1 Sep 2014
تفسير قوله
تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ
اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} يعني به: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي جاء به مصدّق التوراة والإنجيل،
{ولمّا} يقع بها الشيء لوقوع غيره {مصدّق} رفع صفة لرسول؛ لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاً؛ لأن {رسول} قد وصف بقوله {من عند اللّه}, فلذلك صار النصب يحسن،
وموضع "ما" في {مصدّق لما معهم} جر بلام الإضافة، و "مع" صلة لها، والناصب لـ"مع" الاستقرار, المعنى: لما استقر معهم.
وقوله عزّ وجلّ: {نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم}
{الّذين أوتوا الكتاب} يعني به: اليهود، و"الكتاب" هنا: التوراة, و{كتاب اللّه وراء ظهورهم} فيه قولان:
جائز أن يكون: القرآن,
وجائز أن يكون: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزّ وجلّ: {كأنّهم لا يعلمون} أعلم أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم, وأعلم أنّهم نبذوا كتاب اللّه). [معاني القرآن: 1/ 182]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه}، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، و(ما معهم) هو التوراة، و(مصدّقٌ) نعت لـ(رسولٌ)، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب، و(لمّا) يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها (نبذ) الذي يجيء، والكتاب الذي أوتوه: التوراة، وكتاب اللّه مفعول بـ(نبذ)،
- والمراد: القرآن، لأن التكذيب به نبذ،
- وقيل: المراد: التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ،
و(وراء ظهورهم) مثل لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ....... بظهر فلا يعيى عليّ جوابها
و(كأنّهم لا يعلمون) تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم). [المحرر الوجيز: 1/ 297]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون}
أي: اطّرح طائفةٌ منهم كتاب اللّه الذي بأيديهم، ممّا فيه البشارة بمحمّدٍ
صلّى اللّه عليه وسلّم وراء ظهورهم، أي: تركوها، كأنّهم لا يعلمون ما
فيها، وأقبلوا على تعلّم السّحر واتّباعه.
ولهذا أرادوا كيدًا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسحروه في مشط
ومشاقة وجفّ طلعة ذكر، تحت راعوثة بئر ذي أروان. وكان الذي تولّى ذلك منهم
رجلٌ يقال له: لبيد بن الأعصم -لعنه اللّه- فأطلع اللّه على ذلك رسوله صلّى
اللّه عليه وسلّم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصّحيحين عن
عائشة أمّ المؤمنين -رضي اللّه عنها- كما سيأتي بيانه.
قال السّدّيّ: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم} قال: «لمّا
جاءهم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم عارضوه بالتّوراة فخاصموه بها،
فاتّفقت التّوراة والقرآن، فنبذوا التّوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت
وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قوله: {كأنّهم لا يعلمون}».
وقال قتادة في قوله: {كأنّهم لا يعلمون} قال:«إنّ القوم كانوا يعلمون، ولكنّهم نبذوا علمهم، وكتموه وجحدوا به»). [تفسير ابن كثير: 1/ 345]
تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر, فلبهت اليهود وكذبهم, ادعوا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان, وأنه اسم الله الأعظم، يتكسّبون بذلك، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم رفضوا كتابه, واتبعوا السحر،
ومعنى {على ملك سليمان}: على عهد ملك سليمان عليهم, فبرأ اللّه عزّ وجلّ سليمان من السحر، وأظهر محمداً صلى الله عليه وسلم على كذبهم.
وقال: {وما كفر سليمان} لأن اللّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً, فبرّأه منه، وأعلم أن الشياطين كفروا, فقال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}، فمن شدد {لكنّ} نصب الشياطين، ومن خفف رفع فقال: (وَلَكِنِ الشياطينُ كفروا), وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وقد قرئ (على المِلَكَيْنِ)، و{المَلَكَيْنِ} أثبت في الرواية والتفسير جميعاً,
المعنى: يعلمون الناس السحر, ويعلمون ما أنزل على الملكين، فموضع {ما} نصب، نسق على {السحر}،
وجائز أن يكون: واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين, واتبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون (ما) الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله: {وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر} فيه غير قول:
أحدها -وهو أثبتها-: أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر, و"علمت"، و"أعلمت" جميعاً في اللغة بمعنى واحد, كانا يعلمان نبأ السحر, ويأمران باجتنابه, وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما القذف؟ لوجب أن يوقف, ويعلّم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس, وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا يكون على هذا التأويل: تعلم السحر كفراً, إنما يكون العمل به كفرا، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قول آخر جائز: أن يكون اللّه عزّ وجلّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلّمه كافراً, وبترك تعلمه مؤمناً؛ لأن السحر قد كان كثر, وكان في كل أمة، والدليل على ذلك: أن فرعون فزع في أمر موسى صلى الله عليه وسلم إلى السحر, فقال: {ائتوني بكل ساحر عليم}, وهذا ممكن أن يمتحن اللّه به كما امتحن بالنهر في قوله: {إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده}.
