الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (33) إلى الآية (34) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

4187

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث

تفسير سورة البقرة [من الآية (33) إلى الآية (34) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

18 Aug 2014

4187

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) }



تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)}
{أنبئهم} معناه أخبرهم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين؛ أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحيانا، تقول: نبئت زيدا.
قال سيبويه: معناه نبئت عن زيد. والضمير في {أنبئهم} عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في {أسمائهم} مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم.
قال أبو علي: «كلهم قرأ «أنبئهم» بالهمز وضم الهاء، إلا ما روي عن ابن عامر، «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به».
قال أبو عمرو الداني: «وقرأ الحسن والأعرج: «أنبيهم» بغير همز».
قال ابن جني: «وقرأ الحسن «أنبهم»، على وزن «أعطهم»، وقد روي عنه، «أنبيهم» بغير همز».
قال أبو عمرو: «وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس».
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: «أنبهم» كأعطهم فعلى إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول «أنبيت» كأعطيت، وهذا ضعيف في اللغة، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر.
قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: {فلمّا أنبأهم} نبوة لآدم عليه السلام، إذ أمره الله أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
ويجوز فتح الياء من «إني» وتسكينها.
قال الكسائي: «رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزة فتحوها».
قال أبو علي: «كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، إذا كانت متصلة باسم، أو بفعل، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها، نحو قوله تعالى: {ولا تفتنّي ألا}[التوبة: 49] ، وقوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152]، والذي يخف: {إنّي أرى}[الأنفال: 48، يوسف: 43، الصافات: 102] ، {وأجري إلّا على اللّه}[يونس: 72، هود: 29، سبأ: 47].
وقوله تعالى: {أعلم غيب السّماوات والأرض} معناه: ما غاب عنكم، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته.
و(ما) في موضع نصب بـ«أعلم».
قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله: {أعلم} اسما بمعنى التفضيل في العلم، فتكون (ما) في موضع خفض بالإضافة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإذا قدر الأول اسما فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب "غيب"، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {ما تبدون وما كنتم تكتمون}؛
فقالت طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.
وحكى مكي أن المراد بقول {ما تبدون} قولهم: {أتجعل فيها} الآية.
وحكى المهدوي أن {ما تبدون} قولهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه.
وقال الزهراوي: «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم».
واختلف في المكتوم؛
فقال ابن عباس وابن مسعود: «المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر»،
ويتوجه قوله: {تكتمون} للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا، أي: منكم فاعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: {إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}[الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل: الأقرع،
وقال قتادة: «المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم: ليخلق ربنا ما شاء»، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه،
- وإذ من قوله: {وإذ قلنا} معطوف على (إذ) المتقدمة). [المحرر الوجيز: 1/ 174-176]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} .
قال زيد بن أسلم: «قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتّى عدّد الأسماء كلّها، حتّى بلغ الغراب».
وقال مجاهدٌ في قول اللّه: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} قال: «اسم الحمامة، والغراب، واسم كلّ شيءٍ».
وروي عن سعيد بن جبيرٍ، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.
فلمّا ظهر فضل آدم، عليه السّلام، على الملائكة، عليهم السّلام، في سرده ما علّمه اللّه تعالى من أسماء الأشياء، قال اللّه تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} أي: ألم أتقدّم إليكم أنّي أعلم الغيب الظّاهر والخفيّ، كما قال [اللّه] تعالى: {وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السّرّ وأخفى} وكما قال تعالى إخبارًا عن الهدهد أنه قال لسليمان: {ألا يسجدوا للّه الّذي يخرج الخبء في السّماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * اللّه لا إله إلا هو ربّ العرش العظيم}.
وقيل في [معنى] قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} غير ما ذكرناه؛ فروى الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال:«يقول: أعلم السّرّ كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، قال:«قولهم:{أتجعل فيها من يفسد فيها}فهذا الّذي أبدوا{وما كنتم تكتمون} يعني: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر».
وكذلك قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ، والسّدّيّ، والضّحّاك، والثّوريّ. واختار ذلك ابن جريرٍ.
وقال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، والحسن، وقتادة: «هو قولهم: لم يخلق ربّنا خلقًا إلّا كنّا أعلم منه وأكرم».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: «{وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}فكان الّذي أبدوا قولهم:{أتجعل فيها من يفسد فيها}،وكان الّذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلّا كنّا أعلم منه وأكرم. فعرفوا أنّ اللّه فضّل عليهم آدم في العلم، والكرم».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يونس، حدّثنا ابن وهبٍ عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قصّة الملائكة وآدم: «فقال اللّه للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علمٌ، إنّما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته؛ ولذلك أخفيت عنكم أنّي أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني»، قال: «وسبق من اللّه{لأملأنّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين}»، قال: «ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه»، قال: «ولمّا رأوا ما أعطى اللّه آدم من العلم أقرّوا له بالفضل».
وقال ابن جريرٍ: وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عبّاسٍ، وهو أنّ معنى قوله تعالى: {وأعلم ما تبدون} وأعلم -مع علمي غيب السّماوات والأرض- ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيءٌ، سواءٌ عندي سرائركم، وعلانيتكم.
والّذي أظهروه بألسنتهم قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها}، والّذي كانوا يكتمون: ما كان عليه منطويًا إبليس من الخلاف على الله في أوامره، والتكبر عن طاعته.
قال: وصحّ ذلك كما تقول العرب: قتل الجيش وهزموا، وإنّما قتل الواحد أو البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: {إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات}[الحجرات: 4] ذكر أنّ الّذي نادى إنّما كان واحدًا من بني تميمٍ، قال: وكذلك قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}).[تفسير ابن كثير: 1/ 225-227]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)}
قرأت القراء {للملائكة اسجدوا} بالكسر، وقرأ أبو جعفر المدني وحده (للملائكة اسجدوا) بالضم. وأبو جعفر من جلّة أهل المدينة وأهل الثّبت في القراءة، إلا أنه غلط في هذا الحرف؛ لأن "الملائكة" في موضع خفض، فلا يجوز أن يرفع المخفوض، ولكنه شبّه تاء التأنيث بكسر ألف الوصل، لأنك إذا ابتدأت قلت: اسجدوا، وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غير الصواب.
و{إذ} في موضع نصب عطف على {إذ} التي قبلها.
و{الملائكة} واحدهم: ملك، والأصل فيه "ملأك"، أنشد سيبويه:
فلست لأنسي ولكن لمـلأك....... تنزّل من جوّ السّماء يصوب
ومعناه: صاحب رسالة، ويقال: مأْلُكة ومأْلَكَة، ومألك جمع مألكة، قال الشاعر:
أبــلــغ الـنـعـمـان عــنــي مـالــكًــا.......أنه قد طال حبسي وانتظاري
وقوله: {لآدم}؛ "آدم" في موضع جر إلا أنه لا ينصرف؛ لأنّه على وزن "أفعل"، يقول أهل اللغة: إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خلق من تراب، وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب، فإذا قلت: مررت بآدم وآدم آخر، فإن النحويين يختلفون في "أفعل" الذي يسمى به وأصله الصفة، فسيبويه والخليل ومن قال بقولهما يقولون: إنه ينصرف في النكرة؛ لأنك إذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها ينصرف.
وقال أبو الحسن الأخفش: إذا سمّيت به رجلاً، فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه، فتقول: مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.
ومعنى السجود لآدم: عبادة الله عزّ وجلّ لا عبادة آدم، لأن الله عزّ وجلّ إنما خلق ما يعقل؛ لعبادته.
فإذا ابتدأت قلت: اسجدوا، فضممت الألف، والألف لا حظ لها في الحركة، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها، وإنّما أدخلت للساكن الذي بعدها لأنه لا يبتدئ بساكن، فكان حقها الكسر لأن بعدها ساكناً وتقديرها السكون، فيجب أن تكسر لالتقاء السّاكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر، وكذلك كل ما كان ثالثه مضموماً في الفعل المستقبل نحو قوله: {انظر كيف يفترون على اللّه الكذب}، ونحو: {اقتلوا يوسف}؛ لأنه من "نَظَر ينظر" و"قتل يقتل"، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة؛ لأنها لا تقع في كلام العرب -لثقلها- بعدها، فليس في الكلام مثل "فعل" ولا مثل "إفعل".
وقوله عزّ وجلّ: {فسجدوا إلا إبليس أبى}
قال قوم: إن إبليس كان من الملائكة، فاستثني منهم في السجود.
وقال قوم من أهل اللغة: لم يكن إبليس من الملائكة، والدليل على ذلك قوله: {إلّا إبليس كان من الجنّ}.
فقيل لهؤلاء: فكيف جاز أن يستثنى منهم؟
فقالوا: إن الملائكة -وإياه- أمروا بالسجود، قالوا: ودليلنا على أنه أمر معهم قوله: {إلا إبليس أبى} فلم يأب إلا وهو مأمور.
وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزّ وجلّ.
والقول الآخر غير ممتنع، ويكون {كان من الجن} أي: كان ضالاً كما أن الجن كانوا ضالين، فجعل منهم كما قال في قصته {وكان من الكافرين}، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضهم، كما قال عزّ وجل: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}.
وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي قبلها والتي تليها؛ لأنه إخبار بما ليس من علم العرب، ولا يعلمه إلا أهل الكتاب، أو نبي أوحي إليه.
و"إبليس" لم يصرف؛ لأنه اسم أعجمي، اجتمع فيه العجمة والمعرفة، فمنع من الصرف). [معاني القرآن: 1/ 113-114]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) :(وقال قتادة: «المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه»،
- وإذ من قوله: {وإذ قلنا} معطوف على إذ المتقدمة.
وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته وقلنا كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع، وقوله للملائكة عموم فيهم.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «للملائكة اسجدوا» برفع تاء للملائكة اتباعا لضمة ثالث المستقبل.
قال أبو علي: «وهذا خطأ».
وقال الزجاج: «أبو جعفر من رؤساء القراءة ولكنه غلط في هذا».
قال أبو الفتح: لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفا ساكنا صحيحا، نحو قوله تعالى: {وقالت اخرج عليهنّ}[يوسف: 31] والسجود في كلام العرب: الخضوع والتذلل، ومنه قول الشاعر [زيد الخيل]:
... ... ... ..........ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ذكره النقاش وغيره، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود.
وقوله تعالى: {فقعوا له ساجدين}[الحجر: 29] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقع.
واختلف في حال السجود لآدم، فقال ابن عباس: «تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله».
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس: «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام، لا سجود عبادة».
وقال الشعبي: «إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى {لآدم} إلى آدم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام.
وحكى النقاش عن مقاتل: «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه». قال: «والقرآن يرد على هذا القول».
وقال قوم: سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يرد هذا.
وقوله تعالى: {إلّا إبليس} نصب على الاستثناء المتصل، لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، «وكان خازنا وملكا على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل»، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكا».
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: «واسمه الحارث».
وقال شهر بن حوشب: «كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبد وخوطب معها»، وحكاه الطبري عن ابن مسعود.
والاستثناء على هذه الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة: {لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
ورجح الطبري قول من قال: «إن إبليس كان من الملائكة». وقال: «ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة».
وقوله عز وجل: {كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه}[الكهف: 50] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا،
أو على أن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، قال تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً}. [الصافات: 158] وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام:
وسخّر من جن الملائك تسعة.......قياما لديه يعملون بلا أجر
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ، لما كان خازنا عليها،
وإبليس لا ينصرف لأنه اسم أعجميّ معرف.
قال الزجاج: «ووزنه فعليل».
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم: هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله، وأيوب من آب يؤوب، مثل قيوم من قام يقوم، ولما لم تصرف هذه -ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا.......قال نعم أعرفه وأبلسا
أي: تغير وبعد عن العمار والإنس به، ومثله قول الآخر:
... ... ... ..........وفي الوجوه صفرة وإبلاس
ومنه قوله تعالى: {فإذا هم مبلسون}[الأنعام: 44] أي: يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون.
- و"أبى" معناه: امتنع من فعل ما أمر به، واستكبر: دخل في الكبرياء، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: «بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في أكله من شجرة قد نهي عن قربها».
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى {وكان من الكافرين}: وصار من الكافرين.
وقال ابن فورك: «وهذا خطأ ترده الأصول».
وقالت فرقة: «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم، لما فعل في الكفر فعلهم».
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول: «{وكان من الكافرين} معناه: من العاصين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت.
وروي أن الله تعالى خلق خلقا وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإسناد في مثل هذا غير وثيق.
وقال جمهور المتأولين: معنى {وكان من الكافرين} أي: في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
وذهب الطبري: إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
واختلف هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة،
ولا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره،
- فمن قال إنه كفر جهلا قال: «إنه سلب العلم عند كفره».
- ومن قال كفر عنادا قال: «كفر ومعه علمه»، قال: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء.
ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن). [المحرر الوجيز: 1 /176-181]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)}
وهذه كرامةٌ عظيمةٌ من اللّه تعالى لآدم امتنّ بها على ذرّيّته، حيث أخبر أنّه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم.
وقد دلّ على ذلك أحاديث -أيضًا- كثيرةٌ منها حديث الشّفاعة المتقدّم، وحديث موسى، عليه السّلام: «ربّ، أرني آدم الّذي أخرجنا ونفسه من الجنّة»، فلمّا اجتمع به قال: «أنت آدم الّذي خلقه اللّه بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته». قال، وذكر الحديث كما سيأتي.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ قال: «كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجنّ، خلقوا من نار السّموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنًا من خزّان الجنّة»،
قال: «وخلقت الملائكة كلّهم من نورٍ غير هذا الحيّ»،
قال: «وخلقت الجنّ الّذين ذكروا في القرآن من مارجٍ من نارٍ، [وهو لسان النّار الّذي يكون في طرفها إذا لهّبت»،
قال: «وخلق الإنسان من طينٍ]. فأوّل من سكن الأرض الجنّ فأفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا».
قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس في جندٍ من الملائكة -وهم هذا الحيّ الّذي يقال لهم: الجنّ- فقتلهم إبليس ومن معه، حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحدٌ».
قال: «فاطّلع اللّه على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الّذين كانوا معه، فقال اللّه تعالى للملائكة الّذين معه:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}فقالت الملائكة مجيبين له:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}كما أفسدت الجنّ وسفكت الدّماء، وإنّما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال:{إنّي أعلم ما لا تعلمون}يقول: إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره،
قال: «ثمّ أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق اللّه آدم من طينٍ لازبٍ -واللّازب: اللّزج الصّلب من حمإٍ مسنونٍ منتنٍ، وإنّما كان حمأ مسنونًا بعد التّراب. فخلق منه آدم بيده»،
قال: «فمكث أربعين ليلةً جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل، أي: فيصوّت».
قال: «فهو قول اللّه تعالى: {من صلصالٍ كالفخّار}[الرحمن: 14]يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت».
قال: «ثمّ يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره، ويخرج من فيه. ثمّ يقول: لست شيئًا -للصّلصلة- ولشيءٍ ما خلقت، ولئن سلّطت عليك لأهلكنّك، ولئن سلّطت عليّ لأعصينّك».
قال: «فلمّا نفخ اللّه فيه من روحه، أتت النّفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيءٌ منها في جسده إلّا صار لحمًا ودمًا، فلمّا انتهت النّفخة إلى سرّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول اللّه تعالى:{وكان الإنسان عجولا}، قال: «ضجرٌ لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء».
قال: «فلمّا تمّت النّفخة في جسده عطس، فقال: "الحمد للّه ربّ العالمين" بإلهام اللّه. فقال [اللّه] له: "يرحمك اللّه يا آدم"».
قال: «ثمّ قال [اللّه] تعالى للملائكة الّذين كانوا مع إبليس خاصّةً دون الملائكة الّذين في السّماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلّهم أجمعون إلّا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدّث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خيرٌ منه وأكبر سنًّا وأقوى خلقًا، خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ. يقول: إنّ النّار أقوى من الطّين».
