الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (35) إلى الآية (39) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

3665

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث

تفسير سورة البقرة [من الآية (35) إلى الآية (39) ]
18 Aug 2014
18 Aug 2014

18 Aug 2014

3665

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) }



تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35)}
الرغد: الكثير الذي لا يعنيك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين} أي: إن عملتما بأعمال الظالمين صرتما منهم، ومعنى {لا تقربا} ههنا: لا تأكلا، ودليل ذلك قوله: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشّجرة} أي: لا تقرباها في الأكل، {ولا تقربا} جزم بالنفي.
وقوله عزّ وجلّ: {فتكونا من الظالمين} نصب، لأن جواب النهي بالفاء نصب، ونصبه عند سيبويه والخليل بإضمار أن، والمعنى: لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين، ويجوز أن يكون {فتكونا} جزم على العطف، على قوله: ولا تقربا فتكونا).[معاني القرآن: 1/ 114]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35) فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ (36)}
{اسكن} معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، و{أنت} تأكيد للضمير الذي في اسكن، و{زوجك} عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، والجنّة البستان عليه حظيرة،
- واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.
- واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؟
فقال ابن عباس: «حين أنبأ الملائكة بالأسماء واسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه فقال فيما يزعمون: لحمي ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا آدم ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم؟».
قال: «لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له: اسكن أنت وزوجك الجنّة».
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي»،
وحذفت النون من {كلا} للأمر، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ، ولفظ هذا الأمر بـ{كلا} معناه الإباحة، بقرينة قوله: {حيث شئتما} والضمير في {منها} عائد على الجنّة.
وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغدا» بسكون الغين، والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه، ومنه قول امرئ القيس:
بينما المرء تراه ناعما.......يأمن الأحداث في عيش رغد
و{رغداً} منصوب على الصفة لمصدر محذوف،
وقيل: هو نصب على المصدر في موضع الحال،
و{حيث} مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض، كقوله سبحانه: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}[الأعراف: 82، القلم: 44] ومن العرب من يقول «حوث»،
و{شئتما} أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت الياء بعد.
وقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشّجرة} معناه: لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس.
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشّجرة» بكسر الشين و «الشجر» كل ما قام من النبات على ساق.
- واختلف في هذه الشّجرة التي نهى عنها ما هي؟
- فقال ابن مسعود وابن عباس: «هي الكرم ولذلك حرمت علينا الخمر».
- وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: «هي شجرة التين».
- وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وعطية وقتادة: «هي السنبلة وحبها ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد».
- وروي عن ابن عباس أيضا: «أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
- وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة: «أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أيضا ضعيف.
- قال: «واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول: إنها كانت حلوة ومرّت من حينئذ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
وقيل: إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض.
وقوله: {فتكونا} في موضع جزم على العطف على لا تقربا، ويجوز فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه: «أن» المضمرة، وعند الجرمي: الفاء،
والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه، ومنه قولهم: «من أشبه أباه فما ظلم»، ومنه «المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو بن قمئة:
ظلم البطاح بها انهلال حريصة.......فصفا النطاف له بعيد المقلع
والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: {ولا تقربا} على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالما، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي). [المحرر الوجيز: 1/ 181-184]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين (35)}
يقول اللّه تعالى إخبارًا عمّا أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسّجود له، فسجدوا إلّا إبليس: إنّه أباحه الجنّة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما شاء رغدًا، أي: هنيئًا واسعًا طيّبًا.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث محمّد بن عيسى الدّامغانيّ، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن ميكائيل، عن ليثٍ، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه، عن أبي ذرٍ: قال: قلت: يا رسول اللّه؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال:«نعم، نبيًّا رسولًا كلّمه اللّه قبلا فقال:{اسكن أنت وزوجك الجنّة}».
- وقد اختلف في الجنّة الّتي أسكنها آدم، أهي في السّماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأوّل [وحكى القرطبيّ عن المعتزلة والقدريّة القول بأنّها في الأرض]، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف، إن شاء اللّه تعالى،
- وسياق الآية يقتضي أنّ حوّاء خلقت قبل دخول آدم الجنّة، وقد صرّح بذلك محمّد بن إسحاق، حيث قال: «لمّا فرغ اللّه من معاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلّها، فقال:{يا آدم أنبئهم بأسمائهم}إلى قوله:{إنّك أنت العليم الحكيم}».
