الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (67) إلى الآية (74) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

4471

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الخامس

تفسير سورة البقرة [من الآية (67) إلى الآية (74) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

1 Sep 2014

4471

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}


تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجل: {وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}

المعنى: واذكروا إذ قال موسى لقومه، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فيمن قتله فلم يعلم قاتله، فأمر اللّه عزّ وجلّ بضرب المقتول بعضو من أعضاء البقرة.

وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى أو الذنب، وأحب الله تعالى أن يريهم كيف إحياء الموتى،

وفي هذه الآية احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر الذي لا يجوز أن يعلمه إلا من قرأ الكتب أو أوحى إليه، وقد علم المشركون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون -وهم يخالفونه- أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.

{قالوا أتتّخذنا هزوا} فانتفى موسى من الهزؤ، لأن الهازئ جاهل لاعب فقال: {أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} فلما وضح لهم أنه من عند الله {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي} وإنّما سألوا ما هي؟ لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت). [معاني القرآن: 1 / 149 -150]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه} الآية: إذ عطف على ما تقدم، والمراد: تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو عمرو «يأمركم» بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم».

وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه، وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلا، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهي منهم: أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم: إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً، فكان جوابهم أن قالوا: أتتّخذنا هزواً قرأ الجحدري «أيتخذنا» بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة: «هزؤا» بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز، وقرأ أيضا: دون همز «هزوا»، حكاه أبو علي، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاي والهمزة بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي «هزّا»، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته، وقال: إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً، أتتّخذنا هزواً، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله»، وكما قال له الآخر: «اعدل يا محمد»، وكلّ محتمل، والله أعلم.

وقول موسى عليه السلام: أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين، يحتمل معنيين: أحدهما: الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا، والآخر: من الجهل كما جهلوا في قولهم أتتّخذنا هزواً لمن يخبرهم عن الله تعالى). [المحرر الوجيز: 1 / 245 -246]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين (67)}

يقول تعالى: واذكروا -يا بني إسرائيل-نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء اللّه المقتول، ونصّه على من قتله منهم. [مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل: تذبح، وقيل: تنحر، والذّبح أولى لنصّ القرآن ولقرب منحرها من مذبحها. قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافًا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح، غير أنّ مالكًا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرّم، وقال أبو عبد اللّه: أعلم أنّ نزول قصّة البقرة على موسى، عليه السّلام، في أمر القتيل قبل نزول القسامة في التّوراة.

بسط القصّة] -كما قال ابن أبي حاتمٍ-: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة السّلمانيّ، قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مالٌ كثيرٌ، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثمّ احتمله ليلًا فوضعه على باب رجلٍ منهم، ثمّ أصبح يدّعيه عليهم حتّى تسلّحوا، وركب بعضهم إلى بعضٍ، فقال ذوو الرّأي منهم والنّهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول اللّه فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السّلام، فذكروا ذلك له، فقال:{إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً قالوا أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}» قال: «فلو لم يعترضوا [البقر] لأجزأت عنهم أدنى بقرةٍ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم، حتّى انتهوا إلى البقرة الّتي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجلٍ ليس له بقرةٌ غيرها، فقال: واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهبًا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثمّ مال ميّتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورّث قاتلٌ بعد».

ورواه ابن جريرٍ من حديث أيّوب، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة بنحوٍ من ذلك واللّه أعلم.

ورواه عبد بن حميدٍ في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون، به.

ورواه آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره، عن أبي جعفرٍ -هو الرّازيّ-عن هشام بن حسّان، به. وقال آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره: أنبأنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قول اللّه تعالى: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل، وكان غنيًّا، ولم يكن له ولدٌ، وكان له قريبٌ وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثمّ ألقاه على مجمع الطّريق، وأتى موسى، عليه السّلام، فقال له: إنّ قريبي قتل وإنّي إلى أمرٍ عظيمٍ، وإنّي لا أجد أحدًا يبيّن [لي] من قتله غيرك يا نبيّ اللّه. قال: فنادى موسى في النّاس، فقال: أنشد اللّه من كان عنده من هذا علمٌ إلّا بيّنه لنا»، [قال]: «فلم يكن عندهم علمٌ، فأقبل القاتل على موسى عليه السّلام، فقال له: أنت نبيّ اللّه فاسأل لنا ربّك أن يبيّن لنا، فسأل ربّه فأوحى اللّه إليه:{إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً}فعجبوا من ذلك، فقالوا:{أتتّخذنا هزوًا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين* قالواادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ}يعني: لا هرمةٌ{ولا بكرٌ}يعني: ولا صغيرةٌ{عوانٌ بين ذلك}أي: نصفٌ بين البكر والهرمة{قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها}أي: صافٍ لونها{تسرّ النّاظرين} أي:تعجب النّاظرين{قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون * قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ}أي: لميذلّلها العمل{تثير الأرض}يعني: وليست بذلولٍ تثير الأرض{ولا تسقي الحرث}»، يقول: «ولا تعمل في الحرث{مسلّمةٌ}يعني: مسلّمةٌمن العيوب{لا شية فيها}»، يقول: «لا بياض فيها{قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون}»، قال: «ولو أنّ القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرةً، استعرضوا بقرةً من البقر فذبحوها، لكانت إيّاها، ولكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم، ولولا أنّ القوم استثنوا فقالوا:{وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون} لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنّهم لم يجدوا البقرة الّتي نعتت لهم إلّا عند عجوزٍ عندها يتامى، وهي القيّمة عليهم، فلمّا علمت أنّه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثّمن. فأتوا موسى فأخبروه أنّهم لم يجدوا هذا النّعت إلّا عند فلانةٍ، وأنّها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إنّ اللّه قد كان خفّف عليكم فشدّدتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السّلام، أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله، ثمّ عاد ميّتًا كما كان، فأخذ قاتله -وهو الّذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] -فقتله اللّه على أسوأ عمله».

