الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (26) إلى الآية (29) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

4885

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث

تفسير سورة البقرة [من الآية (26) إلى الآية (29) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

18 Aug 2014

4885

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلّا الفاسقين}


إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة وما أعد للكافرين؟


قيل: يتصل هذا بقوله: {فلا تجعلوا للّه أنداداً}؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً}.


وقال: {مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً}، فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذّباب والعنكبوت، فقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}أي: لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون اللّه، لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.


فأما إعراب {بعوضة} فالنصب من جهتين في قولنا، وذكر بعض النحويين جهة ثالثة:


فأما أجود هذه الجهات؛ فأن تكون (ما) زائدة مؤكدة، كأنه قال: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً، ومثلاً بعوضة، و(ما) زائدة مؤكدة نحو قوله: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} المعنى: فبرحمة من الله حقاً، فـ(ما) في التوكيد بمنزلة (حق) إلا أنه لا إعراب لها، والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها، فمعناها التوكيد، ومثلها في التوكيد (لا) في قوله: {لئلّا يعلم أهل الكتاب} معناه: لأن يعلم أهل الكتاب.


ويجوز أن يكون "ما" نكرة، فيكون المعنى: "إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب شيئا مثلا"؛ وكأن "بعوضة" في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً شيئاً من الأشياء، بعوضة فما فوقها.


وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماء. والاختيار عند جمع البصريين أن يكون (ما) لغواً.


والرفع في {بعوضة} جائز في الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به، ولا أعلم هل قرأ به أحد أم لا؟ فالرفع على إضمار "هو"، كأنه قال: مثلاً الذي هو بعوضة، وهذا عند سيبويه ضعيف، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ: {تماماً على الذي أحسن} وقد قرئ به، جاز أن يقرأ: {مثلاً ما بعوضة} ولكنه في {الذي أحسن} أقوى لأن "الذي" أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء.


وقالوا في معنى قوله: {فما فوقها} قالوا في ذلك قولين:


قالوا:{فما فوقها} أكبر منها، وقالوا: {فما فوقها} في الصغر.


وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن "البعوضة" كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل، والقول الثاني مختار أيضاً، لأن المطلوب هنا والغرض الصغر وتقليل المثل بالأنداد.


قوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا} يعني: صدقوا، {فيعلمون} أن هذا المثل حق، {وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً} أي: ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً، فقال اللّه عزّ وجلّ: {يضل به كثيراً} أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعاً، فيكذب به الكفار فيضلون، {وما يضلّ به إلّا الفاسقين} يدل على أنهم المضلون به.


{ويهدى به كثيراً} يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقاً فقد ازدادوا هداية، والفاء دخلت في جواب "أمّا" في قوله: {فيعلمون}؛ لأن "أما" تأتي بمعنى الشرط والجزاء، كأنّه إذا قال: "أما زيد فقد آمن، وأمّا عمرو فقد كفر" فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد، ومهما يكن من شيء فقد كفر عمرو.


وقوله {ماذا}: يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما نصباً، المعنى: أي شيء أراد اللّه بهذا مثلاً؟


ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة "الذي" فيكون المعنى: ما الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟، أو أي شيء الذي أراده اللّه بهذا مثلاً؟ ويكون (ما) هنا رفًعا بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خبر الابتداء.


وإعراب {الفاسقين} نصب؛ كأنّ المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين). [معاني القرآن: 1 /103-105]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلّ به إلاّ الفاسقين}

ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في هذه السورة قال الكفار: ما هذه الأمثال؟ الله عز وجل أجل من أن يضرب هذه أمثالا، فنزلت الآية.
وقال ابن قتيبة: «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت».
وقال قوم: «هذه الآية مثل للدنيا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام واتساق المعنى.
و{يستحيي} أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.
وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن وغيرهما «يستحي» بكسر الحاء، وهي لغة لتميم، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء.
واختلف المتأولون في معنى: {يستحيي} في هذه الآية. فرجح الطبري أن معناه يخشى.
وقال غيره: معناه يترك وهذا هو الأولى.
ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو يترك أو قريب منه.
ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله: {إنّ اللّه لا يستحيي} على القائلين كيف يضرب الله مثلا بالذباب ونحوه، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع، فليست مما يستحيى منه.
وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا غير مرضي.
وقوله تعالى: {أن يضرب}، إنّ مع الفعل في موضع نصب، كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى يضرب مثلًا يبين ضربا من الأمثال أي نوعا، كما تقول: هذا من ضرب هذا، والضريب المثيل.
ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء المعنى أن يلزم الحجة بمثل، ومثلًا مفعول، فقيل: هو الأول، وقيل: هو الثاني، قدم وهو في نية التأخير، لأن «ضرب» في هذا المعنى يتعدى إلى مفعولين.
واختلفوا في قوله: {ما بعوضةً} فقال قوم: ما صلة زائدة لا تفيد إلا شيئا من تأكيد. وقيل: ما نكرة في موضع نصب على البدل من قوله مثلًا، وبعوضةً نعت لـ(ما)، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا إليه الظن أن يضرب إنما يتعدى إلى مفعول واحد.
وقال بعض الكوفيين: نصب بعوضةً على تقدير إسقاط حرف الجر. والمعنى: أن يضرب مثلا ما من بعوضة.
وحكي عن العرب: «له عشرون ما ناقة فجملا»، وأنكر أبو العباس هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يترجح أن ما صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصا وتقريبا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
سلع ما ومثله عشر ما.......عائل ما وعالت البيقورا
وبعوضة على هذا مفعول ثان.
وقال قوم: ما نكرة، كأنه قال شيئا. والآية في هذا يشبهها قول حسان بن ثابت:

فكفى بنا فضلا على من غيرنا.......حبّ النبيّ محمد إيّانا
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت غير صحيح عندي، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر:

لنعم البيت بيت أبي دثار.......إذا ما خاف بعض القوم بعضا
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج: «بعوضة» بالرفع.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي»، أي لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول، وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم: «تماما على الذي أحسن» أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل.
وقوله تعالى: {فما فوقها} من جعل ما الأولى صلة زائدة، ف «ما» الثانية عطف على بعوضة، ومن جعل ما اسما ف «ما» الثانية عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: «المعنى فما فوقها في الصغر».
وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: «المعنى في الكبر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والكل محتمل، والضمير في أنّه، عائد على المثل.
واختلف النحويون في ماذا: فقيل هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل «ما» اسم «وذا» اسم آخر بمعنى الذي، فـ«ما» في موضع رفع بالابتداء، و «ذا» خبره، ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقوله: {مثلًا} نصب على التمييز، وقيل على الحال من «ذا» في بهذا، والعامل فيه الإشارة والتنبيه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً} فقيل: هو من قول الكافرين، أي: ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟
وقيل: بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق. وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم: «إن الله لا يخلق الضلال» ولا خلاف أن قوله تعالى: {وما يضلّ به إلّا الفاسقين} من قول الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {ويهدي به كثيراً} إلى آخر الآية ردا من الله تعالى على قول الكفار يضلّ به كثيراً.
والفسق: الخروج عن الشيء. يقال فسقت الفارة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في هذه الآية: «يضل» بضم الياء فيهما.
وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يضل» بفتح الياء، «كثير» بالرفع «ويهدي به كثير. وما يضل به إلا الفاسقون» بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبلة من ثقات الشاميين ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القراءة عنه، مع أنها مخالفة خط المصحف».
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى: «يضل» بضم الياء وفي الثانية «وما يضل» بفتح الياء «به إلا الفاسقون». وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط المصحف المجمع عليه).[المحرر الوجيز: 1 /153-158]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضةً فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلًا يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلّا الفاسقين (26) الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) }
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «لمّا ضرب اللّه هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}[البقرة: 17] وقوله {أو كصيّبٍ من السّماء}[البقرة: 19] الآيات الثّلاث- قال المنافقون: اللّه أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله:{هم الخاسرون}».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «لمّا ذكر اللّه العنكبوت والذّباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذّباب يذكران؟ فأنزل اللّه [تعالى هذه الآية] {إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها}».
وقال سعيدٌ، عن قتادة: «أي إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ أن يذكر شيئًا ما، قلّ أو كثر، وإنّ اللّه حين ذكر في كتابه الذّباب والعنكبوت قال أهل الضّلالة: ما أراد اللّه من ذكر هذا؟ فأنزل اللّه:{إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها}».
قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعارٌ أنّ هذه الآية مكّيّةٌ، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيدٍ، عن قتادة أقرب واللّه أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهدٍ نحو هذا الثّاني عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتمٍ: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالدٍ نحو قول السّدّيّ وقتادة.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ في هذه الآية قال: «هذا مثلٌ ضربه اللّه للدنيا؛ إذ البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء القوم الّذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدّنيا ريًّا أخذهم اللّه تعالى عند ذلك»، ثمّ تلا {فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيءٍ}[الأنعام: 44].
هكذا رواه ابن جريرٍ، ورواه ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، بنحوه، فاللّه أعلم.
فهذا اختلافهم في سبب النّزول، وقد اختار ابن جريرٍ ما حكاه السّدي؛ لأنّه أمسّ بالسّورة، وهو مناسبٌ،
ومعنى الآية: أنّه تعالى أخبر أنّه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلًا ما، أي: أيّ مثلٍ كان، بأيّ شيءٍ كان، صغيرًا كان أو كبيرًا.
و "ما" هاهنا للتّقليل وتكون {بعوضةً} منصوبةً على البدل، كما تقول: لأضربنّ ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيءٍ [أو تكون "ما" نكرةً موصوفةً ببعوضةٍ]. واختار ابن جريرٍ أن ما موصولة، و {بعوضةً} معربةٌ بإعرابها، قال: وذلك سائغٌ في كلام العرب، أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنّهما يكونان معرفةً تارةً، ونكرةً أخرى، كما قال حسّان بن ثابتٍ:

وكفى بنا فضلا على من غيرنا.......حب النّبيّ محمّدٍ إيّانا
قال: ويجوز أن تكون {بعوضةً} منصوبةً بحذف الجارّ، وتقدير الكلام: إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بين بعوضةٍ إلى ما فوقها.
[وهذا الّذي اختاره الكسائيّ والفرّاء. وقرأ الضّحّاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت "بعوضةٌ" بالرّفع، قال ابن جنّيٍّ: وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله: {تمامًا على الّذي أحسن}[الأنعام: 154] أي: على الّذي أحسن هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالّذي قائلٌ لك شيئًا، أي: يعني بالّذي هو قائلٌ لك شيئًا].
وقوله: {فما فوقها} فيه قولان:
أحدهما: فما دونها في الصّغر، والحقارة، كما إذا وصف رجلٌ باللّؤم والشّحّ، فيقول السّامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائيّ وأبي عبيدة، قال الرّازيّ: وأكثر المحقّقين، وفي الحديث: «لو أنّ الدّنيا تزن عند اللّه جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة ماءٍ».
والثّاني: فما فوقها: فما هو أكبر منها؛ لأنّه ليس شيءٌ أحقر ولا أصغر من البعوضة. وهذا [قول قتادة بن دعامة و] اختيار ابن جرير.
[ويؤيّده ما رواه مسلمٌ عن عائشة، رضي اللّه عنها: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما من مسلمٍ يشاك شوكةً فما فوقها إلّا كتبت له بها درجةٌ ومحيت عنه بها خطيئةٌ»].
فأخبر أنّه لا يستصغر شيئًا يضرب به مثلًا ولو كان في الحقارة والصّغر كالبعوضة، كما [لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من] ضرب المثل بالذّباب والعنكبوت في قوله: {يا أيّها النّاس ضرب مثلٌ فاستمعوا له إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذّباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطّالب والمطلوب}[الحجّ: 73]، وقال: {مثل الّذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتًا وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}[العنكبوت: 41] وقال تعالى: {ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمةً طيّبةً كشجرةٍ طيّبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السّماء * تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربّها ويضرب اللّه الأمثال للنّاس لعلّهم يتذكّرون * ومثل كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ * يثبّت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضلّ اللّه الظّالمين ويفعل اللّه ما يشاء}[إبراهيم: 24-27]، وقال تعالى: {ضرب اللّه مثلا عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيءٍ [ومن رزقناه منّا رزقًا حسنًا]} الآية [النّحل: 75]، ثمّ قال: {وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيءٍ وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجّهه لا يأت بخيرٍ [هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل]} الآية [النّحل: 76]، كما قال: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم} الآية [الرّوم: 28]. وقال: {ضرب اللّه مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون [ورجلا سلمًا لرجلٍ]} الآية [الزّمر: 29]، وقد قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون}[العنكبوت: 43] وفي القرآن أمثالٌ كثيرةٌ.
قال بعض السّلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون}
وقال مجاهدٌ: «قوله:{إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها}الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنّها الحقّ من ربّهم، ويهديهم اللّه بها».
وقال قتادة: «{فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم}أي: يعلمون أنّه كلام الرّحمن، وأنّه من عند اللّه».
وروي عن مجاهدٍ والحسن والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
وقال أبو العالية: «{فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم}يعني: هذا المثل:{وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا}كما قال في سورة المدّثّر: {وما جعلنا أصحاب النّار إلا ملائكةً وما جعلنا عدّتهم إلا فتنةً للّذين كفروا ليستيقن الّذين أوتوا الكتاب ويزداد الّذين آمنوا إيمانًا ولا يرتاب الّذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الّذين في قلوبهم مرضٌ والكافرون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا كذلك يضلّ اللّه من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلا هو}[المدّثّر: 31]، وكذلك قال هاهنا:{يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلا الفاسقين}».
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {يضلّ به كثيرًا}«يعني: المنافقين»، {ويهدي به كثيرًا}«يعني: المؤمنين»، فيزيد هؤلاء ضلالةً إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا، من المثل الّذي ضربه اللّه بما ضربه لهم وأنّه لما ضربه له موافقٌ، فذلك إضلال اللّه إيّاهم به {ويهدي به} يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتّصديق، فيزيدهم هدًى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنّه موافقٌ ما ضربه اللّه له مثلًا وإقرارهم به، وذلك هدايةٌ من اللّه لهم به {وما يضلّ به إلا الفاسقين} قال: «هم المنافقون».
وقال أبو العالية: {وما يضلّ به إلا الفاسقين} قال: «هم أهل النّفاق». وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال ابن جريجٍ عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وما يضلّ به إلا الفاسقين}«يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به».
وقال قتادة: «{وما يضلّ به إلا الفاسقين}فسقوا، فأضلّهم اللّه على فسقهم».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثت عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرّة، عن مصعب بن سعدٍ، عن سعدٍ {يضلّ به كثيرًا}«يعني: الخوارج»). [تفسير ابن كثير: 1/ 206-209]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}


قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}


"عهد الله" هنا -واللّه أعلم-: ما أخذ اللّه على النبيين ومن اتبعهم، ألا يكفروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، دليل ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا} فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياء عليهم السلام: أن يؤمنوا بالرسول المصدق لما معهم، و {إصري} مثل: عهدي.


ويجوز أن يكون عهد اللّه الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حين قال: {....وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا}.


وقال قوم أن عهد الله عز وجل الاستدلال على توحيده، وأنّ كل ذي تمييز يعلم أن اللّه خالق، فعليه الإيمان به، والقولان الأولان في القرآن ما يصدق تفسيرهما.


فأمّا إعراب {الّذين} فالنصب على الصفة للفاسقين.


وموضع قوله: {أن يوصل} خفض على البدل من الهاء، والمعنى: ما أمر الله بأن يوصل.


وموضع {أولئك} رفع بالابتداء، و{الخاسرون} خبر الابتداء، و{هم} بمعنى الفصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.


ويجوز أن يكون {أولئك} رفًعا بالابتداء، و{هم} ابتداء ثان، و{الخاسرون} خبر لـ{هم}، و{هم الخاسرون} خبر عن {أولئك}). [معاني القرآن: 1/ 106]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون (28) هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (29)}

النقض: رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية: التقدم في الشيء والوصاة به.
واختلف في تفسير هذا العهد:
- فقال بعض المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر.
- وقال آخرون: بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.
- وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وأن لا يعبدوا غيره.
- وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالآية على هذا في أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.
وقال قتادة: «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لم ينسب الطبري شيئا من هذه الأقوال، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية، والضمير في ميثاقه يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى، وميثاق مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن شييم:
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي.......وبعد عطائك المائة الرّتاعا؟


أراد: بعد إعطائك.
وقوله تعالى: {ما أمر اللّه به أن يوصل}، (ما) في موضع نصب بـ{يقطعون} واختلف الشيء الذي أمر بوصله؟
- فقال قتادة: «الأرحام عامة في الناس» .
- وقال غيره: «خاصة فيمن آمن بمحمد، كان الكفار يقطعون أرحامهم».
- وقال جمهور أهل العلم: الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، وأن في موضع نصب بدل من ما، أو مفعول من أجله.
وقيل: أن في موضع خفض بدل من الضمير في به، وهذا متجه.
{ويفسدون في الأرض} يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران: النقص كان في ميزان أو غيره).[المحرر الوجيز: 1/ 158-160]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن مصعب بن سعدٍ، قال: سألت أبي فقلت: قوله تعالى: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} إلى آخر الآية، فقال: «هم الحروريّة». وهذا الإسناد إن صحّ عن سعد بن أبي وقّاصٍ، رضي اللّه عنه، فهو تفسيرٌ على المعنى، لا أنّ الآية أريد منها التّنصيص على الخوارج، الّذين خرجوا على عليٍّ بالنّهروان، فإنّ أولئك لم يكونوا حال نزول الآية، وإنّما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنّهم سمّوا خوارج لخروجهم على طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام.
والفاسق في اللّغة: هو الخارج عن الطّاعة أيضًا. وتقول العرب: فسقت الرّطبة: إذا خرجت من قشرتها ؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقةٌ، لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصّحيحين، عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور».
فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكنّ فسق الكافر أشدّ وأفحش، والمراد من الآية: الفاسق الكافر، واللّه أعلم، بدليل أنّه وصفهم بقوله: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}.
وهذه الصّفات صفات الكفّار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرّعد: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب * الّذين يوفون بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق * والّذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب} الآيات، إلى أن قال: {والّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللّعنة ولهم سوء الدّار} [الرّعد: 19-25].
وقد اختلف أهل التّفسير في معنى العهد الّذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه،
- فقال بعضهم: هو وصيّة اللّه إلى خلقه وأمره إيّاهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إيّاهم عمّا نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
- وقال آخرون: بل هي في كفّار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد اللّه الّذي نقضوه هو ما أخذه اللّه عليهم في التّوراة من العمل بما فيها واتّباع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث والتّصديق به، وبما جاء به من عند ربّهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك [عن] النّاس بعد إعطائهم اللّه من أنفسهم الميثاق ليبيّننّه للنّاس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنّهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا. وهذا اختيار ابن جريرٍ رحمه اللّه وقول مقاتل بن حيّان.
- وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشّرك والنّفاق. وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلّة الدّالّة على ربوبيّته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتجّ به لرسله من المعجزات الّتي لا يقدر أحدٌ من النّاس غيرهم أن يأتي بمثلها الشّاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحّته بالأدلّة وتكذيبهم الرّسل والكتب مع علمهم أنّ ما أتوا به حقٌّ، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيّان نحو هذا، وهو حسنٌ، [وإليه مال الزّمخشريّ، فإنّه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد اللّه؟ قلت: ما ركّز في عقولهم من الحجّة على التّوحيد، كأنّه أمرٌ وصّاهم به ووثّقه عليهم وهو معنى قوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزّلة عليهم لقوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}[البقرة: 40].
- وقال آخرون: العهد الّذي ذكره [اللّه] تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الّذي وصف في قوله: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى [شهدنا]} الآيتين [الأعراف: 172، 173] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيّان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جريرٍ في تفسيره.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} إلى قوله: {الخاسرون} قال: «هي ستّ خصالٍ من المنافقين إذا كانت فيهم الظّهرة على النّاس أظهروا هذه الخصال: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللّه من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظّهرة عليهم أظهروا الخصال الثّلاث: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا».
وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ أيضًا.
وقال السّدّيّ في تفسيره بإسناده، قوله تعالى: {الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه} قال: «هو ما عهد إليهم في القرآن فأقرّوا به ثمّ كفروا فنقضوه».
وقوله: {ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل}:
- قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسّره قتادة كقوله تعالى: {فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم}[محمّدٍ: 22] ورجّحه ابن جريرٍ.
- وقيل: المراد أعمّ من ذلك فكلّ ما أمر اللّه بوصله وفعله قطعوه وتركوه.
وقال مقاتل بن حيّان في قوله: {أولئك هم الخاسرون} قال: «في الآخرة»، وهذا كما قال تعالى: {أولئك لهم اللّعنة ولهم سوء الدّار}[الرّعد: 25].
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: «كلّ شيءٍ نسبه اللّه إلى غير أهل الإسلام من اسمٍ مثل خاسرٍ، فإنّما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنّما يعني به الذّنب».
وقال ابن جريرٍ في قوله: {أولئك هم الخاسرون} الخاسرون: جمع خاسرٍ، وهم النّاقصون أنفسهم [و] حظوظهم بمعصيتهم اللّه من رحمته، كما يخسر الرّجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان اللّه إيّاه رحمته الّتي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرّجل يخسر خسرًا وخسرانًا وخسارًا، كما قال جرير بن عطيّة:
إنّ سليطًا في الخسار إنّه.......أولاد قومٍ خلقوا أقنّه
). [تفسير ابن كثير: 1/ 209-211]

تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}


قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}


فكونهم أمواتا أولاً: أنّهم كانوا نطفاً، ثم جعلوا حيواناً، ثم أميتوا، ثم أحيوا، ثم يرجعون إلى اللّه عزّ وجلّ بعد البعث، كما قال: {مهطعين إلى الدّاع} أي: مسرعين.


وقوله عزّ وجلّ: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} والأجداث: القبور، وتأويل {كيف} أنها استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء، كيف يكفرون وقد ثبتت حجة اللّه عليهم؟!


ومعنى {وكنتم} وقد كنتم، وهذه الواو للحال، وإضمار "قد" جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم}،{وإن كان قميصه قدّ من دبر}). [معاني القرآن: 1/ 107]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {كيف تكفرون} لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي: كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟

وكيف في موضع نصب على الحال والعامل فيها تكفرون، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون؟
وكيف مبنية، وخصت بالفتح لخفته،
ومن قال إن كيف تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم،
والواو في قوله وكنتم واو الحال،
واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين:
- فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: «فالمعنى كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس ميت، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة».
- وقال آخرون: «كنتم أمواتا بكون آدم من طين ميتا قبل أن يحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم» على ما تقدم.
- وقال قتادة: «كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم» ثم كما تقدم.
- وقال غيره: «كنتم أمواتا في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا» ثم كما تقدم.
- وقال ابن زيد: «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتا، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا» ثم كما تقدم.
- وقال ابن عباس وأبو صالح: «كنتم أمواتا بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث».
- وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: «وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقول الأول هو أولى هذه الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله أولا {كنتم أمواتاً} وإسناده آخرا الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها، والضمير في {إليه} عائد على الله تعالى أي: إلى ثوابه أو عقابه، وقيل: هو عائد على الاحياء، والأول أظهر.
وقرأ جمهور الناس «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان ويعقوب الحضرمي: «يرجع ويرجعون وترجعون» بفتح الياء والتاء حيث وقع).[المحرر الوجيز: 1/ 160-161]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون (28)}
يقول تعالى محتجًّا على وجوده وقدرته، وأنّه الخالق المتصرّف في عباده: {كيف تكفرون باللّه} أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! {وكنتم أمواتًا فأحياكم} أي: قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون * أم خلقوا السّماوات والأرض بل لا يوقنون} [الطّور: 35، 36]، وقال {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر لم يكن شيئًا مذكورًا}[الإنسان: 1] والآيات في هذا كثيرةٌ.
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه: {قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [غافرٍ: 11] قال: «هي الّتي في البقرة:{وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم}».
وقال ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{كنتم أمواتًا فأحياكم}:أمواتًا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتّى خلقكم، ثمّ يميتكم موتة الحقّ، ثمّ يحييكم حين يبعثكم». قال: «وهي مثل قوله:{[ربّنا] أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} قال: «كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتةٌ، ثمّ أحياكم فخلقكم فهذه حياةٌ، ثمّ يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتةٌ أخرى، ثمّ يبعثكم يوم القيامة فهذه حياةٌ أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم}».
وهكذا روي عن السّدّيّ بسنده، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ وعن ناسٍ من الصّحابة-وعن أبي العالية والحسن البصريّ ومجاهدٍ وقتادة وأبي صالحٍ والضّحّاك وعطاءٍ الخراسانيّ نحو ذلك.
وقال الثّوريّ، عن السّدّيّ عن أبي صالحٍ: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون} قال: «يحييكم في القبر، ثمّ يميتكم».
وقال ابن جريرٍ عن يونس، عن ابن وهبٍ، عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «خلقهم في ظهر آدم ثمّ أخذ عليهم الميثاق، ثمّ أماتهم ثمّ خلقهم في الأرحام، ثمّ أماتهم، ثمّ أحياهم يوم القيامة. وذلك كقول اللّه تعالى:{قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}»، وهذا غريبٌ والّذي قبله.
والصّحيح ما تقدّم عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ، وأولئك الجماعة من التّابعين، وهو كقوله تعالى: {قل اللّه يحييكم ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون}[الجاثية: 26].
[وعبّر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس، كما قال في الأصنام: {أمواتٌ غير أحياءٍ}[النّحل: 21]، وقال: {وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون}[يس: 33]). [تفسير ابن كثير: 1/ 212-213]

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}


قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماوات وهو بكلّ شيء عليم}


موضع "ما" مفعول به، وتأويله: أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم، فهو لكم، وفيه قول آخر: أن ذلكم دليل على توحيد اللّه عزّ وجلّ.


وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ استوى إلى السّماء}فيه قولان:


قال بعضهم:{استوى إلى السّماء}: عمد وقصد إلى السماء. كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه: قصد بالاستواء إليه.


وقد قيل أيضاً: "استوى" أي: صعد أمره إلى السماء، وهذا قول ابن عباس.


و"السماء" لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، والدليل على ذلك قوله: {فسوّاهنّ سبع سماوات}. ويجوز أن يكون "السماء" جمعاً كما أن السّماوات جمع؛ كأن واحده سماة وسماوة وسماء للجميع، وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماء جائز أن يكون واحداً يراد به الجمع كما تقول "كثر الدّرهم والدينار في أيدي الناس"،


و"السماء" في اللغة: السقف، ويقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب؛ لأنها عالية). [معاني القرآن: 1/ 107-108]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وخلق معناه: اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبعض.......القوم يخلق ثم لا يفري
ومنه قول الآخر:
من كان يخلق ما يقو.......ل فحيلتي فيه قليله

ولكم: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها.
وقال قوم: بل معنى لكم إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: «لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب». قال: «فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف»، و{جميعاً} نصب على الحال.
وقوله تعالى: {ثمّ استوى}، ثمّ هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه، واستوى:
- قال قوم: «معناه علا دون تكييف ولا تحديد»، هذا اختيار الطبري، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه.
- وقال ابن كيسان: «معناه قصد إلى السماء». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أي: بخلقه واختراعه.
- وقيل: معناه: كمل صنعه فيها كما تقول: استوى الأمر. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلق.
- وحكى الطبري عن قوم: أن المعنى أقبل، وضعفه.
- وحكي عن قوم «المستوي» هو الدخان. وهذا أيضا يأباه رصف الكلام،
- وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر الأخطل:
قد استوى بشر على العراق.......من غير سيف ودم مهراق
وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: {على العرش استوى}[طه: 5].
والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
{فسوّاهنّ} قيل: المعنى جعلهن سواء، وقيل: سوى سطوحها بالإملاس، وسبع نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول بـ«سوّى»، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال: فسوّى منهن سبع، وقيل: نصب على الحال، وقال: سواهن إما على أن السماء جمع، وإما على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع.
وقوله تعالى: {وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ} معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات: هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات).[المحرر الوجيز: 1 /161-164]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سمواتٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (29)}
لمّا ذكر تعالى دلالةً من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلًا آخر ممّا يشاهدونه من خلق السّماوات والأرض، فقال: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثمّ استوى إلى السّماء} أي: قصد إلى السّماء، والاستواء هاهنا تضمّن معنى القصد والإقبال؛ لأنّه عدّي بإلى {فسوّاهنّ} أي: فخلق السّماء سبعًا، والسّماء هاهنا اسم جنسٍ، فلهذا قال: {فسوّاهنّ}.
{وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: وعلمه محيطٌ بجميع ما خلق. كما قال: {ألا يعلم من خلق}[الملك: 14] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السّجدة وهو قوله: {قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك ربّ العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيّامٍ سواءً للسّائلين * ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهنّ سبع سماواتٍ في يومين وأوحى في كلّ سماءٍ أمرها وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم}[فصّلت: 9-12].
ففي هذا دلالةٌ على أنّه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أوّلًا ثمّ خلق السّماوات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثمّ أعاليه بعد ذلك، وقد صرّح المفسّرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء اللّه.
فأمّا قوله تعالى: {أأنتم أشدّ خلقًا أم السّماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها} [النّازعات: 27-32]
- فقد قيل: إنّ {ثمّ} هاهنا إنّما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال الشّاعر:
قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه.......ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه
- وقيل: إنّ الدّحى كان بعد خلق السّماوات، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ.