قال:«ثمّ ألقيت السّنة على آدم -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التّوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عبّاسٍ وغيره- ثمّ أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائمٌ لم يهبّ من نومه، حتّى خلق اللّه من ضلعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلمّا كشف عنه السّنة وهبّ من نومه، رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون واللّه أعلم-: لحمي ودمي وروحي. فسكن إليها. فلمّا زوّجه اللّه، وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قبلا{يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين}».
- ويقال: إنّ خلق حوّاء كان بعد دخوله الجنّة، كما قال السّدّيّ في تفسيره، ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «أخرج إبليس من الجنّة، وأسكن آدم الجنّة، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوجٌ يسكن إليه، فنام نومةً فاستيقظ، وعند رأسه امرأةٌ قاعدةٌ خلقها اللّه من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأةٌ. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ. قالت له الملائكة -ينظرون ما بلغ من علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء. قالوا: ولم سمّيت حوّاء؟ قال: إنّها خلقت من شيءٍ حيٍّ. قال اللّه:{يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما}».
وأمّا قوله: {ولا تقربا هذه الشّجرة} فهو اختبارٌ من اللّه تعالى وامتحانٌ لآدم. وقد اختلف في هذه الشّجرة ما هي؟
- فقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: «الشجرة التي نهي عنها آدم، عليه السلام، هي الكرم». وكذا قال سعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ، والشّعبيّ، وجعدة بن هبيرة، ومحمّد بن قيسٍ.
- وقال السّدّيّ -أيضًا- في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «{ولا تقربا هذه الشّجرة}هي الكرم، وتزعم يهود أنّها الحنطة».
- وقال ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسيّ، حدّثنا أبو يحيى الحمّاني، حدّثنا النّضر أبو عمر الخرّاز، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الشجرة التي نهي عنها آدم، عليه السلام، هي السّنبلة».
- وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «هي السّنبلة».
- وقال محمّد بن إسحاق، عن رجلٍ من أهل العلم، عن حجّاجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «هي البرّ».
- وقال ابن جريرٍ: وحدّثني المثنّى بن إبراهيم، حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا القاسم، حدثني رجلٌ من بني تميمٍ، أنّ ابن عبّاسٍ كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشّجرة الّتي أكل منها آدم، والشّجرة الّتي تاب عندها آدم. فكتب إليه أبو الجلد: «سألتني عن الشّجرة الّتي نهي عنها آدم، عليه السّلام، وهي السّنبلة، وسألتني عن الشّجرة الّتي تاب عندها آدم وهي الزّيتونة».
وكذلك فسّره الحسن البصريّ، ووهب بن منبّه، وعطيّة العوفي، وأبو مالكٍ، ومحارب بن دثار، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى.
- وقال محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبّهٍ: أنّه كان يقول: «هي البر، ولكنّ الحبّة منها في الجنّة ككلى البقر، ألين من الزّبد وأحلى من العسل».
- وقال سفيان الثّوريّ، عن حصينٍ، عن أبي مالكٍ: {ولا تقربا هذه الشّجرة} قال: «النّخلة».
- وقال ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ: {ولا تقربا هذه الشّجرة} قال: «تينةٌ». وبه قال قتادة وابن جريجٍ.
- وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: «كانت الشّجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنّة حدثٌ»،
- وقال عبد الرّزّاق: حدّثنا عمر بن عبد الرّحمن بن مهرب قال: سمعت وهب بن منبّهٍ يقول: «لمّا أسكن اللّه آدم وزوجته الجنّة، ونهاه عن أكل الشّجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعّبٌ بعضها من بعضٍ، وكان لها ثمرٌ تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثّمرة الّتي نهى اللّه عنها آدم وزوجته».
فهذه أقوالٌ ستّةٌ في تفسير هذه الشّجرة.
قال الإمام العلّامة أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: والصّواب في ذلك أن يقال: إنّ اللّه جلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرةٍ بعينها من أشجار الجنّة، دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأيّ شجرةٍ كانت على التّعيين؟ لأنّ اللّه لم يضع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن ولا من السّنّة الصّحيحة.
