1 Sep 2014
تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
(48) }
تفسير
قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)}
فالألف: ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، كأنه قيل لهم: أنتم على هذه الطريقة، ومعنى هذا الكلام -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به؛ لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: هو تركهم التمسك به.
ويجوز -واللّه أعلم-: أنهم كانوا يأمرون ببذل الصدقة وكانوا يضنون بها، لأنهم وصفوا بأنهم قست قلوبهم وأكلوا الربا والسّحت، وكانوا قد نهوا عن الربا فمنع الصدقة داخل في هذا الباب).[معاني القرآن: 1 / 125]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أتأمرون النّاس} خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، و «البر» يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر، {وتنسون} بمعنى تتركون كما قال الله تعالى: {نسوا اللّه فنسيهم}[التوبة: 67].
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية، فقال ابن عباس: «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم».
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
وقال ابن جريج: «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي».
وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.
وقوله تعالى: {وأنتم تتلون} معناه: تدرسون وتقرءون، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به، والكتاب التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة.
وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} معناه: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم؟
والعقل: الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير، أي يمنعه من التصرف، ومنه المعقل أي موضع الامتناع). [المحرر الوجيز: 1 / 199 -200]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) }
يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون النّاس بالبرّ، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون النّاس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر اللّه؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصّروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرّزّاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} قال: «كان بنو إسرائيل يأمرون النّاس بطاعة اللّه وبتقواه، وبالبرّ، ويخالفون، فعيّرهم اللّه، عزّ وجلّ». وكذلك قال السّدّيّ.
وقال ابن جريجٍ: «{أتأمرون النّاس بالبرّ}أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون النّاس بالصّوم والصّلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به النّاس، فعيّرهم اللّه بذلك، فمن أمر بخيرٍ فليكن أشدّ النّاس فيه مسارعةً».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وتنسون أنفسكم}«أي: تتركون أنفسكم {وأنتم تتلونالكتاب أفلا تعقلون}أي: تنهون النّاس عن الكفر بما عندكم من النّبوّة والعهد من التّوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية، يقول: «أتأمرون النّاس بالدّخول في دين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وغير ذلك ممّا أمرتم به من إقام الصّلاة، وتنسون أنفسكم».
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني عليّ بن الحسن، حدّثنا مسلم الجرمي، حدّثنا مخلد بن الحسين، عن أيّوب السّختيانيّ، عن أبي قلابة في قول اللّه تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب} قال: قال أبو الدّرداء: «لا يفقه الرّجل كلّ الفقه حتّى يمقت النّاس في ذات اللّه، ثمّ يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتًا».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: «هؤلاء اليهود إذا جاء الرّجل يسألهم عن الشّيء ليس فيه حقٌّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}».
والغرض أنّ اللّه تعالى ذمّهم على هذا الصّنيع ونبّههم على خطئهم في حقّ أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبرّ مع تركهم له، بل على تركهم له، فإنّ الأمر بالمعروف [معروفٌ] وهو واجبٌ على العالم، ولكنّ [الواجب و] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيبٌ، عليه السّلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب} [هودٍ: 88]. فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصحّ قولي العلماء من السّلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أنّ مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيفٌ، وأضعف منه تمسّكهم بهذه الآية؛ فإنّه لا حجّة لهم فيها. والصّحيح أنّ العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، [قال مالكٌ عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبيرٍ يقول له: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتّى لا يكون فيه شيءٌ ما أمر أحدٌ بمعروفٍ ولا نهى عن منكرٍ». وقال مالكٌ: «وصدق من ذا الّذي ليس فيه شيءٌ؟» قلت] ولكنّه -والحالة هذه-مذمومٌ على ترك الطّاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرةٍ، فإنّه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطّبرانيّ في معجمه الكبير: حدّثنا أحمد بن المعلّى الدّمشقيّ والحسن بن عليٍّ المعمريّ، قالا حدّثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبيّ، حدّثنا الأعمش، عن أبي تميمة الهجيمي، عن جندب بن عبد اللّه، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «مثل العالم الّذي يعلّم النّاس الخير ولا يعمل به كمثل السّراج يضيء للنّاس ويحرق نفسه».
