تفسير
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ
وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ
النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون (11)}
معناه: لا تصدوا عن دين اللّه، فيحتمل {إنّما نحن مصلحون} ضربين من الجواب:
أحدهما: أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني: أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عندنا إصلاح.
فأما إعراب {قيل}:
فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماضٍ مبني على الفتح، والأصل في قيل:
"قول" ولكن الكسرة نقلت إلى القاف؛ لأن العين من الفعل في قولك: "قال" نقلت
من حركة إلى سكون، فيجب أن تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبعضهم يروم الضمة في "قيل"، وقد يجوز في غير القرآن: "قد قول ذاك "، وأفصح اللغات "قيل" و"غيض".
{وسيق الّذين اتقوا ربّهم}: إن شئت قلت: "قيل"، و"غيض"، و"سيق" تروم في سائر أوائل ما لم يسم فاعله الضم في هذا الباب). [معاني القرآن: 1/ 87]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ( {ولا تفسدوا في الأرض}:
معناه بالكفر وموالاة الكفرة، ونحن اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم،
إذ كان اسما قويا يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة، فأعطي أسنى
الحركات.
وأيضا فلما كان في الأغلب ضمير جماعة، وضمير الجماعة في الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو، ولقول المنافقين: {إنّمانحن مصلحون}ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم مصلحون بين الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون الكفار.
وألا استفتاح كلام، و
«إن» بكسر الألف استئناف، وهم الثاني رفع بالابتداء، والمفسدون خبره
والجملة خبر «إن»، ويحتمل أن يكون فصلا ويسميه الكوفيون: «العماد» ويكون
المفسدون خبر «إن»، فعلى هذا لا موضع ل هم من الإعراب، ويحتمل أن يكون
تأكيدا للضمير في أنهم فموضعه نصب، ودخلت الألف واللام في قوله: المفسدون
لما تقدم ذكر اللفظة في قوله: لا تفسدوا فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبر
عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون. قاله الجرجاني.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما تقول زيد هو الرجل أي حق
الرجل، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي عهدا، ولكن بجملته حرف استدراك، ويحتمل
أن يراد هنا لا يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله
يفضحهم، وهذا مع أن يكون قولهم إنّما نحن مصلحون جحدا محضا للإفساد.
والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم: إنّما نحن مصلحون اعتقادا منهم أنه
صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين المؤمنين والكافرين). [المحرر الوجيز: 1/ 121-122]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون (11) ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) }
قال السّدّيّ في
تفسيره: عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الطّيّب
الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون} أمّا لا تفسدوا في الأرض، قال: «الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية».
وقال أبو جعفرٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} قال: «يعني:
لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية اللّه؛ لأنّه من عصى اللّه في
الأرض أو أمر بمعصية اللّه، فقد أفسد في الأرض؛ لأنّ صلاح الأرض والسّماء
بالطّاعة».
وهكذا قال الرّبيع بن أنسٍ، وقتادة.
وقال ابن جريج، عن مجاهدٍ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} قال: «إذا ركبوا معصية اللّه، فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنّما نحن على الهدى، مصلحون».
وقد قال وكيع، وعيسى بن يونس، وعثّام بن عليٍّ، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن عبّاد بن عبد اللّه الأسديّ، عن سلمان الفارسيّ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون} قال سلمان: «لم يجئ أهل هذه الآية بعد».
وقال ابن جريرٍ:
حدّثني أحمد بن عثمان بن حكيم، حدّثنا عبد الرّحمن بن شريك، حدّثني أبي، عن
الأعمش، عن زيد بن وهبٍ وغيره، عن سلمان، في هذه الآية، قال: «ما جاء هؤلاء بعد».
قال ابن جريرٍ: يحتمل
أنّ سلمان أراد بهذا أنّ الّذين يأتون بهذه الصّفة أعظم فسادًا من الّذين
كانوا في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، لا أنّه عنى أنّه لم يمض
ممّن تلك صفته أحدٌ.
قال ابن جريرٍ: فأهل
النّفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن
ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الّذي لا يقبل من أحدٍ عملٌ إلّا
بالتّصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه
مقيمون من الشّكّ والرّيب، ومظاهرتهم أهل التّكذيب باللّه وكتبه ورسله على
أولياء اللّه، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض،
وهم يحسبون أنّهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها.
وهذا الّذي قاله حسنٌ، فإنّ من الفساد في الأرض اتّخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: {والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ}[الأنفال: 73] فقطع اللّه الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطانًا مبينًا}[النّساء: 144] ثمّ قال: {إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار ولن تجد لهم نصيرًا} [النّساء: 145]
فالمنافق لمّا كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأنّ الفساد
من جهة المنافق حاصلٌ؛ لأنّه هو الّذي غرّ المؤمنين بقوله الّذي لا حقيقة
له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنّه استمرّ على حالته الأولى لكان
شرّه أخفّ، ولو أخلص العمل للّه وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال
تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون}
أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء
وهؤلاء، كما قال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد
بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون} أي: «إنّما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب».). [تفسير ابن كثير: 1/ 180-181]
تفسير قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يقول اللّه: {ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} يقول: ألا إنّ هذا الّذي يعتمدونه ويزعمون أنّه إصلاحٌ هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا). [تفسير ابن كثير: 1/ 181]
تفسير قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ (13)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون (13)}
أصل السفه في اللغة: خفة الحلم، وكذلك يقال : ثوب سفيه إذا كان رقيقاً باليا.
وقوله عزّ وجلّ: {ألا إنّهم هم السّفهاء} معنى (ألا) استفتاح وتنبيه، وقوله: {هم السفهاء}
يجوز أن يكون خبر "إنّ" و "هم" فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون: العماد.
ويجوز أن يكون "هم" ابتداء، و"السفهاء" خبر الابتداء، و"هم السفهاء" خبر
إن). [معاني القرآن: 1/ 88]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا
قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم
السّفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا
خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن (14)}
المعنى صدقوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم وشرعه، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب،
قالوا: أنكون كالذين خفت عقولهم؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة
يقال «ثوب سفيه» إذا كان رقيقا مهلهل النسج، ومنه قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ....... أعاليها مرّ الرياح النواسم
وهذا القول إنما
كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة
الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون
أنهم السفهاء للرّين الذي على قلوبهم.
وقال قوم: «الآية نزلت في منافقي اليهود، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تخصيص لا دليل عليه.
ولقوا أصله لقيوا
استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع الساكنان فحذفت الياء. وقرأ ابن
السميفع «لاقوا الذين». وهذه كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين
وإظهار الكفر في خلواتهم بعضهم مع بعض، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك
لموضع القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق تقررا
يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان يحقن دماءهم، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن
يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه فينفر الناس حسبما قال عليه السلام لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول: «لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» القصة: «دعني يا رسول الله
أضرب عنق هذا المنافق» فقال: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».
فهذه طريقة أصحاب
مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين مع
علمه بكفرهم في الجملة. نص على هذا محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري
وابن الماجشون واحتج بقوله تعالى: {لئن
لم ينته المنافقون والّذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنغرينّك
بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلّا قليلًا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا
تقتيلًا} [الأحزاب: 60- 61]. قال قتادة: «معناه إذا هم أعلنوا النفاق».
قال مالك رحمه الله: «النفاق
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل
الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه، وإنما
كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا
يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين».
قال القاضي إسماعيل: «لم
يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد
إلا عمير بن سعد ربيبه وحده، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه
لقتل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أقوى من انفراد زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر.
قال الشافعي رحمه الله: «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه». وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه:
«وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا
يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله
فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب
والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين».
قال الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}[المنافقون: 1].
قال الشافعي وأبو
حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث: فالمعنى الموجب لكف رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن قتل المنافقين مع العلم بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا
أظهروا الإيمان وصلوا فكذلك هو الزنديق.
واحتج ابن حنبل بحديث
عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالنفاق فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟»، قالوا: بلى ولا شهادة له، قال: «أليس يصلي؟»، قالوا: بلى ولا صلاة له، قال: «أولئك الذين نهاني الله عنهم».
وذكر أيضا أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم: «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين».
قال أبو جعفر الطبري
في كتاب اللطيف في باب المرتد: «إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده
على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم
بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل
سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى: {واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}[المنافقون: 1].
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم
وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول
لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا). [المحرر الوجيز: 1/ 122-126]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء ولكن لا يعلمون (13) }
يقول [اللّه] تعالى: وإذا قيل للمنافقين: {آمنوا كما آمن النّاس}
أي: كإيمان النّاس باللّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنّة
والنّار وغير ذلك، ممّا أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا اللّه ورسوله في
امتثال الأوامر وترك الزّواجر {قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء}
يعنون -لعنهم اللّه-أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، رضي اللّه
عنهم، قاله أبو العالية والسّدّيّ في تفسيره، بسنده عن ابن عبّاسٍ وابن
مسعودٍ وغير واحدٍ من الصّحابة، وبه يقول الرّبيع بن أنسٍ، وعبد الرّحمن بن
زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلةٍ واحدةٍ وعلى طريقةٍ
واحدةٍ وهم سفهاء!!
والسّفهاء: جمع
سفيهٍ، كما أنّ الحكماء جمع حكيمٍ [والحلماء جمع حليمٍ] والسّفيه: هو
الجاهل الضّعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضارّ؛ ولهذا سمّى
اللّه النّساء والصّبيان سفهاء، في قوله تعالى: {ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قيامًا}[النّساء: 5] قال عامّة علماء السّلف: هم النّساء والصّبيان.
وقد تولّى اللّه، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلّها، فقال: {ألا إنّهم هم السّفهاء} فأكّد وحصر السّفاهة فيهم.
{ولكن لا يعلمون} يعني: ومن تمام جهلهم أنّهم لا يعلمون بحالهم في الضّلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى). [تفسير ابن كثير: 1/ 181-182]
تفسير قوله تعالى:
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون (14)} أنبأ الله المؤمنين بما يسره المنافقون من الكفر، ومعنى "شياطينهم" في اللغة: مردتهم، وعتاتهم في الكفر.
ويقال: "خلوت إليه" و"معه"، ويقال: "خلوت به"، وهو على ضربين:
أحدهما: جعلت خلوتي معه، كما قال: "خلوت إليه"، أي: جعلت خلوتي معه، وكذلك يقال: خلوت إليه.
ويصلح أن يكون: "خلوت به": سخرت منه.
ونصب {معكم}
كنصب الظروف، تقول: "إنا معكم" و"إنا خلفكم" معناه: إنا مستقرون معكم،
ومستقرون خلفكم، والقراءة المجمع عليها فتح العين، وقد يجوز في الاضطرار
إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها. ويجوز "إنّا معكم" للشاعر إذا اضطر،
قال الشاعر:
قريشي منكمو وهواي معكم وإن كــانــت زيـارتـكــم لـمـامــا
وفي قوله عزّ وجلّ: {خلوا إلى}وجهان:
إن شئت أسكنت الواو وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوا إلى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: (خلو لي) وكذلك يقرأ أهل الحجاز، وهو جيد بالغ.
و"إنا" الأصل فيه "إننا"، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّني معكما}، ولكن النون حذفت؛ لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إن؛ لأن في "إن" نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
وقوله عزّ وجلّ: {إنما نحن مستهزئون}:
"نحن" مبنية على الضم؛ لأن "نحن" يدل على الجماعة، وجماعة المضمرين يدل
عليهم إذا ثنيت الواحد من لفظه الميم والواو، نحو: "فعلوا" و"أنتم"، فالواو
من جنس الضمة، فلم يكن بد من حركة "نحن" فحركت بالضم؛ لأن الضم من الواو؛
ألا ترى أن واو الجماعة إذا حركت؛ لالتقاء السّاكنين ضمت، نحو: {اشتروُا الضلالة}،
وقد حركها بعضهم إلى الكسر، فقال: (اشتروِا الضلالة)؛ لأن اجتماع
السّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: {اشتروُا الضلالة} بالضم، وقد رويت: (اشتروَا الضلالة) بالفتح، وهو شاذ جدّاً.
و{مستهزئون}: القراءة الجيدة فيه: تحقيق الهمزة، فإذا خففت الهمزة جعلت الهمزة بين الواو والهمزة، فقلت: (مستهزؤون). فهذا الاختيار بعد التحقيق.
ويجوز أن تبدل من
الهمزة ياء، فتقول: (مستهزيون)، فأما (مستهزون) فضعيف لا وجه له إلا
شاذّاً، على لغة من أبدل الهمزة ياء، فقال في استهزأت: (استهزيت)، فيجب على
لغة (استهزيت) أن يقال: (مستهزون) ). [معاني القرآن: 1/89-90]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} وصلت {خلوا} بـ {إلى}
وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت خلوا في هذا الموضع
منزلة ذهبوا وانصرفوا، إذ هو فعل معادل لقوله لقوا، وهذا مثل ما تقدم من
قول الفرزدق:
كيف تراني قالبا مجنّي ....... فقد قتل الله زيادا عني
لما أنزله منزلة صرف ورد.
قال مكي: «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية زوالا عن الاشتراك في الباء».
وقال قوم: إلى بمعنى مع، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله في قوله تعالى: {من أنصاري إلى اللّه}[آل عمران: 52، الصف: 14].
وقال قوم: إلى بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من بعض. وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله عنه: «هم رؤساء الكفر».
وقال ابن الكلبي وغيره: «هم شياطين الجن».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا في الموضع بعيد.
وقال جمع من
المفسرين: «هم الكهان». ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير
يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر كل واحد شيطان غيره، فمنهم الخالون،
ومنهم الشياطين.
ومستهزؤن معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار الإيمان هزوا ونستخف بهم.
ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في مستهزؤن. وحكى عنه أبو علي أنها تخفف بين بين.
ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا فيقرأ «مستهزيون».
قال ابن جني: «حمل الياء الضمة تذكرا لحال الهمزة المضمومة والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة».
وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، ويقال «هزىء واستهزأ» بمعنى، فهو «كعجب واستعجب»، ومنه قول الشاعر [أوس بن حجر]:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ....... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
). [المحرر الوجيز: 1/ 127-128]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذا
لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم
إنّما نحن مستهزئون (14) اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15) }
يقول [اللّه] تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: {آمنّا}
أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين
ونفاقًا ومصانعةً وتقيّةً، وليشركوهم فيما أصابوا من خيرٍ ومغنمٍ، {وإذا خلوا إلى شياطينهم} يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمّن {خلوا} معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدلّ على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به.
ومنهم من قال: "إلى" هنا بمعنى "مع"، والأوّل أحسن، وعليه يدور كلام ابن جريرٍ.
وقال السّدّيّ عن أبي مالكٍ: «{خلوا}يعني: مضوا، و{شياطينهم} يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين».
قال السّدّيّ في
تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة عن ابن
مسعودٍ، عن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {وإذا خلوا إلى شياطينهم}«يعني: هم رؤوسهم من الكفر».
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: «وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وإذا خلوا إلى شياطينهم}«من يهود الّذين يأمرونهم بالتّكذيب وخلاف ما جاء به الرّسول».
وقال مجاهدٌ: «{وإذا خلوا إلى شياطينهم}إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين».
وقال قتادة: {وإذا خلوا إلى شياطينهم} قال: «إلى رؤوسهم، وقادتهم في الشّرك، والشّرّ».
وبنحو ذلك فسّره أبو مالكٍ، وأبو العالية والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ.
قال ابن جريرٍ: وشياطين كلّ شيءٍ مردته، وتكون الشّياطين من الإنس والجنّ، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا}[الأنعام: 112].
وفي المسند عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «نعوذ باللّه من شياطين الإنس والجنّ»، فقلت: يا رسول اللّه، وللإنس شياطينٌ؟ قال: «نعم».
