1 Sep 2014
تفسير قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم} وقرأ الحسن: (لا تقولوا راعنًا) بالتنوين، والذي عليه الناس {راعنا} غير منون، وقد قيل في {راعنا} بغير تنوين ثلاثة أقوال:
1- قال بعضهم: {راعنا}: ارعنا سمعك، وقيل: كان المسلمون يقولون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: راعنا، وكانت اليهود تتسابّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوسهم، فلما سمعوا هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سبّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره شيء، فأظهر اللّه النبي -صلى الله عليه وسلم-, والمسلمين على ذلك, ونهى عن هذه الكلمة.
2- وقال قوم: {لا تقولوا راعنا}: من المراعاة والمكافأة، فأمروا أن يخاطبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتقدير, والتوقير، فقيل لهم: {لا تقولوا راعنا} أي: كافنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، {وقولوا انظرنا} أي: أمهلنا، {واسمعوا} كأنه قيل لهم: استمعوا.
3- وقال قوم: إن {راعنا} كلمة تجري على الهزء والسخرية، فنهي المسلمون أن يتلفظوا بها بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- , وأما قراءة الحسن: (راعنًا) فالمعنى فيه: لا تقولوا حمقاً من الرعونة). [معاني القرآن: 1/ 188]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ
جمهور الناس «راعنا» من المراعاة بمعنى فاعلنا، أي: أرعنا نرعك، وفي هذا
جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده وتعزيره
وتوقيره، فقال من ذهب إلى هذا المعنى: إن الله تعالى نهى المؤمنين عنه لهذه
العلة، ولا مدخل لليهود في هذه الآية على هذا التأويل، بل هو نهي عن كل
مخاطبة فيها استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم. تفسير
قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما
يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من
ربّكم واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}المعنى: ولا من المشركين، الذين كفروا من أهل الكتاب: اليهود، والمشركون في هذا الوضع عبدة الأوثان. {أن ينزّل عليكم من خير من ربّكم}
ويقرأ (أن يُنْزِل) عليكم بالتخفيف, والتثقيل جميعاً, ويجوز في العربية
(أن يَنْزِلَ عليكم)، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه الثالث إذ كان لم يقرأ
به أحد من القراء المشتهرين. وموضع {من خير} رفع,
المعنى: ما يود الذين كفروا والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم، ولو كان
هذا في الكلام لجاز (ولا المشركون)، ولكن المصحف لا يخالف، والأجود ما ثبت
في المصحف أيضا، ودخول (من) ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في: (ما
جاءني من أحد)، و(ما جاءني أحد). وقوله عزّ وجلّ: {واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم} أي: يختص بنبوته من يشاء من أخبر عزّ وجلّ أنه مختار).[معاني القرآن: 1/ 188-189]
وقالت طائفة: هي
لغة كانت الأنصار تقولها، فقالها رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي -صلى الله
عليه وسلم- ليّا بلسانه وطعنا كما كان يقول: اسمع غير مسمع، فنهى الله
المؤمنين أن تقال هذه اللفظة.
قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: ووقف هذه اللغة على الأنصار تقصير، بل هي لغة لجميع العرب
فاعل من المراعاة. فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة، يظهرون أنهم يريدون
المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل،
وحكى المهدوي عن
قوم أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحا وليس في هذه
الآية شروط النسخ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا.
وقرأ الحسن بن أبي
الحسن وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة «راعنا» بالتنوين، وهذه من معنى
الجهل، وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن
القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون
إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين،
وفي مصحف ابن
مسعود «راعونا»، وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي -صلى الله عليه
وسلم- كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا
من الرعونة.
و(انظرنا) مضمومة
الألف والظاء معناها: انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا
من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- على
المعنيين،
والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود،
وقرأ الأعمش وغيره «أنظرنا» بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى: أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.
ولما نهى الله
تعالى في هذه الآية وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، واعلم أن
لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما، وهو المؤلم، و(اسمعوا) معطوف على (قولوا)
لا على معمولها). [المحرر الوجيز: 1/ 306-307]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين
عذابٌ أليمٌ (104) ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن
ينزل عليكم من خيرٍ من ربّكم واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل
العظيم (105)}
نهى اللّه تعالى
المؤمنين أن يتشبّهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أنّ اليهود كانوا
يعانون من الكلام ما فيه توريةٌ لما يقصدونه من التّنقيص -عليهم لعائن
اللّه- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون بالرّعونة،
كما قال تعالى: {من الّذين هادوا
يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمعٍ وراعنا
ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدّين ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع
وانظرنا لكان خيرًا لهم وأقوم ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلا
قليلا}[النّساء: 46]
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنّهم كانوا إذا سلّموا إنّما
يقولون: السام عليكم. والسّام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نردّ عليهم بـ
"وعليكم". وإنّما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
والغرض: أنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا. فقال: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليمٌ}.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا عبد الرّحمن بن ثابتٍ، حدّثنا حسّان بن عطيّة،
عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر، رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم:
«بعثت بين يدي
السّاعة بالسّيف، حتّى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ
رمحي، وجعلت الذّلّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبّه بقومٍ فهو منهم».
وروى أبو داود، عن عثمان بن أبي شيبة، عن أبي النّضر هاشم بن القاسم، به:
«من تشبّه بقومٍ فهو منهم».
ففيه دلالةٌ على
النّهي الشّديد والتّهديد والوعيد، على التّشبّه بالكفّار في أقوالهم
وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع
لنا ولا نقرر عليها.
وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا عبد اللّه بن المبارك،
حدّثنا مسعر، عن معن وعون -أو أحدهما- أنّ رجلًا أتى عبد اللّه بن مسعودٍ،
فقال: اعهد إليّ. فقال:
«إذا سمعت اللّه يقول{يا أيّها الّذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنّه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه».
وقال الأعمش، عن خيثمة، قال:
«ما تقرؤون في القرآن:{يا أيّها الّذين آمنوا}فإنّه في التّوراة: "يا أيّها المساكين"».
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ:
«{راعنا}أي: أرعنا سمعك».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا} قال:
«كانوا يقولون للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أرعنا سمعك. وإنّما{راعنا}كقولك: عاطنا».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن أبي العالية، وأبي مالكٍ، والرّبيع بن أنسٍ، وعطيّة العوفيّ، وقتادة، نحو ذلك.
وقال مجاهدٌ:
«{لا تقولوا راعنا} لا تقولوا خلافًا». وفي روايةٍ: «لا تقولوا: اسمع منّا ونسمع منك».
وقال عطاءٌ:
«{لا تقولوا راعنا}كانت لغة تقولها الأنصار، فنهى اللّه عنها».
وقال الحسن: {لا تقولوا راعنا} قال:
«الرّاعن من القول السّخريّ منه. نهاهم اللّه أن يسخروا من قول محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما يدعوهم إليه من الإسلام».
وكذا روي عن ابن جريج أنّه قال مثله.
وقال أبو صخرٍ: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} قال:
«كان رسول اللّه
-صلّى اللّه عليه وسلّم-، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجةٌ من المؤمنين،
فيقول: أرعنا سمعك. فأعظم اللّه رسوله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أن يقال ذلك
له».
وقال السّدّيّ:
«كان رجلٌ من
اليهود من بني قينقاع، يدعى رفاعة بن زيدٍ يأتي النّبيّ -صلّى اللّه عليه
وسلّم-، فإذا لقيه فكلّمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. وكان المسلمون
يحسبون أنّ الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناسٌ منهم يقولون: اسمع غير
مسمعٍ: غير صاغرٍ. وهي كالتي في سورة النّساء. فتقدّم اللّه إلى المؤمنين
أن لا يقولوا: راعنا».
وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، بنحوٍ من هذا.
قال ابن جريرٍ:
والصّواب من القول في ذلك عندنا: أنّ اللّه نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: راعنا؛ لأنّها كلمةٌ كرهها اللّه تعالى أن يقولها
لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نظير الذي ذكر عن النّبيّ قال:
«لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبلة». و«لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي». وما أشبه ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 373-375]
التقدير: ولا من المشركين.
وعم الذين كفروا
ثم بيّن أجناسهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان ليبين في الألف واللام
في (الّذين) أنها ليست للعهد يراد بها معين،
ومعنى الآية أن ما
أمرناكم به من أن تعظموا نبيكم خير من الله منحكم إياه، وذلك لا يودّه
الكفار. ثم يتناول اللفظ كل خير غير هذا، و(أن) مع الفعل بتأويل المصدر،
و(من) زائدة في
قول بعضهم. ولما كان ود نزول الخير منتفيا، قام ذلك مقام الجحد الذي يلزم
أن يتقدم (من) الزائدة على قول سيبويه والخليل. وأما الأخفش فيجيز زيادتها
في الواجب،
وقال قوم: (من)
للتبعيض لأنهم يريدون أن لا ينزل على المؤمنين من الخير قليل ولا كثير، ولو
زال معنى التبعيض لساغ لقائل أن يقول: نريد أن لا ينزل خير كامل ولا نكره
أن ينزل بعض، فإذا نفي ود نزول البعض فذلك أحرى في نزول خير كامل،
والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا،
وقال قوم: الرحمة هي القرآن،
وقال قوم: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
وهذه أجزاء الرحمة العامة التي في لفظ الآية). [المحرر الوجيز: 1/ 307-308]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خيرٍ من ربّكم}
يبيّن بذلك تعالى شدّة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الّذين
حذّر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودّة بينهم وبينهم.
وينبّه تعالى على
ما أنعم به على المؤمنين من الشّرع التّامّ الكامل، الذي شرعه لنبيّهم
محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، حيث يقول تعالى: {واللّه يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}). [تفسير ابن كثير: 1/ 375]
* للاستزادة ينظر: هنا