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد بن حنبلٍ في مسنده: حدّثنا وكيع، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ هو ابن جدعان، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «مررت ليلة أسري بي على قومٍ شفاههم تقرض بمقاريض من نارٍ. قال: قلت: من هؤلاء؟» قالوا: خطباء من أهل الدّنيا ممّن كانوا يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟.
ورواه عبد بن حميدٍ في مسنده، وتفسيره، عن الحسن بن موسى، عن حمّاد بن سلمة به.
ورواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث يونس بن محمّدٍ المؤدّب، والحجّاج بن منهال، كلاهما عن حمّاد بن سلمة، به.
وكذا رواه يزيد بن هارون، عن حمّاد بن سلمة به.
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم التّستريّ ببلخٍ، حدّثنا مكّيّ بن إبراهيم، حدّثنا عمر بن قيسٍ، عن عليّ بن زيدٍ عن ثمامة، عن أنسٍ، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «مررت ليلة أسري بي على أناسٍ تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نارٍ. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ »قال: هؤلاء خطباء أمّتك، الّذين يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم.
وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، وابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه -أيضًا-من حديث هشامٍ الدّستوائيّ، عن المغيرة -يعني ابن حبيبٍ-ختن مالك بن دينارٍ، عن مالك بن دينارٍ، عن ثمامة، عن أنس بن مالكٍ، قال: لمّا عرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرّ بقومٍ تقرض شفاههم، فقال: «يا جبريل، من هؤلاء؟ » قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم؛ أفلا يعقلون؟.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يعلى بن عبيدٍ، حدّثنا الأعمش، عن أبي وائلٍ، قال: قيل لأسامة -وأنا رديفه-: ألا تكلّم عثمان؟ فقال: إنّكم ترون أنّي لا أكلّمه إلّا أسمعكم. إنّي لا أكلّمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا -لا أحبّ أن أكون أوّل من افتتحه، واللّه لا أقول لرجلٍ إنّك خير النّاس. وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: «يجاء بالرّجل يوم القيامة فيلقى في النّار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النّار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النّار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
ورواه البخاريّ ومسلمٌ، من حديث سليمان بن مهران الأعمش، به نحوه.
[وقال أحمد: حدّثنا سيّار بن حاتمٍ، حدّثنا جعفر بن سليمان عن ثابتٍ عن أنسٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه يعافي الأمّيّين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار: أنّه يغفر للجاهل سبعين مرّةً حتّى يغفر للعالم مرّةً واحدةً، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب}[الزّمر: 9]. وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ أناسًا من أهل الجنّة يطّلعون على أناسٍ من أهل النّار فيقولون: بم دخلتم النّار؟ فواللّه ما دخلنا الجنّة إلّا بما تعلّمنا منكم، فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل».رواه من حديث الطّبرانيّ عن أحمد بن يحيى بن حيّان الرّقيّ عن زهير بن عبّادٍ الرّواسيّ عن أبي بكرٍ الدّاهريّ عن عبد اللّه بن حكيمٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشّعبيّ عن الوليد بن عقبة فذكره].
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: إنّه جاءه رجلٌ، فقال: يا ابن عبّاسٍ، إنّي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: «أو بلغت ذلك؟»قال: أرجو. قال: «إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آياتٍ من كتاب اللّه فافعل». قال: وما هنّ؟ قال: «قوله عزّ وجلّ{أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسونأنفسكم}أحكمت هذه؟».قال: لا. قال: فالحرف الثّاني. قال: «قوله تعالى:{لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند اللّه أن تقولوا ما لاتفعلون}[الصّفّ: 2، 3]أحكمت هذه؟».قال: لا. قال: فالحرف الثّالث. قال: «قول العبد الصّالح شعيب، عليه السلام:{وما أريد أن أخالفكمإلى ما أنهاكم عنه} [هودٍ: 88]أحكمت هذه الآية؟».قال: لا. قال: «فابدأ بنفسك».
رواه ابن مردويه في تفسيره.
وقال الطّبرانيّ حدّثنا عبدان بن أحمد، حدّثنا زيد بن الحريش، حدّثنا عبد اللّه بن خراش، عن العوّام بن حوشبٍ، عن [سعيد بن] المسيّب بن رافعٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من دعا النّاس إلى قولٍ أو عملٍ ولم يعمل هو به لم يزل في ظلّ سخط اللّه حتّى يكفّ أو يعمل ما قال، أو دعا إليه».
إسناده فيه ضعفٌ، وقال إبراهيم النّخعيّ: إنّي لأكره القصص لثلاث آياتٍ قوله تعالى: {أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم} وقوله {يا أيّهاالّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون}[الصّفّ: 2، 3] وقوله إخبارًا عن شعيبٍ: {وما أريد أنأخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب} [هودٍ: 88].
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرٍو:
وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيريّ الزّاهد يومًا على مجلس التّذكير فأطال السّكوت، ثمّ أنشأ يقول:
قال: فضجّ النّاس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشّاعر:
وقال أبو الأسود الدّؤليّ:
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيدٍ البصريّ العابد الواعظ قال: دعوت اللّه أن يريني رفيقي في الجنّة، فقيل لي في المنام: هي امرأةٌ في الكوفة يقال لها: ميمونة السّوداء، فقصدت الكوفة لأراها. فقيل لي: هي ترعى غنمًا بوادٍ هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمةٌ تصلّي والغنم ترعى حولها وبينهنّ الذّئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذّئاب عليهنّ. فلمّا سلّمت قالت: يا ابن زيدٍ، ليس الموعد هنا إنّما الموعد ثمّ، فسألتها عن شأن الذّئاب والغنم. فقالت: إنّي أصلحت ما بيني وبين سيّدي فأصلح ما بين الذّئاب والغنم. فقلت لها: عظيني. فقالت: يا عجبًا من واعظٍ يوعظ، ثمّ قالت: يا ابن زيدٍ، إنّك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيدٍ، إنّه بلغني ما من عبدٍ أعطى من الدّنيا شيئًا فابتغى إليه تائبًا إلّا سلبه اللّه حبّ الخلوة وبدّله بعد القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثمّ أنشأت تقول:
). [تفسير ابن كثير: 1 / 246 -251]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين (45)}
إن قال قائل: لم قيل لهم "استعينوا بالصبر" وما الفائدة فيها ؟
فإن هذا الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم، فقيل لهم: استعينوا على ما يذهب عنكم شهوة الرياسة بالصلاة؛ لأن الصلاة يتلى فيها ما يرغب فيما عند اللّه، ويزهد في جميع أمر الدنيا، ودليل ذلك قوله: {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وقوله عزّ وجلّ: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} المعنى: إن الصلاة التي معها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم كبيرة؛ تكبر على الكفار وتعظم عليهم مع الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخاشع: المتواضع المطيع المجيب؛ لأن المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفر إذا انتقل إلى الإيمان). [معاني القرآن: 1 / 125 -126]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة} قال مقاتل: «معناه على طلب الآخرة».
وقال غيره: المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على نيل رضوان الله، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضا، ومنه الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة»، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ واستعينوا بالصّبر والصّلاة.
وقال مجاهد: «الصبر في هذه الآية الصوم»، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع. ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة.
وقال قوم: «الصبر» على بابه، والصّلاة الدعاء، وتجيء هذه الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى: {إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللّه}[الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: {وإنّها لكبيرةٌ} على أي شيء يعود الضمير؟ فقيل على الصّلاة، وقيل على الاستعانة التي يقتضيها قوله واستعينوا، وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقالت فرقة: على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا ضعف، لأنه لا دليل له من الآية عليه.
وقيل: يعود الضمير على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أضعف من الذي قبله.
و «كبيرة» معناه ثقيلة شاقة، والخاشعون المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع). [المحرر الوجيز: 1 / 200 -201]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعين (45) الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون (46) }
يقول تعالى آمرًا عبيده، فيما يؤمّلون من خير الدّنيا والآخرة، بالاستعانة بالصّبر والصّلاة، كما قال مقاتل بن حيّان في تفسير هذه الآية: «
استعينوا على طلب الآخرة بالصّبر على الفرائض، والصّلاة.».
فأمّا الصّبر فقيل: إنّه الصّيام، نصّ عليه مجاهدٌ.
[قال القرطبيّ وغيره: ولهذا سمّي رمضان شهر الصّبر كما نطق به الحديث].
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن جريّ بن كليب، عن رجلٍ من بني سليمٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الصّوم نصف الصّبر».
وقيل: المراد بالصّبر الكفّ عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصّلاة.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن حمزة بن إسماعيل، حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، قال: «الصّبر صبران: صبرٌ عند المصيبة حسنٌ، وأحسن منه الصّبر عن محارم الله».
[قال] وروي عن الحسن البصريّ نحو قول عمر.
وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: «الصّبر اعتراف العبد للّه بما أصاب فيه، واحتسابه عند اللّه ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرّجل وهو يتجلّد، لا يرى منه إلّا الصّبر».
وقال أبو العالية في قوله: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة}«على مرضاة اللّه، واعلموا أنّها من طاعة اللّه».
وأمّا قوله: {والصّلاة} فإنّ الصّلاة من أكبر العون على الثّبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصّلاة إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللّه أكبر} الآية [العنكبوت: 45].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا خلف بن الوليد، حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، عن عكرمة بن عمّارٍ، عن محمّد بن عبد اللّه الدّؤليّ، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة، يعني ابن اليمان: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمرٌ صلّى». ورواه أبو داود [عن محمّد بن عيسى عن يحيى بن زكريّا عن عكرمة بن عمّارٍ كما سيأتي].
وقد رواه ابن جريرٍ، من حديث ابن جريج، عن عكرمة بن عمّارٍ، عن محمّد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة، قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصّلاة».
[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة؛ ويقال: أخي حذيفة مرسلًا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ وقال محمّد بن نصرٍ المروزيّ في كتاب الصّلاة: حدّثنا سهل بن عثمان أبو مسعودٍ العسكريّ، حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمّارٍ: قال محمّد بن عبد اللّه الدّؤليّ: قال عبد العزيز: قال حذيفة: «رجعت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الأحزاب وهو مشتملٌ في شملةٍ يصلّي، وكان إذا حزبه أمرٌ صلّى». وحدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرّبٍ سمع عليًّا يقول: «لقد رأيتنا ليلة بدرٍ وما فينا إلّا نائمٌ غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي ويدعو حتى أصبح».].
قال ابن جريرٍ: وروي عنه، عليه الصّلاة والسّلام، أنّه مرّ بأبي هريرة، وهو منبطحٌ على بطنه، فقال له: «اشكنب درد».[قال: نعم] قال: «قم فصلّ فإنّ الصّلاة شفاءٌ».[ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم]. قال ابن جريرٍ: وقد حدّثنا محمّد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا عيينة بن عبد الرّحمن، عن أبيه: أنّ ابن عبّاسٍ نعي إليه أخوه قثم وهو في سفرٍ، فاسترجع، ثمّ تنحّى عن الطّريق، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثمّ قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: «{واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين}».
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريرٍ: {واستعينوا بالصّبر والصّلاة} قال: «إنّهما معونتان على رحمة اللّه».
والضّمير في قوله: {وإنّها} عائدٌ إلى الصّلاة، نصّ عليه مجاهدٌ، واختاره ابن جريرٍ.
ويحتمل أن يكون عائدًا على ما يدلّ عليه الكلام، وهو الوصيّة بذلك، كقوله تعالى في قصّة قارون: {وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب اللّهخيرٌ لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون}[القصص: 80] وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذاالّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ * وما يلقّاها إلا الّذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ} [فصّلت: 34، 35] أي: وما يلقّى هذه الوصيّة إلّا الّذين صبروا {وما يلقّاها} أي: يؤتاها ويلهمها {إلا ذو حظٍّ عظيمٍ}
وعلى كلّ تقديرٍ، فقوله تعالى: {وإنّها لكبيرةٌ} أي: مشقّةٌ ثقيلةٌ إلّا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني المصدّقين بماأنزل اللّه». وقال مجاهدٌ: «المؤمنين حقًّا». وقال أبو العالية: «إلّا على الخاشعين الخائفين».، وقال مقاتل بن حيّان: «إلّا على الخاشعين يعني به المتواضعين». وقال الضّحّاك: {وإنّها لكبيرةٌ} قال: «إنّها لثقيلةٌ إلّا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدّقين بوعده ووعيده».
وهذا يشبه ما جاء في الحديث: «لقد سألت عن عظيمٍ، وإنّه ليسيرٌ على من يسّره اللّه عليه».
وقال ابن جريرٍ: معنى الآية: واستعينوا أيّها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة اللّه وبإقامة الصّلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقرّبة من رضا اللّه، العظيمة إقامتها إلّا على المتواضعين للّه المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظّاهر أنّ الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنّهم لم يقصدوا بها على سبيل التّخصيص، وإنّما هي عامّةٌ لهم، ولغيرهم. واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 251 -254]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون (46)}
"الظن" ههنا في معنى: اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك، ولو كانوا شاكين كانوا ضلالا كافرين، و"الظن" بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن الصمة:
ومعناه: أيقنوا.
وقد قال بعض أهل العلم من المتقدمين: إن "الظن" يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإن كان قام في نفسك حقيقته وهذا مذهب، إلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.
قال أبو إسحاق: وهذا سمعته من إسماعيل بن إسحاق القاضي -رحمه اللّه-، رواه عن زيد بن أسلم.
وقوله {أنّهم} ههنا لا يصلح في موضعها (إنهم) -بالكسر- لأن الظن واقع فلا بد من أن تكون تليه "أنّ"، إلا أن يكون في الخبر لام.
ويصلح في {أنّهم إليه راجعون} الفتح والكسر، إلا أن الفتح هو الوجه الذي عليه القراءة، فإذا قلت: (وإنهّم إليه راجعون) -في الكلام– حملت الكلام على المعنى كأنه "وهم إليه راجعون" ودخلت أن مؤكدة، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت: ظننت إنك لعالم.
ومعنى {ملاقو ربّهم}: ملاقون ربهم، لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون تحذف استخفافا، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن أتباع المصحف أصل أتباع السنة). [معاني القرآن: 1 / 126 -127]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ( ويظنّون في هذه الآية قال الجمهور: معناه يوقنون.
وحكى المهدوي وغيره: أن الظن هنا يصح أن يكون على بابه، ويضمر في الكلام بذنوبهم، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تعسف، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسن بعد، كهذه الآية، وكقوله تعالى: {فظنّوا أنّهم مواقعوها} [الكهف: 53] وكقول دريد بن الصمة:
وقوله تعالى: {أنّهم ملاقوا ربّهم} أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب، ففي الكلام حذف مضاف، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث.
وحكى المهدوي: أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد، مثل عافاك الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف فاعل في المعنى.
وملاقو أصله ملاقون، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفا، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء، وهي إضافة غير محضة، لأنها لا تعرف.
وقال الكوفيون: ما في اسم الفاعل الذي هو بمعنى المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة.
وراجعون قيل: معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: {ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون}[البقرة: 28، الحج: 66، الروم: 40] والضمير في إليه عائد على الرب تعالى، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو). [المحرر الوجيز: 1 / 201 -203]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم وأنّهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الّذي قبله، أي: وإنّ الصّلاة أو الوصاة لثقيلةٌ إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربّهم، أي: [يعلمون أنّهم] محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنّهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعةٌ إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لمّا أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطّاعات وترك المنكرات.
فأمّا قوله: {يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} قال ابن جريرٍ، رحمه اللّه: العرب قد تسمّي اليقين ظنًّا، والشّكّ ظنًّا، نظير تسميتهم الظّلمة سدفة، والضّياء سدفة، والمغيث صارخًا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء الّتي يسمّى بها الشّيء وضدّه، كما قال دريد بن الصّمّة:
يعني بذلك تيقّنوا بألفي مدجّجٍ يأتيكم، وقال عميرة بن طارقٍ:
يعني: وأجعل منّي اليقين غيبًا مرجّمًا، قال: والشّواهد من أشعار العرب وكلامها على أنّ الظّنّ في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا لمن وفّق لفهمه كفايةٌ، ومنه قول اللّه تعالى: {ورأى المجرمون النّار فظنّوا أنّهم مواقعوها} [الكهف: 53].
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، حدّثنا سفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، قال: «كلّ ظنٍّ في القرآن يقينٌ، أي: ظننت وظنوا».
وحدّثني المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا أبو داود الحفريّ، عن سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، قال: «كلّ ظنٍّ في القرآن فهو علمٌ». وهذا سندٌ صحيحٌ.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم} قال: «الظّنّ هاهنا يقينٌ».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة نحو قول أبي العالية.
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ: {الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم}«علموا أنّهم ملاقو ربّهم، كقوله:{إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه}[الحاقّة: 20]يقول: علمت».
وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.
قلت: وفي الصّحيح: «أنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوّجك، ألم أكرمك، ألم أسخّر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربّع؟ فيقول: بلى. فيقول اللّه تعالى: أفظننت أنّك ملاقيّ؟ فيقول: لا. فيقول اللّه: اليوم أنساك كما نسيتني». وسيأتي مبسوطًا عند قوله: {نسوا اللّهفنسيهم}[التّوبة: 67] إن شاء اللّه، واللّه تعالى أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 254 -255]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47)}
أذكرهم الله عزّ وجلّ نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {وإذ نجّيناكم من آل فرعون} والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله.
ولكنه عزّ وجلّ ذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إنعام عليهم، والدليل على ذلك: أن العرب وسائر الناس يقولون: أكرمتك بإكرامي أخاك، وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه، والعرب خاصة تجعل ما كان لآبائها فخرا لها، وما كان فيه ذم يعدونه عارا عليها، وإن كان فيما قدم من آبائها وأسلافها). [معاني القرآن: 1 / 127 -128]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47) واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم ينصرون (48) وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيمٌ (49)}
قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضا فإن فيه تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم بقوله: فضّلتكم على العالمين لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع.
قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم: المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ). [المحرر الوجيز: 1 / 203]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (47) }
يذكّرهم تعالى سالف نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فضّلهم به من إرسال الرّسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين}[الدّخان: 32]، وقال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} [المائدة: 20].
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله تعالى: {وأنّي فضّلتكم على العالمين} قال: «بما أعطوا من الملك والرّسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزّمان؛ فإنّ لكلّ زمانٍ عالمًا».
وروي عن مجاهدٍ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالدٍ نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأنّ هذه الأمّة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابًا لهذه الأمّة: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم}[آل عمران: 110] وفي المسانيد والسّنن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنتم توفون سبعين أمّةً، أنتم خيرها وأكرمها على اللّه». والأحاديث في هذا كثيرةٌ تذكر عند قوله تعالى: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس}
[وقيل: المراد تفضيلٌ بنوعٍ ما من الفضل على سائر النّاس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكاه فخر الدّين الرّازيّ وفيه نظرٌ. وقيل: إنّهم فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمّتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبيّ في تفسيره، وفيه نظر؛ لأن {العالمين} عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمّدٌ بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيّد ولد آدم في الدّنيا والآخرة، صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 255]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)} يعني به: يوم القيامة، وكانت اليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لها عند الله فأيئسهم اللّه من ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يؤخذ منها عدل} العدل ههنا الفدية.
ومعنى: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} أي: لا تجزي فيه، وقيل: لا تجزيه، وحذف (فيه) ههنا سائغ، لأن (في) مع الظرف محذوفة، تقول: أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم، فإذا أضمرت قلت: أتيتك فيه، ويجوز أن تقول: أتيتكه، قال الشاعر:
أراد: شهدنا فيه،
وقال بعض النحويين: إن المحذوف هنا الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها، وهذا قول الكسائي والبصريون وجماعة من الكوفيين يقولون: إن المحذوف "فيه".
وفصّل النحويون في الظروف، وفي الأسماء غير الظروف فقالوا: إن الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره، فكذلك الحذف في مضمره، لو قلت: الذي سرت اليوم، تريد: الذي سرت فيه، جائز، لأنك تقول: سرت اليوم وسرت فيه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد، لم يجز: الذي تكلمت زيد، لأنك تقول: تكلمت اليوم وتكلمت فيه، ولا يجوز في قولك: تكلمت في زيد "تكلمت زيدا".
وقوله عزّ وجلّ: {تقبل منها شفاعة} مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، والاسم إذا لم يسم من فعل به رفع، لأن الفعل يصير حديثا عنه كما يصير حديثا عن الفاعل، وتقول: "لا يقبل منها شفاعة"، و"لا تقبل"، لأن معنى تأنيث ما لا ينتج غير حقيقة، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث، تقول: قبل منك الشفاعة، وقد قبلت منك الشفاعة، وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ، وشفاعة وشفع واحد.
فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظ والمعنى.
وأمّا ما يعقل ويكون منه النسل والولادة نحو "امرأة" و"رجل" و"ناقة" و"جمل"؛ فيصح في مؤنثة لفظ التذكير، ولو قلت: قام جارتك، ونحر ناقتك، كان قبيحا وهو جائز على قبحه، لأن "الناقة" و"الجارة" تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئ بلفظهما عن تأنيث الفعل، فأمّا الأسماء التي تقع للمذكرين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من علم التأنيث لأن الكلام للفائدة، والقصد به الإبانة، فلو سمّيت امرأة بـ"قاسم" لم يجز أن يقال: جاءني قاسم، فلا يعلم أمذكرا عنيت أم مؤنثا، وليس إلى حذف هذه التاء -إذا كانت فارقة بين معنيين- سبيل، كما إنّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام، ولا يجوز إلا أن تقول: قاما، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا). [معاني القرآن: 1 / 128 -130]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله عز وجل: {واتّقوا يوماً} نصب يوما «باتقوا» على السعة، والتقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى، لأن يوم القيامة ليس بيوم عمل، ولكن معناه: جيئوا متقين يوما. ولا تجزي معناه: لا تغني.
وقال السدي: معناه لا تقضي، ويقويه قوله شيئاً وقيل المعنى: لا تكافئ، ويقال: جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم، فقالوا: جزى بمعنى: قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.
وقرأ أبو السمال «تجزىء» بضم التاء والهمز، وفي الكلام حذف.
وقال البصريون: التقدير لا تجزي فيه، ثم حذف فيه.
وقال غيرهم: حذف ضمير متصل ب تجزي تقديره لا تجزيه، على أنه يقبح حذف هذا الضمير في الخبر، وإنما يحسن في الصلة.
وقال بعض البصريين: التقدير لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير، ثم حذف الضمير بتدريج.
وقوله تعالى: {ولا يقبل شفاعة} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان لأن الشافع والمشفوع له شفع، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم.
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعة، ولا تجزي نفسٌ عن نفسٍ، وهذا إنما هو في الكافرين، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدلٌ}، قال أبو العالية: «العدل الفدية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، «والعدل» بكسر العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه.
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير، والضمير في قوله ولا هم عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدى). [المحرر الوجيز: 1 / 204 -205]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {واتّقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ولا يقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدلٌ ولا هم ينصرون (48) }
لمّا ذكّرهم [اللّه] تعالى بنعمه أوّلًا عطف على ذلك التّحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال: {واتّقوا يومًا} يعني: يوم القيامة {لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا} أي: لا يغني أحدٌ عن أحدٍ كما قال: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}[الأنعام: 164]، وقال: {لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه}[عبس: 37]، وقال: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم واخشوا يومًا لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا}[لقمان: 33]، فهذه أبلغ المقامات: أنّ كلًّا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا، وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعةٌ} يعني عن الكافرين، كما قال: {فما تنفعهم شفاعة الشّافعين}[المدّثّر: 48]، وكما قال عن أهل النّار: {فما لنا من شافعين * ولا صديقٍ حميمٍ}[الشّعراء: 110، 111]، وقوله: {ولا يؤخذ منها عدلٌ} أي: لا يقبل منها فداءٌ، كما قال تعالى: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به} [آل عمران: 91] وقال: {إنّ الّذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبّل منهم ولهم عذابٌ أليمٌ}[المائدة: 36] وقال تعالى: {وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها} [الأنعام: 70]، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ ولا من الّذين كفروا} الآية [الحديد: 15]، فأخبر تعالى أنّهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا اللّه يوم القيامة على ما هم عليه، فإنّه لا ينفعهم قرابة قريبٍ ولا شفاعة ذي جاهٍ، ولا يقبل منهم فداءٌ، ولو بملء الأرض ذهبًا، كما قال تعالى: {من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولاشفاعةٌ}[البقرة: 254]، وقال: {لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ}[إبراهيم: 31].
[وقال سنيدٌ: حدّثني حجّاجٌ، حدّثني ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: قال ابن عبّاسٍ: {ولا يؤخذ منها عدلٌ} قال: «بدلٌ، والبدل: الفدية»، وقال السّدّيّ: «أمّا عدلٌ فيعدلها من العذاب يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبّل منها»، وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم،]. وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {ولا يؤخذ منها عدلٌ}«يعني: فداءٌ».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن أبي مالكٍ، والحسن، وسعيد بن جبيرٍ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا الثّوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن أبيه عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، في حديثٍ طويلٍ، قال: «والصّرف والعدل: التّطوّع والفريضة».
وكذا قال الوليد بن مسلمٍ، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن عمير بن هانئ.
وهذا القول غريبٌ هنا، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديثٌ يقوّيه، وهو ما قال ابن جريرٍ: حدّثني نجيح بن إبراهيم، حدّثنا عليّ بن حكيمٍ، حدّثنا حميد بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيسٍ الملائيّ، عن رجلٍ من بني أميّة -من أهل الشّام أحسن عليه الثّناء -قال: قيل: يا رسول اللّه، ما العدل؟ قال: «العدل الفدية».
وقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب اللّه، كما تقدّم من أنّه لا يعطف عليهم ذو قرابةٍ ولا ذو جاهٍ ولا يقبل منهم فداءٌ. هذا كلّه من جانب التّلطّف، ولا لهم ناصرٌ من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال: {فما له من قوّةٍ ولا ناصرٍ}[الطّارق: 10] أي: إنّه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعةً، ولا ينقذ أحدًا من عذابه منقذٌ، ولا يجيره منه أحدٌ، كما قال تعالى: {وهو يجيرولا يجار عليه}[المؤمنون: 88]. وقال: {فيومئذٍ لا يعذّب عذابه أحدٌ * ولا يوثق وثاقه أحدٌ}[الفجر: 25 - 26]، وقال: {ما لكم لا تناصرون * بلهم اليوم مستسلمون} [الصّافّات: 25، 26]، وقال: {فلولا نصرهم الّذين اتّخذوا من دون اللّه قربانًا آلهةً بل ضلّوا عنهم} الآية [الأحقاف: 28].
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ما لكم لا تناصرون} ما لكم اليوم لا تمانعون منّا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جريرٍ: وتأويل قوله: {ولا هم ينصرون} يعني: إنّهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصرٌ، كما لا يشفع لهم شافعٌ، ولا يقبل منهم عدلٌ ولا فديةٌ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلّت الرّشى والشّفاعات، وارتفع من القوم التّعاون والتّناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبّار الّذي لا ينفع لديه الشّفعاء والنّصراء، فيجزي بالسّيّئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: {وقفوهم إنّهم مسئولون* ما لكم لا تناصرون* بل هم اليوم مستسلمون}[الصافات: 24 -26] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 256 -257]
* للاستزادة ينظر: هنا