18 Aug 2014
تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قال أهل اللغة: علم آدم أسماء الأجناس، وعرض أصحاب الأسماء من الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: {ثم عرضهم}؛ لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال
لجماعتهم: (هم)، و(هم) يقال للناس، ويقال للملائكة، ويقال للجن، ويقال
للجان، ويقال للشياطين، فكل مميز في الإضمار (هم)، هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل
النظر: إن الفائدة في الإتيان بالأسماء أبلغ منها هي الفائدة بأسماء معاني
كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت، فقيل: ما اسم هذه؟
قيل: خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن
تنبئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال: هذه تصلح لكذا، فهذه الفائدة البينة
التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئت، والمعنى الذي فيها وهو
خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماء واللّه أعلم).[معاني القرآن: 1/ 110-111]
تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذ
قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا
تعلمون}
قال أبو عبيدة:
"إذ" ههنا زائدة، وهذا إقدام من أبي عبيدة؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم
فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، و(إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً
ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم،
فكأنّه قال:(ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).
وفي ذكر هذه الآية
احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ خبر آدم
وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا من علم
العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تثبيت
رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ
الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزّ وجلّ:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
روي: أن خلقا يقال لهم "الجان" كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث اللّه ملائكته فأجلتهم من الأرض.
وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد "الجان"، فقالوا: "يا رب، {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}".
وتأويل استخبارهم
هذا: على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا
اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرّفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى
فيه غير هذا، وهو: أن الله عزّ وجلّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض
خليفة، وأن من الخليفة فرقة تسفك الدماء، وهي فرقة من بني آدم، وأذن اللّه
عزّ وجلّ للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في
التثبيت في نفوسهم أنّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون
الدماء ويعصونك؛ وإنّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما
نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، ولا يجوز على
الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما
يؤمرون.
وقوله عزّ وجلّ{إني أعلم ما لا تعلمون}: أي: أبتلي من تظنون أنّه يطيع فيهديه الابتلاء، فالألف ههنا إنّما هي على إيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا.......وأنــدى العالمـيـن بـطــون راح
ومعنى{يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.
ومعنى{نسبح بحمدك}:
نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه: فقد سبح، يقال: فرغت من
تسبيحي، أي: من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان
الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء، وقال الأعشى:
أقــول لـمـا جـاءنــي فـخــره.......سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه ومن فخره، ومعنى{نقدّس لك}
أي: نطهر أنفسنا لك، وكذلك من أطاعك نقدسه، أي: نطهّره، ومن هذا بيت
المقدس، أي: البيت المطهر، أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب).[معاني القرآن: 1 /108-110]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذ
قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون
(30) وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء
هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك
أنت العليم الحكيم (32)
قال معمر بن المثنى: «إذ زائدة، والتقدير: وقال ربك».
قال أبو إسحاق الزجاج: «هذا اجتراء من أبي عبيدة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكذلك رد عليه جميع المفسرين.
وقال الجمهور: ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره: واذكر إذ قال، وأيضا فقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً}
الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة، وإضافة
رب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار
لاختصاصه به، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا
أرسل، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة.
وقال قوم: أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن زيد:
أبلغ النعمان عني مألكا.......أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة.
وقال ابن كيسان:
«هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل، فوزنه فعأل،
ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال:
فلست لأنسيّ ولكن لملأك.......تنزّل من جوّ السماء يصوب
وأما في الكلام
فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل
ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة
ونسابة، والأول أبين.
وقال أبو عبيدة: «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان.
وجاعلٌ في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
وقال الحسن وقتادة: «جاعل بمعنى فاعل».
وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن
الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقرّ من هلك قومه
من الأنبياء، وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن».
وخليفةً معناه من يخلف.
قال ابن عباس: «كانت
الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلا
من الملائكة قتلهم وألحق فلّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم
وذريته خليفة».
