1 Sep 2014
تفسير
قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ
يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا
سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }
تفسير قوله تعالى:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ
استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد
علم كلّ أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين
(60)}
موضع (إذ) نصب على ما
تقدمه، كأنّه قيل: واذكر إذ استسقى موسى لقومه، إلا أن (إذ) لا يظهر فيها
الإعراب؛ لأنّها لا تتم إلا بأن توصل، وجميع ما لا يتم من هذه المهمة إلا
بصلة لا يعرب، لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم التام، ولكن إذ كُسِرَت
لالتقاء الساكنين، ومعنى "استسقى": استدعى أن يسقى قومه، وكذلك استنصرت:
استدعيت النصرة.
وقوله عزّ وجلّ: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}
أكثر القراء {اثنتا عشْرة} بإسكان الشين، ولغة أخرى (اثنتا عشِرة عينا) -بكسر الشين- وقد قرأ بعض القراء: (عشِرة) على هذه اللغة، وكلاهما جيد بالغ.
و{عينا}
نصب على التمييز، وجمع ما نصب على التمييز في العدد على معنى دخول
التنوين، وإن لم يذكر في "عشرة"، لأن التنوين حذف ههنا مع الإعراب، ومعنى
قول الناس: عندي عشرون درهما، معناه: عندي عشرون من الدراهم، فحذف لفظ
الجمع، و "من" هذه التي خلص بها جنس من جنس وعبر الواحد عن معنى الجمع،
فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.
وفي التفسير: أنهم
فجّر اللّه لهم من حجر اثنتي عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين
يشربون منها، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحملوا الحجر غير
متفجر منه ماء.
وقوله عزّ وجلّ: {قد علم كلّ أناس مشربهم} كان يتفجر لهم الماء من اثني عشر موضعا لا يختلف في كل منزل فيعلم كل أناس مشربهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} يقال: عثا يعثا عثوا وعثوّا، والعثو أشد الفساد). [معاني القرآن: 1 / 140-142]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وإذ متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر، واستسقى معناه طلب السقيا، وعرف استفعل طلب الشيء، وقد جاء في غير ذلك كقوله تعالى: {واستغنى اللّه}[التغابن: 6]
بمعنى غني، وقولهم: استعجب بمعنى عجب، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم
استنسر البغاث، واستنوق الجمل، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال، وكان هذا
الاستسقاء في فحص التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية منه، وكان الحجر
من جبل الطور، على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا
وضع في وسط محلتهم وضربه موسى عليه السلام، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون
الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا
أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث
عيون إذا ضربه موسى صلى الله عليه وسلم، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت
العيون، وفي الكلام حذف تقديره فضربه فانفجرت، والانفجار انصداع شيء عن
شيء، ومنه الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.
واثنتا معربة دون
أخواتها لصحة معنى التثنية، وإنما يبنى واحد مع واحد، وهذه إنما هي اثنان
مع واحد، فلو بنيت لرد ثلاثة واحدا، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله
اثنتا عشرة لبعد العلامة من العلامة، ولأنهما في شيئين، وإنما منع ذلك في
شيء واحد، نحو مسلمات وغيره.
وقرأ ابن وثاب وابن
أبي ليلى وغيرهما: «عشرة» بكسر الشين، وروي ذلك عن أبي عمرو، والأشهر عنه
الإسكان، وهي لغة تميم، وهو نادر، لأنهم يخففون كثيرا، وثقلوا في هذه، وقرأ
الأعمش «عشرة» بفتح الشين وهي لغة ضعيفة، وروي عنه كسرها وتسكينها،
والإسكان لغة الحجاز.
وعيناً نصب على التمييز، والعين اسم مشترك، وهي هنا منبع الماء.
وأناسٍ اسم جمع لا
واحد له من لفظه، ومعناه هنا كل سبط، لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل
في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام.
والمشرب المفعل موضع
الشرب، كالمشرع موضع الشروع في الماء، وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا
يتعداها، وفي الكلام محذوف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا
الماء المنفجر من الحجر المنفصل، وبهذه الأحوال حسنت إضافة الرزق إلى الله
تعالى، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد.
ولا تعثوا معناه ولا تفرطوا في الفساد، يقال عثى الرجل يعثي وعثي يعثى عثيا إذا أفسد أشد فساد، والأولى هي لغة القرآن والثانية
شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثوا ولم يقرأ بهذه اللغة لأنها توجب ضم الثاء
من تعثوا، وتقول العرب عاث يعيث إذا أفسد، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف،
وهي السوسة التي تلحسه.
ومفسدين حال، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ، وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها، والتقدم في المعاصي والنهي عنها). [المحرر الوجيز: 1 / 225 -227]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا
قد علم كلّ أناسٍ مشربهم كلوا واشربوا من رزق اللّه ولا تعثوا في الأرض
مفسدين (60)}
يقول تعالى: واذكروا
نعمتي عليكم في إجابتي لنبيّكم موسى، عليه السّلام، حين استسقاني لكم،
وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه
من ثنتي عشرة عينًا لكلّ سبطٍ من أسباطكم عينٌ قد عرفوها، فكلوا من المنّ
والسّلوى، واشربوا من هذا الماء الّذي أنبعته لكم بلا سعيٍ منكم ولا كدٍّ،
واعبدوا الّذي سخّر لكم ذلك. {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ولا تقابلوا النّعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسّرون في كلامهم، كما قال ابن عبّاسٍ: «وجعل
بين ظهرانيهم حجرٌ مربّع وأمر موسى، عليه السّلام، فضربه بعصاه، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا، في كلّ ناحيةٍ منه ثلاث عيونٍ، وأعلم كلّ سبطٍ
عينهم، يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلّا وجدوا ذلك معهم بالمكان الّذي
كان منهم بالمنزل الأوّل».
وهذا قطعةٌ من الحديث الّذي رواه النّسائيّ، وابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ، وهو حديث الفتون الطّويل.
وقال عطيّة العوفيّ:
وجعل لهم حجرٌ مثل رأس الثّور يحمل على ثورٍ، فإذا نزلوا منزلًا وضعوه
فضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فإذا ساروا حملوه على
ثور، فاستمسك الماء.
وقال عثمان بن عطاءٍ الخراسانيّ، عن أبيه: «كان لبني إسرائيل حجرٌ، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا».
وقال قتادة: «كان حجرًا طوريًّا، من الطّور، يحملونه معهم حتّى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه».
[وقال الزّمخشريّ: وقيل: كان من رخامٍ وكان ذراعًا في ذراعٍ، وقيل: مثل رأس الإنسان، وقيل: كان من أسس الجنّة طوله عشرة أذرعٍ على طول موسى. وله شعبتان تتّقدان في الظّلمة وكان يحمل على حمارٍ، قال: وقيل: أهبطه آدم من الجنّة فتوارثوه، حتّى وقع إلى شعيبٍ فدفعه إليه مع العصا، وقيل:
هو الحجر الّذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر
فإنّ فيه قدرةً ولك فيه معجزةً، فحمله في مخلاته. قال الزّمخشريّ: ويحتمل
أن تكون اللّام للجنس لا للعهد، أي اضرب الشّيء الّذي يقال له الحجر، وعن
الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في
القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثمّ يضربه فييبس، فقالوا: إن فقد موسى
هذا الحجر عطشنا، فأوحى اللّه إليه أن يكلّم الحجارة فتنفجر ولا يمسّها
بالعصا لعلّهم يقرّون].
وقال يحيى بن النّضر: قلت لجويبرٍ: كيف علم كلّ أناسٍ مشربهم؟ قال: «كان
موسى يضع الحجر، ويقوم من كلّ سبطٍ رجلٌ، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه
اثنتا عشرة عينًا فينضح من كلّ عينٍ على رجلٍ، فيدعو ذلك الرّجل سبطه إلى
تلك العين».
وقال الضّحّاك: قال ابن عبّاسٍ: «لمّا كان بنو إسرائيل في التّيه شقّ لهم من الحجر أنهارًا».
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي سعيدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ذلك في التّيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه اثنتا عشرة عينًا من ماءٍ، لكلّ سبط منهم عينٌ يشربون منها».
وقال مجاهدٌ نحو قول ابن عبّاسٍ.