قال: «فلمّا أبى إبليس أن يسجد أبلسه اللّه، أي: آيسه من الخير كلّه، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته، ثمّ علّم آدم الأسماء كلّها، وهي هذه الأسماء الّتي يتعارف بها النّاس: إنسانٌ ودابّةٌ وأرضٌ وسهلٌ وبحرٌ وجبلٌ وحمارٌ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثمّ عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الّذين كانوا مع إبليس، الّذين خلقوا من نار السّموم، وقال لهم:{أنبئوني بأسماء هؤلاء}يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء{إن كنتم صادقين}إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفةً».
قال: «فلمّا علمت الملائكة موجدة اللّه عليهم فيما تكلّموا به من علم الغيب، الّذي لا يعلمه غيره، الّذي ليس لهم به علمٌ قالوا: سبحانك، تنزيهًا للّه من أن يكون أحدٌ يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك{لا علم لنا إلا ما علّمتنا} تبرّيًا منهم من علم الغيب، إلّا ما علّمتنا كما علّمت آدم، فقال:{يا آدم أنبئهم بأسمائهم}يقول: أخبرهم بأسمائهم{فلمّا أنبأهم}[يقول: أخبرهم]{بأسمائهم قال ألم أقل لكم}أيّها الملائكة خاصّةً{إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض}ولا يعلم غيري{وأعلم ما تبدون}يقول: ما تظهرون{وما كنتم تكتمون}يقول: أعلم السّرّ كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار».
هذا سياقٌ غريبٌ، وفيه أشياء فيها نظرٌ، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عبّاسٍ يروى به تفسيرٌ مشهورٌ.
وقال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «لمّا فرغ اللّه من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك السّماء الدّنيا، وكان من قبيلةٍ من الملائكة يقال لهم: الجنّ، وإنّما سمّوا الجنّ لأنّهم خزّان الجنّة، وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبرٌ وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلّا لمزيّةٍ لي على الملائكة. فلمّا وقع ذلك الكبر في نفسه اطّلع اللّه على ذلك منه. فقال اللّه للملائكة:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}قالوا: ربّنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربّنا،{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}يعني: من شأن إبليس. فبعث اللّه جبريل إلى الأرض ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: إنّي أعوذ باللّه منك أن تقبض منّي أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: ربّ منّي عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع ولم أنفّذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلط ولم يأخذ من مكانٍ واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبلّ التّراب حتّى عاد طينًا لازبًا -واللّازب: هو الّذي يلتزق بعضه ببعضٍ- ثمّ قال للملائكة:{إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ * فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص:71، 72]فخلقه اللّه بيده لئلّا يتكبّر إبليس عنه، ليقول له: تتكبّر عمّا عملت بيدي، ولم أتكبّر أنا عنه. فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طينٍ أربعين سنةً من مقدار يوم الجمعة، فمرّت به الملائكة ففزعوا منه لمّا رأوه، وكان أشدّهم فزعًا منه إبليس، فكان يمرّ به فيضربه فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخّار وتكون له صلصلةٌ. فذلك حين يقول: {من صلصالٍ كالفخّار} [الرّحمن: 14]ويقول: لأمرٍ ما خلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربّكم صمدٌ وهذا أجوف. لئن سلّطت عليه لأهلكنّه، فلمّا بلغ الحين الّذي يريد اللّه عزّ وجلّ أن ينفخ فيه الرّوح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلمّا نفخ فيه الرّوح فدخل الرّوح في رأسه، عطس، فقالت الملائكة: قل: الحمد للّه. فقال: الحمد للّه، فقال له اللّه: رحمك ربّك، فلمّا دخلت الرّوح في عينيه نظر إلى ثمار الجنّة. فلمّا دخل الرّوح في جوفه اشتهى الطّعام، فوثب قبل أن تبلغ الرّوح رجليه عجلان إلى ثمار الجنّة، فذلك حين يقول تعالى:{خلق الإنسان من عجلٍ}[الأنبياء: 37]{فسجد الملائكة كلّهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع السّاجدين}[الحجر: 30، 31]أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال اللّه له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خيرٌ منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طينٍ. قال اللّه له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك{أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصّاغرين}[الأعراف: 13]والصّغار: هو الذّلّ».
قال: «{وعلّم آدم الأسماء كلّها} ثمّ عرض الخلق على الملائكة{فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، فقالوا:{سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} قال اللّه:{يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}».
قال: «قولهم:{أتجعل فيها من يفسد فيها}فهذا الّذي أبدوا{وأعلم ما تكتمون}يعني: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر».
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصّحابة مشهورٌ في تفسير السّدّي ويقع فيه إسرائيليّات كثيرةٌ، فلعلّ بعضها مدرج ليس من كلام الصّحابة، أو أنّهم أخذوه من بعض الكتب المتقدّمة. واللّه أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء، ويقول: [هو] على شرط البخاريّ.
والغرض أنّ اللّه تعالى لمّا أمر الملائكة بالسّجود لآدم دخل إبليس في خطابهم؛ لأنّه -وإن لم يكن من عنصرهم- إلّا أنّه كان قد تشبّه بهم وتوسّم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذمّ في مخالفة الأمر. وسنبسط المسألة -إن شاء اللّه تعالى- عند قوله: {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه}[الكهف: 50].
ولهذا قال محمّد بن إسحاق، عن خلّادٍ، عن عطاءٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ قال:«كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكّان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادًا، وأكثرهم علمًا؛ فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيٍّ يسمّون جنًّا».
وفي روايةٍ عن خلّادٍ، عن عطاءٍ، عن طاوسٍ -أو مجاهدٍ- عن ابن عبّاسٍ، أو غيره، بنحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا عبّادٌ -يعني: ابن العوّام -عن سفيان بن حسينٍ، عن يعلى بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: «كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثمّ أبلس بعد».
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: «كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلةً، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدّنيا، وكان له سلطان الأرض».
وهكذا روى الضّحّاك وغيره عن ابن عبّاسٍ، سواءً.
وقال صالح مولى التّوأمة، عن ابن عبّاسٍ: «إنّ من الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السّماء والأرض، فعصى، فمسخه اللّه شيطانًا رجيمًا». رواه ابن جريرٍ.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيّب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدّنيا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا عديّ بن أبي عديٍّ، عن عوفٍ، عن الحسن، قال: «ما كان إبليس من الملائكة طرفة عينٍ قط، وإنّه لأصل الجنّ، كما أنّ آدم أصل الإنس». وهذا إسنادٌ صحيحٌ عن الحسن. وهكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم سواءً.
وقال شهر بن حوشب: «كان إبليس من الجنّ الّذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السّماء»، رواه ابن جريرٍ.
وقال سنيد بن داود: حدّثنا هشيم، أنبأنا عبد الرّحمن بن يحيى، عن موسى بن نميرٍ وعثمان بن سعيد بن كاملٍ، عن سعد بن مسعودٍ، قال: «كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسبي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة، فتعبّد معها، فلمّا أمروا بالسّجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى:{إلا إبليس كان من الجنّ}[الكهف: 50]».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن سنانٍ القزّاز، حدّثنا أبو عاصمٍ، عن شريكٍ، عن رجلٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ اللّه خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: لا نفعل. فبعث اللّه عليهم نارًا فأحرقتهم، ثمّ خلق خلقًا آخر، فقال: {إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ}، اسجدوا لآدم».
قال: «فأبوا. فبعث اللّه عليهم نارًا فأحرقتهم. ثمّ خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الّذين أبوا أن يسجدوا لآدم». وهذا غريبٌ، ولا يكاد يصحّ إسناده، فإنّ فيه رجلًا مبهمًا، ومثله لا يحتجّ به، واللّه أعلم.
وقال قتادة في قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}:«فكانت الطاعة لله، والسجدة أكرم اللّه آدم بها أن أسجد له ملائكته».
وقال في قوله تعالى: {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين}:«حسد عدوّ اللّه إبليس آدم، عليه السّلام، على ما أعطاه اللّه من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ، وكان بدء الذّنوب الكبر، استكبر عدوّ اللّه أن يسجد لآدم، عليه السّلام».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا صالح بن حيّان، حدّثنا عبد اللّه بن بريدة: «قوله تعالى:{وكان من الكافرين}من الّذين أبوا، فأحرقتهم النّار».
وقال أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية:«{وكان من الكافرين}يعني: من العاصين».
وقال السّدّيّ:«{وكان من الكافرين} الّذين لم يخلقهم اللّه يومئذٍ يكونون بعد».
وقال محمّد بن كعبٍ القرظيّ: «ابتدأ اللّه خلق إبليس على الكفر والضّلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيّره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر، قال اللّه تعالى:{وكان من الكافرين}».
- وقال بعض النّاس: كان هذا سجود تحيّةٍ وسلامٍ وإكرامٍ، كما قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّدًا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقًّا}[يوسف: 100] وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية ولكنّه نسخ في ملّتنا،
قال معاذٌ: قدمت الشّام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول اللّه أحقّ أن يسجد لك، فقال: «لا، لو كنت آمرًا بشرًا أن يسجد لبشرٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها» ورجّحه الرّازيّ،
- وقال بعضهم: بل كانت السّجدة للّه وآدم قبلةٌ فيها كما قال: {أقم الصّلاة لدلوك الشّمس}[الإسراء: 78] وفي هذا التّنظير نظرٌ،
- والأظهر أنّ القول الأوّل أولى، والسّجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعةٌ للّه، عزّ وجلّ؛ لأنّها امتثالٌ لأمره تعالى، وقد قوّاه الرّازيّ في تفسيره وضعّف ما عداه من القولين الآخرين وهما: كونه جعل قبلةً إذ لا يظهر فيه شرفٌ، والآخر: أنّ المراد بالسّجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيفٌ كما قال.
قلت: وقد ثبت في الصّحيح:«لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من كبرٍ» وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرّحمة وحضرة القدس؛
- قال بعض المعربين: {وكان من الكافرين} أي: وصار من الكافرين بسبب امتناعه، كما قال: {فكان من المغرقين}[هودٍ: 43] وقال {فتكونا من الظّالمين}[البقرة: 35] وقال الشّاعر:
بتيهاء قفرٌ والمطيّ كأنّها.......قطا الحزن قد كانت فراخًا بيوضها

أي: قد صارت،
- وقال ابن فوركٍ: تقديره: وقد كان في علم اللّه من الكافرين، ورجّحه القرطبيّ، وذكر هاهنا مسألةً فقال: قال علماؤنا من أظهر اللّه على يديه ممّن ليس بنبيٍّ كراماتٍ وخوارق للعادات فليس ذلك دالًّا على ولايته، خلافًا لبعض الصّوفيّة والرّافضة هذا لفظه. ثمّ استدلّ على ما قال: بأنّا لا نقطع بهذا الّذي جرى الخارق على يديه أنّه يوافي اللّه بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني والوليّ الّذي يقطع له بذلك في نفس الأمر.
قلت: وقد استدلّ بعضهم على أنّ الخارق قد يكون على يدي غير الوليّ، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر، أيضًا، بما ثبت عن ابن صيّادٍ أنّه قال: (هو الدّخّ)، حين خبّأ له رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وسلّم: {فارتقب يوم تأتي السّماء بدخانٍ مبينٍ}[الدّخان: 10]، وبما كان يصدر عنه أنّه كان يملأ الطّريق إذا غضب حتّى ضربه عبد اللّه بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدّجّال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنّه يأمر السّماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنّه يقتل ذلك الشّابّ ثمّ يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة.
- وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصّدفيّ: قلت للشّافعيّ: كان اللّيث بن سعدٍ يقول: إذا رأيتم الرّجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغترّوا به حتّى تعرضوا أمره على الكتاب والسّنّة، فقال الشّافعيّ: قصر اللّيث، رحمه اللّه، بل إذا رأيتم الرّجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغترّوا به حتّى تعرضوا أمره على الكتاب والسّنّة،
- وقد حكى فخر الدّين وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسّجود لآدم خاصٌّ بملائكة الأرض، أو عام بملائكة السماوات والأرض، وقد رجّح كلًّا من القولين طائفةٌ، وظاهر الآية الكريمة العموم: {فسجد الملائكة كلّهم أجمعون * إلا إبليس}[الحجر: 30، 31، ص: 73، 74]، فهذه أربعة أوجهٍ مقوّيةٌ للعموم، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 227-233]

* للاستزادة ينظر: هنا