وقال الحسن: «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ففي هذا القول، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.
وقال ابن مسعود: «إنما معناه: خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري» يعني بذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته.
وقرأ زيد بن علي «خليفة» بالقاف.
وقوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها} الآية، وقد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله: {لا يسبقونه بالقول} خرج على جهة المدح لهم.
قال القاضي أبو
بكر بن الطيب: «فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون
عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة».
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من
عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام
والإكبار للفصلين جميعا، الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم {أتجعل فيها} الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك: {إنّي جاعلٌ}؛ {قالوا أتجعل فيها} الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟
والسفك: صب الدم، هذا عرفه، وقد يقال: سفك كلامه في كذا، إذا سرده.
وقراءة الجمهور بكسر الفاء.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: ويسفك» بضم الفاء.
وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال: من يجمع أن يفسد وأن يسفك.
وقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول أحسن.
وقولهم: {ونحن نسبّح بحمدك} قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا ونحن نسبّح بحمدك الآية، أم نتغير عن هذه الحال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: {أتجعل}؟
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام: {إنّي حفيظٌ عليمٌ}[يوسف: 55].
قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه
في قولهم أتجعل وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقال قوم: معنى الآية: ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم: {أتجعل}.
ومعنى {نسبّح بحمدك}: ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.
وقال ابن عباس وابن مسعود: «تسبيح الملائكة صلاتهم لله».
وقال قتادة: «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة».
و{بحمدك} معناه: نخلط التسبيح بالحمد ونصله به،
ويحتمل أن يكون
قوله بحمدك اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم
اعترضوا على جهة التسليم، أي: وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.
{ونقدّس لك} قال الضحاك وغيره: «معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك»، والتقديس: التطهير بلا خلاف، ومنه: الأرض المقدسة أي المطهرة، ومنه: بيت المقدس، ومنه: القدس الذي يتطهر به.
وقال آخرون: {ونقدّس لك} معناه: ونقدسك أي: نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
وقال قوم: {نقدس لك} معناه: نصلي لك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} الأظهر أن أعلم فعل مستقبل، وما في موضع نصب به،
وقيل: أعلم اسم،
وما في موضع خفض بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما
الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش
يصرفه.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {ما لا تعلمون} فقال ابن عباس: «كان إبليس -لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه».
وقيل: بل لما بعثه
الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده، قاله
ابن عباس أيضا. واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب
آدم عليه السلام.
قال: فلما قالت الملائكة: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال الله لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: ما في نفس إبليس.
وقال قتادة: «لما قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم:{إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: أفعال الفضلاء من بني آدم»).[المحرر الوجيز: 1/ 164-169]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد
فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون
(30)}
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة} أي: واذكر يا محمّد إذ قال ربّك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.
وحكى ابن جريرٍ عن
بعض أهل العربيّة [وهو أبو عبيدة] أنّه زعم أنّ "إذ" هاهنا زائدةٌ، وأنّ
تقدير الكلام: وقال ربّك. وردّه ابن جريرٍ.
قال القرطبيّ: وكذا ردّه جميع المفسّرين حتّى قال الزّجّاج: هذا اجتراءٌ من أبي عبيدة.
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا قرنًا بعد قرنٍ وجيلًا بعد جيلٍ، كما قال تعالى: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض}[الأنعام: 165] وقال {ويجعلكم خلفاء الأرض}[النّمل: 62]. وقال {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون}[الزّخرف: 60]. وقال {فخلف من بعدهم خلفٌ}[مريم: 59]. [وقرئ في الشّاذّ: "إنّي جاعلٌ في الأرض خليقةً" حكاه الزّمخشريّ وغيره ونقلها القرطبيّ عن زيد بن عليٍّ].
وليس المراد هاهنا
بالخليفة آدم -عليه السّلام- فقط، كما يقوله طائفةٌ من المفسّرين، وعزاه
القرطبيّ إلى ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وجميع أهل التّأويل، وفي ذلك نظرٌ، بل
الخلاف في ذلك كثيرٌ، حكاه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره وغيره، والظّاهر
أنّه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
فإنّهم إنّما أرادوا أنّ من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنّهم علموا ذلك
بعلمٍ خاصٍّ، أو بما فهموه من الطّبيعة البشريّة فإنّه أخبرهم أنّه يخلق
هذا الصّنف من صلصال من حمإٍ مسنونٍ [أو فهموا من الخليفة أنّه الّذي يفصل
بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويردّ عنهم المحارم والمآثم، قاله
القرطبيّ] أو أنّهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسّرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا
ليس على وجه الاعتراض على اللّه، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد
يتوهّمه بعض المفسّرين [وقد وصفهم اللّه تعالى بأنّهم لا يسبقونه بالقول،
أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لمّا أعلمهم بأنّه سيخلق في
الأرض خلقًا. قال قتادة: «وقد تقدّم إليهم أنّهم يفسدون فيها فقالوا: {أتجعل فيها}الآية»].
وإنّما هو سؤال
استعلامٍ واستكشافٍ عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربّنا، ما الحكمة في خلق
هؤلاء مع أنّ منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدّماء، فإن كان المراد عبادتك،
فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، أي: نصلّي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منّا
شيءٌ من ذلك، وهلّا وقع الاقتصار علينا؟
قال اللّه تعالى مجيبًا لهم عن هذا السّؤال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}
أي: إنّي أعلم من المصلحة الرّاجحة في خلق هذا الصّنف على المفاسد الّتي
ذكّرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإنّي سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم
الرّسل، ويوجد فيهم الصّدّيقون والشّهداء، والصّالحون والعبّاد، والزّهّاد
والأولياء، والأبرار والمقرّبون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبّون
له تبارك وتعالى المتّبعون رسله، صلوات اللّه وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصّحيح:«أنّ
الملائكة إذا صعدت إلى الرّبّ تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف
تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون». وذلك لأنّهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصّبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السّلام: «يرفع إليه عمل اللّيل قبل النّهار، وعمل النّهار قبل اللّيل» فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، من تفسير قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقيل: معنى قوله جوابًا لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أنّ لي حكمةً مفصّلةً في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها،
وقيل: إنّه جوابٌ لقولهم: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} فقال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تضمّن قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال اللّه تعالى لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} من أنّ بقاءكم في السّماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدّين مع غيرها من الأجوبة، واللّه أعلم.
ذكر أقوال المفسّرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جريرٍ:
حدّثني القاسم بن الحسن قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني الحجّاج، عن جرير
بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن وأبي بكرٍ، عن الحسن وقتادة، قالوا: «قال اللّه للملائكة:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}قال لهم: إنّي فاعلٌ. وهذا معناه أنّه أخبرهم بذلك».
وقال السّدّيّ:«استشار الملائكة في خلق آدم».
رواه ابن أبي حاتمٍ، قال: وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع
إلى معنى الإخبار ففيها تساهلٌ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جريرٍ
أحسن، واللّه أعلم.
{في الأرض}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو سلمة، حدّثنا حمّادٌ حدّثنا
عطاء بن السّائب، عن عبد الرّحمن بن سابطٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم قال:«دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة، فقال اللّه: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً»، يعني مكّة.
وهذا مرسلٌ، وفي سنده ضعفٌ، وفيه مدرج، وهو أنّ المراد بالأرض مكّة، واللّه أعلم، فإنّ الظّاهر أنّ المراد بالأرض أعمّ من ذلك.
{خليفةً} قال السّدّيّ في تفسيره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «أنّ اللّه تعالى قال للملائكة:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا».
قال ابن جريرٍ: فكان تأويل الآية على هذا: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}
منّي، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإنّ ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه
في طاعة اللّه والحكم بالعدل بين خلقه. وأمّا الإفساد وسفك الدّماء بغير
حقّها فمن غير خلفائه.
قال ابن جريرٍ: وإنّما [كان تأويل الآية على هذا] معنى الخلافة الّتي ذكرها اللّه إنّما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثمّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}[يونس: 14]. ومن ذلك قيل للسّلطان الأعظم: خليفةٌ؛ لأنّه خلف الّذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا.
قال: وكان محمّد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} يقول: «ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمّرها خلفًا ليس منكم».
قال ابن جريرٍ: وحدّثنا أبو كريب، حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا». قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثمّ خلق آدم وأسكنه إيّاها، فلذلك قال:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}».
وقال سفيان الثّوريّ، عن عطاء بن السّائب، عن ابن سابطٍ: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قال:«يعنون [به] بني آدم».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «قال
اللّه للملائكة: إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً وليس
للّه -عزّ وجلّ- خلقٌ إلّا الملائكة، والأرض ليس فيها خلقٌ، قالوا: أتجعل
فيها من يفسد فيها [ويسفك الدّماء]؟!».
وقد تقدّم ما رواه
السّدّيّ، عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وغيرهما من الصّحابة: أنّ اللّه أعلم
الملائكة بما يفعل ذرّيّة آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدّم آنفًا ما رواه
الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: أنّ الجنّ أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت
الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي، حدّثنا أبو معاوية،
حدثنا الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، قال: «كان
الجنّ بنو الجانّ في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنةٍ، فأفسدوا في الأرض،
وسفكوا الدّماء، فبعث اللّه جندًا من الملائكة فضربوهم، حتّى ألحقوهم
بجزائر البحور، فقال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء؟ قال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} إلى قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}[البقرة: 33] قال: «خلق
اللّه الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛
فكفر قومٌ من الجنّ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت
الدّماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثمّ قالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها}كما أفسدت الجنّ{ويسفك الدّماء}كما سفكوا».
قال ابن أبي حاتمٍ: وحدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا مبارك بن فضالة، حدّثنا الحسن، قال: «قال اللّه للملائكة:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}قال لهم: إنّي فاعلٌ. فآمنوا بربّهم، فعلّمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الّذي علّمهم:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}؟{قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}».
قال الحسن: «إنّ الجنّ كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدّماء، ولكن جعل اللّه في قلوبهم أنّ ذلك سيكون فقالوا بالقول الّذي علّمهم».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}:«كان [اللّه] أعلمهم أنّه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، فذلك حين قالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها}».
وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام الرّازيّ، حدّثنا ابن المبارك، عن معروفٍ،
يعني ابن خرّبوذ المكّيّ، عمّن سمع أبا جعفرٍ محمّد بن عليٍّ يقول: «السّجلّ
ملكٌ، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كلّ يومٍ ثلاث لمحاتٍ
ينظرهنّ في أمّ الكتاب، فنظر نظرةً لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان
فيه من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلمّا قال
تعالى:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}قالا ذلك استطالةً على الملائكة».
وهذا أثرٌ غريبٌ.
وبتقدير صحّته إلى أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسن الباقر، فهو نقله عن
أهل الكتاب، وفيه نكارةٌ توجب ردّه، واللّه أعلم. ومقتضاه أنّ الّذين قالوا
ذلك إنّما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السّياق.
وأغرب منه ما رواه
ابن أبي حاتمٍ -أيضًا- حيث قال: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن أبي عبد
اللّه، حدّثنا عبد اللّه بن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال: سمعت أبي يقول:«إنّ الملائكة الّذين قالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}كانوا عشرة آلافٍ، فخرجت نارٌ من عند اللّه فأحرقتهم».
وهذا -أيضًا- إسرائيليٌّ منكرٌ كالّذي قبله، واللّه أعلم.
قال ابن جريجٍ:«إنّما تكلّموا بما أعلمهم اللّه أنّه كائنٌ من خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}».
وقال ابن جريرٍ: وقال بعضهم: إنّما قالت الملائكة ما قالت: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}؛
لأنّ اللّه أذن لهم في السّؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أنّ ذلك كائنٌ من
بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التّعجّب منها: وكيف يعصونك يا ربّ
وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربّهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: أنّ ذلك كائنٌ منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعًا.
قال: وقال بعضهم:
ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عمّا لم يعلموا من ذلك، فكأنّهم قالوا:
يا ربّ خبّرنا، مسألة [الملائكة] استخبارٌ منهم، لا على وجه الإنكار،
واختاره ابن جريرٍ.
وقال سعيدٌ عن قتادة: «قوله:{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد علمت الملائكة من علم اللّه أنّه لا شيء أكره إلى اللّه من سفك الدّماء والفساد في الأرض{ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}فكان في علم اللّه أنّه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة»،
قال: وذكر لنا عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقول: «إنّ
اللّه لمّا أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما اللّه خالقٌ خلقًا أكرم عليه
منّا ولا أعلم منّا، فابتلوا بخلق آدم، وكلّ خلقٍ مبتلًى كما ابتليت
السّماوات والأرض بالطّاعة فقال:{ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين}[فصّلت: 11]».
وقوله تعالى: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «التسبيح: التسبيح، والتّقديس: الصّلاة».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ- وعن ناسٍ من الصّحابة: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «يقولون: نصلّي لك».
وقال مجاهدٌ: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «نعظمك ونكبرك».
وقال الضّحّاك: «التّقديس: التّطهير».
وقال محمّد بن إسحاق: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه».
وقال ابن جريرٍ:
التّقديس: هو التّعظيم والتّطهير، ومنه قولهم: سبّوح قدّوس، يعني بقولهم:
سبوح، تنزيهٌ له، وبقولهم: قدّوسٌ، طهارةٌ وتعظيمٌ له. ولذلك قيل للأرض:
أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: {ونحن نسبّح بحمدك} ننزّهك ونبرّئك ممّا يضيفه إليك أهل الشّرك بك {ونقدّس لك} ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطّهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
[وفي صحيح مسلمٍ عن أبي ذرٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه وبحمده» وروى البيهقيّ عن عبد الرّحمن بن قرطٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السّماوات العلا «سبحان العليّ الأعلى سبحانه وتعالى»].
{قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال قتادة: «فكان في علم اللّه أنّه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة»، وسيأتي عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وغير واحدٍ من الصّحابة والتّابعين أقوالٌ في حكمة قوله تعالى: {قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقد استدلّ
القرطبيّ وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين النّاس فيما
يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود،
ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمّة الّتي لا يمكن
إقامتها إلّا بالإمام، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ.
والإمامة تنال
بالنّصّ كما يقوله طائفةٌ من أهل السّنّة في أبي بكرٍ، أو بالإيماء إليه
كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصّدّيق بعمر
بن الخطّاب، أو بتركه شورى في جماعةٍ صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع
أهل الحلّ والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحدٍ منهم له فيجب التزامها عند
الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، واللّه أعلم، أو بقهر واحدٍ
النّاس على طاعته فتجب لئلّا يؤدّي ذلك إلى الشّقاق والاختلاف، وقد نصّ
عليه الشّافعيّ.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلافٌ،
فمنهم من قال: لا يشترط،
وقيل: بلى ويكفي شاهدان.
وقال الجبّائيّ:
يجب أربعةٌ وعاقدٌ ومعقودٌ له، كما ترك عمر رضي اللّه عنه، الأمر شورى بين
ستّةٍ، فوقع الأمر على عاقدٍ وهو عبد الرّحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان،
واستنبط وجوب الأربعة الشّهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظرٌ، واللّه
أعلم.
ويجب أن يكون
ذكرًا حرًّا بالغًا عاقلًا مسلمًا عدلًا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء
خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًّا على الصّحيح، ولا يشترط الهاشميّ ولا
المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الرّوافض،
ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلافٌ، والصّحيح أنّه لا ينعزل لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إلّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من اللّه فيه برهانٌ».
وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلافٌ، وقد عزل الحسن بن عليٍّ نفسه وسلّم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذرٍ وقد مدح على ذلك.
فأمّا نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «من جاءكم وأمركم جميعٌ يريد أن يفرّق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان». وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ، منهم إمام الحرمين،
وقالت الكرّاميّة:
يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان عليٌّ ومعاوية إمامين واجبي الطّاعة،
قالوا: وإذا جاز بعث نبيّين في وقتٍ واحدٍ وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأنّ
النّبوّة أعلى رتبةً بلا خلافٍ،
وحكى إمام الحرمين
عن الأستاذ أبي إسحاق أنّه جوّز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار
واتّسعت الأقاليم بينهما، وتردّد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال
خلفاء بني العبّاس بالعراق والفاطميّين بمصر والأمويّين بالمغرب). [تفسير ابن كثير: 1/ 216-222]
تفسير قوله
تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31)}
وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى -عليه السلام- في خاصته.
وقرأ اليماني: «وعلّم» بضم العين على بناء الفعل للمفعول، «آدم» مرفوعا. قال أبو الفتح: «وهي قراءة يزيد البربري»،
وآدم أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه،
وقيل: آدم وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه.
وقال الطبري: «آدم فعل رباعي سمي به»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث».
واختلف المتأولون في قوله: {الأسماء} فقال جمهور الأمة: «علمه التسميات» وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول أبين، ولفظة -علمه- تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها».
وقال حميد الشامي: «علمه أسماء النجوم فقط».
وقال الربيع بن خثيم: «علمه أسماء الملائكة فقط».
وقال عبد الرحمن بن زيد: «علمه أسماء ذريته فقط».
وقال الطبري: «علمه أسماء ذريته والملائكة»، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى: {ثمّ عرضهم على الملائكة}.
وحكى النقاش عن ابن عباس: أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال آخرون: «علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها».
وقال ابن قتيبة: «علمه أسماء ما خلق في الأرض».
وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها.
وقال بعضهم: «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته»، وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: «علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه»، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات. وقال أكثر العلماء: «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح».
وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص عند التعليم».
وقال قوم: «بل وصفها له دون عرض أشخاص».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها احتمالات، قال الناس بها.
وقرأ أبي بن كعب: «ثم عرضها». وقرأ ابن مسعود: «ثم عرضهن» .
واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟
فقال ابن مسعود وغيره: «عرض الأشخاص».
وقال ابن عباس وغيره: «عرض الأسماء»،
فمن قال في
الأسماء بعموم كل شيء قال: عرضهم أمة أمة ونوعا نوعا، ومن قال في الأسماء
إنها التسميات استقام على قراءة أبيّ: «عرضها»، ونقول في قراءة من قرأ
«عرضهم»: إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء
عرضهم.
و{أنبئوني} معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، ومنه النبيء.
وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: {هؤلاء} ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة.
وليس في هذه الآية
ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال: إنه
تعالى عرض على الملائكة أشخاصا؛ استقام له مع لفظ {هؤلاء}،
ومن قال: إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة بـ{هؤلاء} إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم: لأي شخص هذا.
قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك
عليه الأجناس أشخاصا، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد
تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وهؤلاء لفظ
مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى:
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيـ.......ـت نعالا محذوة بنعال
و{كنتم} في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين فأنبئوني.
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه السلام: «معنى الآية: إن كنتم صادقين في أن الخليفة يفسد ويسفك».
وقال آخرون: صادقين في أني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي.
وقال الحسن وقتادة: «روي
أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أعلم
منا ولا أكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما
ظنوا فالمعنى: إن كنتم صادقين في دعواكم العلم».
وقال قوم: معنى الآية: إن كنتم صادقين في جواب السؤال عالمين بالأسماء. قالوا: ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: {سبحانك} حكاه النقاش. قال: ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: {كم لبثت}؟ ولم يشترط عليه الإصابة. فقال، ولم يصب فلم يعنف، وهذا كله محتمل.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: معنى إن كنتم: «إذ كنتم». قال الطبري: وهذا خطأ.
وإن قال قائل: ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة: {إنّي جاعلٌ} الآية،
قيل: هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب).[المحرر الوجيز: 1 /169-173]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وعلّم
آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن
كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم
الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم
أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
(33)}
هذا مقامٌ ذكر
اللّه تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصّه به من علم أسماء كلّ
شيءٍ دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنّما قدّم هذا الفصل على ذاك،
لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن
ذلك، فأخبرهم [اللّه] تعالى بأنّه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا
المقام عقيب هذا ليبيّن لهم شرف آدم بما فضّل به عليهم في العلم، فقال
تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}.
وقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدّوابّ، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس».
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «هي هذه الأسماء التي يتعارف بها النّاس: إنسانٌ، ودابّةٌ، وسماءٌ، وأرضٌ، وسهلٌ، وبحرٌ، وجملٌ، وحمارٌ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها».
وروى ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ، من حديث عاصم بن كليبٍ، عن سعيد بن معبدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم الصّحفة والقدر»، قال: «نعم حتّى الفسوة والفسيّة».
وقال مجاهدٌ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم كلّ دابّةٍ، وكلّ طيرٍ، وكلّ شيءٍ».
وكذلك روي عن سعيد بن جبيرٍ وقتادة وغيرهم من السّلف: أنّه علّمه أسماء كلّ شيءٍ،
وقال الرّبيع في روايةٍ عنه: «أسماء الملائكة».
وقال حميدٌ الشّاميّ: «أسماء النّجوم».
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: «علّمه أسماء ذرّيّته كلّهم».
واختار ابن جريرٍ أنّه علّمه أسماء الملائكة وأسماء الذّرّيّة؛ لأنّه قال: {ثمّ عرضهم}
وهذا عبارةٌ عمّا يعقل. وهذا الّذي رجّح به ليس بلازمٍ، فإنّه لا ينفي أن
يدخل معهم غيرهم، ويعبّر عن الجميع بصيغة من يعقل للتّغليب. كما قال: {واللّه
خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين
ومنهم من يمشي على أربعٍ يخلق اللّه ما يشاء إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}[النّور: 45].
[وقد قرأ عبد اللّه بن مسعودٍ: "ثمّ عرضهنّ" وقرأ أبيّ بن كعبٍ: "ثمّ عرضها" أي: السّماوات].
والصّحيح أنّه
علّمه أسماء الأشياء كلّها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن عبّاسٍ حتّى
الفسوة والفسية. يعني أسماء الذّوات والأفعال المكبّر والمصغّر؛ ولهذا قال
البخاريّ في تفسير هذه الآية من كتاب التّفسير من صحيحه: حدّثنا مسلم بن
إبراهيم، حدّثنا مسلمٌ، حدّثنا هشامٌ، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ رضي اللّه عنه
عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقال لي خليفة: حدّثنا يزيد بن زريع،
حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة عن أنسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يجتمع
المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا؟ فيأتون آدم
فيقولون: أنت أبو النّاس، خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء
كلّ شيءٍ، فاشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست
هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا فإنّه أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى
أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم. ويذكر سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ
فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرّحمن، فيأتونه، فيقول: لست هناكم؛ فيقول:
ائتوا موسى عبدًا كلمه اللّه، وأعطاه التّوراة، فيأتونه، فيقول: لست هناكم،
ويذكر قتل النفس بغير نفس، فيستحي من ربّه؛ فيقول: ائتوا عيسى عبد اللّه
ورسوله وكلمة اللّه وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمّدًا عبدًا
غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني، فأنطلق حتّى أستأذن
على ربّي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء اللّه، ثمّ
يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفّع، فأرفع رأسي، فأحمده
بتحميدٍ يعلمنيه، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود إليه،
وإذا رأيت ربّي مثله، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود
الرّابعة فأقول: ما بقي في النّار إلّا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».
