18 Aug 2014
تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون (40)}
نصب {بني إسرائيل}
لأنه نداء مضاف، وأصل النداء النصب لأن معناه معنى "ناديت" و "دعوت".
و"إسرائيل" في موضع خفض إلا إنّه فتح آخره لأنه لا ينصرف، وفيه شيئان
يوجبان منع الصرف، وهما أنّه أعجمي وهو معرفة، وإذا كان الاسم كذلك لم
ينصرف، إذا جاوز ثلاثة أحرف عند النحويين، وفي قوله: {نعمتي الّتي أنعمت عليكم}
وجهان، أجودهما فتح الياء؛ لأنّ الذي بعدها ساكن -وهو لام المعرفة-
فاستعمالها كثير في الكلام فاختير فتح الياء معها لالتقاء السّاكنين، ولأن
الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أقوى في اللغة، ويجوز أن تحذف الياء
في اللفظ لالتقاء السّاكنين فتقرأ: (نعمت التي) أنعمت بحذف الياء،
والاختيار: إثبات الياء وفتحها؛ لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم
للثواب؛ لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤه من كتاب اللّه بكل حرف حسنة، فإن
إثباته أوجه في اللغة، فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزّ وجلّ: {هارون أخي (30) اشدد به أزري (31)}؛ فلم يكثر القراء فتح هذه الياء، وقال أكثرهم بفتحها مع الألف واللام.
ولعمري إن اللام
المعرفة أكثر في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار "أخيَ اشدد" بفتح الياء
لالتقاء السّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها
معنى واحد، وإن حذفت فالحذف جائز حسن، إلا أن الأحسن ما وصفنا.
وأمّا معنى الآية في التذكير بالنعمة، فإنهم ذكروا بما أنعم به على آبائهم من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً}
فالذين صادفهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا أنبياء، وإنّما ذكّروا
بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في
كلام العرب معلوم عندها، يفاخر الرجل الرجل فيقول: "هزمناكم يوم ذي قار"،
ويقول: "قتلناكم يوم كذا"، معناه: قتل آباؤنا آباءكم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} معناه -واللّه أعلم- قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه} فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنّا ما يدل على ذكر العهد قبل هذا، وفيه كفاية.
وقوله عزّ وجلّ: {وإيّاي فارهبون}
نصب بالأمر كأنه في المعنى "أرهبوني" ويكون الثاني تفسير هذا الفعل
المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: "وأنا فارهبون"، ولكن الاختيار في
الكلام والقرآن والشعر (وإيّاي فارهبون) حذفت الياء وأصله "فارهبوني"؛
لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية؛ ليكون النظم على لفظ متسق، ويسمّي أهل
اللغة رؤوس الآي: الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال: "وفيت له بالعهد فأنا واف به"، و"أوفيت له بالعهد فأنا موف به". والاختيار: أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزّ وجلّ: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقال: {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} وقال: {فأوفوا الكيل والميزان}، وكل ما في القرآن بالألف، وقال الشاعر في "أوفيت" و"وفيت"، فجمع بين اللغتين في بيت واحد:
أما ابن عوف فقد أوفى بذمته ........ كما وفى بقلاص النجم حاديها
). [معاني القرآن: 1/ 119-122]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
وإيّاي فارهبون (40) وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أوّل
كافرٍ به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتّقون (41)}
- (يا) حرف نداء مضمن معنى التنبيه.
قال الخليل: «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول: أريد أو أدعو».
وقال أبو علي
الفارسي: العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل المضمر فقوي فعمل، ويدل على
ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء،
- و(بني) منادى
مضاف و(إسرائيل) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو اسم أعجمي
يقال فيه إسراءل وإسرائيل وإسرائيل، وتميم تقول إسرائين،
وإسرا هو بالعبرانية عبد، وإيل اسم الله تعالى، فمعناه عبد الله.
وحكى المهدوي أن (إسرا) مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته.
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل،
- والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان،
- والنعمة هنا اسم
الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع، وتحركت الياء من (نعمتي) لأنها لقيت الألف
واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في
كتاب الله تعالى،
وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.
فقال الطبري: «بعثة الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر».
وقال غيره: «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم».
وقال آخرون: «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن.
وحكى مكي: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.
وقال ابن عباس وجمهور العلماء: بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم،
- والضمير في
(عليكم) يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت
بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم
استقام الضمير في (عليكم) ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة
الاستدامة.
- وقوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} أمر وجوابه.
فقال الخليل: «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل».
وقرأ الزهري: «أوفّ» بفتح الواو وشد الفاء للتكثير.
واختلف المتأولون
في هذا العهد إليهم؛ فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه
فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقيل العهد قوله
تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ}[البقرة: 63، 93]، وقال ابن جريج: العهد قوله تعالى: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل} [المائدة: 12]، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة له، لأن العلة لا تتقدم المعلول.
- وقوله تعالى: {وإيّاي فارهبون} الاسم ايا والياء
ضمير ككاف المخاطب، وقيل: إيّاي بجملته هو الاسم، وهو منصوب بإضمار فعل
مؤخر، تقديره: وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن يتقدر مقدما لأن الفعل إذا
تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف، فكان يجيء وارهبون، والرهبة يتضمن
الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء). [المحرر الوجيز: 1/ 193-195]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
وإيّاي فارهبون (40) وآمنوا بما أنزلت مصدّقًا لما معكم ولا تكونوا أوّل
كافرٍ به ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيّاي فاتّقون (41) }
يقول تعالى آمرًا
بني إسرائيل بالدّخول في الإسلام، ومتابعة محمّدٍ عليه من اللّه أفضل
الصّلاة والسّلام، ومهيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبيّ اللّه يعقوب،
عليه السّلام، وتقديره: يا بني العبد الصّالح المطيع للّه كونوا مثل أبيكم
في متابعة الحقّ، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشّجاع، بارز
الأبطال، يا ابن العالم، اطلب العلم ونحو ذلك.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {ذرّيّة من حملنا مع نوحٍ إنّه كان عبدًا شكورًا}[الإسراء: 3]
فإسرائيل هو يعقوب عليه السّلام، بدليل ما رواه أبو داود الطّيالسيّ:
حدّثنا عبد الحميد بن بهرامٍ، عن شهر بن حوشب، قال: حدّثني عبد اللّه بن
عبّاسٍ قال: حضرت عصابةٌ من اليهود نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال
لهم:
«هل تعلمون أنّ إسرائيل يعقوب؟». قالوا: اللّهمّ نعم. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «اللّهمّ اشهد».
وقال الأعمش، عن إسماعيل بن رجاءٍ، عن عميرٍ مولى ابن عبّاسٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ؛
«أنّ إسرائيل كقولك: عبد اللّه».
وقوله تعالى: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم} قال مجاهدٌ:
«نعمة اللّه
الّتي أنعم بها عليهم فيما سمّى وفيما سوى ذلك، فجّر لهم الحجر، وأنزل
عليهم المنّ والسّلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون».
وقال أبو العالية:
«نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرّسل، وأنزل عليهم الكتب».
قلت: وهذا كقول موسى عليه السّلام لهم: {يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين}[المائدة: 20] يعني في زمانهم.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم}:
«أي: بلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه»،{وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} قال:«بعهدي الّذي أخذت في أعناقكم للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إذا جاءكم.{أوف بعهدكم}
أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتّباعه، بوضع ما كان عليكم من
الإصر والأغلال الّتي كانت في أعناقكم بذنوبكم الّتي كانت من إحداثكم».
[وقال الحسن البصريّ:
«هو قوله: {ولقد
أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا وقال اللّه إنّي
معكم لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم
اللّه قرضًا حسنًا لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم ولأدخلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها
الأنهار}الآية [المائدة: 12]».
وقال آخرون: هو
الّذي أخذه اللّه عليهم في التّوراة أنّه سيبعث من بني إسماعيل نبيًّا
عظيمًا يطيعه جميع الشّعوب، والمراد به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، فمن
اتّبعه غفر له ذنبه وأدخل الجنّة وجعل له أجران.
وقد أورد فخر الدّين الرّازيّ هاهنا بشاراتٍ كثيرةٍ عن الأنبياء عليهم السّلام بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم].
وقال أبو العالية: {وأوفوا بعهدي} قال:
«عهده إلى عباده: دينه الإسلام أن يتّبعوه».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {أوف بعهدكم} قال:
«أرض عنكم وأدخلكم الجنّة».
وكذا قال السّدّيّ، والضّحّاك، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ.
وقوله: {وإيّاي فارهبون} أي: فاخشون؛ قاله أبو العالية، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة.
