تفسير
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(20) }
تفسير قوله تعالى:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ (17)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه
- جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما
أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها
المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب
الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل
للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك
قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/ 93]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم
كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في
ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«المثل والمثل
والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان،
وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء
مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل}
معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس
الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليس كمثله شيءٌ}[الشورى: 11]؛
لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله
فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى}[النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ....... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر
محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت
الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند
جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز
الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم
يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله
كفعل المستوقد، والّذي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل:
وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واستوقد قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة
هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء
استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي]:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ....... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر:
ومستخلفات من بلاد تنوفة ....... لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
ومنه قول الآخر:
... ... ... ... ....... سقاها فروّاها من الماء مخلف
ومنه أوقد واستوقد
قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من
باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى
له. واختلف في أضاءت فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس
بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت ال ....... أرض وضاءت بنورك الطرق
وعلى هذا، ف (ما) في
قوله: ما حوله مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف
(ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل
(الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة: هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره:
«إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح
ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك
بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة:
إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة
بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله
بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة: نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة:
جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح
شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما»
مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو
عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ}[الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في
ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في
ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل
إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما
فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم
كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في
ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون}[العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل:
أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد
التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها
وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره،
وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا
ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل
ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى،
واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ
كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي
قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا
في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم
ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من
حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}[البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا
إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ
قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه،
هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}[المنافقون:3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ}[لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلواالتّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا}[الجمعة: 5]،
وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال
بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين
كما قال الشّاعر:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم} أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ} وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون} لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ} لا يسمعون خيرًا {بكمٌ} لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ} في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور}[الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في
تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن
مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}
زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد
نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا
هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان
في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا
هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا
قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين
استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار
فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: «
أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي
ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع
منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «
هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم
المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ،
كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}«فإنّما
ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم
بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم}«أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«فهي
لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا،
ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في
ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ
المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح
بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند
الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في
عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} «
أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم
ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا
يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ} فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]
تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم:
أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه
"فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ"
و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان").[معاني القرآن: 1/94]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والأصم
الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل
الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة
كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير
تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن
مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه
على الحال من الضمير في مهتدين، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من
جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله
على الحال من الضمير في تركهم.
قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فهم لا يرجعون} إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره:
معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح،
لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه). [المحرر الوجيز: 1/ 136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({صمٌّ بكمٌ عميٌ} قال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} فهم خرسٌ عميٌ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه» ، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{فهم لا يرجعون} قال ابن عبّاسٍ: «أي لا يرجعون إلى هدًى» ، وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} إلى الإسلام.
وقال قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا هم يذكرون». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 189]
تفسير قوله تعالى:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيط بالكافرين (19)}
الصيّب في اللغة: المطر، وكل نازل من علو إلى أسفل، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابة صـواعـقـهـا لـطـيـرهــن دبــيـــب
وهذا أيضاً مثل يضربه
اللّه عزّ وجلّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل "دين الإسلام"
لهم مثلاًَ فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل "ما يستضيئون به من
البرق" مثلاً لما يستضيئون به من الإسلام، و"ما ينالهم من الخوف في البرق"
بمنزلة ما يخافونه من القتل، الدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {يحسبون كل صيحة عليهم}).[معاني القرآن: 1/ 94]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أو
كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من
الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم
كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم
وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20)}
{أو} للتخيير، معناه
مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، وقوله: أو كصيّبٍ
معطوف على كمثل الّذي. وقال الطبري: أو بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه عجمة، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة:
كأنهم: صابت عليهم سحابة ....... صواعقها لطيرهنّ دبيب
وقول الآخر:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك ....... تنّزل من جوّ السماء يصوب
وأصل صيّب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعل في سيّد وميّت.
وقال بعض الكوفيين: أصل صيّب صويب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل، فبهذا يضعف هذا القول.
وقوله تعالى: {ظلماتٌ}
بالجمع، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت،
وكون الدجن مظلما هول وغم للنفس، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه، فإنه
سارّ جميل، ومنه قول قيس بن الخطيم:
فما روضة من رياض القطا ...... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا مزنة ...... دلوح تكشّف أدجانها
واختلف العلماء في
الرعد: فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا
الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من
فيه، فهي الصّواعق، واسم هذا الملك الرعد، وقيل الرعد ملك، وهذا الصوت
تسبيحه، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
وهذا هو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:
فجعني الرعد والصواعق بال ...... فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت».
وقيل: «الرعد اصطكاك أجرام السحاب». وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق: فقال علي بن أبي طالب: «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب».
وقال ابن عباس: «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق ملك يتراءى، وقال قوم: «البرق ماء»، وهذا قول ضعيف.
والصاعقة: قال
الخليل: «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحيانا نار، يقال إنها
من المخراق الذي بيد الملك، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك
عند غضبه».
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين.
وقال النقاش: «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف. قال أبو عمرو: «وهي لغة تميم».
وقرأ الضحاك بن مزاحم
«حذار الموت» بكسر الحاء وبألف. واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل
وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد
والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين:
«مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم. والعمى: هو
الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج
الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل
أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي
يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله صحيح بين.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «إن
رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين
فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا
فنأتي محمدا ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله
ما نزل بهما مثلا للمنافقين».
وقال أيضا ابن مسعود: «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه.
وقال قوم: «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده».
و{محيطٌ بالكافرين} معناه: بعقابه وأخذه، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: {وأحيطبثمره}[الكهف: 42] ففي الكلام حذف مضاف). [المحرر الوجيز: 1/ 136-140]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أو
كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من
الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم
كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم
وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20) }
وهذا مثلٌ آخر ضربه
اللّه تعالى لضربٍ آخر من المنافقين، وهم قومٌ يظهر لهم الحقّ تارةً،
ويشكّون تارةً أخرى، فقلوبهم في حال شكّهم وكفرهم وتردّدهم {كصيّبٍ}
والصّيّب: المطر، قاله ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وناسٌ من الصّحابة، وأبو
العالية، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصريّ، وقتادة، وعطيّة
العوفي، وعطاءٌ الخراسانيّ، والسّدي، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال الضّحّاك: هو السّحاب.
والأشهر هو المطر نزل من السّماء في حال ظلماتٍ، وهي الشّكوك والكفر والنّفاق. {ورعدٌ} وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإنّ من شأن المنافقين الخوف الشّديد والفزع، كما قال تعالى: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم [هم العدوّ]}[المنافقون: 4] وقال: {ويحلفون باللّه إنّهم لمنكموما هم منكم ولكنّهم قومٌ يفرقون * لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون} [التّوبة: 56 -57].
والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضّرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم منالصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين} أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأنّ اللّه محيطٌ [بهم] بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الّذين كفروا في تكذيبٍ * واللّه من ورائهم محيطٌ} [البروج: 17-20] .
[والصّواعق: جمع
صاعقةٍ، وهي نارٌ تنزل من السّماء وقت الرّعد الشّديد، وحكى الخليل بن أحمد
عن بعضهم صاعقةً، وحكى بعضهم صاعقةً وصعقةً وصاقعةً، ونقل عن الحسن
البصريّ أنّه: قرأ "من الصّواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لأبي
النّجم:
يحكوك بالمثقولة القواطع ....... شفق البرق عن الصّواقع
قال النّحّاس: وهي لغة بني تميمٍ وبعض بني ربيعة، حكى ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 189 -190]
تفسير قوله تعالى:
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (20)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يكاد
البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو
شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيء قدير (20)}
{يخطف أبصارهم}
فيه لغتان: يقال: خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِفُ، واللغة العالية التي
عليها القراءة: خَطِفَ يخطَفُ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى عن
الحسن: (يَخَطِّف أبصارهم) بفتح الياء والخاء وكسر الطاء، ويروى أيضاً
(يِخِطِّف) بكسر الياء والخاء والطاء، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في
اللفظ؛ لصعوبتها، وهي إسكان الخاء والطاء، وقد روى سيبويه مثل هذا، رده
عليه أصحابه، وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ، وأن الشعر لا يجمع في حشوه بين
ساكنين، قال:
.......... ومسحه مرّ عقاب كاسر
يبدل من الهاء حاء،
ويدغم الحاء الأولى في الثانية، والسين ساكنة؛ فيجمع بين ساكنين، فأما بعد
(يَخْطَف) فالجيّد: "يَخَطِّف" و"يخطِّف"، فمن قال "يَخَطِّف" فالأصل
(يختطف) فأدغمت التاء في الطاء وألقيت على الحاء فتحة التاء، ومن قال:
(يخِطِّف) كسر الخاء؛ لسكونها وسكون الطاء، وزعم بعض النحويين أنّ الكسر
لالتقاء الساكنين ههنا خطأ؛ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في يَعَضُّ:
"يَعِضُّ" وفي يَمُدُّ: "يَمِدُّ". وهذا خلط غير لازم، لأنه لو كسرها ههنا؛
لالتبس ما أصله "يفعَل" و"يفعُل" بما أصله "يَفْعِل"، ويخطف ليس أصله غير
هذا، ولا يكون مرة على (يفتَعِل) ومرة على (يفتَعَلُ) فكسر لالتقاء
السّاكنين في موضع غير ملبس، وامتنع في الملبس من الكسر لالتقاء السّاكنين،
وألزم حركة الحرف الذي أدغمه؛ لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في
اللغة واختطفته: أخذته بسرعة.
وقوله عزّ وجلّ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقال: "ضاء الشيء يضوء"، و"أضاء يضيء"، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال: "أظلم" و"ظلم"، و"أظلم" المختار.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال: "أذهبته" و"ذهبت به". ويروى أذهبت به، وهو لغة قليلة.
فأما ذكر "أو" في قوله: {مثلهم كمثل الّذي} إلى {أو كصيب}،
فـ"أو" دخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "واو الإباحة"
فتقول: جالس القراء أو الفقهاء أو أصحاب الحديث أو أصحاب النحو، فالمعنى:
أن التمثيل مباح لكم في المنافقين؛ إن مثلتموهم بالذي استوقد ناراً فذاك
مثلهم، وإن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعاً
فهما مثلاهم -كما أنك إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فكلاهما أهل أن
يجالس- إن جالست الحسن فأنت مطيع، وإن جمعتهما فأنت مطيع.
وقوله عزّ وجلّ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} ويروى أيضاً: (حذار الموت)، والذي عليه قرّاؤنا: {حذر الموت}، وإنما نصت: {حذر الموت}؛
لأنه مفعول له، والمعنى: يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام،
وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه قال: "يحذرون حذراً"؛ لأن جعلهم
أصابعهم في آذانهم من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وقال الشاعر:
وأغـفـر عــوراء الكـريـم ادّخــاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
والمعنى: لادخاره، وقوله: "وأغفر عوراء الكريم" معناه: وأدخر الكريم).[معاني القرآن: 1/ 95-96]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة.
واختلفت القراءة في
هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس: «يخطف أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون
الخاء، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب، وهي
القرشية.
وقرأ علي بن الحسين
ويحيى بن وثاب: «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض
العرب في الماضي «خطف» بفتح الطاء، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن
وأبي رجاء، وذلك وهم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء
وعاصم الجحدري وقتادة: «يخطّف» بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد
الطاء، وهذه أصلها «يختطف» أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء
الساكنين.
وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يخطّف» بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة.
قال أبو الفتح: «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء».
وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضا، أنه قرأ «يخطّف» بفتح الياء والخاء والطاء وشدها.
وروي أيضا عن الحسن
والأعمش «يخطّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء منها. وهذه أيضا أصلها يختطف أدغم
وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء اتباعا.
وقال عبد الوارث: «رأيتها في مصحف أبي بن كعب «يتخطّف» بالتاء بين الياء والخاء».
وقال الفراء: «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة».
قال أبو الفتح: «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام، وذلك لا يجوز».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأنه جمع بين ساكنين دون عذر.
وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية.
ومعنى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البرق في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم.
وكلّما ظرف، والعامل
فيه مشوا وهو أيضا جواب كلّما، وأضاء صلة ما، ومن جعل أضاء يتعدى قدر له
مفعولا، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أضا لهم» بغير همز، وهي لغة.
وفي مصحف أبي بن كعب: «مروا فيه».
وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه».
وقرأ الضحاك: «وإذا أظلم» بضم الهمزة وكسر اللام، وقاموا معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي:
«وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره»
يريد أثبت الدهر.