وهذه القصّة شبيهةٌ
بالقصّة المذكورة في سورة الأعراف، ولكنّ تلك مكّيّةٌ، فلذلك كان الإخبار
عنهم بضمير الغائب؛ لأنّ اللّه تعالى يقصّ ذلك على رسوله صلّى اللّه عليه
وسلّم عمّا فعل بهم. وأمّا في هذه السّورة، وهي البقرة فهي مدنيّةٌ؛ فلهذا
كان الخطاب فيها متوجّهًا إليهم. وأخبر هناك بقوله: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا}[الأعراف: 160] وهو أوّل الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا، وذاك هناك، واللّه أعلم.
وبين السّياقين
تباينٌ من عشرة أوجهٍ لفظيّةٍ ومعنويّةٍ قد سأل عنها الرّازيّ في تفسيره
وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريبٌ واللّه تبارك وتعالى أعلم بأسرار
كتابه). [تفسير ابن كثير: 1 / 278 -280]
تفسير قوله تعالى:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ
بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ
قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت
الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى
بالّذي هو خير اهبطوا مصرا فإنّ لكم ما سألتم وضربت عليهم الذّلّة
والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه
ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}
{فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض}
{يخرج} مجزوم وفيه غير قول:
قال بعض النحويين: المعنى: سله وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو، وقال في قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، قالوا: المعنى: قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.
وقال قوم: معنى {يخرج لنا} معنى الدعاء كأنّه قال: أخرج لنا. وكذلك {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} المعنى: قل لعبادي أقيموا، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل) فجعل بمنزلة جواب الأمر.
وكلا القولين مذهب، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من لفظ الأمر الذي، ليس معه جازم مرفوع قال اللّه -عزّ وجلّ-: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّه} ثم جاء بعد تمام الآية {يغفر لكم}، المعنى: آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا يغفر لكم.
وقوله عزّ وجلّ: {من بقلها وقثّائها وفومها}
في "القثاء" لغتان، يقال القُثَّاء والقِثَّاء يا هذا، و قد قرأ بعضهم (قُثائها) بالضم، والأجود الأكثر {وقِثائها} بالكسر.
{وفومها} الفوم: الحنطة، ويقال: الحبوب، وقال بعض النحويين:
إنه يجوز عنده الفوم ههنا الثوم، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم، وههنا
ما يقطع هذا. محال أن يطلب القوم طعاما لا برّ فيه، والبرّ أصل الغذاء كله،
ويقال: فوّموا لنا، أي: اخبزوا لنا. ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم
الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.
وقوله عزّ وجلّ: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير} يعني أن المنّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم، و {أدنى} القراءة فيه بغير الهمز، وقد قرأ بعضهم "أدنأ بالذي هو خير"، وكلاهما له وجه في اللغة إلا أن ترك الهمزة أولى بالاتباع.
أما (أدنى) غير
مهموز، فمعناه: الذي هو أقرب وأقل قيمة، كما تقول: هذا ثوب مقارب، فأما
الخسيس فاللغة فيه أنه مهموز، يقال: دنوء، دناءة، وهو دنيء، بالهمزة،
ويقال: هذا أدنا منه بالهمزة.
وقوله عزّ وجلّ: {اهبطوا مصرا} الأكثر في القراءة إثبات الألف، وقد قرأ بعضهم "اهبطوا مصر فإن لكم" بغير ألف، فمن قرأ {مصرا} بالألف فله وجهان:
جائز أن يراد بها مصرا من الأمصار لأنهم كانوا في تيه، وجائز أن يكون أراد "مصر" بعينها، فجعل (مصرا) اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي مذكرا.
وجائز أن يكون (مصر) بغير ألف على أنه يريد مصرا، كما قال عزّ وجلّ: {ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين}، وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو مذكر سمي به مؤنث.
وقوله عزّ وجلّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة}
{الذّلّة}: الصغار، {المسكنة}: الخضوع، واشتقاقه من السكون، إنما يقال: "مسكين" للذي أسكنه الفقر، أي: قلل حركته.
وقوله جلّ وعزّ: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من اللّه} يقال: بؤت بكذا وكذا، أي: احتملته.