هكذا ساق البخاريّ
هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلمٌ والنّسائيّ من حديث هشامٍ، وهو ابن أبي
عبد اللّه الدّستوائي، عن قتادة، به. وأخرجه مسلمٌ والنّسائيّ وابن ماجه من
حديث سعيدٍ، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة.
ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصّلاة والسّلام: «فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو النّاس خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ»، فدلّ هذا على أنّه علّمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: {ثمّ عرضهم على الملائكة} يعني: المسمّيات؛ كما قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة قال:«ثمّ عرض تلك الأسماء على الملائكة{فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}».
وقال السّدّيّ في تفسيره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}:«ثمّ عرض الخلق على الملائكة».
وقال ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ثمّ عرضهم}«عرض أصحاب الأسماء على الملائكة».
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثني الحجّاج، عن جرير بن حازمٍ ومبارك بن
فضالة، عن الحسن -وأبي بكرٍ، عن الحسن وقتادة -قالا: «علّمه اسم كلّ شيءٍ، وجعل يسمّي كلّ شيءٍ باسمه، وعرضت عليه أمّةً أمّةً».
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: {إن كنتم صادقين}:«إنّي لم أخلق خلقًا إلّا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {إن كنتم صادقين}:«إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفةً».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء».
وقال ابن جريرٍ:
وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عبّاسٍ ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال:
أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيّها الملائكة القائلون: أتجعل في الأرض من
يفسد فيها ويسفك الدّماء، من غيرنا أم منّا، فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟
إن كنتم صادقين في قيلكم: إنّي إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني
ذرّيّته وأفسدوا وسفكوا الدّماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتّبعتم أمري
بالتّعظيم لي والتّقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الّذين عرضت
عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجودٍ من الأمور الكائنة الّتي
لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين).[تفسير ابن كثير: 1/ 222-225]
تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و{سبحانك} معناه: تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، وسبحانك نصب على المصدر.
وقال الكسائي: «نصبه على أنه منادى مضاف».
قال الزهراوي: موضع (ما) من قولهم: {ما علّمتنا} نصب بـ{علّمتنا}، وخبر التبرئة في {لنا}،
ويحتمل أن يكون موضع (ما) رفعا على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول: لا
إله إلا الله أي: لا إله في الوجود إلا الله، وأنت في موضع نصب تأكيد
للضمير في إنّك، أو في موضع رفع على الابتداء. والعليم خبره، والجملة خبر
«إن»، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب.
والعليم معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل.
والحكيم معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه المحكم، كما قال عمرو بن معديكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي: المسمع، ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل.
وقال قوم: الحكيم المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس ما نعته، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم.......إني أخاف عليكم أن أغضبا
).[المحرر الوجيز: 1/ 173-174]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ([وقوله] {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم}
هذا تقديسٌ وتنزيهٌ من الملائكة للّه تعالى أن يحيط أحدٌ بشيءٍ من علمه
إلّا بما شاء، وأن يعلموا شيئًا إلّا ما علّمهم اللّه تعالى، ولهذا قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} أي: العليم بكلّ شيءٍ، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التّامّ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا حفص بن غياثٍ، عن حجّاجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ: سبحان اللّه، قال: «تنزيه اللّه نفسه عن السّوء». [قال] ثمّ قال عمر لعلي وأصحابه عنده:«لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان اللّه؟» فقال له عليٌّ: «كلمةٌ أحبّها اللّه لنفسه، ورضيها، وأحبّ أن تقال».
قال: وحدّثنا أبي، حدّثنا ابن نفيلٍ، حدّثنا النّضر بن عربيٍّ قال: سأل رجلٌ ميمون بن مهران عن "سبحان اللّه"، فقال: «اسمٌ يعظّم اللّه به، ويحاشى به من السّوء»).[تفسير ابن كثير: 1/ 225]
* للاستزادة ينظر: هنا