وقد قيل: كانت شجرة البرّ.
وقيل: كانت شجرة العنب،
وقيل: كانت شجرة التّين.
وجائزٌ أن تكون واحدةً منها، وذلك علمٌ، إذا علم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهلٌ لم يضرّه جهله به، واللّه أعلم. [وكذلك رجّح الإمام فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره وغيره، وهو الصواب]).[تفسير ابن كثير: 1/ 233-235]

تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين (36)} معناه: أنهما أزلّا بإغواء الشيطان إياهما، فصار كأنّه أزلّهما، كما تقول -للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها-: أنت أزللتني عن هذا، أي: قبولي منك أزلني، فصرت أنت المزيل لي.
ومعنى "الشيطان" في اللغة: الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس، والشطن في لغة العرب: الخبل، والأرض الشطون: البعيدة، وإنما الشيطان "فيعال" من هذا.
وقد قرئ: (فَأَزالهُمَا الشيطان) من زلت وأزالني غيري، و"أزلهما" من زللت وأزلني غيري، ولـ"زللت" ههنا وجهان:
يصلح أن يكون {فأزلهما الشيطان}: أكسبهما الزلة والخطيئة، ويصلح أن يكون {فأزلهما}: نحّاهما، كلا القراءتين صواب حسن.
وقوله عزّ وجلّ {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ}: جمع الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- قصة هبوطهم، وإنما كان إبليس أُهبِطَ أولاً، والدليل على ذلك قوله عزّ وجل: {اخرج منها فإنّك رجيم}، وأهبط آدم وحواء بعد، فجمع الخبر للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط، وإن كانت أوقاتهم متفرقة فيه.
وقوله {بعضكم لبعض عدوّ}: إبليس عدو للمؤمنين من ولد آدم، وعداوته لهم: كفر، والمؤمنون أعداء إبليس، وعداوتهم له: إيمان.
وقوله عزّ وجلّ {ولكم في الأرض مستقرّ} أي: مقام وثبوت.
وقوله {إلى حين} قال قوم: معنى الحين ههنا: إلى يوم القيامة، وقال قوم: إلى فناء الآجال، أي: كل مستقر إلى فناء أجله، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة، وبعض الناس يجعل الحين -في غير هذا الموضع-: ستة أشهر، دليله قوله: {تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها}، وإنما {كل حين} ههنا جعل لمدة معلومة، والحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه -في الاستعمال- في الكثير منها أكثر، يقال: ما رأيتك منذ حين، تريد منذ حين طويل، والأصل على ما أخبرنا به). [معاني القرآن: 1 /115-116]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و«أزلهما» مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم.
قال أبو علي: {فأزلّهما}يحتمل تأويلين:أحدهما: كسبهما الزلة، والآخر: أن يكون من زل إذا عثر.
وقرأ حمزة: «فأزالهما»، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤديا إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء،
ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في الكيفية،
- فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء: «أغواهما مشافهة»، ودليل ذلك قوله تعالى: {وقاسمهما} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
- وقال بعضهم: إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال: يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلدا كان، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد؟
- وقال بعضهم: دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج إلى حواء وأخذ شيئا من الشجرة، وقال: انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر، وكذلك تحملين كرها، وتضعين كرها، تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: «وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة».
- وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
والضمير في {عنها} عائد على الشّجرة في قراءة من قرأ «أزلهما»، ويحتمل أن يعود على الجنّة فأما من قرأ «أزالهما» فإنه يعود على الجنّة فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة.
وقال قوم: «أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها».
وقال آخرون: «تأولا النهي على الندب».
وقال ابن المسيب: «إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله».
وقوله تعالى: {فأخرجهما ممّا كانا فيه} يحتمل وجوها،
- فقيل: أخرجهما من الطاعة إلى المعصية.
- وقيل: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا.
- وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله يتقارب.
وقرأ أبو حيوة: «اهبطوا» بضم الباء. «ويفعل» كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدّ. والهبوط: النزول من علو إلى أسفل.
واختلف من المخاطب بالهبوط،
- فقال السدي وغيره: «آدم وحواء وإبليس والحية».
- وقال الحسن: «آدم وحواء والوسوسة».
- قال غيره: «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته».
و{بعضكم لبعضٍ عدوٌّ} جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ عدوٌّ من حيث لفظ بعض، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث لفظة عدوٌّ تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: {هم العدوّ فاحذرهم}[المنافقون: 4].
و{لكم في الأرض مستقرٌّ} أي: موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: «المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك». وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة.......متاع قليل من حبيب مفارق
واختلف المتأولون في الحين هاهنا؛
- فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا،
- وقالت فرقة: {إلى حينٍ}: إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور.
ويترتب أيضا على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله: {ولكم} أي: لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة،
والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة.
قال الله تعالى: {تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربّها}[إبراهيم: 25] وقد قيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن.
وفي قوله تعالى: {إلى حينٍ} فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد.
وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل: بميسان، وأن إبليس نزل على الأبلة). [المحرر الوجيز: 1 /184-188]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فأزلّهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ (36)}
وقوله تعالى: {فأزلّهما الشّيطان عنها} يصحّ أن يكون الضّمير في قوله: {عنها} عائدًا إلى الجنّة، فيكون معنى الكلام كما قال [حمزة و] عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النّجود، فأزالهما، أي: فنحّاهما.
ويصحّ أن يكون عائدًا على أقرب المذكورين، وهو الشّجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة {فأزلّهما} أي: من قبيل الزّلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فأزلّهما الشّيطان عنها} أي: بسببها، كما قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك}[الذّاريات: 9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوكٌ؛ ولهذا قال تعالى: {فأخرجهما ممّا كانا فيه} أي: من اللّباس والمنزل الرّحب والرّزق الهنيء والرّاحة.
{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حينٍ} أي: قرارٌ وأرزاقٌ وآجالٌ {إلى حينٍ} أي: إلى وقتٍ مؤقّتٍ ومقدارٍ معيّنٍ، ثمّ تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسّرون من السّلف كالسّدّي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن منبّه وغيرهم، هاهنا أخبارًا إسرائيليّةً عن قصّة الحيّة، وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنّة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء اللّه، في سورة الأعراف، فهناك القصّة أبسط منها هاهنا، واللّه الموفّق.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ هاهنا: حدّثنا عليّ بن الحسن بن إشكاب، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه خلق آدم رجلًا طوالا كثير شعر الرّأس، كأنّه نخلةٌ سحوق، فلمّا ذاق الشّجرة سقط عنه لباسه، فأوّل ما بدا منه عورته، فلمّا نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنّة، فأخذت شعره شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرّحمن: يا آدم، منّي تفرّ! فلمّا سمع كلام الرّحمن قال: يا ربّ، لا ولكن استحياءً».
قال: وحدّثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشيّ سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، حدّثنا سليم بن منصور بن عمّارٍ، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لمّا ذاق آدم من الشّجرة فرّ هاربًا؛ فتعلّقت شجرةٌ بشعره، فنودي: يا آدم، أفرارًا منّي؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري؛ فبعزّتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقًا ثمّ عصوني لأسكنتهم دار العاصين».
هذا حديثٌ غريبٌ، وفيه انقطاعٌ، بل إعضالٌ بين قتادة وأبيّ بن كعبٍ، رضي اللّه عنهما.
وقال الحاكم: حدّثنا أبو بكر بن بالويه، عن محمّد بن أحمد بن النّضر، عن معاوية بن عمرٍو، عن زائدة، عن عمّار بن معاوية البجلي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ما أسكن آدم الجنّة إلّا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشّمس». ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميدٍ في تفسيره: حدّثنا روح، عن هشامٍ، عن الحسن، قال:«لبث آدم في الجنّة ساعةً من نهارٍ، تلك السّاعة ثلاثون ومائة سنةٍ من أيّام الدّنيا».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «خرج آدم من الجنّة للسّاعة التّاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنّة، على رأسه تاجٌ من شجر الجنّة وهو الإكليل من ورق الجنّة».
وقال السّدّيّ: «قال اللّه تعالى:{اهبطوا منها جميعًا}فهبطوا فنزل آدم بالهند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضةٌ من ورق الجنّة فبثّه بالهند، فنبتت شجرة الطّيب، فإنّما أصل ما يجاء به من الهند من الطّيب من قبضة الورق الّتي هبط بها آدم، وإنّما قبضها آدم أسفًا على الجنّة حين أخرج منها».