وقوله جلّ وعزّ: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه} معنى ذلك -واللّه أعلم-: الغضب حل بهم بكفرهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ}
القراءة المجمع عليها في "النبيين" و"الأنبياءِ" و"البريَّة" طرح الهمزة،
وجماعة من أهل المدينة يهمزون جميع ما في القرآن من هذا فيقرأون (النبيئين
بغير حق) و(الأنبياء)، واشتقاقه من "نبّأ" و"أنبأ"، أي: أخبر.
والأجود ترك الهمزة،
لأن الاستعمال يوجب أن ما كان مهموزا من "فعيل" فجمعه "فعلاء"، مثل: ظريف
وظرفاء، ونبيء ونبآء. فإذا كان من ذوات الياء فجمعه "أفعلاء"، نحو: غني
وأغنياء، ونبي وأنبياء.
وقد جاء "أفعلاء" في
الصحيح، وهو قليل، قالوا: خميس وأخمساء وأخمس، ونصيب وأنصباء، فيجوز أن
يكون "نبي" من "أنبأت" مما ترك همزه لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون من
"نبأ ينبوء" إذا ارتفع، فيكون "فعيلا" من الرفعة). [معاني القرآن: 1 / 142 -145]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ
قلتم يا موسى لن نصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت
الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى
بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصراً فإنّ لكم ما سألتم وضربت عليهم الذّلّة
والمسكنة وباؤ بغضبٍ من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون
النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}
كان هذا القول منهم
في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، وكنى عن المن
والسلوى بــ طعامٍ واحدٍ، وهما طعامان، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد،
ولتكرارهما سواء أبدا قيل لهما طعامٍ واحدٍ، ولغة بني عامر «فادع» بكسر
العين.
ويخرج: جزم بما تضمنه
الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على
مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولا مما تنبت الأرض، وقال الأخفش: «من» في
قوله:{ممّا} زائدة «وما» مفعولة، وأبى سيبويه أن تكون «من» ملغاة في غير النفي، كقولهم: ما رأيت من أحد، ومن في قوله: {من بقلها} لبيان الجنس، وبقلها بدل بإعادة الحرف، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم، والقثاء جمع قثأة.
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب: «قثائها»، بضم القاف.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: «الفوم الحنطة».
وقال مجاهد: «الفوم الخبز».
وقال عطاء وقتادة: «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه».
وقال الضحاك: «الفوم الثوم»،
وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل
من الفاء، كما قالوا، مغاثير ومغافير، وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر،
وعافور شر، على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح: أنها الحنطة، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح:
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ....... ورد المدينة عن زراعة فوم
يعني حنطة.
قال ابن دريد: «الفوم الزرع أو الحنطة»،
وأزد السراة يسمون السنبل فوما»، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر،
وأدنى مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة.
وقال علي بن سليمان: «هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى الأخس، إلا أنه خففت همزته».
وقال غيره: «هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفا لتطرفها».
وقرأ زهير للكسائي:
«أدنأ»، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي
هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على
الشيء الذي طلبوه،
يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه البقول لا خطر لها، وهذا قول الزجاج، ويحتمل
أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي
استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوا عار من
هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو أدنى في هذا الوجه، ويحتمل
أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض
يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، فهي أدنى في هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها، وفي الكلام حذف،
تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه، فقال لهم: اهبطوا، وتقدم ذكر معنى الهبوط،
وكأن القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط، وجمهور الناس يقرؤون
«مصرا» بالتنوين وهو خط المصحف، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله
عنه.
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها:«أراد مصرا من الأمصار غير معين»، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه.
وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها.
قال الأخفش: «لخفتها وشبهها بهند ودعد». وسيبويه لا يجيز هذا.
وقال غير الأخفش: «أراد المكان فصرف».
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما: «اهبطوا مصر» بترك الصرف، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا: «هي مصر فرعون».
قال الأعمش: «هي مصر التي عليها صالح بن علي».
وقال أشهب: «قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون».
وقوله تعالى: {فإنّ لكم ما سألتم} يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب «سألتم» بكسر السين وهي لغة، {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة}
معناه ألزموها وقضي عليهم بها، كما يقال ضرب الأمير البعث، وكما قالت
العرب ضربة لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول
بالمعنى، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم، ومنه ضرب الدهر
ضرباته، أي ألزم إلزاماته، والذّلّة فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال،
والمسكنة من المسكين، قال الزجاج: «هي مأخوذة من السكون وهي هنا: زي الفقر
وخضوعه، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته».
قال الحسن وقتادة: «المسكنة الخراج أي الجزية».
وقال أبو العالية: «المسكنة الفاقة والحاجة».
{وباؤ بغضبٍ من اللّه} معناه: مروا متحملين له، تقول: بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد: «بؤ بشسع نعل كليب».
والغضب بمعنى الإرادة
صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى
ضرب الذلة وما بعده، والباء في بأنّهم باء السبب.
وقال المهدوي: «إن الباء بمعنى اللام» والمعنى: لأنهم، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو علامة لصدق الآية به، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «وتقتلون» بالتاء على الرجوع إلى خطابهم، وروي عنه أيضا بالياء.
وقرأ نافع: بهمز «النبيئين»، وكذلك حيث وقع في القرآن، إلا في موضعين: في سورة الأحزاب:
{إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ}[الأحزاب: 50] بلا مد ولا همز، {ولا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا} [الأحزاب: 53]،
وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وترك الهمز في
جميع ذلك الباقون، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ» إذا أخبر، واسم فاعله
منبىء فقيل نبيء، بمعنى منبىء، كما قيل: سميع بمعنى مسمع، واستدلوا بما جاء
من جمعه على نباء. قال الشاعر:
يا خاتم النبآء إنك مرسل ....... بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف» وظرفاء وشبهه.
قال أبو علي: «زعم
سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة: كان مسيلمة نبوته نبيئة سوء، وكلهم
يقولون تنبأ مسيلمة، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة»، واختلف
القائلون بترك الهمز في نبيء، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز،
ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبوا إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر، وكان
النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر:
لما وردنا نبيا واستتبّ بنا ....... مسحنفر كخطوط السيح منسحل
واستدلوا بأن الأغلب
في جمع أنبياء كفعيل في المعتل، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء، وحكى
الزهراوي أنه يقال نبوء إذا ظهر فهو نبيء، والطريق الظاهر نبيء بالهمز،
وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله،
وهمز، فقال له النبي عليه السلام: «لست بنبيء الله، وهمز، ولكني نبيّ الله»، ولم يهمز.
قال أبو علي: «ضعف
سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم، قد أنشده المادح
يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار، والجمع كالواحد».
وقوله تعالى: {بغير الحقّ} تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله: {بغير الحقّ}
عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح الله
تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من
يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره: «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر».
وقوله تعالى: {ذلك}
رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بما باء السبب، ويعتدون
معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم
والمعاصي). [المحرر الوجيز: 1 / 227 -233]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
قلتم يا موسى لن نصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت
الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الّذي هو أدنى
بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصرًا فإنّ لكم ما سألتم}
يقول تعالى: واذكروا
نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنّ والسّلوى، طعامًا طيّبًا نافعًا هنيئًا
سهلًا واذكروا دبركم وضجركم ممّا رزقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة
الدّنيّة من البقول ونحوها ممّا سألتم. وقال الحسن البصريّ رحمه اللّه: «فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الّذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهل أعداسٍ وبصلٍ وبقلٍ وفومٍ، فقالوا:{يا موسى لن نصبر على طعامٍ واحدٍ فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها}»
[وهم يأكلون المنّ والسّلوى، لأنّه لا يتبدّل ولا يتغيّر كلّ يومٍ فهو
كأكلٍ واحدٍ] فالبقول والقثّاء والعدس والبصل كلّها معروفةٌ. وأمّا "الفوم"
فقد اختلف السّلف في معناه
فوقع في قراءة ابن مسعودٍ "وثومها" بالثّاء، وكذلك فسّره مجاهدٌ في رواية
ليث بن أبي سليمٍ، عنه، بالثّوم. وكذا الرّبيع بن أنسٍ، وسعيد بن جبيرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عمرو بن رافعٍ، حدّثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصريّ، عن يونس، عن الحسن، في قوله: {وفومها} قال: قال ابن عبّاسٍ: «الثّوم».
قالوا:
وفي اللّغة القديمة: فوّموا لنا بمعنى: اختبزوا. وقال ابن جريرٍ: فإن كان
ذلك صحيحًا، فإنّه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في "عاثور شرّ، وعافور
شرٍّ، وأثافيّ وأثاثيّ، ومغافير ومغاثير". وأشباه ذلك ممّا تقلب الفاء ثاءً
والثّاء فاءً لتقارب مخرجيهما، واللّه أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البرّ الّذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أنبأنا ابن وهبٍ قراءةً، حدّثني نافع بن
أبي نعيمٍ: أنّ ابن عبّاسٍ سئل عن قول اللّه: {وفومها} ما فومها؟ قال: «الحنطة». قال ابن عبّاسٍ: «أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:
قد كنت أغنى النّاس شخصًا واحدًا ....... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا عليّ بن الحسن، حدّثنا مسلمٌ الجرميّ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن
رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه تعالى: {وفومها} قال: «الفوم الحنطة بلسان بني هاشم».
وكذا قال عليّ بن أبي طلحة، والضّحّاك وعكرمة عن ابن عبّاسٍ أنّ الفوم: الحنطة.
وقال سفيان الثّوريّ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ وعطاءٍ: {وفومها} قالا: «وخبزها».
وقال هشيم عن يونس، عن الحسن، وحصينٍ، عن أبي مالكٍ: {وفومها} قال: «الحنطة».
وهو قول عكرمة، والسّدّيّ، والحسن البصريّ، وقتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، واللّه أعلم.
[وقال الجوهريّ:
الفوم: الحنطة. وقال ابن دريدٍ: الفوم: السّنبلة، وحكى القرطبيّ عن عطاءٍ
وقتادة أنّ الفوم كلّ حبٍّ يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمّص لغةٌ
شاميّةٌ، ومنه يقال لبائعه: فاميٌّ مغيّرٌ عن فوميٍّ].
وقال البخاريّ: «وقال بعضهم: الحبوب الّتي تؤكل كلّها فومٌ».
وقوله تعالى: {قال أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ} فيه تقريعٌ لهم وتوبيخٌ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدّنيّة مع ما هم فيه من العيش الرّغيد، والطّعام الهنيء الطّيّب النّافع.
وقوله: {اهبطوا مصرًا} هكذا هو منوّنٌ مصروفٌ مكتوبٌ بالألف في المصاحف الأئمّة العثمانيّة، وهو قراءة الجمهور بالصّرف.
قال ابن جريرٍ: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك؛ لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عبّاسٍ: {اهبطوا مصرًا} قال: «مصرًا من الأمصار»، رواه ابن أبي حاتمٍ، من حديث أبي سعيدٍ البقّال سعيد بن المرزبان، عن عكرمة، عنه.
قال: وروي عن السّدّيّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
وقال ابن جريرٍ: وقع
في قراءة أبيّ بن كعبٍ وابن مسعودٍ: "اهبطوا مصر" من غير إجراءٍ يعني من
غير صرفٍ. ثمّ روى عن أبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ أنّهما فسّرا ذلك بمصر
فرعون.
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ عن أبي العالية، وعن الأعمش أيضًا.
وقال ابن جريرٍ:
ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا. ويكون ذلك من
باب الاتّباع لكتابة المصحف، كما في قوله تعالى: {قواريرا * قواريرا}[الإنسان: 15، 16]. ثمّ توقّف في المراد ما هو؟ أمصر فرعون أم مصرٌ من الأمصار؟
وهذا الّذي قاله فيه
نظرٌ، والحقّ أنّ المراد مصرٌ من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره،
والمعنى على ذلك لأنّ موسى، عليه السّلام يقول لهم: هذا الّذي سألتم ليس
بأمرٍ عزيزٍ، بل هو كثيرٌ في أيّ بلدٍ دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع
دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل اللّه فيه؛ ولهذا قال: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصرًا فإنّ لكم ما سألتم} أي: ما طلبتم، ولمّا كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه، لم يجابوا إليه، واللّه أعلم.
{وضربت عليهم
الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضبٍ من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات
اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}
يقول تعالى: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة}
أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلّين، من
وجدهم استذلّهم وأهانهم، وضرب عليهم الصّغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلّاء
متمسكنون.
قال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة} قال: «هم أصحاب النّيالات يعني أصحاب الجزية».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن الحسن وقتادة، في قوله تعالى: {وضربت عليهم} قال: «يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون»، وقال الضّحّاك: {وضربت عليهم الذّلّة} قال: «الذّلّ». وقال الحسن: «أذلّهم اللّه فلا منعة لهم، وجعلهم اللّه تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمّة وإنّ المجوس لتجبيهم الجزية».
وقال أبو العالية والرّبيع بن أنسٍ والسّدّيّ: «المسكنة الفاقة». وقال عطيّة العوفيّ: «الخراج». وقال الضّحّاك: «الجزية».
وقوله تعالى: {وباءوا بغضبٍ من اللّه} قال الضّحّاك: «استحقّوا الغضب من اللّه»، وقال الرّبيع بن أنسٍ: «فحدث عليهم غضبٌ مناللّه». وقال سعيد بن جبيرٍ: {وباءوا بغضبٍ من اللّه} يقول: «استوجبوا سخطًا»، وقال ابن جريرٍ: يعني بقوله: {وباءوا بغضبٍ من اللّه}
انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إلّا موصولًا إمّا بخيرٍ وإمّا بشرٍّ،
يقال منه: باء فلانٌ بذنبه يبوء به بوءًا وبواءً. ومنه قوله تعالى: {إنّي أريد أن تبوءبإثمي وإثمك}[المائدة: 29]
يعني: تنصرف متحمّلهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذًا:
فرجعوا منصرفين متحمّلين غضب اللّه، قد صار عليهم من اللّه غضبٌ، ووجب
عليهم من اللّه سخطٌ.
وقوله تعالى: {ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النّبيّين بغير الحقّ}
يقول تعالى: هذا الّذي جازيناهم من الذّلّة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم
بسبب استكبارهم عن اتّباع الحقّ، وكفرهم بآيات اللّه، وإهانتهم حملة الشّرع
وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم،
فلا كبر أعظم من هذا، إنّهم كفروا بآيات اللّه وقتلوا أنبياء اللّه بغير
الحقّ؛ ولهذا جاء في الحديث المتّفق على صحّته أنّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم قال: «الكبر بطر الحقّ، وغمط النّاس».
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا إسماعيل، عن ابن عونٍ، عن عمرو بن سعيدٍ، عن حميد بن عبد الرّحمن،
قال: قال ابن مسعودٍ: كنت لا أحجب عن النّجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا قال:
فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعنده مالك بن مرارة الرّهاويّ،
فأدركته من آخر حديثه، وهو يقول: يا رسول اللّه، قد قسم لي من الجمال ما
ترى، فما أحبّ أنّ أحدًا من النّاس فضلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو
البغي؟ فقال: «لا ليس ذلك من البغي، ولكنّ البغي من بطر -أو قال: سفه الحقّ-وغمط النّاس».
يعني: ردّ الحقّ وانتقاص النّاس، والازدراء بهم والتّعاظم عليهم. ولهذا
لمّا ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات اللّه وقتل أنبيائهم،
أحلّ اللّه بهم بأسه الّذي لا يردّ، وكساهم ذلًّا في الدّنيا موصولًا بذلّ
الآخرة جزاءً وفاقًا.
قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمرٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، قال: «كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبيٍّ، ثمّ يقيمون سوق بقلهم في آخر النّهار».
وقد قال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا أبان، حدّثنا عاصمٌ، عن أبي وائلٍ، عن عبد
اللّه -يعني ابن مسعودٍ-أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة رجلٌ قتله نبيٌّ، أو قتل نبيًّا، وإمام ضلالةٍ وممثّلٌ من الممثّلين».
وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}
وهذه علّةٌ أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به، أنّهم كانوا يعصون ويعتدون،
فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حدّ المأذون فيه أو المأمور
به. والله أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 280 -283]
* للاستزادة ينظر: هنا