وقال محمّد بن جريرٍ: حدّثني ابن سعدٍ حدّثني أبي، حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه [عن جدّه] عن ابن عبّاسٍ، في قوله في شأن البقرة: «وذلك أنّ شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السّلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشّيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا: ليت عمّنا قد مات فورثنا ماله، وإنّه لمّا تطاول عليهم ألّا يموت عمّهم، أتاهم الشّيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمّكم، فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة الّتي لستم بها ديته، وذلك أنّهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيّهما كانت أقرب إليه غرمت الدّية، وأنّهم لمّا سوّل لهم الشّيطان ذلك، وتطاول عليهم ألّا يموت عمّهم عمدوا إليه فقتلوه، ثمّ عمدوا فطرحوه على باب المدينة الّتي ليسوا فيها. فلمّا أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشّيخ، فقالوا: عمّنا قتل علىباب مدينتكم، فواللّه لتغرمنّ لنا دية عمّنا. قال أهل المدينة: نقسم باللّه ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتّى أصبحنا. وإنّهم عمدوا إلى موسى، عليه السّلام، فلمّا أتوه قال بنو أخي الشّيخ: عمّنا وجدناه مقتولًا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم باللّه ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتّى أصبحنا، وإنّه جبريل جاء بأمر السّميع العليم إلى موسى، عليه السّلام، فقال: قل لهم: {إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} فتضربوه ببعضها».

وقال السّدّيّ: {وإذ قال موسى لقومه إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً} قال: «كان رجلٌ من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنةٌ، وكان له ابن أخٍ محتاجٌ، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوّجه، فغضب الفتى، وقال: واللّه لأقتلنّ عمّي، ولآخذنّ ماله، ولأنكحنّ ابنته، ولآكلنّ ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجّارٌ في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عمّ انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلّي أن أصيب منها فإنّهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العمّ مع الفتى ليلًا فلمّا بلغ الشّيخ ذلك السّبط قتله الفتى، ثمّ رجع إلى أهله. فلمّا أصبح جاء كأنّه يطلب عمّه، كأنّه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السّبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمّي، فأدّوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التّراب على رأسه، وينادي: واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدّية، فقالوا له: يا رسول اللّه، ادع اللّه لنا حتّىيبيّن لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة فواللّه إنّ ديته علينا لهيّنةٌ، ولكنّا نستحيي أن نعيّر به فذلك حين يقول اللّه تعالى:{وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون}فقال لهم موسى، عليه السّلام:{إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً}قالوا: نسألك عن القتيل وعمّن قتله، وتقول: اذبحوا بقرةً. أتهزأ بنا!{قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين}قال ابن عبّاسٍ: فلو اعترضوا بقرةً فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنّهم شدّدوا وتعنّتوا [على] موسى فشدّد اللّه عليهم. فقالوا: {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك}والفارض: الهرمة الّتي لا تلد، والبكر الّتي لم تلد إلّا ولدًا واحدًا. والعوان: النّصف الّتي بين ذلك، الّتي قد ولدت وولد ولدها{فافعلوا ما تؤمرون* قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها}»، قال: «نقيٌّ لونها{تسرّ النّاظرين}»، قال: «تعجب النّاظرين{قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون* قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لا شية فيها}من بياضٍ ولا سوادٍ ولا حمرةٍ{قالوا الآن جئت بالحقّ}فطلبوها فلم يقدروا عليها.

وكان رجلٌ في بني إسرائيل، من أبرّ النّاس بأبيه، وإنّ رجلًا مرّ به معه لؤلؤٌ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرّجل: تشتري منّي هذا اللّؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتّى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستّين ألفًا، فجعل التّاجر يحطّ له حتّى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتّى يستيقظ حتّى بلغ مائة ألفٍ، فلمّا أكثر عليه قال: واللّه لا أشتريه منك بشيءٍ أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوّضه اللّه من ذلك اللّؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرّت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إيّاها بقرةً ببقرةٍ، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتّى بلغوا عشرًا، فأبى، فقالوا: واللّه لا نتركك حتّى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى، عليه السّلام، فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول اللّه، أنا أحقّ بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتّى أعطوه وزنها عشر مرّاتٍ ذهبًا، فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة الّتي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، فآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه».

وقال سنيدٌ: حدّثنا حجّاجٌ، هو ابن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، وحجّاجٍ، عن أبي معشرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ ومحمّد بن قيسٍ -دخل حديث بعضهم في حديث بعضٍ-قالوا: «إنّ سبطًا من بني إسرائيل لمّا رأوا كثرة شرور النّاس، بنوا مدينةً فاعتزلوا شرور النّاس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلّا أدخلوه، وإذا افتتحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع النّاس حتّى يمسوا»، قال:«وكان رجلٌ من بني إسرائيل له مالٌ كثيرٌ، ولم يكن له وارثٌ غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله ليرثه، ثمّ حمله فوضعه على باب المدينة، ثمّ كمن في مكانٍ هو وأصحابه»، قال: «فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلمّا رأى القتيل ردّ الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثمّ تردّون الباب. وكان موسى لمّا رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتالٌ، حتّى لبس الفريقان السّلاح، ثمّ كفّ بعضهم عن بعضٍ، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم. قالوا: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء قتلوا قتيلًا ثمّ ردّوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول اللّه قد عرفت اعتزالنا الشّرور وبنينا مدينةً، كما رأيت، نعتزل شرور النّاس، واللّه ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا. فأوحى اللّه تعالى إليه أن يذبحوا بقرةً فقال لهم موسى:{إنّ اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرةً}».

وهذه السّياقات [كلّها] عن عبيدة وأبي العالية والسّدّيّ وغيرهم، فيها اختلافٌ ما، والظّاهر أنّها مأخوذةٌ من كتب بني إسرائيل وهي ممّا يجوز نقلها ولكن لا نصدّق ولا نكذّب فلهذا لا نعتمد عليها إلّا ما وافق الحقّ عندنا، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 293 -298]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({قال إنه يقول إنّها بقرة لا فارض ولا بكر}

ارتفع {فارض} بإضمار هي، ومعنى {لا فارض}: لا كبيرة، {ولا بكر}: لا صغيرة، أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة.