وقال ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {وإيّاي فارهبون}:
«أي: أنزل بكم ما أنزل بمن كان قبلكم من آبائكم من النّقمات الّتي قد عرفتم من المسخ وغيره».
وهذا انتقالٌ من
التّرغيب إلى التّرهيب، فدعاهم إليه بالرّغبة والرّهبة، لعلّهم يرجعون إلى
الحقّ واتّباع الرّسول والاتّعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق
أخباره، واللّه الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم؛ ولهذا قال: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقًا لما معكم}).[تفسير ابن كثير: 1/ 241-242]
تفسير
قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وآمنوا بما أنزلت مصدّقا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإيّاي فاتّقون (41)}
يعني: القرآن، ويكون أيضاً {ولا تكونوا أوّل كافر}: بكتابكم وبالقرآن، إن شئت عادت الهاء على قوله: {لما معكم}، وإنما قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}، لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: {ولا تكونوا أوّل كافر}.
فإن قال قائل: كيف تكون الهاء لكتابهم؟
قيل له: إنهم إذا كتموا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابهم، فقد كفروا به، كما إنّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به.
ومعنى {ولا تكونوا أوّل كافر به} -إذا كان بالقرآن-: لا مؤنة فيه؛ لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن، ومعنى {أوّل كافر}: أول الكافرين.
قال بعض البصريين في هذا قولين:
قال الأخفش:
معناه: أول من كفر به، وقال البصريون أيضا: معناه: ولا تكونوا أول فريق
كافر به، أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض
النحويين: إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول، تقول: الجيش منهزم، والجيش
مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول
أبين، لأنك إذا قلت: الجيش منهزم، فقد علم أنك تريد هذا الجيش، فنقطت في
لفظه بفاعل؛ لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو "فعال"
و"مفعول" يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت: الجيش رجل، فإنما يكره في
هذا أن يتوهم أنك تقلله، فأمّا إذا عرف معناه، فهو سائغ جيد.
تقول: جيشهم إنّما
هو فرس ورجل، أي: ليس بكثير الأتباع، فيدل المعنى على أنك تريد: الجيش خيل
ورجال، وهذا في "فاعل" و"مفعول" أبين كما وصفنا.
وقوله عزّ وجلّ {أوّل كافر به}
اللغة العليا والقدمى: الفتح في الكاف، وهي لغة أهل الحجاز، والإمالة في
الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة؛ لأن فاعلا ً إذا سلم من حروف الإطباق
وحروف المستعلية: كانت الإمالة فيه سائغة إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة
لغة بني تميم، وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جار على لفظ
الإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد، فيكسرون ما بعدها إلا أن تدخل
حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك: فلان
ظالم، "ظالم" ممال، ولا في: طالب، "طالب" ممال، ولا في: صابر، "صابر" ممال،
ولا في: ضابط، "ضابط" ممال، وكذلك حروف الاستعلاء وهي: الخاء والغين
والقاف، لا يجوز في: غافل، "غافل" ممال، ولا في: خادم، "خادم" ممال، ولا
في: قاهر، "قاهر" ممال، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا -في هذا الموضع-
هو المقصود وقدر الحاجة). [معاني القرآن: 1/ 122-124]
تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون (42)}
يقال: لبست عليهم الأمر أَلبِسُه، إذا أعمّيته عليهم، ولبست الثوب ألبسه، ومعنى الآية: {لا تلبسوا الحق} و"الحق" ههنا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أتى به من كتاب الله -عزّ وجلّ-، وقوله {بالباطل} أي: بما يحرفون.
وقوله عزّ وجلّ: {وأنتم تعلمون} أي: تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرة.
وإعراب {ولا تلبسوا} الجزم بالنهي، وعلامة الجزم سقوط النون، أصله: "تلبسون" و"تكتمون"، يصلح أن يكون جزماً على معنى {ولا تكتموا الحق}، ويصلح أن يكون نصباً، وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو.
ومذهب الخليل
وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين: أن جميع ما انتصب في هذا الباب
فبإضمار "أن"، كأنك قلت: لا يكن منكم إلباس الحق وكتمانه، كأنّه قال: وإن
تكتموه، ودلّ "تلبسوا" على لبس، كما تقول: من كذب كان شرّا، ودل ما في صدر
كلامك على الكذب فحذفته). [معاني القرآن: 1/ 124-125]
تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ({وأقيموا الصّلاة} معناه: أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها، وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور، ومنه قول الشاعر: