تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
تفسير
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ
قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التّوّاب
الرّحيم (54)}
والقراءة {يا قومِ}
بكسر الميم، وهو نداء مضاف، والاختيار فيه: حذف الياء، لأن الياء حرف
واحد، والنداء باب حذف، وهي في آخر الاسم، كما أنّ التنوين في آخره، فحذفت
الياء، وبقيت الكسرة تدل عليها، ويجوز في الكلام أربعة أوجه.
فأمّا في القرآن فالكسر وحذف الياء لأنه أجود الأوجه، وهو إجماع القراء، فالذي يجوز في الكلام:
أن تقول: "يَا قَوْمِ إنكم" كما قرئ في القرآن، ويجوز: "يا قومِي" بإثبات الياء وسكونها، ويجوز: "يا قوْمِيَ" بتحريك الياء، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة، ويجوز: "يا قومُ" بضم الميم على معنى: يا أيها القوم.
ومعنى قوله {ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل}يقال
لكل من فعل فعلا يعود عليه بمكروه: إنما أسأت إلى نفسك وظلمت نفسك، وأصل
"الظلم" في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، والعرب تقول: (ومن أشبه أباه
فما ظلم)، معناه: لم يقع له الشبه غير موقعه، ويقال: "ظلم الرجل سقاءه من
اللبن"، إذا شرب منه وسقي منه قبل إدراكه، و"أرض مظلومة" إذا حفر فيها ولم
يكن حفر فيها قبل، أو جاء المطر بقربها وتخطاها.
قال النابغة:
إلاّ أواريّ لأيـــــــــــــا مـــــــــــــا أبـــيّـــنـــهــــا والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ومعنى قوله{باتخاذكم العجل} أي: اتخذتموه إلها.
ومعنى قوله{فتوبوا إلى بارئكم}أي:
إلى خالقكم، يقال: برأ اللّه الخلق، فالبارئ: الخالق، والبريّة والخلق:
المخلوقون، إلا أن البريّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة وأصلها{أولئك هم خير البريّة} وأكثر القراء والكلام "البريّة" بغير همز.
وقد
قرأ قوم (البريئة) بالهمز، والاختيار ما عليه الجمهور، وروي عن أبي عمرو
بن العلاء أنه قرأ (إلى بارئْكم) بإسكان الهمز، وهذا رواه سيبويه باختلاس
الكسرة، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لما روى عن أبي
عمرو، والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف الكسرة في مثل هذا وحذف
الضم إنما يأتي باضطرار من الشعر، أنشد سيبويه -وزعم أنّه مما يجوز في
الشعر خاصة-:
بإسكان الباء، وأنشد أيضا:
فاليوم أشرب غير مستحق بإثــمـــا مـــــن الــلّـــه ولا واغــــــل
فالكلام
الصحيح أن تقول "يا صاحبُ أقبل"، أو "يا صاحب أقبل" ولا وجه للإسكان،
وكذلك "فاليوم أشرب" يا هذا، وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة
وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر، رووا هذا البيت على ضربين:
رووا: فاليوم فاشرب غير مستحقب.
ورووا أيضا: فاليوم أسقى غير مستحقب.
ورووا أيضا: إذا اعوججن قلت صاح قوم.
ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاء اللّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي روى.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا{إلى بارئِكم}بالكسر، وكذلك{عند بارئِكم}.
ومعنى{فاقتلوا أنفسكم}امتحنهم اللّه عزّ وجلّ بأن جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا،فيقال:إنهم صفوا صفين يقتل بعضهم بعضا، فمن قتل كان شهيدا؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه،ويقال:إن السبعين الذين اختارهم موسى -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا ممن عبد العجل، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون،والأول أشبه بالآيةلأن قوله عزّ وجلّ{فاقتلوا أنفسكم}يدل على أنها توبة عبدة العجل، وإنما امتحنهم الله عزّ وجلّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام).[معاني القرآن:1 / 134 -137]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ
قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو
التّوّاب الرّحيم (54) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً
فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون (55)}
هذا
القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى، وحذفت الياء في
«يا قومي» لأن النداء موضع حذف وتخفيف، والضمير في «اتخاذكم» في موضع خفض
على اللفظ، وفي موضع رفع بالمعنى، و «العجل» لفظة عربية، اسم لولد البقرة.
وقال قوم: سمي عجلا لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا القول بشيء.
واختلف هل بقي العجل من ذهب؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحما ودما، والأول أصح.
و «توبوا»: معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة.
وقرأ الجمهور: «بارئكم» بإظهار الهمزة وكسرها.
وقرأ أبو عمرو: «بارئكم» بإسكان الهمزة.
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن، وهذا التسكين يحسن في توالي الحركات.
وقال المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب، وقراءة أبي عمرو «بارئكم» لحن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد روي عن العرب التسكين في حرف الأعراب، قال الشاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ....... ... ... ... ...
وقال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ....... إثما من الله ولا واغل
وقال آخر:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا ....... ... ... ... ...
وقال الآخر:
... ... ... ... ......... وقد بدا هنك من المئزر
وقال جرير:
... ... ... ... ....... ونهر تيري فما تعرفكم العرب
وقال وضاح اليمن:
إنما شعري شهد ....... قد خلط بجلجلان
ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات.
وقرأ الزهري «باريكم» بكسر الياء من غير همز، ورويت عن نافع.
وقرأ قتادة: «فاقتالوا أنفسكم»: وقال: «هي من الاستقالة».
قال
أبو الفتح: «اقتال» هذه افتعل، ويحتمل أن يكون عينها واوا كاقتادوا،
ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس» والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة، ولكن
قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده.
وقوله تعالى: {فتاب عليكم} قبله محذوف تقديره ففعلتم.
وقوله: {عليكم} معناه: على الباقين، وجعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم.
قال
بعض الناس: فاقتلوا في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة عوارض النفوس من
شهوة وتعنت وغضب، واحتج بقوله عليه السلام في الثوم والبصل فلتمتهما طبخا،
وبقول حسان:
... ... ... ... ....... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
). [المحرر الوجيز: 1 / 214-216]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذ
قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو
التّوّاب الرّحيم (54)}
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصريّ، رحمه اللّه، في قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل} فقال: «ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال اللّه تعالى:{ولمّا سقط فيأيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا}الآية[الأعراف: 149].»، قال: «فذلك حين يقول موسى:{يا قوم إنّكم ظلمتمأنفسكم باتّخاذكم العجل}».
وقال أبو العالية، وسعيد بن جبيرٍ، والرّبيع بن أنسٍ: {فتوبوا إلى بارئكم}«أي إلى خالقكم».
قلت: وفي قوله هاهنا: {إلى بارئكم} تنبيهٌ على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الّذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
وروى
النّسائيّ وابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، من حديث يزيد بن هارون، عن الأصبغ
بن زيدٍ الورّاق عن القاسم بن أبي أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ،
قال: «قال اللّه تعالى: إنّ توبتهم أن يقتل
كل واحد منهم كلّ من لقي من ولدٍ ووالدٍ فيقتله بالسّيف، ولا يبالي من قتل
في ذلك الموطن. فتاب أولئك الّذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطّلع
اللّه من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر اللّه تعالى
للقاتل والمقتول». وهذا قطعةٌ من حديث الفتون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن شاء اللّه.
وقال
ابن جريرٍ: حدّثني عبد الكريم بن الهيثم، حدّثنا إبراهيم بن بشّار، حدّثنا
سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيدٍ: عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «قال موسى لقومه:{فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو التّوّاب الرّحيم}» قال: «أمر موسى قومه -من أمر ربّه عزّ وجلّ -أن يقتلوا أنفسهم» قال: «واحتبى
الّذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الّذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا
الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلّة شديدةٌ، فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت
الظلّة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيلٍ، كلّ من قتل منهم كانت له
توبةٌ، وكلّ من بقي كانت له توبةٌ».
وقال ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزّة أنّه سمع سعيد بن جبيرٍ ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} قالا: «
قام بعضهم إلى بعضٍ بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجلٌ على قريبٍ
ولا بعيدٍ، حتّى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف
قتيلٍ. وإنّ اللّه أوحى إلى موسى: أن حسبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى
بثوبه»، [وروي عن عليٍّ رضي اللّه عنه نحو ذلك].
وقال قتادة: «أمر
القوم بشديدٍ من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشّفار يقتل بعضهم بعضًا، حتّى
بلغ اللّه فيهم نقمته، فسقطت الشّفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل
لحيّهم توبةً، وللمقتول شهادةً».
وقال الحسن البصريّ: «أصابتهم ظلمة حندس، فقتل بعضهم بعضًا [نقمةً] ثمّ انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك».
وقال السّدّيّ في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} قال: «فاجتلد
الّذين عبدوه والّذين لم يعبدوه بالسّيوف، فكان من قتل من الفريقين
شهيدًا، حتّى كثر القتل، حتّى كادوا أن يهلكوا، حتّى قتل بينهم سبعون
ألفًا، وحتّى دعا موسى وهارون: ربّنا أهلكت بني إسرائيل، ربّنا البقية
البقية، فأمرهم أن يضعوا السّلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين
شهيدًا، ومن بقي مكفّرا عنه؛ فذلك قوله:{فتاب عليكم إنّه هو التّوّاب الرّحيم}».
وقال الزّهريّ: «لمّا
أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسّيوف،
وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافعٌ يديه، حتّى إذا أفنوا بعضهم، قالوا: يا
نبيّ اللّه، ادع اللّه لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على
ذلك، حتّى إذا قبل اللّه توبتهم قبض أيديهم، بعضهم عن بعضٍ، فألقوا
السّلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للّذي كان من القتل فيهم، فأوحى اللّه،
جلّ ثناؤه، إلى موسى: ما يحزنك؟ أمّا من قتل منكم فحيٌّ عندي يرزقون، وأمّا
من بقي فقد قبلت توبته. فسرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل».
رواه ابن جريرٍ بإسنادٍ جيّدٍ عنه.
وقال
ابن إسحاق: لمّا رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذرّاه في اليمّ، خرج إلى
ربّه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصّاعقة، ثمّ بعثوا، فسأل موسى ربّه
التّوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا إلّا أن يقتلوا أنفسهم قال:
فبلغني أنّهم قالوا لموسى: نصبر لأمر اللّه. فأمر موسى من لم يكن عبد
العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية وأصلت عليهم القوم السّيوف، فجعلوا
يقتلونهم، وبكى موسى، وبهش إليه النّساء والصّبيان، يطلبون العفو عنهم،
فتاب اللّه عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السّيوف.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «لمّا
رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلًا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم
يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربّكم. فقالوا: يا موسى، ما من
توبةٍ؟ قال: بلى،{فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم}الآية، فاخترطوا السّيوف والجرزة والخناجر والسّكاكين» قال:« وبعث عليهم ضبابةً. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرّجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري. قال: ويتنادون [فيها]: رحم اللّه عبدًا صبّر نفسه حتّى يبلغ اللّه رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيبعلى أحيائهم»، ثمّ قرأ: {فتاب عليكم إنّه هو التّوّاب الرّحيم} ). [تفسير ابن كثير: 1 / 261 -263]
تفسير
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
(55)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ):(وقوله عزّ وجلّ:{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتكم الصّاعقة وأنتم تنظرون (55)}
معنى {جهرة}:غير مستتر عنّا بشيء، يقال: فلان يجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس منها بشيء.
وقوله:{فأخذتكم الصاعقة} معنى الصاعقة: ما يصعقون منه، أي: يموتون، فأخذتهم الصاعقة: فماتوا.
الدليل على أنهم ماتوا قوله عزّ وجلّ:{ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56)} وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.
مثل قوله تعالى:{فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه}، ومثل قوله عزّ وجلّ:{فقال لهم اللّه موتوا ثم أحياهم}وذلك
احتجاج على مشركي العرب الذين لم يكونوا موقنين بالبعث، فأتى النبي -صلى
الله عليه وسلم- بالأخبار عمن بعث بعد الموت في الدنيا مما توافقه عليه
اليهود والنصارى، وأرباب الكتب فاحتج -صلى الله عليه وسلم- بحجة اللّه التي
يوافقه عليها جميع من خالفه من أهل الكتب.
وقوله{لعلّكم تشكرون}
أي: في أن بعثكم بعد الموت، وأعلمكم أن قدرته عليكم هذه القدرة، وأن
الإقالة بعد الموت لا شيء بعدها، وهي كالمضطرة إلى عبادة اللّه).[معاني القرآن: 1 / 137 -138]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى} يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهم.
فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل.
وحكى
النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد، والأول أصح،
وقصة السبعين أن موسى صلى الله عليه وسلم لما رجع من تكليم الله ووجد العجل
قد عبد قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر ونحن أصحابك، ولكن
أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه أن اختر منهم سبعين شيخا، فلم يجد إلّا
ستين، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخا، وكان
قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر،
فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من مضى، فتأخر يوشع بن نون وطالوت
بن يوقنا وذهب موسى عليه السلام بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء
ثلاثا ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى
الجبل، فألقي عليهم الغمام.
قال النقاش وغيره: غشيتهم سحابة وحيل بينهم وبين موسى بالنور فوقعوا سجودا.
قال
السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطت
أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم، ففعل، فلما فرغ وخرجوا بدلت
منهم طائفة ما سمعت من كلام الله فذلك قوله تعالى: {وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه} [البقرة: 75]،
واضطرب إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه
جهرةً ولم يطلبوا من الرؤية محالا، أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا
من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به
الغير.
وقال قتادة: «ماتوا
وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل
موسى يناشد ربه فيهم ويقول: أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم فيهلكون
ولا يؤمنون بي أبدا، وقد خرجوا معي وهم الأخيار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني وهم بحال الخير وقت الخروج.
وقال قوم: بل ظن موسى عليه السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله أتهلكنا يعني السبعين بما فعل السّفهاء منّا [الأعراف: 155] يعني عبدة العجل.
وقال
ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه،
بقولهم لموسى «أرنا» وليس ذلك من مقدور موسى صلى الله عليه وسلم، وجهرةً
مصدر في موضع الحال، والأظهر أنها من الضمير في نرى، وقيل من الضمير في
نؤمن، وقيل من الضمير في قلتم، والجهرة العلانية، ومنه الجهر ضد السر، وجهر
الرجل الأمر كشفه.
وقرأ
سهل بن شعيب وحميد بن قيس: «جهرة» بفتح الهاء، وهي لغة مسموعة عند
البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكنا قد انفتح ما قبله، والكوفيون يجيزون فيه
الفتح وإن لم يسمعوه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل أن يكون جهرةً جمع جاهر، أي حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر.
وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما: «فأخذتكم الصعقة»، ومضى في صدر السورة معنى الصّاعقة، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند الصاعقة.
وتنظرون معناه إلى حالكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: حتى أحالهم العذاب وأزال نظرهم).[المحرر الوجيز: 1 / 216 -218]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً فأخذتكم الصّاعقة وأنتم
تنظرون (55) ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56)}
يقول
تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصّعق، إذ سألتم رؤيتي جهرةً
عيانًا، ممّا لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريجٍ، قال ابن
عبّاسٍ في هذه الآية: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً} قال: «علانيةً».
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عبّاد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال في قول اللّه تعالى: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّهجهرةً} «أي علانيةً، أي حتّى نرى اللّه».
وقال قتادة، والرّبيع بن أنسٍ: {حتّى نرى اللّه جهرةً}«أي عيانًا».
وقال أبو جعفرٍ عن الرّبيع بن أنسٍ: «هم السّبعون الّذين اختارهم موسى فساروا معه». قال: «فسمعوا كلامًا، فقالوا:{لن نؤمن لك حتّى نرى اللّهجهرةً} قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا».
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكّة: «الصّاعقة: صيحةٌ من السّماء».
وقال السّدّيّ في قوله: {فأخذتكم الصّاعقة}« الصّاعقة: نارٌ».
وقال عروة بن رويمٍ في قوله: {وأنتم تنظرون} قال: «فصعق بعضهم وبعضٌ ينظرون، ثمّ بعث هؤلاء وصعق هؤلاء».
وقال السّدّيّ: «{فأخذتكم الصّاعقة} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه، ويقول: ربّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم{لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا}[الأعراف: 155].
فأوحى اللّه إلى موسى أنّ هؤلاء السّبعين ممّن اتّخذوا العجل، ثمّ إنّ
اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعضٍ: كيف يحيون؟» قال: «فذلك قوله تعالى: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون}».
وقال الرّبيع بن أنسٍ: «كان موتهم عقوبةً لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم». وكذا قال قتادة.
وقال
ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن حميدٍ، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن
إسحاق، قال: لمّا رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال
لأخيه وللسّامريّ ما قال، وحرّق العجل وذرّاه في اليمّ، اختار موسى منهم
سبعين رجلًا الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى اللّه وتوبوا إلى اللّه
ممّا صنعتم وسلوه التّوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهّروا
وطهّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتٍ وقّته له ربّه، وكان لا
يأتيه إلّا بإذنٍ منه وعلم، فقال له السّبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما
أمروا به وخرجوا للقاء اللّه، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربّك نسمع كلام
ربّنا، فقال: أفعل. فلمّا دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتّى تغشّى
الجبل كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلّمه
اللّه وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظر إليه،
فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا
فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلمّا فرغ إليه من
أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً} فأخذتهم الرّجفة، وهي الصّاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل [وإيّاي]} [الأعراف: 155]
قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السّفهاء منّا؟ أي:
إنّ هذا لهم هلاكٌ. اخترت منهم سبعين رجلًا الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم
وليس معي منهم رجلٌ واحدٌ! فما الّذي يصدّقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إنّا هدنا إليك} [الأعراف: 156]
فلم يزل موسى يناشد ربّه عزّ وجلّ، ويطلب إليه حتّى ردّ إليهم أرواحهم،
وطلب إليه التّوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلّا أن يقتلوا
أنفسهم.
هذا سياق محمّد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ الكبير: «لمّا
تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب اللّه عليهم بقتل بعضهم بعضًا كما
أمرهم به، أمر اللّه موسى أن يأتيه في كلّ أناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون
إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عينه،
ثمّ ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقيّة».
[وهذا السّياق يقتضي أنّ الخطاب توجّه إلى بني إسرائيل في قوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً}
والمراد السّبعون المختارون منهم، ولم يحك كثيرٌ من المفسّرين سواه، وقد
أغرب فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره حين حكى في قصّة هؤلاء السّبعين: أنّهم
بعد إحيائهم قالوا: يا موسى، إنّك لا تطلب من اللّه شيئًا إلّا أعطاك،
فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب اللّه دعوته، وهذا غريبٌ جدًّا،
إذ لا يعرف في زمان موسى نبيٌّ سوى هارون ثمّ يوشع بن نونٍ، وقد غلط أهل
الكتاب أيضًا في دعواهم أنّ هؤلاء رأوا اللّه عزّ وجلّ، فإنّ موسى الكليم،
عليه السّلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السّبعون؟
[القول الثّاني في الآية] قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: «قال
لهم موسى -لمّا رجع من عند ربّه بالألواح، قد كتب فيها التّوراة، فوجدهم
يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب اللّه عليهم، فقال: إنّ
هذه الألواح فيها كتاب اللّه، فيه أمركم الّذي أمركم به ونهيكم الّذي نهاكم
عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطّلع
اللّه علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلّمنا كما يكلّمك أنت يا
موسى!». وقرأ قول اللّه: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً}. قال: «فجاءت غضبةٌ من اللّه، فجاءتهم صاعقةٌ بعد التّوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثمّ أحياهم اللّه من بعد موتهم». وقرأ قول اللّه: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكمتشكرون}«فقال
لهم موسى: خذوا كتاب اللّه. فقالوا: لا فقال: أيّ شيءٍ أصابكم؟ فقالوا:
أصابنا أنّا متنا ثمّ حيينا. قال: خذوا كتاب اللّه. قالوا: لا. فبعث اللّه
ملائكةً فنتقت الجبل فوقهم».
[وهذا السّياق يدلّ على أنّهم كلّفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماورديّ في ذلك قولين:أحدهما: أنّه سقط التّكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرةً حتّى صاروا مضطرّين إلى التّصديق؛ والثّاني:
أنّهم مكلّفون لئلّا يخلو عاقلٌ من تكليفٍ، قال القرطبيّ: وهذا هو الصّحيح
لأنّ معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأنّ بني إسرائيل قد
شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلّفون وهذا واضحٌ،
واللّه أعلم] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 263 -266]
تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ
بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56) وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا
عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا
أنفسهم يظلمون (57) وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً
وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58)}
أجاب
الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود أو الموت،
ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى: {من بعثنا من مرقدنا}[يس: 52].
وقال قوم: إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه السلام أن يجعلهم الله أنبياء، فذلك قوله تعالى: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم} أي أنبياء {لعلّكم تشكرون}
أي على هذه النعمة، والترجي إنما هو في حق البشر، ونزلت الألواح بالتوراة
على موسى في تلك المدة، وهذا قول جماعة، وقال آخرون: إن الألواح نزلت في
ذهابه الأول وحده.
وذكر
المفسرون في تظليل الغمام: أن بني إسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من
القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه بين مصر والشام، فأمروا بقتال
الجبارين فعصوا وقالوا: {فاذهب أنت وربّك فقاتلا}[المائدة: 24]
فدعا موسى عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار
خمسة فراسخ أو ستة، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت
فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم موسى عليه السلام على دعائه عليهم، فقيل
له: {فلا تأس على القوم الفاسقين}[المائدة: 26].
وروي
أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين
خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين، وإذ كان جميعهم في التيه قالوا
لموسى: من لنا بالطعام؟ قال: الله، فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا:
من لنا من حر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل؟
فضرب
لهم عمود نور في وسط محلتهم، وذكر مكي: عمود نار. فقالوا: من لنا بالماء؟
فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب
ولا يخلق ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان). [المحرر الوجيز: 1 / 218 -220]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً فأخذتكم الصّاعقة وأنتم
تنظرون (55) ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون (56)}
يقول
تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصّعق، إذ سألتم رؤيتي جهرةً
عيانًا، ممّا لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريجٍ، قال ابن
عبّاسٍ في هذه الآية: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً} قال: «علانيةً».
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عبّاد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال في قول اللّه تعالى: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّهجهرةً} «أي علانيةً، أي حتّى نرى اللّه».
وقال قتادة، والرّبيع بن أنسٍ: {حتّى نرى اللّه جهرةً}«أي عيانًا».
وقال أبو جعفرٍ عن الرّبيع بن أنسٍ: «هم السّبعون الّذين اختارهم موسى فساروا معه». قال: «فسمعوا كلامًا، فقالوا:{لن نؤمن لك حتّى نرى اللّهجهرةً} قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا».
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكّة: «الصّاعقة: صيحةٌ من السّماء».
وقال السّدّيّ في قوله: {فأخذتكم الصّاعقة}« الصّاعقة: نارٌ».
وقال عروة بن رويمٍ في قوله: {وأنتم تنظرون} قال: «فصعق بعضهم وبعضٌ ينظرون، ثمّ بعث هؤلاء وصعق هؤلاء».
وقال السّدّيّ: «{فأخذتكم الصّاعقة} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه، ويقول: ربّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم{لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا}[الأعراف: 155].
فأوحى اللّه إلى موسى أنّ هؤلاء السّبعين ممّن اتّخذوا العجل، ثمّ إنّ
اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعضٍ: كيف يحيون؟» قال: «فذلك قوله تعالى: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون}».
وقال الرّبيع بن أنسٍ: «كان موتهم عقوبةً لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم». وكذا قال قتادة.
وقال
ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن حميدٍ، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن
إسحاق، قال: لمّا رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال
لأخيه وللسّامريّ ما قال، وحرّق العجل وذرّاه في اليمّ، اختار موسى منهم
سبعين رجلًا الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى اللّه وتوبوا إلى اللّه
ممّا صنعتم وسلوه التّوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهّروا
وطهّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتٍ وقّته له ربّه، وكان لا
يأتيه إلّا بإذنٍ منه وعلم، فقال له السّبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما
أمروا به وخرجوا للقاء اللّه، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربّك نسمع كلام
ربّنا، فقال: أفعل. فلمّا دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتّى تغشّى
الجبل كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلّمه
اللّه وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظر إليه،
فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا
فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلمّا فرغ إليه من
أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً} فأخذتهم الرّجفة، وهي الصّاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل [وإيّاي]} [الأعراف: 155]
قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السّفهاء منّا؟ أي:
إنّ هذا لهم هلاكٌ. اخترت منهم سبعين رجلًا الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم
وليس معي منهم رجلٌ واحدٌ! فما الّذي يصدّقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إنّا هدنا إليك} [الأعراف: 156]
فلم يزل موسى يناشد ربّه عزّ وجلّ، ويطلب إليه حتّى ردّ إليهم أرواحهم،
وطلب إليه التّوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلّا أن يقتلوا
أنفسهم.
هذا سياق محمّد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرّحمن السّدّيّ الكبير: «لمّا
تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب اللّه عليهم بقتل بعضهم بعضًا كما
أمرهم به، أمر اللّه موسى أن يأتيه في كلّ أناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون
إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عينه،
ثمّ ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقيّة».
[وهذا السّياق يقتضي أنّ الخطاب توجّه إلى بني إسرائيل في قوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً}
والمراد السّبعون المختارون منهم، ولم يحك كثيرٌ من المفسّرين سواه، وقد
أغرب فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره حين حكى في قصّة هؤلاء السّبعين: أنّهم
بعد إحيائهم قالوا: يا موسى، إنّك لا تطلب من اللّه شيئًا إلّا أعطاك،
فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب اللّه دعوته، وهذا غريبٌ جدًّا،
إذ لا يعرف في زمان موسى نبيٌّ سوى هارون ثمّ يوشع بن نونٍ، وقد غلط أهل
الكتاب أيضًا في دعواهم أنّ هؤلاء رأوا اللّه عزّ وجلّ، فإنّ موسى الكليم،
عليه السّلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السّبعون؟
[القول الثّاني في الآية] قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: «قال
لهم موسى -لمّا رجع من عند ربّه بالألواح، قد كتب فيها التّوراة، فوجدهم
يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب اللّه عليهم، فقال: إنّ
هذه الألواح فيها كتاب اللّه، فيه أمركم الّذي أمركم به ونهيكم الّذي نهاكم
عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطّلع
اللّه علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلّمنا كما يكلّمك أنت يا
موسى!». وقرأ قول اللّه: {لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً}. قال: «فجاءت غضبةٌ من اللّه، فجاءتهم صاعقةٌ بعد التّوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثمّ أحياهم اللّه من بعد موتهم». وقرأ قول اللّه: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكمتشكرون}«فقال
لهم موسى: خذوا كتاب اللّه. فقالوا: لا فقال: أيّ شيءٍ أصابكم؟ فقالوا:
أصابنا أنّا متنا ثمّ حيينا. قال: خذوا كتاب اللّه. قالوا: لا. فبعث اللّه
ملائكةً فنتقت الجبل فوقهم».
[وهذا السّياق يدلّ على أنّهم كلّفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماورديّ في ذلك قولين:أحدهما: أنّه سقط التّكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرةً حتّى صاروا مضطرّين إلى التّصديق؛ والثّاني:
أنّهم مكلّفون لئلّا يخلو عاقلٌ من تكليفٍ، قال القرطبيّ: وهذا هو الصّحيح
لأنّ معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأنّ بني إسرائيل قد
شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلّفون وهذا واضحٌ،
واللّه أعلم] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 263 -266] (م)
تفسير
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(57)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ):(وقوله:{وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)}
سخر
اللّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة. وأنزل عليهم المنّ
والسلوى. و جملة المن: ما يمن اللّه به مما لا تعب فيه ولا نصب، وأهل
التفسير يقولون: إن "المنّ" شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.
ويقال إنّه "التَّرَنْجِين"، ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:«الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين»،
ومعنى "المنّ" على ما وصفنا في اللغة: ما يمن اللّه به من غير تعب ولا
نصب، و"السلوى": طائر كالسماني، وذكر إنّه كان يأتيهم من هذين ما فيه
كفايتهم.
وقوله:{كلوا من طيّبات ما رزقناكم}قالوا: إن معناه: من هذه الطيبات، وقالوا -أيضا-: مما هو حلال لكم). [معاني القرآن: 1 / 138 -139]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ومعنى ظلّلنا جعلناه ظللا، والغمام السحاب لأنه يغم وجه السماء أي يستره.
وقال مجاهد: «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: يأتي أمره وسلطانه وقضاؤه. وقيل الغمام ما ابيض من السحاب.
والمنّ صمغة حلوة، هذا قول فرقة، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حلو، وقيل: الذي ينزل اليوم على الشجر، وقيل: المنّ خبز الرقاق مثل النقي. وقيل: هو الترنجبين وقيل الزنجبيل، وفي بعض هذه الأقوال بعد. وقيل: المنّ مصدر يعني به جميع ما من الله به مجملا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم: «الكمأة مما من الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين».
فقيل: أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها مما أنزل نوعها على بني إسرائيل.
وقيل: أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد، فهي منة دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف.
وروي
أن المنّ كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ منه
الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا
يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم، لأن يوم السبت يوم عبادة، والمنّ هنا
اسم جمع لا واحد له من لفظه، والسّلوى طير بإجماع من المفسرين، قاله ابن
عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
قيل: هو السمانى بعينه. وقيل: طائر يميل إلى الحمرة مثل السمانى، وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.
قال الأخفش: «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد». قال الخليل: السّلوى جمع واحدته سلواة.
قال
الكسائي: السّلوى واحدة جمعها سلاوى، والسّلوى اسم مقصور لا يظهر فيه
الإعراب، لأن آخره ألف، والألف حرف هوائي أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو
حرك لرجع حرفا آخر، وقد غلط الهذلي فقال:
وقاسمها بالله عهدا لأنتم ....... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
وقوله تعالى: {كلوا} الآية، معناه وقلنا كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
وقوله تعالى: {وما ظلمونا} يقدر قبله: فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب.
وقال بعض المفسرين: ما ظلمونا ما نقصونا، والمعنى يرجع إلى ما لخصناه). [المحرر الوجيز: 1 / 220 -221]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)}
لمّا ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النّقم، شرع يذكّرهم -أيضًا-بما أسبغ عليهم من النّعم، فقال: {وظلّلنا عليكم الغمام}
وهو جمع غمامةٍ، سمّي بذلك لأنّه يغمّ السّماء، أي: يواريها ويسترها. وهو
السّحاب الأبيض، ظلّلوا به في التّيه ليقيهم حرّ الشّمس. كما رواه
النّسائيّ وغيره عن ابن عبّاسٍ في حديث الفتون، قال: «ثمّ ظلّل عليهم في التّيه بالغمام».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عمر، والرّبيع بن أنسٍ، وأبي مجلزٍ، والضّحاك، والسّدّيّ، نحو قول ابن عبّاسٍ.
وقال الحسن وقتادة: {وظلّلنا عليكم الغمام} [قال] «كان هذا في البرّيّة ظلّل عليهم الغمام من الشّمس».
وقال ابن جريرٍ قال آخرون: وهو غمامٌ أبرد من هذا، وأطيب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وظلّلنا عليكم الغمام} قال: « ليس بالسّحاب، هو الغمام الّذي يأتي اللّه فيه يوم القيامة، ولم يكن إلّا لهم».
وهكذا رواه ابن جريرٍ، عن المثنّى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة.
وكذا
رواه الثّوريّ، وغيره، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وكأنّه يريد، واللّه
أعلم، أنّه ليس من زيّ هذا السّحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرًا، كما
قال سنيدٌ في تفسيره عن حجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ قال: قال ابن
عبّاسٍ: {وظلّلنا عليكم الغمام} قال: «غمامٌ أبرد من هذا وأطيب، وهو الّذي يأتي اللّه فيه في قوله:{هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظللٍ من الغمام والملائكة}[البقرة: 210]وهو الّذي جاءت فيه الملائكة يوم بدرٍ». قال ابن عبّاسٍ: «وكان معهم في التّيه».
وقوله: {وأنزلنا عليكم المنّ} اختلفت عبارات المفسّرين في المنّ: ما هو؟ فقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «كان المنّ ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا».
وقال مجاهدٌ: «المنّ: صمغةٌ». وقال عكرمة: «المنّ: شيءٌ أنزله اللّه عليهم مثل الطّلّ، شبه الرّب الغليظ».
وقال السّدّيّ: «قالوا: يا موسى، كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطّعام؟ فأنزل اللّه عليهم المنّ، فكان يسقط على شجر الزّنجبيل».
وقال قتادة: «كان
المنّ ينزل عليهم في محلّتهم سقوط الثّلج، أشدّ بياضًا من اللّبن، وأحلى
من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، يأخذ الرّجل منهم قدر
ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدّى ذلك فسد ولم يبق، حتّى إذا كان يوم سادسه،
ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنّه كان يوم عيدٍ لا
يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيءٍ، وهذا كلّه في البرّيّة».
وقال الرّبيع بن أنسٍ: «المنّ شرابٌ كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثمّ يشربونه».
وقال وهب بن منبّهٍ -وسئل عن المنّ-فقال: «خبز الرّقاق مثل الذّرة أو مثل النقيّ».
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني أحمد بن إسحاق، حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا إسرائيل، عن جابرٍ، عن عامرٍ وهو الشّعبيّ، قال: «عسلكم هذا جزءٌ من سبعين جزءًا من المنّ».
وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «إنّه العسل».
ووقع في شعر أميّة بن أبي الصّلت، حيث قال:
فرأى اللّه أنّهم بمضيعٍ ....... لا بذي مزرعٍ ولا مثمورا
فسناها عليهم غادياتٍ ....... وترى مزنهم خلايا وخورا
عسلًا ناطفًا وماءً فراتًا ....... وحليبا ذا بهجة مرمورا
فالنّاطف: هو السّائل، والحليب المرمور: الصّافي منه.
والغرض
أنّ عبارات المفسّرين متقاربةٌ في شرح المنّ، فمنهم من فسّره بالطّعام،
ومنهم من فسّره بالشّراب، والظّاهر، واللّه أعلم، أنّه كلّ ما امتنّ اللّه
به عليهم من طعامٍ وشرابٍ، وغير ذلك، ممّا ليس لهم فيه عملٌ ولا كدٌّ،
فالمنّ المشهور إن أكل وحده كان طعامًا وحلاوةً، وإن مزج مع الماء صار
شرابًا طيّبًا، وإن ركّب مع غيره صار نوعًا آخر، ولكن ليس هو المراد من
الآية وحده؛ والدّليل على ذلك قول البخاريّ:
حدّثنا
أبو نعيمٍ، حدّثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريثٍ عن سعيد بن زيدٍ،
رضي اللّه عنه، قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو ابن عميرٍ، به.
وأخرجه
الجماعة في كتبهم، إلّا أبا داود، من طرقٍ عن عبد الملك، وهو ابن عميرٍ،
به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، ورواه البخاريّ ومسلمٌ والنّسائيّ من
رواية الحكم، عن الحسن العرني، عن عمرو بن حريثٍ، به.
وقال
التّرمذيّ: حدّثنا أبو عبيدة بن أبي السّفر ومحمود بن غيلان، قالا حدّثنا
سعيد بن عامرٍ، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «العجوة من الجنّة، وفيها شفاءٌ من السّمّ، والكمأة من المنّ وماؤها شفاءٌ للعين».
تفرّد
بإخراجه التّرمذيّ، ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلّا من حديث
محمّد بن عمرٍو، وإلّا من حديث سعيد بن عامرٍ، عنه، وفي الباب عن سعيد بن
زيدٍ، وأبي سعيدٍ وجابرٍ.
كذا
قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريقٍ آخر، عن أبي
هريرة، فقال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصريّ، حدّثنا أسلم بن سهلٍ،
حدّثنا القاسم بن عيسى، حدّثنا طلحة بن عبد الرّحمن، عن قتادة عن سعيد بن
المسيّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
وهذا
حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرّحمن هذا سلمي واسطي، يكنى
بأبي محمّدٍ، وقيل: أبو سليمان المؤدّب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عديٍّ:
روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها.
ثمّ
قال [التّرمذيّ] حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا معاذ بن هشامٍ، حدّثنا
أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي هريرة: أنّ ناسًا من أصحاب النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: الكمأة جدريّ الأرض، فقال نبيّ اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين، والعجوة من الجنّة وهي شفاءٌ من السّمّ».
وهذا
الحديث قد رواه النّسائيّ، عن محمّد بن بشّارٍ، به. وعنه، عن غندرٍ، عن
شعبة، عن أبي بشرٍ جعفر بن إياسٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي هريرة، به. وعن
محمّد بن بشّارٍ، عن عبد الأعلى، عن خالدٍ الحذّاء، عن شهر بن حوشبٍ. بقصّة
الكمأة فقط.
وروى
النّسائيّ -أيضًا-وابن ماجه من حديث محمّد بن بشّارٍ، عن أبي عبد الصّمد
عبد العزيز بن عبد الصّمد، عن مطرٍ الورّاق، عن شهرٍ: بقصّة العجوة عند
النّسائيّ، وبالقصّتين عند ابن ماجه.
وهذه
الطّريق منقطعةٌ بين شهر بن حوشبٍ وأبي هريرة فإنّه لم يسمعه منه، بدليل
ما رواه النّسائيّ في الوليمة من سننه، عن عليّ بن الحسين الدّرهميّ عن عبد
الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرّحمن
بن غنم، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم
يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول جدريّ الأرض، فقال: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
وروي عن شهر بن حوشبٍ عن أبي سعيدٍ وجابرٍ، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا
أسباط بن محمّدٍ، حدّثنا الأعمش، عن جعفر بن إياسٍ، عن شهر بن حوشبٍ، عن
جابر بن عبد اللّه وأبي سعيدٍ الخدريّ، قالا قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاءٌ للعين والعجوة من الجنّة وهي شفاءٌ من السّمّ».
قال
النّسائيّ في الوليمة أيضًا: حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا محمّد بن
جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ جعفر بن إياسٍ عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي
سعيدٍ وجابرٍ، رضي اللّه عنهما، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين». ثمّ رواه -أيضًا-، وابن ماجه من طرقٍ، عن الأعمش، عن أبي بشرٍ، عن شهرٍ، عنهما، به.
وقد
رويا -أعني النّسائيّ وابن ماجه-من حديث سعيد بن مسلمٍ كلاهما عن الأعمش،
عن جعفر بن إياسٍ عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، زاد النّسائيّ: [وحديث]
جابرٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عبّاسٍ الدّوريّ، عن لاحق بن صوابٍ عن عمّار بن رزيقٍ عن الأعمش، كابن ماجه.
وقال
ابن مردويه أيضًا: حدّثنا أحمد بن عثمان، حدّثنا عبّاسٌ الدّوريّ، حدّثنا
الحسن بن الرّبيع، حدّثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن
عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: خرج علينا رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم وفي يده كمآتٌ، فقال: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
وأخرجه
النّسائيّ، عن عمرو بن منصورٍ، عن الحسن بن الرّبيع ثمّ [رواه] ابن
مردويه. رواه أيضًا عن عبد اللّه بن إسحاق عن الحسن بن سلامٍ، عن عبيد
اللّه بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النّسائيّ عن أحمد بن
عثمان بن حكيمٍ، عن عبيد اللّه بن موسى [به] .
وقد روى من حديث أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه كما قال ابن مردويه:
حدّثنا
محمّد بن عبد اللّه بن إبراهيم، حدّثنا حمدون بن أحمد، حدّثنا حوثرة بن
أشرس، حدّثنا حمّادٌ، عن شعيب بن الحبحاب عن أنسٍ: أنّ أصحاب رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم تدارؤوا في الشّجرة الّتي اجتثّت من فوق الأرض ما
لها من قرارٍ، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاءٌ للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم».
وهذا الحديث محفوظٌ أصله من رواية حمّاد بن سلمة. وقد روى التّرمذيّ والنّسائيّ من طريقه شيئًا من هذا، واللّه أعلم .
[وقد]
روي عن شهرٍ، عن ابن عبّاسٍ، كما رواه النّسائيّ -أيضًا-في الوليمة، عن
أبي بكرٍ أحمد بن عليّ بن سعيدٍ، عن عبد اللّه بن عونٍ الخرّاز، عن أبي
عبيدة الحدّاد، عن عبد الجليل بن عطيّة، عن شهرٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ،
عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الكمأة من المنّ، وماؤها شفاءٌ للعين».
فقد
اختلف -كما ترى فيه-على شهر بن حوشبٍ، ويحتمل عندي أنّه حفظه ورواه من هذه
الطّرق كلّها، وقد سمعه من بعض الصّحابة وبلّغه عن بعضهم، فإنّ الأسانيد
إليه جيّدةٌ، وهو لا يتعمّد الكذب، وأصل الحديث محفوظٌ عن رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم، كما تقدّم من رواية سعيد بن زيدٍ.
وأمّا السّلوى فقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: «السّلوى طائرٌ شبيهٌ بالسّمّانى، كانوا يأكلون منه».
وقال السّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «السّلوى: طائرٌ يشبه السّمّانى».
وقال
ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا عبد الصّمد بن
عبد الوارث، حدّثنا قرّة بن خالدٍ، عن جهضمٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «السّلوى: هو السمّانى».
وكذا قال مجاهدٌ، والشّعبيّ، والضّحّاك، والحسن، وعكرمة، والرّبيع بن أنسٍ، رحمهم اللّه.
وعن عكرمة: «أمّا السّلوى فطيرٌ كطيرٍ يكون بالجنّة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك».
وقال قتادة: «السّلوى
كان من طيرٍ أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب. وكان الرّجل
يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدّى فسد ولم يبق عنده، حتّى إذا
كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنّه كان
يوم عبادةٍ لا يشخص فيه لشيءٍ ولا يطلبه».
وقال وهب بن منبّهٍ: «السّلوى: طيرٌ سمينٌ مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبتٍ إلى سبتٍ». وفي روايةٍ عن وهبٍ، قال: «سألت
بنو إسرائيل موسى عليه السّلام، اللّحم، فقال اللّه: لأطعمنّهم من أقلّ
لحمٍ يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحًا، فأذرت عند مساكنهم السّلوى، وهو
السّمانى مثل ميلٍ في ميلٍ قيد رمحٍ إلى السماء فخبّؤوا للغد فنتن اللحم
وخنز الخبز».
وقال
السّدّيّ: لمّا دخل بنو إسرائيل التّيه، قالوا لموسى، عليه السّلام: كيف
لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ فكان يسقط على الشّجر
الزّنجبيل، والسّلوى وهو طائرٌ يشبه السّمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم
فينظر إلى الطّير، فإن كان سمينًا ذبحه وإلّا أرسله، فإذا سمن أتاه،
فقالوا: هذا الطّعام فأين الشّراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كلّ سبطٍ من عينٍ، فقالوا: هذا الشّراب، فأين
الظّلّ؟ فظلّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظّلّ، فأين اللّباس؟ فكانت
ثيابهم تطول معهم كما يطول الصّبيان، ولا ينخرق لهم ثوبٌ، فذلك قوله تعالى:
{وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى} وقوله: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كلّ أناسٍ مشربهم} [البقرة:60].
وروي عن وهب بن منبّهٍ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السّدّيّ.
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبّاسٍ: «خلق لهم في التّيه ثيابٌ لا تخرق ولا تدرن»، قال ابن جريجٍ: «فكان
الرّجل إذا أخذ من المنّ والسّلوى فوق طعام يومٍ فسد، إلّا أنّهم كانوا
يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السّبت فلا يصبح فاسدًا».
[قال ابن عطيّة: السّلوى: طيرٌ بإجماع المفسّرين، وقد غلط الهذليّ في قوله: إنّه العسل، وأنشد في ذلك مستشهدًا:
وقاسمها باللّه جهدًا لأنتم ....... ألذّ من السّلوى إذا ما أشورها
قال:
فظنّ أنّ السّلوى عسلًا قال القرطبيّ: دعوى الإجماع لا تصحّ؛ لأنّ المؤرج
أحد علماء اللّغة والتّفسير قال: إنّه العسل، واستدلّ ببيت الهذليّ هذا،
وذكر أنّه كذلك في لغة كنانة؛ لأنّه يسلّى به ومنه عين سلوان، وقال
الجوهريّ: السّلوى العسل، واستشهد ببيت الهذليّ -أيضًا-، والسّلوانة
بالضّمّ خرزةٌ، كانوا يقولون إذا صبّ عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا
قال الشّاعر:
شربت على سلوانةٍ ماء مزنةٍ ....... فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو
واسم
ذلك الماء السّلوان، وقال بعضهم: السّلوان دواءٌ يشفي الحزين فيسلو
والأطبّاء يسمونه (مفرّح)، قالوا: والسّلوى جمعٌ بلفظ -الواحد-أيضًا، كما
يقال: سمانى للمفرد والجمع ودفلى كذلك، وقال الخليل واحده سلواةٌ، وأنشد:
وإنّي لتعروني لذكراك هزّةٌ ....... كما انتفض السّلواة من بلل القطر
وقال الكسائيّ: السّلوى واحدةٌ وجمعه سلاوي، نقله كلّه القرطبيّ].
وقوله تعالى: {كلوا من طيّبات ما رزقناكم} أمر إباحةٍ وإرشادٍ وامتنانٍ. وقوله: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}[البقرة:57]، أي أمرناهم بالأكل ممّا رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: {كلوا من رزق ربّكم واشكروا له}[سبأٍ:15]
فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البيّنات
والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن هاهنا تتبيّن فضيلة أصحاب محمّدٍ
صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم
وثباتهم وعدم تعنّتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في
ذلك القيظ والحرّ الشّديد والجهد، لم يسألوا خرق عادةٍ، ولا إيجاد أمرٍ،
مع أنّ ذلك كان سهلًا على الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، ولكن لمّا أجهدهم
الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مبرك الشاة، فدعا
[الله] فيه، وأمرهم فملؤوا كلّ وعاءٍ معهم، وكذا لمّا احتاجوا إلى الماء
سأل اللّه تعالى، فجاءت سحابةٌ فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا
أسقيتهم. ثمّ نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتّباع:
المشي مع قدر اللّه، مع متابعة الرّسول صلّى الله عليه وسلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 266 -273]
* للاستزادة ينظر: هنا