وقال عمران بن عيينة، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أهبط آدم من الجنّة بدحنا، أرض الهند».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن سعيدٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «أهبط آدم، عليه السّلام، إلى أرضٍ يقال لها: دحنا، بين مكّة والطّائف».
وعن الحسن البصريّ قال: «أهبط آدم بالهند، وحوّاء بجدّة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميالٍ، وأهبطت الحيّة بأصبهان». رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّار بن الحارث، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرو بن أبي قيسٍ، عن ابن عديٍّ، عن ابن عمر، قال:«أهبط آدم بالصّفا، وحوّاء بالمروة».
وقال رجاء بن سلمة: «أهبط آدم، عليه السّلام، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه، وأهبط إبليس مشبّكًا بين صابعه رافعًا رأسه إلى السّماء».
وقال عبد الرّزّاق: قال معمر: أخبرني عوف عن قسامة بن زهيرٍ، عن أبي موسى، قال: «إنّ اللّه حين أهبط آدم من الجنّة إلى الأرض، علّمه صنعة كلّ شيءٍ، وزوّده من ثمار الجنّة، فثماركم هذه من ثمار الجنّة، غير أنّ هذه تتغيّر وتلك لا تتغيّر».
وقال الزّهريّ عن عبد الرّحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: «خير يومٍ طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وفيه أخرج منها» رواه مسلمٌ والنّسائيّ.
وقال فخر الدّين: اعلم أنّ في هذه الآيات تهديدًا عظيمًا عن كلّ المعاصي من وجوهٍ:
الأوّل: أنّ من تصوّر ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزّلّة الصّغيرة كان على وجلٍ شديدٍ من المعاصي، قال الشّاعر:
يا ناظرًا يرنو بعيني راقدٍ.......ومشاهدًا للأمر غير مشاهد
تصل الذّنوب إلى الذّنوب وترتجي.......درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربّك حين أخرج آدمًا.......منها إلى الدّنيا بذنبٍ واحد
قال فخر الدّين عن فتحٍ الموصليّ أنّه قال: «كنّا قومًا من أهل الجنّة فسبانا إبليس إلى الدّنيا، فليس لنا إلّا الهمّ والحزن حتّى نردّ إلى الدّار الّتي أخرجنا منها».
فإن قيل: فإذا كانت جنّة آدم الّتي أسكنها في السّماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف يمكّن إبليس من دخول الجنّة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدريّ لا يخالف ولا يمانع؟
فالجواب: أنّ هذا بعينه استدلّ به من يقول: إنّ الجنّة الّتي كان فيها آدم في الأرض لا في السّماء، وقد بسطنا هذا في أوّل كتابنا البداية والنّهاية، وأجاب الجمهور بأجوبةٍ، أحدها: أنّه منع من دخول الجنّة مكرّمًا، فأمّا على وجه الرّدع والإهانة، فلا يمتنع؛
- ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التّوراة أنّه دخل في فم الحيّة إلى الجنّة،
- وقد قال بعضهم: يحتمل أنّه وسوس لهما وهو خارج باب الجنّة،
- وقال بعضهم: يحتمل أنّه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السّماء، ذكرها الزّمخشريّ وغيره.
وقد أورد القرطبيّ هاهنا أحاديث في الحيّات وقتلهنّ وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد). [تفسير ابن كثير: 1/ 235-238]

تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنه هو التّوّاب الرّحيم (37)}
"الكلمات" -واللّه أعلم-: اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب؛ لأنهما قالا: {ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين (23)} اعترفا بذنبهما وتابا، وفي هذه الآية موعظة لولدهما، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنصّل من الذنوب، وأنه لا ينفع إلا الاعتراف والتوبة، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللّه -عزّ وجلّ- حرام وكفر باللّه، فلا بد من الاعتراف مع التوبة، فينبغي أن يفهم هذا المعنى، فإنه من أعظم ما يحتاج إليه من الفوائد.
وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ من ربّه كلماتٌ)، والاختيار ما عليه الإجماع، وهو في العربية أقوى، لأن آدم تعلم هذه الكلمات، فقيل: تلقّى هذه الكلمات، والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان، المعنى: فهمي قبله من لفظه). [معاني القرآن : 1/ 116-117]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (39)}
المعنى: فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، وآدم رفع بـ{تلقى}، {كلماتٍ} نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم.
