم في التفسير من أنفع الكلام وأحسنه، وقد ألّف في التفسير بعض الضعفاء فخلطوا، ودخل الضعف والخطأ في بعض التفاسير لأسباب كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
وكذلك ليس من شرط المفسّر اليوم أن يكون له كتاب تفسير؛ بل من أحسن معرفة أصول التفسير واشتغل بالتفسير تعلماً وتعليماً ودعوةً فهو مفسِّر.
الملف الصوتي: