الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (65) إلى الآية (66) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

3901

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الخامس

تفسير سورة البقرة [من الآية (65) إلى الآية (66) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

1 Sep 2014

3901

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}



تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)}

معنى {علمتم} هنا: عرفتم، ومثله قوله عز وجل {لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} ومعناه: لا تعرفونهم اللّه يعرفهم.

ومعنى {اعتدوا}: ظلموا وجاوزوا ما حدّ لهم، كانوا أمروا ألا يصيدوا في السبت، وكانت الحيتان تجتمع لأمنها في السبت، فحبسوها في السبت وأخذوها في الأحد، فعدوا في السبت لأن صيدهم منعها من التصرف، فجعل الله جزاءهم في الدنيا بعدما أراهم من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين، معنى {خاسئين}: مبعدين، يقال: خسأت الكلب أخسؤه خسئا، أي: باعدته وطردته). [معاني القرآن: 1 / 149]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين (65) فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين (66) وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزواً قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}

علمتم معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيدا بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، واعتدوا معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، وفي السّبت معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، والسّبت مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.

وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من الساعة»، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها.

وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانا حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتا بخزمة، وضرب له وتدا بالساحل، فلما ذهب السبت جاء وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين.

وكونوا لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء: {كن فيكون}[النحل: 40، مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.

وخاسئين معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخسأ. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.

وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين قردةً بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردةً يعرفون الرجل والمرأة، وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبريا منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».

وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في «جعلناها»: يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول بعد). [المحرر الوجيز: 1 / 241 -244]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين (66)}

يقول تعالى: {ولقد علمتم} يا معشر اليهود، ما حلّ من البأس بأهل القرية الّتي عصت أمر اللّه وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السّبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيّلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشّصوص والحبائل والبرك قبل يوم السّبت، فلمّا جاءت يوم السّبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلمّا كان اللّيل أخذوها بعد انقضاء السّبت. فلمّا فعلوا ذلك مسخهم اللّه إلى صورة القردة، وهي أشبه شيءٍ بالأناسيّ في الشّكل الظّاهر وليست بإنسانٍ حقيقةً. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لمّا كانت مشابهةً للحقّ في الظّاهر ومخالفةً له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم. وهذه القصّة مبسوطةٌ في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السّبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} [الأعراف: 163] القصة بكمالها.

وقال السّدّيّ: «أهل هذه القرية هم أهل "أيلة"». وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسّرين هناك مبسوطةً إن شاء اللّه وبه الثّقة.

وقوله: {كونوا قردةً خاسئين} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}قال: «مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردةً، وإنّما هو مثلٌ ضربه اللّه {كمثل الحمار يحمل أسفارًا}[الجمعة: 5]».

ورواه ابن جريرٍ، عن المثنّى، عن أبي حذيفة. وعن محمّد بن عمرٍو الباهليّ، عن أبي عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، به

وهذا سندٌ جيّدٌ عن مجاهدٍ، وقولٌ غريبٌ خلاف الظّاهر من السّياق في هذا المقام وفي غيره، قال اللّه تعالى: {قل هل أنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت} الآية [المائدة: 60].

وقال العوفيّ في تفسيره عن ابن عبّاسٍ: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}« فجعل [اللّه] منهم القردة والخنازير». فزعم أنّ شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.

وقال شيبان النّحويّ، عن قتادة: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} « فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذنابٌ بعد ما كانوا رجالًا ونساءً».

وقال عطاءٌ الخراسانيّ: «نودوا: يا أهل القرية،{كونوا قردةً خاسئين}فجعل الّذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان، ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم، أي بلى».

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن ربيعة بالمصّيصة، حدّثنا محمّد بن مسلمٍ -يعني الطّائفيّ-عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس، قال: « إنّما كان الّذين اعتدوا في السّبت فجعلوا قردةً فواقا ثمّ هلكوا. ما كان للمسخ نسلٌ».

وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ:«فمسخهم اللّه قردةً بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلّا ثلاثة أيّامٍ، قال: ولم يعش مسخٌ قطّ فوق ثلاثة أيّامٍ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسلوقد خلق اللّه القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام الّتي ذكرها اللّه في كتابه، فمسخ [اللّه] هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء. ويحوّله كما يشاء».

وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع، عن أبي العالية في قوله: {كونوا قردةً خاسئين} قال: «يعني أذلّةً صاغرين». وروي عن مجاهدٍ، وقتادة والرّبيع، وأبي مالكٍ، نحوه وقال محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: قال ابن عبّاسٍ: « إنّ اللّه إنّما افترض على بني إسرائيل اليوم الّذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-فخالفوا إلى السّبت فعظّموه، وتركوا ما أمروا به فلمّا أبوا إلّا لزوم السّبت ابتلاهم اللّه فيه، فحرّم عليهم ما أحلّ لهم في غيره. وكانوا في قريةٍ بين أيلة والطّور، يقال لها: "مدين"؛ فحرّم اللّه عليهم في السّبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السّبت أقبلت إليهم شرّعًا إلى ساحل بحرهم، حتّى إذا ذهب السّبت ذهبن، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتّى إذا كان يوم السّبت أتين شرّعًا، حتّى إذا ذهب السّبت ذهبن، فكانوا كذلك، حتّى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجلٌ منهم فأخذ حوتًا سرًّا يوم السّبت، فخزمه بخيطٍ، ثمّ أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في السّاحل فأوثقه، ثمّ تركه. حتّى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي: إنّي لم آخذه في يوم السّبت ثمّ انطلق به فأكله. حتّى إذا كان يوم السّبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد النّاس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: واللّه لقد وجدنا ريح الحيتان، ثمّ عثروا على صنيع ذلك الرّجل. قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سرًّا زمانًا طويلًا لم يعجّل اللّه عليهم العقوبة حتّى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق. فقالت طائفةٌ منهم من أهل البقيّة: ويحكم، اتّقوا اللّه. ونهوهم عمّا يصنعون. فقالت طائفةٌ أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عمّا صنعوا: {لم تعظون قومًا اللّه مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرةً إلى ربّكم} لسخطنا أعمالهم {ولعلّهم يتّقون} [الأعراف: 164]».

قال ابن عبّاسٍ: « فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقيّة في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا النّاس فلم يرونهم قال: فقال بعضهم لبعضٍ: إنّ للنّاس لشأنًا! فانظروا ما هو. فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقةً عليهم، قد دخلوها ليلًا فغلّقوها على أنفسهم، كما يغلق النّاس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردةً، وإنّهم ليعرفون الرّجل بعينه وإنّه لقردٌ، والمرأة بعينها وإنّها لقردةٌ، والصّبيّ بعينه وإنّه لقردٌ.» قال: يقول ابن عبّاسٍ:«فلولا ما ذكر اللّه أنّه أنجى الّذين نهوا عن السّوء لقلنا أهلك الجميع منهم» قال: « وهي القرية الّتي قال اللّه جلّ ثناؤه لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر} الآية [الأعراف: 163]». وروى الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ نحوًا من هذا.

قال السّدّيّ في قوله تعالى: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} قال:« فهم أهل "أيلة"، وهي القرية الّتي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السّبت -وقد حرّم اللّه على اليهود أن يعملوا في السّبت شيئًا-لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقل البحر، فلم ير منهنّ شيءٌ حتّى يكون يوم السّبت، فذلك قوله تعالى: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السّبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم [كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون]}. فاشتهى بعضهم السّمك، فجعل الرّجل يحفر الحفيرة، ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السّبت فتح النّهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتّى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلّة ماء النّهر، فيمكث فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه، فجعل الرّجل يشوي السّمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره، حتّى فشا فيهم أكل السّمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم! إنّما تصطادون يوم السّبت، وهو لا يحلّ لكم، فقالوا: إنّما صدناه يوم الأحد حين أخذناه. فقال العلماء لا ولكنّكم صدتموه يوم فتحكم الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الّذين نهوهم لبعضٍ:{لم تعظون قومًا اللّه مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا}يقول: لم تعظوهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم:{معذرةً إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون}[الأعراف: 164]فلمّا أبوا قال المسلمون: واللّه لا نساكنكم في قريةٍ واحدةٍ. فقسموا القرية بجدارٍ، ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السّبت بابًا، ولعنهم داود، عليه السّلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفّار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يومٍ، ولم يفتح الكفار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسوّر المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردةٌ يثب بعضهم على بعضٍ، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض، فذلك قول اللّه تعالى:{فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} [الأعراف:166]وذلك حين يقول:{لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} [المائدة: 78].فهم القردة.»

قلت: والغرض من هذا السّياق عن هؤلاء الأئمّة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهدٌ، رحمه اللّه، من أنّ مسخهم إنّما كان معنويًّا لا صوريًّا بل الصّحيح أنّه معنويٌّ صوريٌّ، واللّه أعلم).[تفسير ابن كثير: 1 / 288 -291]

تفسير قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتّقين (66)}

(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت، ويجوز أن يكون للفعلة.

ومعنى {لما بين يديها}يحتمل شيئين من التفسير:

يحتمل أن يكون{لما بين يديها}: لما أسلفت من ذنوبها، ويحتمل أن يكون{لما بين يديها}: للأمم التي تراها.

{وما خلفها} ما يكون بعدها.

ومعنى قولك: "نكّلت به"، أي: جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله، فيناله مثل الذي ناله.

وقوله عزّ وجلّ: {وموعظة للمتقين} أي: يتعظ بها أهل التقوى فيلزمون ما هم عليه). [معاني القرآن: 1 / 149]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي: «ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم، وما خلفها: لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب»، وهذا قول جيد، وقال غيره: «ما بين يديها» أي من حضرها من الناجين، وما خلفها أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: «لما بين يديها: أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، وما خلفها: لمن بقي منهم عبرة».

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول، وقال ابن عباس أيضا: « لما بين يديها وما خلفها، أي من القرى». فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.

وموعظةً مفعلة من الاتعاظ والازدجار، وللمتّقين معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة).[المحرر الوجيز: 1 / 244 -245]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين} قال بعضهم: الضّمير في {فجعلناها} عائدٌ على القردة، وقيل: على الحيتان، وقيل: على العقوبة، وقيل: على القرية؛ حكاها ابن جريرٍ.

والصّحيح أنّ الضّمير عائدٌ على القرية، أي: فجعل اللّه هذه القرية، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم {نكالا} أي: عاقبناهم عقوبةً، فجعلناها. عبرةً، كما قال اللّه عن فرعون: {فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى}[النّازعات: 25].

وقوله: {لما بين يديها وما خلفها} أي من القرى. قال ابن عبّاسٍ: «يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى».كما قال تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرّفنا الآيات لعلّهم يرجعون}[الأحقاف: 27]، ومنه قوله تعالى:{أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}الآية [الرّعد: 41]، على أحد الأقوال، فالمراد: لما بين يديها وما خلفها في المكان .كما قال محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى». وكذا قال سعيد بن جبيرٍ {لما بين يديها وما خلفها} [قال]: «من بحضرتها من النّاس يومئذٍ».

وروي عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، وقتادة، وعطيّة العوفيّ: {فجعلناها نكالا لما بين يديها [وما خلفها]} قال: «ما [كان] قبلها من الماضين في شأن السّبت».

وقال أبو العالية والرّبيع وعطيّة: «{وما خلفها}لما بقي بعدهم من النّاس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم».

وكان هؤلاء يقولون: المراد بما بين يديها وما خلفها في الزّمان.

وهذا مستقيمٌ بالنّسبة إلى من يأتي بعدهم من النّاس أن يكون أهل تلك القرية عبرةً لهم، وأمّا بالنّسبة إلى من سلف قبلهم من النّاس فكيف يصحّ هذا الكلام أن تفسّر الآية به وهو أن يكون عبرةً لمن سبقهم؟ هذا لعلّ أحدًا من النّاس لا يقوله بعد تصوّره، فتعيّن أنّ المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى؛ كما قاله ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ، واللّه أعلم.

وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع عن أبي العالية: «{فجعلناها نكالا لما بين يديها}أي: عقوبةً لما خلا من ذنوبهم».

وقال ابن أبي حاتمٍ وروي عن عكرمة، ومجاهدٍ، والسّدّيّ، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك.

وحكى القرطبيّ، عن ابن عبّاسٍ والسّدّيّ، والفرّاء، وابن عطيّة {لما بين يديها} بين ذنوب القوم {وما خلفها} لمن يعمل بعدها مثل تلك الذّنوب، وحكى فخر الدّين ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: أنّ المراد بما بين يديها وما خلفها: من تقدّمها من القرى، بما عندهم من العلم بخبرها، بالكتب المتقدّمة ومن بعدها.

الثّاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.

والثّالث: أنّه جعلها تعالى عقوبةً لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، قال: وهذا قول الحسن.

قلت: وأرجح الأقوال أنّ المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى الّتي يبلغهم خبرها، وما حلّ بها، كما قال: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرّفنا الآيات لعلّهم يرجعون}[الأحقاف: 27] وقال تعالى: {ولا يزال الّذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ أو تحلّ قريبًا من دارهم} [الرّعد: 31]، وقال {أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}[الأنبياء: 44]، فجعلهم عبرةً ونكالًا لمن في زمانهم، وعبرةً لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: {وموعظةً للمتّقين}

وقوله تعالى: {وموعظةً للمتّقين} قال محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{وموعظةً للمتّقين}الّذين من بعدهم إلى يوم القيامة».

وقال الحسن وقتادة: «{وموعظةً للمتّقين}بعدهم، فيتّقون نقمة اللّه، ويحذرونها».

وقال السّدّيّ، وعطيّة العوفيّ: «{وموعظةً للمتّقين} قال: أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».

قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزّاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنّكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم اللّه، وما تحيّلوا به من الحيل، فليحذر المتّقون صنيعهم لئلّا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد اللّه بن بطّة: حدّثنا أحمد بن محمّد بن مسلمٍ، حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح الزّعفرانيّ، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا محمّد بن عمرٍو [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلّوا محارم اللّه بأدنى الحيل».

وهذا إسنادٌ جيّدٌ، وأحمد بن محمّد بن مسلمٍ هذا وثّقه الحافظ أبو بكرٍ الخطيب البغداديّ، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصّحيح. واللّه أعلم).[تفسير ابن كثير: 1 / 291 -293]


* للاستزادة ينظر: هنا