وحكى مكي قولا: أنه ألهمها فانتفع بها.
وقرأ ابن كثير: «آدم» بالنصب. «من ربه كلمات» بالرفع، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.
واختلف المتأولون في الكلمات،
- فقال الحسن بن أبي الحسن: «هي قوله تعالى:{ربّنا ظلمنا أنفسنا}الآية[الأعراف: 23]».
- وقال مجاهد: «هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم».
- وقال ابن عباس: «هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم».
- قال عبيد بن عمير: «إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته علي أم شيء ابتدعته؟ قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي».
- وقال قتادة: «الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذا أدخلك الجنة».
- وقالت طائفة: إن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش "محمد رسول الله" فتشفع بذلك، فهي الكلمات.
- وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبواه، ربّنا ظلمنا أنفسنا. وما قال موسى: {ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي}[القصص: 16]. وما قال يونس: {لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين}[الأنبياء: 87].
و«تاب عليه» معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد: الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنّة} فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وعصى آدم ربّه فغوى}[طه: 121].
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.
وكنية آدم أبو محمد، وقيل: أبو البشر.
وقرأ الجمهور: «إنه» بكسر الألف على القطع.
وقرأ ابن أبي عقرب: «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه،
وبنية {التّوّاب} للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: {إنّه هو التّوّاب الرّحيم} تأكيد فائدته: أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه). [المحرر الوجيز: 1/ 188-190]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم (37)}
قيل: إنّ هذه الكلمات مفسّرةٌ بقوله تعالى: {قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} [الأعراف: 23] روي هذا عن مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، والحسن، وقتادة، ومحمّد بن كعبٍ القرظي، وخالد بن معدان، وعطاءٍ الخراسانيّ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السّبيعي، عن رجلٍ من بني تميمٍ، قال: أتيت ابن عبّاسٍ، فسألته: [قلت]: ما الكلمات الّتي تلقّى آدم من ربّه؟ قال: «علم [آدم] شأن الحج».
وقال سفيان الثّوريّ، عن عبد العزيز بن رفيع، أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي روايةٍ: [قال]: أخبرني مجاهدٌ، عن عبيد بن عميرٍ، أنّه قال: قال آدم: يا ربّ، خطيئتي الّتي أخطأت شيءٌ كتبته عليّ قبل أن تخلقني، أو شيءٌ ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيءٌ كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفر لي. قال: فذلك قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}.
وقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}، قال: «قال آدم، عليه السّلام: يا ربّ، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. وعطست فقلت: يرحمك اللّه، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبت عليّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنّة؟ قال: نعم».
وهكذا رواه العوفيّ، وسعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن معبد، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه وهكذا فسّره السّدّيّ وعطيّة العوفي.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ هاهنا حديثًا شبيهًا بهذا فقال: حدّثنا عليّ بن الحسين بن إشكاب، حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال آدم، عليه السّلام: أرأيت يا ربّ إن تبت ورجعت، أعائدي إلى الجنّة؟ قال: نعم. فذلك قوله: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ}».
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه وفيه انقطاعٌ.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} قال: «إنّ آدم لمّا أصاب الخطيئة قال: يا ربّ، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال اللّه: إذن أرجعك إلى الجنّة فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا:{ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} [الأعراف: 23] ».
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه كان يقول في قول اللّه تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ} قال: «الكلمات: اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين، اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فارحمني، إنّك خير الرّاحمين. اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي فتب عليّ، إنّك أنت التّوّاب الرحيم».
وقوله تعالى: {إنّه هو التّوّاب الرّحيم} أي: إنّه يتوب على من تاب إليه وأناب، كقوله: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده}[التّوبة: 104] وقوله: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}[النّساء: 11]، وقوله: {ومن تاب وعمل صالحًا فإنّه يتوب إلى اللّه متابًا} [الفرقان: 71] وغير ذلك من الآيات الدّالّة على أنّه تعالى يغفر الذّنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلّا هو التّوّاب الرّحيم.
وذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليمٍ عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لمّا أهبط اللّه آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، ثمّ قال: اللّهمّ إنّك تعلم سرّي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا صادقًا حتّى أعلم أنّه لن يصيبني إلّا ما كتبت لي. قال فأوحى اللّه إليه إنّك قد دعوتني بدعاءٍ أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرّجت همومه وغمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كلّ تاجر زينة الدّنيا وهي كلمات عهدٍ وإن لم يزدها» رواه الطبراني في معجمه الكبير). [تفسير ابن كثير: 1/ 238-240]

تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)}
الفائدة في ذكر الآية: أنه عزّ وجلّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه يجازيهم بالجنة عليها وبالنّار على تركها، وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط على الأرض.
وإعراب (إمّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاء، إلا أن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها "ما"، ومعنى لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد، والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.
وفتح ما قبل النون في قوله: {يأتينّكم} لسكون الياء وسكون النون الأولى، وجواب الشرط في الفاء مع الشر ط الثاني وجوابه، وهو {فمن تبع هداي}، وجواب {فمن تبع هداي} قوله: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
و{هداي}: الأكثر في القراءة والرواية عن العرب {هداي فلا خوف} فالياء في {هداي} فتحت؛ لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح، فالأصل أن تقول: هذا غلاميَ قد جاء -بفتح الياء-؛ لأنها حرف في موضع اسم مضمر منع الإعراب، فألزم الحركة كما ألزمت "هو" وحذف الحركة جائز؛ لأن الياء من حروف المد واللين، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من تحريكها، فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح، ومن العرب من يقولون: "هدي" و"عصى"، فمن قرأ بهذه القراءة: فإنما قلبت الألف إلى الياء، للياء التي بعدها، إلا أن شأنّ ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها، فجعل بدل كسر ما قبلها -إذ كانت الألف لا يكسر ما قبلها، لا يكسر هي- قلبها ياء، وطيء تقول في: "هدى" و"عصا" و"أفعى" وما أشبه هذا -في الوقف-: "هُدَيْ" و"عَصَيْ" و"أفعى" بغير إضافة.
وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين:
تبشري بالرفه والماء الروى ....... وفرج منك قريب قد أتى
وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف -في الأصل- مجراه في الوقف وليس هذا الوجه الجيد، وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف الياء؛ أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها، وحكى أيضاً أن قوما يقولون في الوقف "حبلو" و"أفعو".
وإنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجيّد، فالباب في هذه الأشياء أن تنطق بها في الوصل والوقف بألف، فليس إليك أن تقلب الشيء لعلة ثم تنطق به على أصله والعلة لم تزل، فالقراءة التي ينبغي أن تلزم هي: {هداي فلا خوف} إلا أن تثبت برواية صحيحة "هديّ" فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمّا قوله: {هذا صراط عليّ مستقيم} وقوله: {إليّ مرجعكم} فلا يجوز أن يقرأ "هذا صراط علاي"، ولا "ثمّ إلاي مرجعكم"، لأن الوصل كان في هذا: "إلاي" و "عَلاَي" ولكن الألف أبدلت منها مع المضمرات الياء، ليفصل بين ما آخره مما يجب أن نعرب ويتمكن، وما آخره مما لا يجب أن يعرب، فقلبت هذه الألف ياء لهذه العلة). [معاني القرآن: 1/ 117-119]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى.
وقيل: كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم.
وحكى النقاش: أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا،
و{جميعاً} حال من الضمير في {اهبطوا}، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا،
واختلف في المقصود بهذا الخطاب؛
- فقيل: آدم وحواء وإبليس وذريتهم،
- وقيل: ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفا لهما، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع،
و«إن» في قوله: {فإمّا} هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى: {منّي} إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله:{هدىً}؛
- فقيل: بيان وإرشاد. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أن يقال: بيان ودعاء.
- وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر: هو فمن بعده.
وقوله تعالى: {فمن تبع هداي} شرط جوابه {فلا خوف عليهم}.
قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: {فإمّا يأتينّكم}.
وحكي عن الكسائي أن قوله: {فلا خوفٌ عليهم} جواب الشرطين جميعا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حكي هذا وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى: {فأمّا إن كان من المقرّبين فروحٌ وريحانٌ}[الواقعة: 89].
