الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

4473

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الأول

تفسير سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

18 Aug 2014

4473

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }


تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين (2)}
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه: هذا الكتاب، قال الشاعر:

أقول له والرمح يأطر متنه.......تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا

قال: المعنى: إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إن معناه: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، وكذلك قوله: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون (146)}
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله: {الم * ذلك الكتاب}، فيقال " ذلك " للشيء الذي قد جرى ذكره، فإن شئت قلت فيه: "هذا" وإن شئت قلت فيه: "ذلك"، كقولك: "أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة" وإن شئت قلت: "هذا ستة".
أو كقوله عزّ وجلّ في قصة فرعون: {فحشر فنادى (23) فقال أنا ربّكم الأعلى (24) فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى (25)}، ثم قال بعد ذلك: {إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى (26)}، وقال في موضع آخر: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون (105)}، ثم قال:{إنّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106)}، وقال عزّ وجلّ: {المر تلك آيات الكتاب والّذي أنزل إليك من ربّك الحقّ}، فقال {ذلك}.
فجائز أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي: القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها -على ما وصفنا في شرح حروف الهجاء-.
وموضع {ذلك} رفع؛ لأنه خبر ابتداء على قول من قال: هذا القرآن، ذلك الكتاب.
و{الكتاب} رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك: هذا الرجل أخوك، فـ(الرجل) عطف البيان، أي: يبين من الذي أشرت إليه.
والاسم من ذلك "ذا" والكاف زيدت للمخاطبة ولا حظ لها في الإعراب، قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب؛ لقلت: " ذاك نفسه زيد"، وهذا خطأ لا يجوز إلا هذاك نفسه زيد.
ولذلك "ذانك" يشهد أن الكاف لا موضع لها؛ لو كان لها موضع لكان جراً بالإضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة.
واللام تزاد مع "ذلك" للتوكيد، أعني: توكيد الاسم؛ لأنها إذا زيدت أسقطت معها "ها" تقول: "ذلك الحق" و"ذاك الحق" و"ها ذاك الحق".
ويقبح "هذلك الحق"؛ لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة، وكسرت اللام للالتقاء السّاكنين، أعني الألف من "ذا" واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة، ولكنها كسرت لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن {الم}.
وقوله عزّ وجلّ: {لا ريب فيه}
معناه : لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبة فيه، وأرابني إذا أوهمني الريبة، قال الشاعر:

أخوك الذي إن ربته قال إنما.......أربت وإن عاتبته لان جانبه

وموضع {لا ريب} نصب، قال سيبويه: "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب "إن" لما بعدها إلا أنها تنصبه بغير تنوين؛ وزعم أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فـ(من) غير منفصلة من (رجل)، فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكلون جواب: هل رجل في الدار؟
قيل: معنى "لا رجل في الدار" عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: "لا رجل في الدار".
فكذلك "هل من رجل في الدار؟" استفهام عن الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: "هل رجل في الدار؟" أو "لا رجل في الدار".
جاز أن يكون في الدار رجلان؛ لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجل في الدار؛ فهو نفي عام، وكذلك {لا ريب فيه}.
وفي قوله {فيه} أربعة أوجه: القراءة منها على وجه واحد ولا ينبغي أن يتجاوز إلى غيره، وهو {فيه هدى} بكسر الهاء، ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان قرئ به: (فيهي هدى) بإثبات الواو، و (فيهي هدي) بإثبات الياء، وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.
فأما قراءة {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، فهو ثقيل في اللفظ، وهو جائز في القياس؛ لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ؛ لأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين، وحكى الأخفش أنها قراءة.
وموضع {هدى} نصب، ومعناه: بيان، ونصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال من قولك: القرآن، ذلك الكتاب هدى، ويجوز أن يكون انتصب بقولك: {لا ريب فيه} في حال هدايته، فيكون حالًا من قولك: لا شك فيه هادياً.
ويجوز أن يكون موضعه رفعاً من جهات:
إحداها أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي: قد جمع أنه الكتاب الذي وعدوا به وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو حامض، تريد: أنه قد جمع الطعمين،
ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار "هو"، كأنه لما تم الكلام فقيل: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه}، قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} كأنك قلت: ذلك الكتاب حقّاً؛ لأن لا شك فيه بمعنى حق، ثم قال: بعد ذلك:{فيه هدى للمتقين}). [معاني القرآن: 1/67-70]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين (2)}


الاسم من ذلك الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع ذلك رفع كأنه خبر ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في ذلك هنا فقيل: هو بمعنى «هذا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن.


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك أنه قد يشار بـ «ذلك» إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقرب.


وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ أي الكتاب الذي هو القدر،وقيل: إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد.


وقال الكسائي: «ذلك إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد».


وقيل: إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. وقيل: إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال الم حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.


ولفظ الكتاب مأخوذ من «كتبت الشيء» إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ككتب الخرز بضم الكاف وفتح التاء وكتب الناقة.


ورفع الكتاب يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان.


{ولا ريب فيه} معناه: لا شكّ فيه ولا ارتياب به والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريب للكفار.


وقال قوم: لفظ قوله لا ريب فيه لفظ الخبر ومعناه النهي.


وقال قوم: هو عموم يراد به الخصوص أي عند المؤمنين.


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.


وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير: «فيه» بضم الهاء وكذلك «إليه» و «عليه» و «به» و «نصله» ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن إسحاق: «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو.


و{هدىً}: معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر ذلك، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله، ويصح أن يكون موضعه نصبا على الحال من ذلك، أو من الكتاب، ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في فيه، والعامل معنى الاستقرار وفي هذا القول ضعف.


وقوله: {للمتّقين} اللفظ مأخوذ من وقى، وفعله اتّقى، على وزن افتعل، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار للمتّقين. والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله). [المحرر الوجيز: 1/102-104]


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين (2)}


قال ابن جريج: قال ابن عبّاسٍ: «{ذلك الكتاب}:هذا الكتاب». وكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان، وزيد بن أسلم، وابن جريجٍ: أنّ ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلًّا منهما مكان الآخر، وهذا معروفٌ في كلامهم.


و {الكتاب} القرآن. ومن قال: إنّ المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التّوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جريرٍ وغيره، فقد أبعد النّجعة وأغرق في النّزع، وتكلّف ما لا علم له به.


والرّيب: الشّكّ، قال السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا ريب فيه}: لا شكّ فيه.


وقاله أبو الدّرداء وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وأبو مالكٍ ونافعٌ مولى ابن عمر وعطاءٌ وأبو العالية والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان والسّدّيّ وقتادة وإسماعيل بن أبي خالدٍ. وقال ابن أبي حاتمٍ: لا أعلم في هذا خلافًا.


[وقد يستعمل الرّيب في التّهمة قال جميلٌ:



بثينة قالت يا جميل أربتني ....... فقلت كلانا يا بثين مريب...



واستعمل -أيضًا-في الحاجة كما قال بعضهم:


قضينا من تهامة كلّ ريبٍ ....... وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا]



ومعنى الكلام: أنّ هذا الكتاب -وهو القرآن-لا شكّ فيه أنّه نزل من عند اللّه، كما قال تعالى في السّجدة: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين} [السّجدة: 1، 2]. [وقال بعضهم: هذا خبرٌ ومعناه النّهي، أي: لا ترتابوا فيه].


ومن القرّاء من يقف على قوله: {لا ريب} ويبتدئ بقوله: {فيه هدًى للمتّقين} والوقف على قوله تعالى: {لا ريب فيه} أولى للآية الّتي ذكرنا، ولأنّه يصير قوله: {هدًى} صفةً للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فيه هدًى}.


و {هدًى} يحتمل من حيث العربيّة أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.


وخصّت الهداية للمتّقين. كما قال: {قل هو للّذين آمنوا هدًى وشفاءٌ والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمًى أولئك ينادون من مكانٍ بعيدٍ}[فصّلت: 44]. {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلا خسارًا}[الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على اختصاص المؤمنين بالنّفع بالقرآن؛ لأنّه هو في نفسه هدًى، ولكن لا يناله إلّا الأبرار، كما قال: {يا أيّها النّاس قد جاءتكم موعظةٌ من ربّكم وشفاءٌ لما في الصّدور وهدًى ورحمةٌ للمؤمنين}[يونس: 57].


وقد قال السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} يعني: نورًا للمتّقين.


وقال الشّعبيّ: «هدًى من الضّلالة»، وقال سعيد بن جبيرٍ: «تبيانٌ للمتّقين». وكلّ ذلك صحيحٌ.


وقال السّدّيّ: عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} قال: هم المؤمنون.


وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{للمتّقين}أي: الّذين يحذرون من اللّه عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التّصديق بما جاء به».


وقال أبو روق، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{للمتّقين} قال: المؤمنين الّذين يتّقون الشّرك بي، ويعملون بطاعتي».


وقال سفيان الثّوريّ، عن رجلٍ، عن الحسن البصريّ، قوله: {للمتّقين} قال: «اتّقوا ما حرّم اللّه عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم».


وقال أبو بكر بن عيّاشٍ: سألني الأعمش عن المتّقين، قال: فأجبته. فقال [لي] سل عنها الكلبيّ، فسألته فقال: «الّذين يجتنبون كبائر الإثم»، قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنّه كذلك. ولم ينكره.


وقال قتادة: «{للمتّقين}هم الّذين نعتهم اللّه بقوله:{الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة}الآية والّتي بعدها ».


واختار ابن جريرٍ: «أنّ الآية تعمّ ذلك كلّه»، وهو كما قال.


وقد روى التّرمذيّ وابن ماجه، من رواية أبي عقيلٍ عبد اللّه بن عقيلٍ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطيّة بن قيسٍ، عن عطيّة السّعديّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرًا ممّا به بأسٌ».


ثم قال الترمذي: حسن غريب.


وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن عمران، حدّثنا إسحاق بن سليمان، يعني الرّازيّ، عن المغيرة بن مسلمٍ، عن ميمونٍ أبي حمزة، قال: كنت جالسًا عند أبي وائلٍ، فدخل علينا رجلٌ، يقال له: أبو عفيفٍ، من أصحاب معاذٍ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيفٍ، ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبلٍ؟ قال: «بلى سمعته يقول: يحبس النّاس يوم القيامة في بقيعٍ واحدٍ، فينادي منادٍ: أين المتّقون؟ فيقومون في كنفٍ من الرّحمن لا يحتجب اللّه منهم ولا يستتر»، قلت: «من المتّقون؟»، قال: «قومٌ اتّقوا الشّرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا للّه العبادة، فيمرّون إلى الجنّة».


وأصل التّقوى: التّوقّي ممّا يكره لأنّ أصلها وقوى من الوقاية. قال النّابغة:



سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ....... فتناولته واتّقتنا باليد



وقال الآخر:


فألقت قناعًا دونه الشّمس واتّقت ....... بأحسن موصولين كفٌّ ومعصم



وقد قيل: إنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، سأل أبيّ بن كعبٍ عن التّقوى، فقال له: «أما سلكت طريقًا ذا شوكٍ؟»، قال: «بلى»، قال: «فما عملت؟»، قال: «شمّرت واجتهدت»، قال: «فذلك التّقوى».


وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتزّ فقال:



خلّ الذّنوب صغيرها ....... وكبيرها ذاك التّقى


واصنع كماشٍ فوق أر ....... ض الشّوك يحذر ما يرى


لا تحقرنّ صغيرةً ....... إنّ الجبال من الحصى



وأنشد أبو الدّرداء يومًا:



يريد المرء أن يؤتى مناه ...... ويأبى اللّه إلّا ما أرادا


يقول المرء فائدتي ومالي ....... وتقوى اللّه أفضل ما استفادا



وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما استفاد المرء بعد تقوى اللّه خيرًا من زوجةٍ صالحةٍ، إن نظر إليها سرّته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإنّ غاب عنها حفظته في نفسها وماله».). [تفسير ابن كثير: 1/162-164]



تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}


قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}


معناه: يصدقون، وكل مؤمن بشيء فهو مصدق به، فإذا ذكرت مؤمناً ولم تقل هو مؤمن بكذا وكذا: فهو الذي لا يصلح إلا في اللّه عزّ وجلّ، وموضع {الذين} جر تبعاً للمتقين، ويجوز أن يكون موضعهم رفعاً على المدح كأنّه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم؟ فقيل: {الّذين يؤمنون بالغيب}. ويجوز أن يكون موضع {الذين} نصباً على المدح أيضاً، كأنه قيل: اذكر الذين.


{والذين} لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر: أتاني الذين في الدار، ورأيت الذين في الدار، ومررت بالذين في الدار، وكذلك: الذي في الدار، وإنما منع الإعراب؛ لأن الإعراب إنما يكون في آخر الأسماء، و"الذي" و"الذين" مبهمان لا تتمان إلا بصلاتهما، فلذلك منعت الإعراب.


وأصل "الذي":لَذٍ على وزن عَمٍ فاعلم، كذلك قال الخليل وسيبويه والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.


فإن قال قائل: فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار، ورأيت اللذَيْن في الدار، فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو "هذان" و"هذين"، وأنت لا تعرب "هذا" ولا "هؤلاء"؟


فالجواب في ذلك: أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاء لمعنى؛ لأن حروف المعاني لا تثنى.


فإن قال قائل: فلم منعته الإعراب في الجمع؟


قلت: لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا "هؤلاء يا فتى" فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك: "الذين" إنما هو اسم للجمع، كما أن قولك: "سنين يا فتى" اسم للجمع، فبنيته كما بنيت الواحد، ومن جمع "الذين" على حد التثنية قال: جاءني الذونَ في الدار، ورأيت الذين في الدار، وهذا لا ينبغي أن يقع؛ لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية، والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.


ومعنى قوله {بالغيب}: ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب والنشور والقيامة، وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.


وقوله عزّ وجلّ {ويقيمون الصّلاة} معناه: يتمّون الصلاة كما قال: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}.


وضمت الياء من {يؤمنون} و{يقيمون}؛ لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو: أكرم وأحسن وأقام وآمن، فمستقبله: يكرم، ويحسن، ويؤمن، ويقيم، وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بين ذوات الثلاثة نحو: ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو: دحرج. فما كان على ثلاثة: فهو ضرب يضرب أو تضرب أو نضرب، ففصل بالضمة بينهما.


فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟


قيل: الكسرة قد تدخل في نحو تعلم وتبيض؛ ولأن الضمة مع الياء مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياء. فمن قال: أنت تعلم، لم يقل: هو يعلم، فوجب أن يكون الفرق بينهما بالضمة لا غير.


والأصل في (يقيم): يؤقيم، والأصل في يكرم: يؤكرم، ولكن الهمزة حذفت؛ لأن الضم دليل على ذوات الأربعة، ولو ثبت لوجب أن تقول إذا أنبأت عن نفسك: أنا أؤقوم، وأنا أؤكرم، فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل، وتبع سائر الفعل باب الهمزة، فقلت: أنت تكرم، ونحن نكرم، وهي تكرم، كما أنّ باب "يعد" حذفت منه الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، الأصل فيه "يوعد" ثم حذفت في "تعد" و"نعد" و"أعد".


وقوله عزّ وجلّ: {وممّا رزقناهم ينفقون} معناه: يصدّقون، قال عزّ وجلّ: {وأنفقوا من ما رزقناكم} إلى قوله: {قريب فأصّدّق}). [معاني القرآن: 1/70-73]


قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}


يؤمنون معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى: {ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم} [آل عمران: 73] وكما قال: {فما آمنلموسى} [يونس: 83] وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدّ بالباء يفهم من المعنى.


واختلف القراء في همز يؤمنون فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون» وما أشبه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم» و «يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز.


وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة.


وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله.


وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل: ننسأها [البقرة: 105]، وهيّئ لنا [الكهف: 8] وما أشبهه.


وقوله: {بالغيب} قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.


واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل»، وقال آخرون: «القضاء والقدر»، وقال آخرون: «القرآن وما فيه من الغيوب»، وقال آخرون: «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار».


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها».


والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.


وقوله: يقيمون معناه يظهرونها ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر:



وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ....... حتى تقيم الخيل سوق طعان



ومنه قول الشاعر:


أقمنا لأهل العراقين سوق الطّ ....... طعان فخاموا وولّوا جميعا



وأصل يقيمون يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها. والصّلاة مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، كما قال الشاعر:


عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي ....... يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا



ومنه قول الآخر:


لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ....... وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما



فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم: هي مأخوذة من الصّلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صلوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صلواه.


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والقول إنها من الدعاء أحسن».


وقوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون}، كتبت «مما» متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضا فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت في الخط.


والرزق عند أهل السنة: ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق، {وينفقون}: معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك.


قال ابن عباس: «ينفقون يؤتون الزكاة احتسابا لها».


قال غيره: «الآية في النفقة في الجهاد».


قال الضحاك: «هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يسرهم».


قال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «هي نفقة الرجل على أهله».


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والآية تعمّ الجميع، وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف». ).[المحرر الوجيز: 1/104-107]


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}


{الّذين يؤمنون بالغيب}


قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن العلاء بن المسيّب بن رافعٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه، قال: «الإيمان التّصديق».


وقال عليّ بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عبّاسٍ: «{يؤمنون}يصدّقون».


وقال معمر عن الزّهريّ: «الإيمان العمل».


وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: «{يؤمنون}يخشون».


قال ابن جريرٍ وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولًا واعتقادًا وعملًا قال: وقد تدخل الخشية للّه في معنى الإيمان، الّذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمةٌ جامعةٌ للإقرار باللّه وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.


قلت: أمّا الإيمان في اللّغة فيطلق على التّصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين}[التّوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين} [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونًا مع الأعمال؛ كقوله: {إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات}[الانشقاق: 25، والتّين: 6]، فأمّا إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشّرعيّ المطلوب لا يكون إلّا اعتقادًا وقولًا وعملًا.


هكذا ذهب إليه أكثر الأئمّة، بل قد حكاه الشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ وأبو عبيد وغير واحدٍ إجماعًا: أنّ الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثارٌ كثيرةٌ وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أوّل شرح البخاريّ، وللّه الحمد والمنّة.


ومنهم من فسّره بالخشية، لقوله تعالى: {إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب}[الملك: 12]، وقوله: {من خشي الرّحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيبٍ}[ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}[فاطرٍ: 28].


وأمّا الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السّلف فيه، وكلّها صحيحةٌ ترجع إلى أنّ الجميع مرادٌ.


قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {يؤمنون بالغيب} قال: «يؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنّته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيبٌ كلّه».


وكذا قال قتادة بن دعامة.


وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنّة، وأمر النّار، وما ذكر في القرآن.


وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {بالغيب} قال: «بما جاء منه»، يعني: من اللّه تعالى.


وقال سفيان الثّوريّ، عن عاصم، عن زرّ، قال: «الغيب القرآن».


وقال عطاء بن أبي رباحٍ: «من آمن باللّه فقد آمن بالغيب».


وقال إسماعيل بن أبي خالدٍ: {يؤمنون بالغيب} قال: «بغيب الإسلام».


وقال زيد بن أسلم: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالقدر».


فكلّ هذه متقاربةٌ في معنًى واحدٍ؛ لأنّ جميع هذه المذكورات من الغيب الّذي يجب الإيمان به.


وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد قال: كنّا عند عبد اللّه بن مسعودٍ جلوسًا، فذكرنا أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وما سبقوا به، قال: فقال عبد اللّه: «إنّ أمر محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره ما آمن أحدٌ قطّ إيمانًا أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} إلى قوله:{المفلحون} [البقرة: 1-5]».


وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به.


وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.


وفي معنى هذا الحديث الّذي رواه [الإمام] أحمد، حدّثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعيّ، حدّثني أسيد بن عبد الرّحمن، عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز، قال: قلت لأبي جمعة: حدّثنا حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: نعم، أحدّثك حديثًا جيّدًا: تغدّينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنا أبو عبيدة بن الجرّاح، فقال: يا رسول اللّه، هل أحدٌ خيرٌ منّا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: «نعم، قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني».


طريقٌ أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا إسماعيل عن عبد اللّه بن مسعودٍ، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن صالح بن جبير، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاريّ، صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ببيت المقدس، ليصلّي فيه، ومعنا يومئذٍ رجاء بن حيوة، فلمّا انصرف خرجنا نشيّعه، فلمّا أراد الانصراف قال: إنّ لكم جائزةً وحقًّا؛ أحدّثكم بحديثٍ سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قلنا: هات رحمك اللّه قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنا معاذ بن جبلٍ عاشر عشرةٍ، فقلنا: يا رسول اللّه، هل من قومٍ أعظم أجرًا منّا؟ آمنّا بك واتبعناك، قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول اللّه بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السّماء، بل قومٌ من بعدكم يأتيهم كتابٌ بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرًا مرّتين».


ثمّ رواه من حديث ضمرة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافعٍ، عن صالح بن جبيرٍ، عن أبي جمعة، بنحوه.


وهذا الحديث فيه دلالةٌ على العمل بالوجادة الّتي اختلف فيها أهل الحديث، كما قرّرته في أوّل شرح البخاريّ؛ لأنّه مدحهم على ذلك وذكر أنّهم أعظم أجرًا من هذه الحيثيّة لا مطلقًا.


وكذا الحديث الآخر الّذي رواه الحسن بن عرفة العبديّ: حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ الحمصيّ، عن المغيرة بن قيسٍ التّميميّ، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّ الخلق أعجب إليكم إيمانًا؟ »، قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟ »، قالوا: فالنّبيّون. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ »، قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ »، قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا إنّ أعجب الخلق إليّ إيمانًا لقومٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفًا فيها كتابٌ يؤمنون بما فيها».


قال أبو حاتمٍ الرّازيّ: المغيرة بن قيسٍ البصريّ منكر الحديث.


قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمّد بن أبي حميدٍ، وفيه ضعفٌ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالكٍ مرفوعًا، واللّه أعلم.


وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ المسنديّ، حدّثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاريّ، أخبرني جعفر بن محمودٍ، عن جدّته تويلة بنت أسلم، قالت: «صلّيت الظّهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلّينا سجدتين، ثمّ جاءنا من يخبرنا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل النّساء مكان الرّجال، والرّجال مكان النّساء، فصلّينا السّجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام».


قال إبراهيم: فحدّثني رجالٌ من بني حارثة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بلغه ذلك قال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».


هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.


{ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}


قال ابن عباس: أي: «يقيمون الصّلاة بفروضها».


وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «إقامة الصّلاة إتمام الرّكوع والسّجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها».


وقال قتادة: «إقامة الصّلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها».


وقال مقاتل بن حيّان: «إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطّهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتّشهّد والصّلاة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فهذا إقامتها».


وقال عليّ بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عبّاسٍ: «{وممّا رزقناهم ينفقون} قال: زكاة أموالهم».


وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: هي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزّل الزّكاة.


وقال جويبر، عن الضّحّاك: «كانت النّفقات قرباتٍ يتقرّبون بها إلى اللّه على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتّى نزلت فرائض الصّدقات: سبع آياتٍ في سورة براءةٌ، ممّا يذكر فيهنّ الصّدقات، هنّ النّاسخات المثبتات».


وقال قتادة: «{وممّا رزقناهم ينفقون}فأنفقوا ممّا أعطاكم اللّه، هذه الأموال عواريٌّ وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها».


واختار ابن جريرٍ أنّ الآية عامّةٌ في الزّكاة والنّفقات، فإنّه قال: وأولى التّأويلات وأحقّها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللّازم لهم في أموالهم مؤدّين، زكاةً كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته، من أهلٍ أو عيالٍ وغيرهم، ممّن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأنّ اللّه تعالى عمّ وصفهم ومدحهم بذلك، وكلٌّ من الإنفاق والزّكاة ممدوحٌ به محمودٌ عليه.


قلت: كثيرًا ما يقرن اللّه تعالى بين الصّلاة والإنفاق من الأموال، فإنّ الصّلاة حقّ اللّه وعبادته، وهي مشتملةٌ على توحيده والثّناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتّوكّل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنّفع المتعدّي إليهم، وأولى النّاس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثمّ الأجانب، فكلٌّ من النّفقات الواجبة والزّكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون} ولهذا ثبت في الصّحيحين عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت». والأحاديث في هذا كثيرةٌ.


وأصل الصّلاة في كلام العرب الدّعاء، قال الأعشى:



لها حارسٌ لا يبرح الدهر بيتها ....... وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما



وقال أيضًا:



وقابلها الرّيح في دنّها ....... وصلّى على دنّها وارتسم



أنشدهما ابن جريرٍ مستشهدًا على ذلك.



وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:



تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلًا ....... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا


عليك مثل الّذي صليت فاغتمضي ....... نومًا فإنّ لجنب المرء مضطجعا



يقول: عليك من الدّعاء مثل الّذي دعيته لي. وهذا ظاهرٌ، ثمّ استعملت الصّلاة في الشّرع في ذات الرّكوع والسّجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] المشهورة.


وقال ابن جريرٍ: وأرى أنّ الصّلاة المفروضة سمّيت صلاةً؛ لأنّ المصلّي يتعرّض لاستنجاح طلبته من ثواب اللّه بعمله، مع ما يسأل ربّه من حاجته.


[وقيل: هي مشتقّةٌ من الصلوين إذا تحرّكا في الصّلاة عند الرّكوع، وهما عرقان يمتدّان من الظّهر حتّى يكتنفا عجب الذّنب، ومنه سمّي المصلّي؛ وهو الثّاني للسّابق في حلبة الخيل، وفيه نظرٌ، وقيل: هي مشتقّةٌ من الصّلى، وهو الملازمة للشّيء من قوله: {لا يصلاها} أي: يلزمها ويدوم فيها {إلا الأشقى}[اللّيل: 15]، وقيل: مشتقّةٌ من تصلية الخشبة في النّار لتقوّم، كما أنّ المصلّي يقوّم عوجه بالصّلاة: {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللّه أكبر}[العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدّعاء أصحّ وأشهر، واللّه أعلم].


وأمّا الزّكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله). [تفسير ابن كثير: 1/164-169]



تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}


قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}


وقوله عزّ وجلّ: {بما أنزل إليك} إن شئت خففت الهمزة في "أنزل" وكذلك في قوله "أُلئِك"، وهذه لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز: فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.


قال سيبويه: إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف؛ لأنها بعد مخرجها، ولأنها نبرة في الصدر، وهي أبعد الحروف مخرجاً.


وأمّا "إليك" و"إليهم" و"عليك" و"عليهم"، فالأصل في هذا "إلاك" و"علاك" و"إلاهم" و"علاهم"، كما تقول: "إلى زيد" و"على إخوتك"، إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء؛ ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنة وبين الألف التي في أواخر غير المتمكنة التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن "إلى" و"على" و"لدى" لا تنفرد من الإضافة، ولذلك قالت العرب في "كلا" في حال النصب والجر: "رأيت كليهما" و"كليكما" و"مررت بكليهما" و"كليكما"، ففصلت بين الإضافة إلى المظهر والمضمر، لما كان "كلا" لا ينفرد، ولا يكون "كلامًاإلا بالإضافة). [معاني القرآن: 1/73-74]


قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدىً من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}


اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها.


فقال قوم: «الآيتان جميعا في جميع المؤمنين».


وقال آخرون: «هما في مؤمني أهل الكتاب».


وقال آخرون: «الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت».


قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب والّذين خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف، «أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب «الذين» رفع على الابتداء، وخبره أولئك على هدىً ويحتمل أن يكون عطفا.


وقوله: {بما أنزل إليك} يعني القرآن ،{وما أنزل من قبلك} يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب. «بما أنزل وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول أظهر وألزم.


{وبالآخرة} قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل بالنشأة الآخرة.


و{يوقنون} معناه يعلمون علما متمكنا في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه الله: «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك» تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين). [المحرر الوجيز: 1/107-108]


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}


قال ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}أي: يصدّقون بما جئت به من اللّه، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربّهم،{وبالآخرة هم يوقنون} أي: بالبعث والقيامة، والجنّة، والنّار، والحساب، والميزان.».


وإنّما سمّيت الآخرة لأنّها بعد الدّنيا، وقد اختلف المفسّرون في الموصوفين هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}[البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوالٍ حكاها ابن جريرٍ:


أحدهما: أنّ الموصوفين أوّلًا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كلّ مؤمنٍ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهدٌ، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة.


والثّاني: هما واحدٌ، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفاتٍ، كما قال تعالى: {سبّح اسم ربّك الأعلى * الّذي خلق فسوّى * والّذي قدّر فهدى * والّذي أخرج المرعى * فجعله غثاءً أحوى} [الأعلى: 1-5] وكما قال الشّاعر:



إلى الملك القرم وابن الهمام ....... وليث الكتيبة في المزدحم...



فعطف الصّفات بعضها على بعضٍ، والموصوف واحدٌ.


والثّالث: أنّ الموصوفين أوّلًا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيًا بقوله: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} الآية مؤمنو أهل الكتاب، نقله السّدّيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وأناسٍ من الصّحابة، واختاره ابن جريرٍ، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه} الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنّا به إنّه الحقّ من ربّنا إنّا كنّا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السّيّئة وممّا رزقناهم ينفقون} [القصص: 52-54]، وثبت في الصّحيحين، من حديث الشّعبيّ عن أبي بردة عن أبي موسى: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، ورجلٌ مملوكٌ أدّى حقّ اللّه وحقّ مواليه، ورجلٌ أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثمّ أعتقها وتزوّجها».


وأمّا ابن جريرٍ فما استشهد على صحّة ما قال إلّا بمناسبةٍ، وهي أنّ اللّه وصف في أوّل هذه السّورة المؤمنين والكافرين، فكما أنّه صنّف الكافرين إلى صنفين: منافقٌ وكافرٌ، فكذلك المؤمنون صنّفهم إلى عربيٍّ وكتابيٍّ.


قلت: والظّاهر قول مجاهدٍ فيما رواه الثّوريّ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، ورواه غير واحدٍ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه قال:«أربع آياتٍ من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين»، فهذه الآيات الأربع عامّةٌ في كلّ مؤمنٍ اتّصف بها من عربيٍّ وعجميٍّ، وكتابيٍّ من إنسيٍّ وجنّيٍّ، وليس تصحّ واحدةٌ من هذه الصّفات بدون الأخرى، بل كلّ واحدةٍ مستلزمةٌ للأخرى وشرطٌ معها، فلا يصحّ الإيمان بالغيب وإقام الصّلاة والزّكاة إلّا مع الإيمان بما جاء به الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من قبله من الرّسل والإيقان بالآخرة، كما أنّ هذا لا يصحّ إلّا بذاك، وقد أمر اللّه تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل} الآية [النّساء: 136]. وقال:{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالّتي هي أحسن إلا الّذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ} الآية [العنكبوت:46].وقال تعالى:{يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقًالما معكم}[النّساء: 47] وقال تعالى:{قل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم}[المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلّهم بذلك، فقال تعالى:{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله} الآية [البقرة: 285] وقال:{والّذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرّقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} [النّساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدّالّة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان باللّه ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصيّةٌ، وذلك أنّهم مؤمنون بما بأيديهم مفصّلًا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصّلًا كان لهم على ذلك الأجر مرّتين، وأمّا غيرهم فإنّما يحصل له الإيمان، بما تقدّم مجملًا كما جاء في الصّحيح: «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم، ولكن قولوا: آمنّا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم»، ولكن قد يكون إيمان كثيرٍ من العرب بالإسلام الّذي بعث به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم أتمّ وأكمل وأعمّ وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثيّة، فغيرهم [قد] يحصل له من التّصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللّذين حصّلا لهم، واللّه أعلم.). [تفسير ابن كثير: 1/170-171]



تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}

موضع {أولئك} رفع بالابتداء، والخبر: {على هدى من ربّهم} إلا أن {أولئك} لا يعرب؛ لأنه اسم للإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء السّاكنين.
وكذلك قوله: {وأولئك هم المفلحون} إلا أنّ (هم) دخلت فصلاً، وإن شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول: "زيد هو العالم"، فترفع "زيداًَ" بالابتداء، وترفع "هو" ابتداء ثانياً، وترفع "العالم" خبراً لـ"هو"، و"العالم" خبراً لـ"زيد".
فكذلك قوله: {أولئك هم المفلحون} وإن شئت جعلت (هو) فصلاً ، وترفع "زيداً" و"العالم" على الابتداء وخبره، والفصل: هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
وسيبويه يقول: إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم نحو: "كان زيد هو العالم"، و"ظننت زيدا هو العالم".
وقال سيبويه: دخل الفصل في قوله عزّ وجلّ: {.. تجدوه عند اللّه هو خيراً} وفي قوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} وفي قوله: {ويرى الّذين أوتوا العلم الّذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ} وفي قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} وما أشبه هذا مما ذكر الله عزّ وجلّ.
وكذلك لك في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك: كان زيد هو العالم، ذكر "هو" و"أنت" و"أنا" و"نحن"، دخلت إعلاماً بأن الخبر مضمون وأن الكلام لم يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن "هو" بمنزلة "ما" اللغو في قوله عزّ وجلّ: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} فإنما دخولها مؤكدة.
وقوله عزّ وجلّ: {المفلحون} يقال: لكل من أصاب خيراً مفلح، وقال عزّ وجل: {قد أفلح المؤمنون}، وقال: {قد أفلح من زكاها}، والفلاح: البقاء.
قال لبيد بن ربيعة:

نحل بلادا كلها حل قبلنا......ونرجو الفلاح بعد عاد وتبّعا

أي : نرجو البقاء.
وقال عبيد:

أفلح بما شئت فقد يدرك......بالضعف وقد يخدع الأريب

أي: أصب خيراً بما شئت.
والفلاح: الأكار، والفلاحة صناعته، وإنما قيل له: الفلاح؛ لأنه يشق الأرض، ويقال: فلحت الحديد: إذا قطعته.
قال الشاعر:

قد علمت خيلك أني الصّحصح......إن الحديد بالحديد يفلح

ويقال للمكاري: الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيها بالأكار.
قال الشاعر:

لها رطل تكيل الزيت فيه.......وفلاح يسوق لها حماراً ). [معاني القرآن: 1/75-76]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى المذكورين، و «أولاء» جمع «ذا»، وهو مبني على الكسر لأنه ضعف لإبهامه عن قوة الأسماء، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب، و «الهدى» هنا الإرشاد.


{وأولئك} الثاني ابتداء، والمفلحون خبره، وهم فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون هم ابتداء، والمفلحون خبره، والجملة خبر أولئك، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد:



اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ....... ولقد أفلح من كان عقل



وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله:



... ... ... ... ....... ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير



وقول الأضبط:



لكلّ همّ من الهموم سعه ....... والصّبح والمسى لا فلاح معه



والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين). [المحرر الوجيز: 1/108-109]


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}


يقول اللّه تعالى: {أولئك} أي: المتّصفون بما تقدّم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصّلاة، والإنفاق من الّذي رزقهم اللّه، والإيمان بما أنزل اللّه إلى الرّسول ومن قبله من الرّسل، والإيقان بالدّار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصّالحات وترك المحرّمات.


{على هدًى} أي: نورٍ وبيانٍ وبصيرةٍ من اللّه تعالى. {وأولئك هم المفلحون} أي: في الدّنيا والآخرة.


وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم}أي: على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم،{وأولئك هم المفلحون}أي: الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شرّ ما منه هربوا».


وقال ابن جريرٍ: وأمّا معنى قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فإنّ معنى ذلك: أنّهم على نورٍ من ربّهم، وبرهانٍ واستقامةٍ وسدادٍ، بتسديد اللّه إيّاهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: {وأولئك هم المفلحون} أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند اللّه بأعمالهم وإيمانهم باللّه وكتبه ورسله، من الفوز بالثّواب، والخلود في الجنّات، والنّجاة ممّا أعدّ اللّه لأعدائه من العقاب.


وقد حكى ابن جريرٍ قولًا عن بعضهم أنّه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} الآية، على ما تقدّم من الخلاف. [قال] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} منقطعًا ممّا قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره {[أولئك على هدًى من ربّهم و] أولئك هم المفلحون}، واختار أنّه عائدٌ إلى جميع من تقدّم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا الّذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثمّ جمع الفريقين فقال: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} وقد تقدّم من التّرجيح أنّ ذلك صفةٌ للمؤمنين عامّةً، والإشارة عائدةٌ عليهم، واللّه أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهدٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، رحمهم اللّه.


وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل له: يا رسول اللّه، إنّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: «أفلا أخبركم عن أهل الجنّة وأهل النّار؟ »، قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: «{ألم * ذلكالكتاب لا ريب فيه}إلى قوله تعالى:{المفلحون}هؤلاء أهل الجنّة"»، قالوا: إنّا نرجو أن نكون هؤلاء. ثمّ قال: «{إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم}إلى قوله:{عظيمٌ}هؤلاء أهل النّار»، قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: «أجل»). [تفسير ابن كثير: 1/171-172]


* للاستزادة ينظر: هنا