وقد قيل: إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به, ولا أتى به سليمان عليه السلام, فقال قوم: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}, فيكون "ما" جحدا، ويكون "هاروت" و"ماروت" من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم -على مذهب هؤلاء-: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهما -على مذهب هؤلاء-: {إنّما نحن فتنة فلا تكفر} كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا ترد ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل, وأشبه بالحق عند كثير من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاء في قصّة الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به.
وإنما نذكر -مع الإعراب- المعنى والتفسير؛ لأن كتاب اللّه ينبغي أن يتبين؛ ألا ترى أن اللّه يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن}, فحضضنا على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللّه أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية, إن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم, وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر إلا إنّه يفرق به بين المرء وزوجه, فهو من باب السحر في التحريم, وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزّ وجلّ: {فيتعلّمون منهما} ليس {يتعلّمون} بجواب لقوله {فلا تكفر}, وقد قال أصحاب النحو في هذا قولين:
قال بعضهم: إن قوله {يتعلمون} عطف على قوله: {يعلّمون}, وهذا خطأ، لأن قوله {منهما} دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة,
وقيل: {فيتعلّمون} عطف على ما يوجبه معنى الكلام، المعنى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} فلا تتعلم, ولا تعمل بالسحر، فيأبون, فيتعلمون، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا: أن يكون عطفاً على {يعلمان}, {فيتعلمون}, واستغنى عن ذكر {يعلمان} بما في الكلام من الدليل عليه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله}؛ "الإذن" هنا لا يكون الأمر من الله عزّ وجلّ، {إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء}, ولكن المعنى: إلا بعلم الله.
وقوله عزّ وجلّ: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} المعنى: أنّه يضرهم في الآخرة, وإن تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}؛ "الخلاق": النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك: الذين يعلمون السحر؛ لأنهم كانوا من علماء اليهود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فيه قولان:
قالوا: {لو كانوا يعلمون} يعني به: الذين يعلمون السحر, والذين علموا أن العالم به لا خلاق له: هم المعلمون.
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يكون {لو كانوا يعلمون} راجعاً إلى هؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة, أي: لمن علّم السحر, ولكن قيل: {لو كانوا يعلمون}وأي: لو كان علمهم ينفعهم, لسمّوا عالمين، ولكنّ علمهم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم: {لو كانوا يعلمون} أي: ليس يوفون العلم حقه؛ لأنّ العالم إذا ترك العمل بعلمه , قيل له: لست بعالم, ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في {لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} قولين:
جعل بعضهم "من" بمعنى الشرط، وجعل الجواب: {ما له في الآخرة من خلاق}، وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق, كما تقول: واللّه لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل.
فأمّا دخول اللام في الجزاء في غير هذا الموضع, وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الّذين كفروا}, ونحو {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك}, فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة؛ لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم, فأجيبت بجوابه, وهذا خطأ؛ لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعلاماً أنّ الجملة بكمالها معقودة للقسم؛ لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه , فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام). [معاني القرآن: 1/ 182-187]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} الآية، يعني اليهود،
قال ابن زيد والسدي: «المراد من كان في عهد سليمان»،
وقال ابن عباس: «المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم»،
وقيل: الجميع،
و(تتلوا) قال عطاء:«معناه: تقرأ من التلاوة»،
وقال ابن عباس:«تتلو: تتبع»، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا،
وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون: المعنى ما كانت تتلو،
وقرأ الحسن والضحاك: «الشياطون» بالواو.
وقوله: {على ملك سليمان} أي: على عهد ملك سليمان،
وقيل: المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره،
وقال الطبري: اتّبعوا بمعنى فضلوا، وعلى ملك سليمان أي: على شرعه ونبوته وحاله،
والذي تلته الشياطين:
- قيل: إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات؛ قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان،
- وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليما فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم،
- وقيل: إن سليمان -عليه السلام- كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان،
- وقيل: إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته،
- وقيل: إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه،
- وقيل: إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات؛ قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم،
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء، قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا.
وقوله تعالى: {وما كفر سليمان} تبرئة من الله تعالى لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر،
والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفرا، ولا يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء: يعاقب ولا يقتل،
واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل، وقال مالك: لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه،
وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطين»،
قال بعض الكوفيين: التشديد أحب إليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو،
وقال أبو علي: ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت،
وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان،
والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل،
والسّحر مفعول ثان بـ(يعلّمون)، وموضع (يعلّمون) نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.
وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} (ما) عطف على (السّحر) فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتبعه ويؤمن من تركه،
- أو على قول مجاهد وغيره: «إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر»،
- أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه،
وقيل: إن (ما) عطف على (ما) في قوله: {ما تتلوا}،
وقيل: (ما) نافية، رد على قوله: {وما كفر سليمان}، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك،
وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملكين» بكسر اللام،
وقال ابن أبزى: «هما داود وسليمان»، وعلى هذا القول أيضا فـ(ما) نافية،
وقال الحسن: «هما علجان كانا ببابل ملكين»، فـ(ما) على هذا القول غير نافية،
وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال: هما هاروت وماروت، فهذا كقول الحسن.
و«بابل» لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟
- فقال قوم: هي بالعراق وما والاه،
- وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: «أنتم بين الحيرة وبابل»،
- وقال قتادة: «هي من نصيبين إلى رأس العين»،
- وقال قوم: هي بالمغرب. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف،
- وقال قوم: هي جبل دماوند،
وهاروت وماروت بدل من الملكين على قول من قال: هما ملكان،
ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل هاروت وماروت بدلا من الشّياطين في قوله: {ولكنّ الشّياطين}، وقال: هما شيطانان،
ويجيء (يعلّمون) إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس،
ومن قال كانا علجين قال: هاروت وماروت بدل من قوله: {الملكين}،
وقيل: هما بدل من النّاس في قوله: {يعلّمون النّاس}،
وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع، ووجهه البدل من الشّياطين في قوله: {تتلوا الشّياطين}، أو من الشّياطين الثاني على قراءة من خفف «لكن» ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره: هما هاروت وماروت.
وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن عمر رضي الله عنهما،
وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا له: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.
قوله عز وجل: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون (103) يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليمٌ (104)}
- ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن (يعلّمان) بمعنى: يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير:
تعلّم رسول الله أنّك مدركي ....... وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد
وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه،
- وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه،
و«لا تكفر»:
- قالت فرقة: بتعلم السحر،
- وقالت فرقة: باستعماله،
وحكى المهدوي أن قولهما: (إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر) استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله،
و(من) في قوله: {من أحدٍ} زائدة بعد النفي.
وقوله تعالى:{فيتعلّمون}
- قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون،
- وقيل: هو معطوف على قوله: {يعلّمون النّاس}، ومنعه الزجاج،
- وقيل: هو معطوف على موضع و(ما يعلّمان)، لأن قوله: {وما يعلّمان} وإن دخلت عليه (ما) النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم،
- وقيل: التقدير: فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج،
والضمير في (يعلّمان) هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم،
والضمير في (منهما):
- قيل: هو عائد عليهما،
- وقيل: على السّحر وعلى الذي أنزل على الملكين،
و(يفرّقون):
- معناه: فرقة العصمة،
- وقيل: معناه: يؤخّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضا فرقة.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المرء» براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي «المرء» بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس «المرء» بفتح الميم وهمزة،
والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة، قال الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ....... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقرأ الجمهور «بضارين به»، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد» فقيل: حذفت النون تخفيفا، وقيل: حذفت للإضافة إلى أحدٍ وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور،
و(بإذن اللّه) معناه: بعلمه وتمكينه، و(يضرّهم) معناه: في الآخرة و(لا ينفعهم) فيها أيضا، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة،
والضمير في (علموا) عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة،
- وقيل: على الشّياطين،
- وقيل: على الملكين وهما جمع،
وقال: (اشتراه) لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق: النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى: الجاه والقدر، واللام في قوله: {لمن} المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في «بئسما»،
وشروا معناه: باعوا، وقد تقدم مثله،
والضمير في (يعلّمون) عائد على بني إسرائيل باتفاق،
ومن قال إن الضمير في (علموا) عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي: لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون،
ومن قال إن الضمير في (علموا) عائد على الشّياطين أو على الملكين قال: إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة،
وقال مكي: الضمير في (علموا) لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله: {لو كانوا يعلمون} للمتعلمين منهم). [المحرر الوجيز: 1/ 297-305]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}: «وكان