ومعنى الآية فيما روي
عن ابن عباس وغيره: كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا
ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي
ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود أن
معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم
قالوا دين محمد دين مبارك. وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه
وثبتوا في نفاقهم.
وقال قوم: معنى
الآية: كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه، فإذا
افتضحوا عندكم قاموا، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي
عبلة: «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم
ذكرها في الآية. ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع
بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين
عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم.
وقوله تعالى: {على كلّ شيءٍ} لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه و{قديرٌ}
بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد
تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك). [المحرر الوجيز: 1/ 140-142]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي: لشدّته وقوّته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين».
وقال ابن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدّة ضوء الحقّ، {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي كلّما ظهر لهم من الإيمان شيءٌ استأنسوا به واتّبعوه، وتارةً تعرض لهم الشّكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقين من عزّ الإسلام اطمأنّوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله:{ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به [وإن أصابته فتنةٌ]} الآية [الحجّ: 11]».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي: يعرفون الحقّ ويتكلّمون به، فهم من قولهم به على استقامةٍ فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي: متحيّرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصريّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ بسنده، عن الصّحابة وهو أصحّ وأظهر. واللّه أعلم.
وهكذا يكونون يوم
القيامة عندما يعطى النّاس النّور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النّور
ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقلّ من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره
تارةً ويضيء له أخرى، فيمشي على الصّراط تارةً ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ
نوره بالكلّيّة وهم الخلّص من المنافقين، الّذين قال تعالى فيهم: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا}[الحديد: 13] وقال في حقّ المؤمنين: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنّاتٌ} الآية [الحديد: 12]، وقال تعالى: {يوم
لا يخزي اللّه النّبيّ والّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم
يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ} [التّحريم: 8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} الآية [الحديد: 12]، ذكر لنا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء ودون ذلك، حتّى إنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه». رواه ابن جريرٍ.
ورواه ابن أبي حاتمٍ من حديث عمران بن داور القطّان، عن قتادة، بنحوه.
وهذا كما قال المنهال بن عمرٍو، عن قيس بن السّكن، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، قال: «يؤتون
نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنّخلة، ومنهم من يرى نوره
كالرّجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويقد مرة».
وهكذا رواه ابن جريرٍ، عن ابن مثنّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي حدّثنا ابن إدريس، سمعت أبي
يذكر عن المنهال بن عمرٍو، عن قيس بن السّكن، عن عبد اللّه بن مسعودٍ: {نورهم يسعى بين أيديهم}[التّحريم: 8] قال: «على
قدر أعمالهم يمرّون على الصّراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره
مثل النّخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتّقد مرّةً ويطفأ أخرى».
وقال ابن أبي حاتمٍ
أيضًا: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، حدّثنا أبو يحيى الحمّاني،
حدّثنا عتبة بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ليس
أحدٌ من أهل التّوحيد إلّا يعطى نورًا يوم القيامة، فأمّا المنافق فيطفأ
نوره، فالمؤمن مشفقٌ ممّا يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ربّنا
أتمم لنا نورنا».
وقال الضّحّاك بن
مزاحمٍ: يعطى كلّ من كان يظهر الإيمان في الدّنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا
انتهى إلى الصّراط طفئ نور المنافقين، فلمّا رأى ذلك المؤمنون أشفقوا،
فقالوا: " ربّنا أتمم لنا نورنا ".
فإذا تقرّر هذا صار
النّاس أقسامًا: مؤمنون خلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أوّل
البقرة، وكفّارٌ خلّصٌ، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم
قسمان: خلّصٌ، وهم المضروب لهم المثل النّاريّ، ومنافقون يتردّدون، تارةً
يظهر لهم لمعٌ من الإيمان وتارةً يخبو وهم أصحاب المثل المائيّ، وهم أخفّ
حالًا من الّذين قبلهم.
وهذا المقام يشبه من
بعض الوجوه ما ذكر في سورة النّور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل اللّه في
قلبه من الهدى والنّور، بالمصباح في الزّجاجة الّتي كأنّها كوكبٌ درّي، وهي
قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشّريعة الخالصة الصّافية
الواصلة إليه من غير كدرٍ ولا تخليطٍ، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء
اللّه.
ثمّ ضرب مثل العبّاد من الكفّار، الّذين يعتقدون أنّهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ، وهم أصحاب الجهل المركّب، في قوله: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظّمآن ماءً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئًا} الآية [النّور: 39].
ثمّ ضرب مثل الكفّار الجهّال الجهل البسيط، وهم الّذين قال [اللّه] فيهم: {أو
كظلماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ
بعضها فوق بعضٍ إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نورًا فما
له من نورٍ} [النّور: 40] فقسّم الكفّار هاهنا إلى قسمين: داعيةٌ ومقلّدٌ، كما ذكرهما في أوّل سورة الحجّ: {ومن النّاس من يجادل في اللّه بغير علمٍ ويتّبع كلّ شيطانٍ مريدٍ} [الحج: 3]
وقال بعده: {ومن النّاس من يجادل في اللّه بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ} [الحجّ: 8] وقد قسّم اللّه المؤمنين في أوّل الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين: سابقون وهم المقرّبون، وأصحاب يمينٍ وهم الأبرار.
فتلخّص من مجموع هذه الآيات الكريمات: أنّ المؤمنين صنفان: مقرّبون وأبرارٌ، وأنّ الكافرين صنفان: دعاةٌ ومقلّدون، وأنّ المنافقين -أيضًا-صنفان: منافقٌ خالصٌ، ومنافقٌ فيه شعبةٌ من نفاقٍ، كما جاء في الصّحيحين، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:«ثلاثٌ
من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدةٌ منهنّ كانت فيه خصلةٌ
من النّفاق حتّى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
استدلّوا به على أنّ
الإنسان قد تكون فيه شعبةٌ من إيمانٍ، وشعبةٌ من نفاقٍ. إمّا عملي لهذا
الحديث، أو اعتقاديٌّ، كما دلّت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفةٌ من السّلف
وبعض العلماء، كما تقدّم، وكما سيأتي، إن شاء اللّه. قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليثٍ، عن عمرو بن
مرّة، عن أبي البختريّ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: «القلوب
أربعةٌ: قلبٌ أجرد، فيه مثل السّراج يزهر، وقلبٌ أغلف مربوطٌ على غلافه،
وقلبٌ منكوسٌ، وقلبٌ مصفّح، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه
نوره، وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق
الخالص، عرف ثمّ أنكر، وأمّا القلب المصفّح فقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاقٌ، ومثل
الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدّها الماء الطّيّب، ومثل النّفاق فيه كمثل
القرحة يمدّها القيح والدّم، فأيّ المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه». وهذا إسنادٌ جيّدٌ حسنٌ.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} قال: «لما تركوا من الحقّ بعد معرفته».
{إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال ابن عبّاسٍ: « أي إنّ اللّه على كلّ ما أراد بعباده من نقمةٍ، أو عفوٍ، قديرٌ.».
وقال ابن جريرٍ:
إنّما وصف اللّه تعالى نفسه بالقدرة على كلّ شيءٍ في هذا الموضع؛ لأنّه
حذّر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنّه بهم محيطٌ، و [أنّه] على إذهاب
أسماعهم وأبصارهم قديرٌ، ومعنى {قديرٌ} قادرٌ، كما أنّ معنى {عليمٌ} عالم.
[وذهب ابن جريرٍ
الطّبريّ ومن تبعه من كثيرٍ من المفسّرين أنّ هذين المثلين مضروبان لصنفٍ
واحدٍ من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى: {أو كصيّبٍ من السّماء} بمعنى الواو، كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا}[الإنسان: 24]،
أو تكون للتخبير، أي: اضرب لهم مثلًا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبيّ.
أو للتّساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجّهه الزّمخشريّ: أنّ
كلًّا منهما مساوٍ للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله:
سواءٌ ضربت لهم مثلًا بهذا أو بهذا فهو مطابقٌ لحالهم.
قلت: وهذا يكون
باعتبار جنس المنافقين، فإنّهم أصنافٌ ولهم أحوالٌ وصفاتٌ كما ذكرها اللّه
تعالى في سورة براءةٌ -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم وما
يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشدّ مطابقةً
لأحوالهم وصفاتهم، واللّه أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النّور لصنفي
الكفّار الدّعاة والمقلّدين في قوله تعالى: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ} إلى أن قال: {أو كظلماتٍفي بحرٍ لجّيٍّ يغشاه موجٌ} الآية [النّور: 39 - 40]، فالأوّل للدّعاة الّذين هم في جهلٍ مركّبٍ، والثّاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 190 -194]
* للاستزادة ينظر: هنا