وقوله تعالى: {قالوا إنّا معكم} قال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أي إنّا على مثل ما أنتم عليه{إنّما نحن مستهزئون}أي: إنّما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «قالوا {إنّما نحن مستهزئون}ساخرون بأصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ، وقتادة.
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلةً على صنيعهم: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 182 -183]
تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15)}
فيه أوجه من الجواب:فمعنى استهزاء اللّه بهم: أن أظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف ما لهم في الآخرة، كما أظهروا من الإسلام خلاف ما أسرّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤه بهم: أخذه إياهم من حيث لا يعلمون، كما قال عزّ وجلّ: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
ويجوز - واللّه أعلم، وهو الوجه المختار عند أهل اللغة- أن يكون معنى (يستهزئ بهم): يجازيهم على هزئهم بالعذاب، فسمّى جزاء الذنب باسمه كما قال عزّ وجلّ: {وجزاء سيّئة سيّئة مثلها}، فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله عزّ وجلّ: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالأول ظلم، والثاني ليس بظلم، ولكنه جيء في اللغة باسم الذنب؛ ليعلم أنّه عقاب عليه وجزاء به، فهذه ثلاثة أوجه واللّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزّ وجلّ: {يخادعون اللّه وهو خادعهم}،{ويمكرون ويمكر الله}.
وقوله عزّ وجلّ: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
معنى {ويمدّهم}: يمهلهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و{في طغيانهم} معناه: في غلوّهم وكفرهم، ومعنى {يعمهون} في اللغة: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير، قال الراجز:
ومـهــمــه أطــرافـــه فـــــي مـهــمــهأعمى الهدى بالجاهلين العمّه
).[معاني القرآن: 1/ 90-91]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)}
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء: «هي تسمية العقوبة باسم الذنب».
والعرب تستعمل ذلك كثيرا، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]:
ألا لا يجهلن أحد علينا ....... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال قوم: إن الله
تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزو حسبما يروى أن النار تجمد كما
تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وما يروى أن أبواب
النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن، وقال
قوم: استهزاؤه بهم هو استدراجهم من حيث لا يعلمون، وذلك أنهم بدرور نعم
الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على
تأمل البشر كأنه استهزاء.
ويمدّهم معناه يزيدهم في الطغيان. وقال مجاهد: «معناه يملي لهم»، قال يونس بن حبيب: «يقال مد في الشر وأمد في الخير»، وقال غيره: «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه، وأمدّه ما كان مغايرا له، تقول: مدّ النهر ومدّه نهر آخر، ويقال أمدّه».
قال اللحياني: «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّا، وفي التنزيل: {والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ}[لقمان: 27]. ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة».
قال ابن قتيبة وغيره: «مددت الدواة وأمددتها بمعنى».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: يشبه أن يكون «مددتها» جعلت إلى مدادها آخر، و «أمددتها» جعلتها
ذات مداد، مثل «قبر، وأقبر، وحصر، وأحصر»، ومددنا القوم صرنا لهم أنصارا،
وأمددناهم بغيرنا. وحكى اللحياني أيضا أمدّ الأمير جنده بالخيل، وفي
التنزيل: {وأمددناكم بأموالٍ وبنين}[الإسراء: 6].
قال بعض اللغويين: {ويمدّهم في طغيانهم} يمهلهم ويلجهم، فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل، كما فسر في: {عمدٍممدّدةٍ}[الهمزة: 9].
ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان، والطغيان الغلو وتعدي
الحد كما يقال: «طغا الماء وطغت النار». وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم.
ويعمهون يترددون حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر، والعامة الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم). [المحرر الوجيز: 1/ 128 -130]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلةً على صنيعهم: {اللّه يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون}
وقال ابن جريرٍ: أخبر اللّه تعالى أنّه فاعلٌ بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: {يوم
يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل
ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرّحمة
وظاهره من قبله العذاب} الآية [الحديد: 13]، وقوله تعالى: {ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ} [آل عمران: 178]،
قال: فهذا وما أشبهه، من استهزاء اللّه، تعالى ذكره، وسخريّته ومكره
وخديعته للمنافقين، وأهل الشّرك به عند قائل هذا القول، ومتأوّل هذا
التّأويل.
قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إيّاهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.
قال: وقال آخرون:
هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا
الّذي خدعتك، ولم تكن منه خديعةٌ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا:
وكذلك قوله: {ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين}[آل عمران: 54] و {اللّه يستهزئ بهم} على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى: أنّ المكر والهزء حاق بهم.
وقال آخرون: قوله: {إنّما نحن مستهزئون * اللّه يستهزئ بهم}، وقوله: {يخادعون اللّه وهو خادعهم}[النّساء: 142]، وقوله: {فيسخرون منهمسخر اللّه منهم}[التّوبة: 79] و {نسوا اللّه فنسيهم}[التّوبة: 67]
وما أشبه ذلك، إخبارٌ من اللّه تعالى أنّه يجازيهم جزاء الاستهزاء،
ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إيّاهم وعقابه لهم مخرج خبره عن
فعلهم الّذي عليه استحقّوا العقاب في اللّفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال
تعالى: {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها}[الشّورى: 40] وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}[البقرة: 194]، فالأوّل ظلمٌ، والثّاني عدلٌ، فهما وإن اتّفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.
قال: وإلى هذا المعنى وجّهوا كلّ ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال: وقال آخرون:
إنّ معنى ذلك: أنّ اللّه أخبر عن المنافقين أنّهم إذا خلوا إلى مردتهم
قالوا: إنّا معكم على دينكم، في تكذيب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وما
جاء به، وإنّما نحن بما يظهر لهم -من قولنا لهم: صدّقنا بمحمّدٍ، عليه
السّلام، وما جاء به مستهزئون؛ فأخبر اللّه تعالى أنّه يستهزئ بهم، فيظهر
لهم من أحكامه في الدّنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الّذي لهم
عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنّكال.
ثمّ شرع ابن جريرٍ
يوجّه هذا القول وينصره؛ لأنّ المكر والخداع والسّخرية على وجه اللّعب
والعبث منتفٍ عن اللّه، عزّ وجلّ، بالإجماع، وأمّا على وجه الانتقام
والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.
قال: وبنحو ما قلنا
فيه روي الخبر عن ابن عبّاسٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا عثمان، حدّثنا بشرٌ،
عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {اللّه يستهزئ بهم} قال: «يسخر بهم للنّقمة منهم».
وقوله تعالى: {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} قال السّدّيّ: عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من الصّحابة [قالوا] {يمدهم}: «يملي لهم».
وقال مجاهدٌ: «يزيدهم».
قال ابن جريرٍ: والصّواب يزيدهم على وجه الإملاء والتّرك لهم في عتوّهم وتمرّدهم، كما قال: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّلمرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون}[الأنعام: 110].
والطّغيان: هو المجاوزة في الشّيء. كما قال: {إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية}[الحاقّة: 11]، وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {في طغيانهميعمهون}«في كفرهم يتردّدون».
وكذا فسّره السّدّيّ
بسنده عن الصّحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ،
ومجاهدٌ، وأبو مالكٍ، وعبد الرّحمن بن زيدٍ: «في كفرهم وضلالتهم».
قال ابن جريرٍ: والعمه: الضّلال، يقال: عمه فلانٌ يعمه عمهًا وعموهًا: إذا ضلّ.
قال: وقوله: {في طغيانهم يعمهون}
في ضلالهم وكفرهم الّذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يتردّدون [حيارى] ضلالا
لا يجدون إلى المخرج منه سبيلًا؛ لأنّ اللّه تعالى قد طبع على قلوبهم وختم
عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدًا، ولا يهتدون
سبيلًا.
[وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب -أيضًا-: قال اللّه تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] ويقال: عمه الرّجل يعمه عموهًا فهو عمهٌ وعامهٌ، وجمعه عمّهٌ، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت). [تفسير ابن كثير: 1/ 183 -185]
تفسير قوله
تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)}
{أولئك} موضعه رفع بالابتداء، وخبره {الّذين اشتروا الضّلالة}،
وقد فسّرنا واو (اشتروا) وكسرتها؛ فأمّا من يبدل من الضمة همزة فيقول:
(اشترؤ الضلالة) فغالط؛ لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إنّما يفعل
بها ذلك إذا لزمت صفتها نحو قوله عزّ وجلّ: {وإذا الرّسل أقتت} إنّما الأصل: وقتت، وكذلك: "أدؤر"، إنما أصلها: أَدور.
وضمة الواو في قوله: {اشتروا الضلالة} إنما هي لالتقاء السّاكنين، ومثله: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم} لا ينبغي أن تهمز الواو فيه.
ومعنى الكلام: أن كل
من ترك شيئاً وتمسك بغيره، فالعرب تقول للذي تمسك به قد اشتراه، وليس ثم
شراء ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه.
قال الشاعر:
أخــذت بالجـمّـة رأســا أزعــرا وبالثنايـا الواضحـات الــدّردرا
وبالطويـل العمـر عمـرا أقصـرا كما اشترى الكافر إذ تنصّرا
وقوله عزّ وجلّ: {فما ربحت تجارتهم} معناه:
فما ربحوا في تجارتهم؛ لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ويوضع فيها،
والعرب تقول: قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام،
قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت خــلالــتـــه كـــأبــــي مـــرحــــب
يريد: كخلالة أبي مرحب، وقال اللّه عزّ وجلّ: {بل مكر اللّيل والنّهار} والليل والنهار لا يمكران، إنما معناه: بل مكرهم في الليل والنهار).
[معاني القرآن: 1/ 91-93]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {أولئك}
إشارة إلى المتقدم ذكرهم، وهو رفع بالابتداء والّذين خبره، واشتروا صلة ل
الّذين، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فحذفت
لالتقاء الساكنين، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء
وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها، وخصت بالضم لوجوه منها أن
الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما
فعل بالنون في «نحن». ومنها أنها ضمت اتباعا لحركة الياء المحذوفة قبلها.
قال أبو على: «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو «أو» و «لو» إذ هذان يحركان بالكسر».
وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في: «اشتروا الضلالة».
وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو، والضلالة والضلال: التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد.
واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله: {اشتروا الضّلالة بالهدى}فقال قوم: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى».
وقال آخرون: استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى: {فاستحبّوا العمى على الهدى}[فصلت: 17].
وقال آخرون:
الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو معرض لهم ووقعوا بدله في
الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان
لهم أخذه.
وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل.
وقال قوم: الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا.
وقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم}
ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء، وأسند الربح إلى التجارة كما
قالوا: «ليل قائم ونهار صائم». والمعنى فما ربحوا في تجارتهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم» بالجمع.
وقوله تعالى: {وما كانوا مهتدين} قيل المعنى في شرائهم هذا، وقيل على الإطلاق، وقيل في سابق علم الله، وكل هذا يحتمله اللفظ).[المحرر الوجيز: 1/ 130 -131]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) }
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} قال: «أخذوا الضّلالة وتركوا الهدى».
وقال [محمّد] بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} «أي: الكفر بالإيمان».
وقال مجاهدٌ: «آمنوا ثمّ كفروا»
وقال قتادة: «استحبّوا الضّلالة على الهدى [أي: الكفر بالإيمان]»، وهذا الّذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى}[فصّلت: 17].
وحاصل قول المفسّرين فيما تقدّم: أنّ المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضّلال، واعتاضوا عن الهدى بالضّلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى} أي بذلوا الهدى ثمنًا للضّلالة، وسواءٌ في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثمّ رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم}[المنافقون: 3]، أو أنّهم استحبّوا الضّلالة على الهدى، كما يكون حال فريقٍ آخر منهم، فإنّهم أنواعٌ وأقسامٌ؛ ولهذا قال تعالى: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، {وما كانوا مهتدين} أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا بشرٌ، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}«قد -واللّه-رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضّلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السّنّة إلى البدعة»، وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، من حديث يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء). [تفسير ابن كثير: 1/ 185 - 186]
* للاستزادة ينظر: هنا