{عوان} العوان: دون المسنة وفوق الصغيرة.

ويقال من الفارض: فرضت تفرض فروضا، ومن العوان: قد عوّنت تعوّن، ويقال: حرب عوان، إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية. قال زهير:

إذا لقحـت حـرب عـوان مـضـرّة ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل

ومعنى {بين ذلك} بين البكر والفارض، وبين الصغيرة والكبيرة وإنما جاز {بين ذلك} و "بين" لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر، لأن ذلك ينوب عن الخمل، فتقول: ظننت زيدا قائما، فيقول القائل: "ظننت ذلك"). [معاني القرآن: 1 / 150]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسرّ النّاظرين (69) قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون (70)}

هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر «ادع» بكسر العين، وما استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع فارضٌ على النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي، فروضا، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض، وقال الشاعر [العجاج]:

يا رب ذي ضغن عليّ فارض ....... له قروء كقروء الحائض

والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول العرب: العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان: قد قوتل فيها مرتين فما زاد، ورفعت عوانٌ على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان، وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم.

وبين، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى ذلك، إذ ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضا بين على بابها.

وقوله: {فافعلوا ما تؤمرون} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه).[المحرر الوجيز: 1 / 246 -248]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها تسرّ النّاظرين (69)}

أخبر تعالى عن تعنّت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لمّا ضيّقوا على أنفسهم ضيّق عليهم، ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرةٍ كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عبّاسٍ وعبيدة وغير واحدٍ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد عليهم، فقالوا: {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي} ما هذه البقرة؟ وأيّ شيءٍ صفتها؟

قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عثّام بن عليٍّ، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «لو أخذوا أدنى بقرةٍ اكتفوا بها، ولكنّهم شدّدوا فشدّد اللّه عليهم».

إسنادٌ صحيحٌ، وقد رواه غير واحدٍ عن ابن عبّاسٍ. وكذا قال عبيدة، والسّدّيّ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحدٍ.

وقال ابن جريجٍ: قال [لي] عطاءٌ: «لو أخذوا أدنى بقرةٍ كفتهم». قال ابن جريجٍ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّما أمروا بأدنى بقرةٍ، ولكنّهم لمّا شدّدوا على أنفسهم شدّد اللّه عليهم؛ وايم اللّه لو أنّهم لم يستثنوا ما بيّنت لهم آخر الأبد».

{قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا فارضٌ ولا بكرٌ}أي: لا كبيرةً هرمةً ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية، والسّدّيّ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وعطيّة العوفيّ، وعطاءٌ الخراسانيّ ووهب بن منبّهٍ، والضّحّاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عبّاسٍ أيضًا.

وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ {عوانٌ بين ذلك} [يقول: «نصفٌ] بين الكبيرة والصّغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدّوابّ والبقر وأحسن ما تكون». وروي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والضّحّاك نحو ذلك.

وقال السّدّيّ: «العوان: النّصف الّتي بين ذلك الّتي ولدت، وولد ولدها».

وقال هشيمٌ، عن جويبرٍ، عن كثير بن زيادٍ، عن الحسن في البقرة: «كانت بقرةً وحشيّةً».). [تفسير ابن كثير: 1 / 298 -299]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها قال إنه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين}

موضع (ما) رفع بالابتداء، لأن تأويله الاستفهام، كقولك: ادع لنا ربك يبين لنا أيّ شيء لونها، ومثله {فلينظر أيّها أزكى طعاما}.

ولا يجوز في القراءة {ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها} على أن يجعل (ما) لغوا، ولا يقرأ القرآن إلا كما قرأت القرّاء المجمع عليهم في الأخذ عنهم.

{قال إنه يقول إنها} ما بعد القول من باب "إن" مكسور أبدا، كأنك تذكر القول في صدر كلامك، وإنما وقعت "قلت" في كلام العرب أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ، تقول: قلت زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك: إن زيدا منطلق، لا اختلاف بين النحويين في ذلك، إلا أن قوما من العرب -وهم بنو سليم- يجعلون باب "قلت" أجمع كباب "ظننت"، فيقولون: قلت زيدا منطلقا، فهذه لغة لا يجوز أن يوجد شيء منها في كتاب الله عزّ وجلّ، ولا يجوز (قال أنه يقول إنها)، لا يجوز إلا الكسر.

وأمّا قوله عزّ وجلّ: {صفراء فاقع لونها}

{فاقع} نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قان، قال الشاعر:

يسقي بها ذو تومتين كأنما قنـأت أنامـلـه مــن الفـرصـاد

أي: احمرت حمرة شديدة، ويقال: أحمر قاتم وأبيض يقق، ولهق ولهاق، وأسود حالك وحلوك وحلوكي ودجوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قالوا: إن {صفراء} ههنا: سوداء.

ومعنى{تسر الناظرين} أي: تعجب الناظرين). [معاني القرآن: 1 / 150 -152]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وما رفع بالابتداء، ولونها خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله: {صفراء}، «إنها كانت كلها صفراء»، قال مكي رحمه الله عن بعضهم: «حتى القرن والظلف»، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير: «كانت صفراء القرن والظلف فقط»، وقال الحسن أيضا: «صفراء معناه سوداء»، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس:

تلك خيلي منه وتلك ركابي ....... هنّ صفر أولادها كالزبيب

والفقوع: نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، ولونها فاعل ب فاقعٌ.

و{تسرّ النّاظرين} قال وهب بن منبه: «كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها»، فمعناه: تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس وغيره: «الصفرة تسر النفس»، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي: «تسرّ النّاظرين معناه في سمنها ومنظرها كله»، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية، والبقر جمع بقرة، وتجمع أيضا على باقر، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت). [المحرر الوجيز: 1 / 248 -249]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: «من لبس نعلًا صفراء لم يزل في سرورٍ ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: {صفراء فاقعٌ لونها تسرّ النّاظرين}». وكذا قال مجاهدٌ، ووهب بن منبّهٍ: «أنّها كانت صفراء».

وعن ابن عمر: «كانت صفراء الظّلف». وعن سعيد بن جبيرٍ: «كانت صفراء القرن والظّلف».

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا نوح بن قيسٍ، أنبأنا أبو رجاءٍ، عن الحسن في قوله: {بقرةٌ صفراء فاقعٌ لونها} قال: «سوداء شديدة السّواد».

وهذا غريبٌ، والصّحيح الأوّل، ولهذا أكّد صفرتها بأنّه {فاقعٌ لونها}

وقال عطيّة العوفيّ: «{فاقعٌ لونها}تكاد تسودّ من صفرتها».

وقال سعيد بن جبيرٍ: {فاقعٌ لونها} قال: «صافية اللّون». وروي عن أبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، والحسن، وقتادة نحوه.

وقال شريكٌ، عن مغراء عن ابن عمر: {فاقعٌ لونها} قال: «صافٍ».

وقال العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ: «{فاقعٌ لونها} شديدة الصّفرة، تكاد من صفرتها تبيضّ».

وقال السّدّيّ: «{تسرّ النّاظرين} أي: تعجب النّاظرين» وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ.

[وفي التّوراة: أنّها كانت حمراء، فلعلّ هذا خطأٌ في التّعريب أو كما قال الأوّل: إنّها كانت شديدة الصّفرة تضرب إلى حمرةٍ وسوادٍ، والله أعلم].

وقال وهب بن منبّهٍ: «إذا نظرت إلى جلدها يخيّل إليك أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها».). [تفسير ابن كثير: 1 / 299 -300]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ السبعة: «تشابه» فعل ماض، وقرأ الحسن «تشّابه» بشد الشين وضم الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضا «تشابه» بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود «يشابه» بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي «يشّبّه» بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة «متشبه» اسم فاعل من تشبّه، وحكي أيضا «يتشابه».

وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا»، والضمير في إنّا، هو اسم إنّ، و «مهتدون» الخبر، واللام للتأكيد، والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمما به).[المحرر الوجيز: 1 / 249]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون (70)}

وقوله: {إنّ البقر تشابه علينا}أي: لكثرتها، فميّز لنا هذه البقرة وصفها وحلّها لنا {وإنّا إن شاء اللّه} إذا بيّنتها لنا {لمهتدون} إليها.

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن يحيى الأوديّ الصّوفيّ، حدّثنا أبو سعيدٍ أحمد بن داود الحدّاد، حدّثنا سرور بن المغيرة الواسطيّ، ابن أخي منصور بن زاذان، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا أنّ بني إسرائيل قالوا:{وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون} لما أعطوا، ولكن استثنوا».

ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجهٍ آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، عن حديث أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لولا أنّ بني إسرائيل قالوا:{وإنّا إن شاء اللّه لمهتدون}ما أعطوا أبدًا، ولو أنّهم اعترضوا بقرةً من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنّهم شدّدوا، فشدّد اللّه عليهم».

وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدّم مثله عن السّدّيّ، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1 / 300]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قال إنه يقول إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون} معناه: ليست بذلول ولا مثيرة.

وقوله: {ولا تسقي الحرث} يقال: سقيته إذا ناولته فشرب، وأسقيته جعلت له سقيا، فيصح ههنا (ولا تُسقي) بالضم.

وقوله: {لا شية فيها}أي: ليس فيها لون يفارق لونها، و"الوشي" في اللغة: خلط لون بلون وكذلك في الكلام، يقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشيا، كقولك: وديت فلانا أديه دية، ونصب {لا شية} فيه على النّفي، ولو قرئ (لَا شيةٌ) فيها لجاز، ولكن القراءة بالنصب.

وقوله: {الآن جئت بالحقّ} فيه أربعة أوجه حكى بعضها الأخفش:

فأجودها: (قالوا الآن) بإسكان اللام وحذف الواو من اللفظ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول: (قالوا ألآن جئت بالحقّ) وهذه رواية، وليس له وجه في القياس ولا هي عندي جائز، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين -وهما جيدان في العربية-:

يجوز: (قالوا لآن) على إلقاء الهمزة، وفتح اللام من الآن، وترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين، ولا يعتد بفتحة اللام.

ويجوز: (قالوا لان جيت بالحق) ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا يقرأن بحرف لم يقرأ به وإن كان ثابتا في العربية.

والذين أظهروا الواو: أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسكونها، فلما تحركت ردوها.

والأجود في العربية حذفها؛ لأن قرأ (ب تقول "الأحمر"، ويلقون الهمزة فيقولون "لحمر" فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون، وبعضهم يقول "لحمر" ولا يقرّ ألف الوصل يريد: الأحمر.

فأمّا نصب {الآن} فهي حركة لالتقاء السّاكنين، ألا ترى أنك تقول: أنا الأن أكرمك، وفي الآن فعلت كذا وكذا، وإنما كان في الأصل مبنيا وحرك لالتقاء السّاكنين.

وبنى {الآن} وفيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم. إنما تقول: الغلام فعل كذا، إذا عهدته أنت ومخاطبتك، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الإشارة. المعنى أنت إلى هذا الوقت تفعل، فلم يعرب {الآن} كما لا يعرب هذا). [معاني القرآن: 1 / 152 -153]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي اللّه الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون (73)}

ذلولٌ: مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيّنة الذّل بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذّل بضم الذال، وذلولٌ نعت ل بقرةٌ، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «لا ذلول» بنصب اللام.

و{تثير الأرض}، معناه: بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول مثيرة، وقال قوم تثير فعل مستأنف، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، وتسقي الحرث معناه: بالسانية أو غيرها من الآلات، والحرث ما حرث وزرع.

و{مسلّمةٌ} بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية: «معناه من العيوب»، وقال مجاهد: «معناه من الشيات والألوان»، وقال قوم: «معناه من العمل».

و{لا شية فيها}: أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة، يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة.

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم.

وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه: إن أباك قد استودع الله عجلة لك، فأذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة: أنه كان رجل من بني إسرائيل برا بأبيه فنام أبوه يوما وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفا، فقال له ابن النائم: اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفا، فقال له صاحب الجوهر: نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفا، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفا، فقال له ابن النائم: والله لا اشتريته منك بشيء برا بأبيه، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم: وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام، وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل بوزنها مرتين، وقال السدي: «بوزنها عشر مرات»، وقال مجاهد: «كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير»، وحكى مكي: «أن هذه البقرة نزلت منالسماء، ولم تكن من بقر الأرض»، وحكى الطبري عن الحسن: «أنها كانت وحشية».

و{الآن} مبني على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى أنها لا تفارقة في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرئ «قالوا الآن» بسكون اللام وهمزة بعدها، «وقالوا الان» بمدة على الواو وفتح اللام دون همز، «وقالوا الآن» بحذف الواو من اللفظ دون همز، «وقالوا الآن» بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول «يا الله».

و{جئت بالحقّ}معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، وجئت بالحقّ الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا: هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت.

وقوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: «كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها»، وقال غيره: «كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل»، وقيل: «كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء»، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً}، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم). [المحرر الوجيز: 1 / 249 -253]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةٌ لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحقّ فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)}

{قال إنّه يقول إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث}أي: إنّها ليست مذلّلةً بالحراثة ولا معدّة للسّقي في السّانية، بل هي مكرّمةٌ حسنةٌ صبيحةٌ {مسلّمةٌ} صحيحةٌ لا عيب فيها {لا شية فيها}أي: ليس فيها لونٌ غير لونها.

وقال عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة {مسلّمةٌ} يقول: «لا عيب فيها»، وكذا قال أبو العالية والرّبيع، وقال مجاهدٌ: «{مسلّمةٌ}من الشّية».

وقال عطاءٌ الخراسانيّ: «{مسلّمةٌ}القوائم والخلق{لا شية فيها}»، قال مجاهدٌ: «لا بياض ولا سواد». وقال أبو العالية والرّبيع، والحسن وقتادة: «ليس فيها بياضٌ». وقال عطاءٌ الخراسانيّ: {لا شية فيها} قال: «لونها واحدٌ بهيمٌ». وروي عن عطيّة العوفيّ، ووهب بن منبّهٍ، وإسماعيل بن أبي خالدٍ، نحو ذلك. وقال السّدّيّ: «{لا شية فيها}من بياضٍ ولا سوادٍ ولا حمرةٍ»، وكلّ هذه الأقوال متقاربةٌ [في المعنى، وقد زعم بعضهم أنّ المعنى في ذلك قوله تعالى: {إنّها بقرةٌ لا ذلولٌ} ليست بمذلّلةٍ بالعمل ثمّ استأنف فقال: {تثير الأرض} أي: يعمل عليها بالحراثة لكنّها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيفٌ؛ لأنّه فسّر الذّلول الّتي لم تذلّل بالعمل بأنّها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرّره القرطبيّ وغيره]

{قالوا الآن جئت بالحقّ} قال قتادة: «الآن بيّنت لنا»، وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «وقبل ذلك -واللّه -قد جاءهم الحقّ».

{فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «كادوا ألّا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنّهم أرادوا ألّا يذبحوها».

يعني أنّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلّا بعد الجهد، وفي هذا ذمٌّ لهم، وذلك أنّه لم يكن غرضهم إلّا التّعنّت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.

وقال محمّد بن كعبٍ، ومحمّد بن قيسٍ: «{فذبحوها وما كادوا يفعلون}لكثرة ثمنها».

وفي هذا نظرٌ؛ لأنّ كثرة ثمنها لم يثبت إلّا من نقل بني إسرائيل، كما تقدّم من حكاية أبي العالية والسّدّيّ، ورواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ. وقال عبيدة، ومجاهدٌ، ووهب بن منبّهٍ، وأبو العالية، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «إنّهم اشتروها بمالٍ كثيرٍ» وفيه اختلافٌ، ثمّ قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمّد بن سوقة، عن عكرمة، قال: «ما كان ثمنها إلّا ثلاثة دنانير» وهذا إسنادٌ جيّدٌ عن عكرمة، والظّاهر أنّه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.

وقال ابن جريرٍ: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطّلع اللّه على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.

ولم يسنده عن أحدٍ، ثمّ اختار أنّ الصّواب في ذلك أنّهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظرٌ، بل الصّواب -واللّه أعلم-ما تقدّم من رواية الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، على ما وجّهناه. وباللّه التّوفيق.

مسألةٌ: استدلّ بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتّى تعيّنت أو تمّ تقييدها بعد الإطلاق على صحّة السّلم في الحيوان كما هو مذهب مالكٍ والأوزاعيّ واللّيث والشّافعيّ وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصّحيحين عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنّه ينظر إليها». وكما وصف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إبل الدّية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصّفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثّوريّ والكوفيّون: لا يصحّ السّلم في الحيوان لأنّه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعودٍ وحذيفة بن اليمان وعبد الرّحمن بن سمرة وغيرهم). [تفسير ابن كثير: 1 / 300 -301]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها واللّه مخرج ما كنتم تكتمون} معناه: فتدارأتم فيها، أي: تدافعتم، أي: ألقى بعضكم على بعض، يقال: "درأت فلانا" إذا دافعته، و"داريته" إذا لاينته، و"درّيته" إذا ختلته، ولكن التاء أدغمت في الدال لأنها من مخرج واحد، فلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل، فتقول: "ادارأ القوم" أي: تدافع القوم.

وقوله عزّ وجلّ: {مخرج ما كنتم تكتمون} الأجود في {مخرجٌ} التنوين؛ لأنه إنما هو لما يستقبل أو للحال، ويجوز حذف التنوين استخفافا فيقرأ(مخرجُ ما كنتم تكتمون)، فإن كان قرئ به وإلا فلا يخالف القرآن كما شرحنا.

وقوله عزّ وجلّ: {إن البقر تشابه علينا} القراءة في هذا على أوجه،

فأجودها والأكثر {تشابه علينا} على فتح الهاء والتخفيف، ويجوز "تشّابه علينا"، و"يشّابه علينا" بالتاء والياء.

وقد قرئ "إن الباقر يشّابه علينا" والعرب تقول في جمع "البقر والجمال": "الباقر والجامل"، يجعلونه اسما للجنس، قال طرفة بن العبد:

وجــامـــل خـــــوّع مـــــن نــيــبــهزجر المعلّى أصلا والسفيح

ويروي "مني به" وهو أكثر الرواية، وليس بشيء، وقال الشاعر:

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا خلـقـا كـحـوض البـاقـر المتـهـدم

وما كان مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وسحابة وسحاب، فإن العرب تذكره وتؤنثه، فتقول: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل.

فمن ذكّر؛ فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه، فيقال: فتقول هذا جمع، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة، فتقول: هذه جماعة وهذه فرقة، قال اللّه عزّ وجلّ: {ألم تر أنّ اللّه يزجي سحابا ثمّ يؤلّف بينه} فذكر، وواحدته "سحابة"، وقال: {والنخل باسقات} فجمع على معنى جماعة، ولفظها واحد.

فمن قرأ (إن البقر تشابه علينا) فمعناه أن (جماعة البقر تتشابه علينا)، فأدغمت التاء في الشين لقرب مخرج التاء من الشين، ومن قرأ (تشّابه علينا) أراد (تتشابه)، فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين كما قرئ {لعلكم تذكرون}، ومن قرأ (يشّابه علينا) -بالياء- أراد جنس البقر -أيضا-، والأصل (يتشابه علينا)، فأدغم التاء في الشين). [معاني القرآن: 1 / 153 -155]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : ({وإذ قتلتم نفساً}، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.

و «ادارأتم» أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر:

صادف درء السّيل درءا يدفعه ....... ... ... ... ...

وقال الآخر:

مدرأ يدرأ الخصوم بقول ....... مثل حدّ الصّمصامة الهندواني

والضمير في قوله: {فيها} عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي.

«وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم»، وقرأت فرقة «فتدارأتم» على الأصل، وموضع ما نصب بمخرج، والمكتوم هو أمر المقتول). [المحرر الوجيز: 1 / 253 -254]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي اللّه الموتى ويريكم آياته لعلّكم تعقلون (73)}

قال البخاريّ: {فادّارأتم} اختلفتم. وهكذا قال مجاهدٌ فيما رواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، أنّه قال في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها}«اختلفتم».

وقال عطاءٌ الخراساني، والضّحّاك: «اختصمتم فيها». وقال ابن جريجٍ {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها} قال: «قال بعضهم أنتم قتلتموه».

وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.

{واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون} قال مجاهدٌ: «ما تغيبون». وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن مسلمٍ البصريّ، حدّثنا محمّد بن الطّفيل العبديّ، حدّثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيّب بن رافعٍ يقول: «ما عمل رجلٌ حسنةً في سبعة أبياتٍ إلّا أظهرها اللّه، وما عمل رجلٌ سيّئةً في سبعة أبياتٍ إلّا أظهرها اللّه، وتصديق ذلك في كلام اللّه: {واللّه مخرجٌ ما كنتم تكتمون* فقلنا اضربوه ببعضها}». هذا البعض أيّ شيءٍ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلةٌ به.). [تفسير ابن كثير: 1 / 302]

تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {اضربوه ببعضها} آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي: «لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد»، وقال السدي: «ضربباللحمة التي بين الكتفين»، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني: «ضرب بالفخذ»، وقيل: ضرب باللسان، وقيل: بالذنب، وقال أبو العالية: «بعظم من عظامها».

وقوله تعالى: {كذلك يحي اللّه الموتى} الآية، الإشارة بــــ كذلك إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبرة، ودلالة على البعث في الآخرة. وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: {اضربوه ببعضها}، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة). [المحرر الوجيز: 1 / 254]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فقلنا اضربوه ببعضها} هذا البعض أيّ شيءٍ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلةٌ به.

وخرق العادة به كائنٌ، وقد كان معيّنًا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدةٌ تعود علينا في أمر الدّين أو الدّنيا لبيّنه اللّه تعالى لنا، ولكن أبهمه، ولم يجئ من طريقٍ صحيحٍ عن معصومٍ بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه اللّه.

ولهذا قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ، حدّثنا عفّان بن مسلمٍ، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ حدّثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنةً حتّى وجدوها عند رجلٍ في بقرٍ له، وكانت بقرةً تعجبه»، قال: «فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتّى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضوٍ منها، فقام تشخب أوداجه دمًا [فسألوه] فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلانٌ».

وكذا قال الحسن، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «إنّه ضرب ببعضها».

وفي روايةٍ عن ابن عبّاسٍ: «إنّهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف».

وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، قال: قال أيّوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمرٌ: قال قتادة: «فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلانٌ».

وقال أبو أسامة، عن النّضر بن عربيٍّ، عن عكرمة: {فقلنا اضربوه ببعضها} [قال] «فضرب بفخذها فقام، فقال: قتلني فلانٌ».

قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، وقتادة، نحو ذلك.

وقال السّدّيّ: «فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال: قتلني ابن أخي».

وقال أبو العالية: «أمرهم موسى، عليه السّلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمّى لهم قاتله ثمّ عاد ميّتًا كما كان».

وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «فضربوه ببعض آرابها». [وقيل: بلسانها، وقيل: بعجب ذنبها].

وقوله: {كذلك يحيي اللّه الموتى} أي: فضربوه فحيي. ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصّنع حجّةً لهم على المعاد، وفاصلًا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، واللّه تعالى قد ذكر في هذه السّورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: {ثمّ بعثناكم من بعد موتكم}[البقرة: 56]. وهذه القصّة، وقصّة الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت، وقصّة الذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها، وقصّة إبراهيم والطّيور الأربعة.

ونبّه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميمًا، كما قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاءٍ، قال: سمعت وكيع بن عدس، يحدّث عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول اللّه، كيف يحيي اللّه الموتى؟ قال: «أما مررت بوادٍ ممحل، ثمّ مررت به خضرًا؟ » قال: بلى. قال: «كذلك النّشور». أو قال: «كذلك يحيي اللّه الموتى». وشاهد هذا قوله تعالى: {وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون* وجعلنا فيها جنّاتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ وفجّرنا فيها من العيون* ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون}[يس:33-35].