وقد قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ -وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ- وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ سبع سماواتٍ [وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ]} قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلمّا أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسمّاه سماءً. ثمّ أيبس الماء فجعله أرضًا واحدةً، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوتٍ، والحوت هو النّون الّذي ذكره اللّه في القرآن:{ن والقلم}والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاةٍ، والصّفاة على ظهر ملك، والملك على صخرةٍ، والصّخرة في الرّيح، وهي الصّخرة الّتي ذكر لقمان -ليست في السّماء ولا في الأرض، فتحرّك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى:{وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}[النّحل: 15].وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثّلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول:{قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك ربّ العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها}[فصّلت: 9، 10]. يقول: «أنبت شجرها»{وقدّر فيها أقواتها} يقول:«أقواتها لأهلها»{في أربعة أيّامٍ سواءً للسّائلين} [فصّلت: 10] يقول: «من سأل فهكذا الأمر. {ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ}[فصّلت: 11]وذلك الدّخان من تنفّس الماء حين تنفّس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنّما سمّي يوم الجمعة لأنّه جمع فيه خلق السّماوات والأرض، {وأوحى في كلّ سماءٍ أمرها}[فصلت: 12]»، قال: «خلق اللّه في كلّ سماءٍ خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها، من البحار وجبال البرد وما لا نعلم، ثمّ زيّن السّماء الدّنيا بالكواكب، فجعلها زينةً وحفظًا تحفظ من الشّياطين. فلمّا فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فذلك حين يقول:{خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّامٍ ثمّ استوى على العرش}[الأعراف: 54]ويقول:{كانتا رتقًا ففتقناهما}[الأنبياء: 30]».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، حدّثني أبو معشرٍ عن سعيد بن أبي سعيدٍ، عن عبد اللّه بن سلّامٍ أنّه قال: «إنّ اللّه بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرّواسي في الثّلاثاء والأربعاء، وخلق السّماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك السّاعة الّتي تقوم فيها السّاعة».
وقال مجاهدٌ في قوله: {هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} قال: «خلق اللّه الأرض قبل السّماء، فلمّا خلق الأرض ثار منها دخانٌ، فذلك حين يقول:{ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ}»، {فسوّاهنّ سبع سماواتٍ} قال: «بعضهنّ فوق بعضٍ، وسبع أرضين، يعني بعضهنّ تحت بعضٍ».
وهذه الآية دالّةٌ على أنّ الأرض خلقت قبل السّماء، كما قال في آية السّجدة: {قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك ربّ العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيّامٍ سواءً للسّائلين * ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهنّ سبع سماواتٍ في يومين وأوحى في كلّ سماءٍ أمرها وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم}[فصّلت: 9-12] فهذه وهذه دالّتان على أنّ الأرض خلقت قبل السّماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلّا ما نقله ابن جريرٍ عن قتادة: أنّه زعم أنّ السّماء خلقت قبل الأرض، وقد توقّف في ذلك القرطبيّ في تفسيره لقوله تعالى: {أأنتم أشدّ خلقًا أم السّماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها}[النّازعات: 27-31] قالوا: فذكر خلق السّماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاريّ: أنّ ابن عبّاسٍ سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأنّ الأرض خلقت قبل السّماء وأنّ الأرض إنّما دحيت بعد خلق السّماء، وكذلك أجاب غير واحدٍ من علماء التّفسير قديمًا وحديثًا، وقد قرّرنا ذلك في تفسير سورة النّازعات،
وحاصل ذلك أنّ الدّحي مفسّرٌ بقوله: {والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها}[النّازعات: 30-32] ففسّر الدّحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوّة إلى الفعل لمّا اكتملت صورة المخلوقات الأرضيّة ثمّ السّماويّة دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النّباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثّوابت والسّيّارة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الّذي رواه مسلمٌ والنّسائيّ في التّفسير -أيضًا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أميّة، عن أيّوب بن خالدٍ، عن عبد اللّه بن رافعٍ مولى أمّ سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيدي فقال: «خلق اللّه التّربة يوم السّبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشّجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثّلاثاء، وخلق النّور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدّوابّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى اللّيل».
وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلمٍ، وقد تكلّم عليه عليّ بن المدينيّ والبخاريّ وغير واحدٍ من الحفّاظ، وجعلوه من كلام كعبٍ، وأنّ أبا هريرة إنّما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنّما اشتبه على بعض الرّواة فجعلوه مرفوعًا، وقد حرّر ذلك البيهقيّ).[تفسير ابن كثير: 1/ 213-215]

* للاستزادة ينظر: هنا