فيقول سيبويه: جواب الشرطين وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون فلا خوفٌ جوابا للشرطين.
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق: هدىً وهي لغة هذيل.
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم.......فتخرموا، ولكل جنب مصرع
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي: «فلا خوف عليهم» نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم يحزنون على مرفوع، «ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوف» بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا» عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال،
- ويحتمل قوله تعالى: {لا خوف عليهم} أي: فيما بين أيديهم من الدنيا، و{لا هم يحزنون} على ما فاتهم منها،
- ويحتمل أن {لا خوف عليهم} يوم القيامة، و{لا هم يحزنون} فيه،
- ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن). [المحرر الوجيز: 1/ 190-192]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قلنا اهبطوا منها جميعًا فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (39)}
يقول تعالى مخبرًا عمّا أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتّى أهبطهم من الجنّة، والمراد الذّرّيّة: أنّه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرّسل؛ كما قال أبو العالية:«الهدى: الأنبياء والرّسل والبيان»،
وقال مقاتل بن حيّان: «الهدى: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال الحسن:«الهدى: القرآن».
وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.
{فمن تبع هداي} أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرّسل {فلا خوفٌ عليهم} أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدّنيا، كما قال في سورة طه: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى}[طه: 123] قال ابن عبّاسٍ:«فلا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة».
{ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى}[طه: 124] كما قال هاهنا: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} أي: مخلّدون فيها، لا محيد لهم عنها، ولا محيص.
وقد أورد ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هاهنا حديثًا ساقه من طريقين، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيدٍ -واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكنّ أقوامًا أصابتهم النّار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتةً، حتّى إذا صاروا فحمًا أذن في الشّفاعة». وقد رواه مسلمٌ من حديث شعبة عن أبي سلمة به.
[وذكر هذا الإهباط الثّاني لما تعلّق به ما بعده من المعنى المغاير للأوّل، وزعم بعضهم أنّه تأكيدٌ وتكريرٌ، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأوّل من الجنّة إلى السّماء الدّنيا، والثّاني من سماء الدّنيا إلى الأرض، والصّحيح الأوّل، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه]). [تفسير ابن كثير: 1/ 240-241]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {والّذين كفروا} الآية، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة، وقال: {وكذّبوا} وكان في الكفر كفاية لأن لفظة {كفروا} يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله: {وكذّبوا بآياتنا}.
والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية،
و{أولئك} رفع بالابتداء و{أصحاب} خبره،
والصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة،
و{هم فيها خالدون} ابتداء وخبر في موضع الحال).[المحرر الوجيز: 1/ 192-193]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قلنا اهبطوا منها جميعًا فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38) والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (39)}
يقول تعالى مخبرًا عمّا أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتّى أهبطهم من الجنّة، والمراد الذّرّيّة: أنّه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرّسل؛ كما قال أبو العالية:«الهدى: الأنبياء والرّسل والبيان»،
وقال مقاتل بن حيّان: «الهدى: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال الحسن:«الهدى: القرآن».
وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.
{فمن تبع هداي} أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرّسل {فلا خوفٌ عليهم} أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدّنيا، كما قال في سورة طه: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ فإمّا يأتينّكم منّي هدًى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى}[طه: 123] قال ابن عبّاسٍ:«فلا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة».
{ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى}[طه: 124] كما قال هاهنا: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} أي: مخلّدون فيها، لا محيد لهم عنها، ولا محيص.
وقد أورد ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هاهنا حديثًا ساقه من طريقين، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيدٍ -واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكنّ أقوامًا أصابتهم النّار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتةً، حتّى إذا صاروا فحمًا أذن في الشّفاعة». وقد رواه مسلمٌ من حديث شعبة عن أبي سلمة به.
[وذكر هذا الإهباط الثّاني لما تعلّق به ما بعده من المعنى المغاير للأوّل، وزعم بعضهم أنّه تأكيدٌ وتكريرٌ، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأوّل من الجنّة إلى السّماء الدّنيا، والثّاني من سماء الدّنيا إلى الأرض، والصّحيح الأوّل، واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه]). [تفسير ابن كثير: 1/ 240-241] (م)

* للاستزادة ينظر: هنا