مسألةٌ: استدلّ لمذهب مالكٍ في كون قول الجريح: فلانٌ قتلني لوثًا بهذه القصّة؛ لأنّ القتيل لمّا حيي سئل عمّن قتله فقال: قتلني فلانٌ، فكان ذلك مقبولًا منه؛ لأنّه لا يخبر حينئذٍ إلّا بالحقّ، ولا يتّهم والحالة هذه، ورجّحوا ذلك بحديث أنسٍ: «أن يهوديًّا قتل جاريةً على أوضاحٍ لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلانٌ؟ أفلانٌ؟ حتّى ذكر اليهوديّ، فأومأت برأسها، فأخذ اليهوديّ، فلم يزل به حتّى اعترف، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يردّ رأسه بين حجرين». وعند مالكٍ: إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامةً، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثًا). [تفسير ابن كثير: 1 / 302 -304]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافل عمّا تعملون}

تأويل{قست} في اللغة: غلظت ويبست وصلبت، فتأويل القسو في القلب: ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.

ومعنى{من بعد ذلك} أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها -فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزّ وجلّ ما يزيل كل شك- أن يلين قلبه ويخضع،

ويحتمل أن يكون{من بعد ذلك} من بعد إحياء الميت والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير، ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انبجاس الماء من حجر يحملونه معهم، وإنما جاز ذلك وهؤلاء الجماعة مخاطبون، ولم يقل "ذلكم" -ولو قال "ذلكم" كان جيدا- وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد "ذلك" وبعد "ذلكم"؛ لأن الجماعة تؤدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة.

وقوله عزّ وجلّ: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة} وقد روي (أو أشدَّ قسوة) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد بيناه، ودخول "أو" ههنا لغير معنى الشك، ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة، تقول: الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين، فلست بشاك، وإنما المعنى ههنا: هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم، فإن أخذته عن الحسن فأنت مصيب، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب، وإن أخذته عنهما جميعا فأنت مصيب، فالتأويل: اعلموا أن قلوب هؤلاء إن شبهتم قسوتها بالحجارة فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو.

وكذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا... أو كصيّب} أي: إن مثلتهم بالمستوقد فذلك مثلهم، وإن مثلتهم بالصيّب فهو لهم مثل، وقد شرحناه في مكانه شرحا شافيا كافيا إن شاء اللّه.

فمن قرأ {أشد قسوة} رفع أشد بإضمار "هي" كأنّه قال: أو هي أشد قسوة، ومن نصب (أو أشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف. ولكن "أشد" أفعل لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل، وهو نعت ففتح وهو في موضع جر.

ويجوز في قوله تعالى {فهي كالحجارة}: (فهْي كالحجارة) -بإسكان الهاء-، لأن الفاء مع هي قد جعلت الكلمة بمنزلة (فخذ)، فتحذف الكسرة استثقالا، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في "هي" الإسكان في الياء من (هي) ولا أعلم أحدا قرأ بها، وهي عندي لا يجوز إسكانها ولا إسكان الواو في هو، لا يجوز "هو ربكم" وقد روى الإسكان بعض النحويين وهو رديء لأن كل مضمر فحركته -إذا انفرد- الفتح، نحو (أنا ربكم)، فكما لا تسكن نون أنا لا تسكن هذه الواو.

وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار} بين عزّ وجلّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة، وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار، ومنها ما يشّقّق فيخرج منه الماء يعني: العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهارا، ومنها ما يهبط من خشية الله، فقالوا: إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللّه له حين كلم موسى عليه السلام، وقال قوم: إنها أثر الصنعة التي تدل على أنّها مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها وإنما الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزّ وجلّ: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه}، وكما قال: {ألم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّماوات}، ثم قال: {والنّجوم والجبال} فأعلم أن ذلك تمييز أراد اللّه منها، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل: {وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب}، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره). [معاني القرآن: 1 / 155 -158]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74) أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75)}

{قست}أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: «المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته أنكروا قتله»، وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: «ولم يرث قاتل من حينئذ».

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا أن لا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما: «إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك».

وقوله تعالى: {فهي كالحجارة} الآية، الكاف في موضع رفع خبر لـــــ «هي»، تقديره: فهي مثل الحجارة أو أشدّ مرتفع بالعطف على الكاف، أو على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، وقسوةً نصب على التمييز، والعرف في أو أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنىأو هنا،فقالت طائفة: هي بمعنى الواو، كما قال تعالى: {آثماً أو كفوراً}[الإنسان: 24] أي وكفورا، وكما قال الشاعر [جرير]:

نال الخلافة أو كانت له قدرا ....... كما أتى ربّه موسى على قدر

أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: {إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}[الصافات: 147] المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

أحب محمّدا حبا شديدا ....... وعباسا وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبينٍ} [سبأ: 24]، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو»، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طورا أو أشد طورا، وقرأ أبو حيوة: «قساوة»، والمعنى واحد.

وقوله تعالى: {وإنّ من الحجارة} الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: «عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم»، وقرأ قتادة: «وإن» مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في لما، وما في موضع نصب اسم ل إنّ، ودخلت اللام على اسم إنّ لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب إنّ لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار: «ينفجر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في منه حملا على لفظ «ما»، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار»، حملا على الحجارة، والأنهار جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف: «لمّا» بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، ويشّقّق أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله دكا، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعا، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أنّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد: «ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا من خشية اللّه، نزل بذلك القرآن»، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: {يريد أن ينقضّ}[الكهف: 77]، وكما قال زيد الخيل:

بجمع تضل البلق في حجراته ....... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وكما قال جرير:

... ... ... ... ........ ... ... الجبال الخشع

أي من رأى الحجر هابطا تخيل فيه الخشية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، وبغافلٍ في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير «يعملون» بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم). [المحرر الوجيز: 1 / 255 -259]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74)}

يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى، وإحيائه الموتى: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك} كلّه {فهي كالحجارة} التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى اللّه المؤمنين عن مثل حالهم فقال: {ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالّذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون}[الحديد: 16].

وقال العوفيّ، في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ: «لمّا ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قطّ، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثمّ قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: واللّه ما قتلناه، فكذّبوا بالحقّ بعد إذا رأوا. فقال اللّه: {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك} يعني: بني أخي الشّيخ {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً} فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسيةً بعيدةً عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشدّ قسوةً من الحجارة، فإنّ من الحجارة ما تتفجّر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشّقّق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريًا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية اللّه، وفيه إدراكٌ لذلك بحسبه، كما قال:{تسبّح له السّماوات السّبع والأرض ومن فيهنّ وإن من شيءٍ إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنّه كان حليمًا غفورًا}[الإسراء: 44].

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه كان يقول: «كلّ حجرٍ يتفجّر منه الماء، أو يتشقّق عن ماءٍ، أو يتردّى من رأس جبلٍ، لمن خشية اللّه، نزل بذلك القرآن».

وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: «{وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} أي وإنّ من الحجارة لألين من قلوبكم عمّا تدعون إليه من الحقّ{وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}».

[وقال أبو عليٍّ الجبائيّ في تفسيره: {وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} هو سقوط البرد من السّحاب. قال القاضي الباقلّانيّ: وهذا تأويلٌ بعيدٌ وتبعه في استبعاده فخر الدّين الرّازيّ وهو كما قالا؛ فإنّ هذا خروجٌ عن ظاهر اللّفظ بلا دليلٍ، واللّه أعلم].

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا الحكم بن هشامٍ الثّقفيّ، حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: {وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار} قال: «هو كثرة البكاء»{وإنّ منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء} قال: «قليل البكاء»{وإنّ منها لما يهبط من خشية اللّه} قال: «بكاء القلب، من غير دموع العين».

وقد زعم بعضهم أنّ هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يريد أن ينقضّ} قال الرّازيّ والقرطبيّ وغيرهما من الأئمّة: ولا حاجة إلى هذا فإنّ اللّه تعالى يخلق فيها هذه الصّفة كما في قوله تعالى: {إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} الآية، وقال: {والنّجم والشّجر يسجدان} و {أولم يروا إلى ما خلق اللّه من شيءٍ يتفيّأ ظلاله} الآية، {قالتا أتينا طائعين} {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ} الآية، {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا اللّه} الآية، وفي الصّحيح: «هذا جبلٌ يحبّنا ونحبّه».، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلمٍ: «إنّي لأعرف حجرًا بمكّة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث إنّي لأعرفه الآن». وفي صفة الحجر الأسود أنّه يشهد لمن استلمه بحقٍّ يوم القيامة، وغير ذلك ممّا في معناه. وحكى القرطبيّ قولًا أنّها للتّخيير؛ أي مثلًا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرّازيّ في تفسيره وزاد قولًا آخر: إنّها للإبهام بالنّسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم أيّهما أكل، وقال آخر: إنّها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن واحدٍ منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشدّ قسوةً منها لا تخرج عن واحدٍ من هذين الشّيئين. واللّه أعلم.

تنبيهٌ:

اختلف علماء العربيّة في معنى قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً} بعد الإجماع على استحالة كونها للشّكّ، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشدّ قسوةً كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا}[الإنسان: 24]، وكما قال النّابغة الذّبياني:

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ....... إلى حمامتنا أو نصفه فقد

تريد: ونصفه، قاله ابن جريرٍ. وقال جرير بن عطيّة:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا ....... كما أتى ربّه موسى على قدر

قال ابن جريرٍ: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.

وحكى القرطبيّ قولًا أنّها للتّخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدّين في تفسيره وزاد قولًا آخر وهو: أنّها للإبهام وبالنّسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرًا وهو يعلم أيّهما أكل، وقولًا آخر وهو أنّها بمعنى قول القائل: أكلي حلوٌ أو حامضٌ، أي: لا يخرج عن واحدٍ منهما، أي: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشدّ قسوةً منها لا يخرج عن واحدٍ من هذين الشّيئين واللّه أعلم.

وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره فهي كالحجارة بل أشدّ قسوةً، وكقوله: {إذا فريقٌ منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشيةً}[النّساء: 77]{وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}[الصّافّات: 147]{فكان قاب قوسين أو أدنى}[النّجم: 9]وقال آخرون: معنى ذلك {فهيكالحجارة أو أشدّ قسوةً} عندكم. حكاه ابن جريرٍ.

وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:

أحبّ محمّدًا حبا شديدًا ....... وعبّاسا وحمزة والوصيّا

فإن يك حبّهم رشدًا أصبه ....... ولست بمخطئٍ إن كان غيّا

قال ابن جريرٍ: قالوا: ولا شكّ أنّ أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أنّ حبّ من سمّى رشدٌ، ولكنّه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنّه لمّا قال هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلّا واللّه. ثمّ انتزع بقول اللّه تعالى: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدًى أو في ضلالٍ مبينٍ}فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضّلال ؟

وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إمّا أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإمّا أن تكون أشدّ منها قسوةً.

قال ابن جريرٍ: ومعنى ذلك على هذا التّأويل: فبعضها كالحجارة قسوةً، وبعضها أشدّ قسوةً من الحجارة. وقد رجّحه ابن جريرٍ مع توجيه غيره.

قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيهًا بقوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}[البقرة: 17] مع قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} [البقرة:19] وكقوله: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ} [النّور: 39] مع قوله: {أو كظلماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ}[النّور: 40]، الآية أي: إنّ منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، واللّه أعلم.

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن أيّوب، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن أبي الثّلج، حدّثنا عليّ بن حفصٍ، حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن حاطبٍ، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة القلب، وإنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي».

رواه التّرمذيّ في كتاب الزّهد من جامعه، عن محمّد بن عبد اللّه بن أبي الثّلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجهٍ آخر عن إبراهيم بن عبد اللّه بن الحارث بن حاطبٍ، به، وقال: غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديث إبراهيم.

[وروى البزّار عن أنسٍ مرفوعًا: «أربعٌ من الشّقاء: جمود العين، وقسيّ القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا» ] ). [تفسير ابن كثير: 1 / 304 -306]


* للاستزادة ينظر: هنا