حين ذهب ملك سليمان ارتدّ فئامٌ من الجنّ والإنس واتّبعوا الشّهوات، فلمّا
رجع الله إلى سليمان ملكه، وقام النّاس على الدّين كما كان أوان سليمان،
ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيّه، وتوفّي سليمان -عليه السّلام- حدثان ذلك،
فظهر الإنس والجنّ على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتابٌ من اللّه
نزل على سليمان وأخفاه عنّا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل اللّه: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} واتّبعوا الشّهوات، [أي]: التي كانت [تتلو الشّياطين] وهي المعازف واللّعب وكلّ شيءٍ يصدّ عن ذكر اللّه». وقد
ذكر الوزير أبو المظفّر يحيى بن هبيرة بن محمّد بن هبيرة في كتابه:
"الإشراف على مذاهب الأشراف" بابًا في السّحر، فقال: أجمعوا على أنّ السّحر
له حقيقةٌ إلّا أبا حنيفة، فإنّه قال: لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن
يتعلّم السّحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد: يكفر بذلك. ومن
أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلّمه ليتّقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن
تعلّمه معتقدًا جوازه أو أنّه ينفعه كفر. وكذا من اعتقد أنّ الشّياطين تفعل
له ما يشاء فهو كافرٌ. وقال الشّافعيّ، رحمه اللّه: إذا تعلّم السّحر قلنا
له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من
التّقرّب إلى الكواكب السّبعة، وأنّها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافرٌ. وإن
كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافرٌ. تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند اللّه خير لو كانوا يعلمون} "مثوبة" في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: "لأثيبوا", ومعنى الكلام: أن ثواب اللّه خير لهم من كسبهم بالكفر والسحر. وقوله عزّ وجلّ: {لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا يعملون بعلمهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل).[معاني القرآن: 1/ 187] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولو أنّهم آمنوا} موضع «أن» رفع، المعنى: لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر، و(لو) تقتضي جوابا، فقالت فرقة: جوابها (لمثوبةٌ)، لأنها مصدر يقع للمضي والاستقبال، وجواب (لو) لا يكون إلا ماضيا أو بمعناه، وقال الأخفش: لا جواب لـ(لو) في هذه الآية مظهرا ولكنه مقدر، أي: لو آمنوا لأثيبوا. وقرأ
قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر
أيضا كمشورة ومشورة، و(مثوبة) رفع بالابتداء و(خيرٌ) خبره والجملة خبر إن، والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى: الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح، وقال قوم: معناه لرجعة إلى الله، من ثاب يثوب إذا رجع، واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها، وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون}يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علما ينفع). [المحرر الوجيز: 1/ 305-306]
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس، قال: «كان
آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كلّ شيءٍ بأمر
سليمان ويدفنه تحت كرسيّه، فلمّا مات سليمان أخرجه الشّياطين، فكتبوا بين
كلّ سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها».
قال: «فأكفره جهّال النّاس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهّالهم يسبّونه، حتّى أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني أبو السّائب سلم
بن جنادة السّوائيّ، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا عن الأعمش، عن المنهال، عن
سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان
سليمان -عليه السّلام- إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه،
أعطى الجرادة -وهي امرأةٌ-خاتمه. فلمّا أراد اللّه أن يبتلي سليمان -عليه
السّلام- بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يومٍ خاتمه، فجاء الشّيطان في
صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلمّا لبسه دانت له
الشّياطين والجنّ والإنس».
قال:«فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذّبت، لست سليمان».
قال: «فعرف سليمان أنّه بلاءٌ ابتلي به».
قال:«فانطلقت
الشّياطين فكتبت في تلك الأيّام كتبًا فيها سحرٌ وكفرٌ. ثمّ دفنوها تحت
كرسيّ سليمان، ثمّ أخرجوها وقرؤوها على النّاس، وقالوا: إنّما كان سليمان
يغلب النّاس بهذه الكتب».
قال: «فبرئ النّاس من سليمان -عليه السّلام- وأكفروه حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأنزل عليه: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ،
حدّثنا جريرٌ، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمران -وهو ابن الحارث-، قال:
بينا نحن عند ابن عبّاسٍ -رضي اللّه عنهما- إذ جاء رجلٌ فقال له: «من أين جئت؟»، قال: من العراق. قال: «من أيّه؟»، قال: من الكوفة. قال: «فما الخبر؟»، قال: تركتهم يتحدّثون أنّ عليًّا خارجٌ إليهم. ففزع ثمّ قال: «ما
تقول؟ لا أبًا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما إنّي
سأحدّثكم عن ذلك: إنّه كانت الشّياطين يسترقون السّمع من السّماء، فيجيء
أحدهم بكلمة حقٍّ قد سمعها، فإذا جرّب منه صدقٌ كذب معها سبعين كذبة»،
قال: «فتشربها
قلوب النّاس. فأطلع اللّه عليها سليمان -عليه السّلام- فدفنها تحت كرسيّه.
فلمّا توفّي سليمان -عليه السّلام- قام شيطان الطّريق، فقال: أفلا أدلّكم
على كنزه الممنّع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسيّ. فأخرجوه، فقالوا هذا
سحره فتناسخا الأمم -حتّى بقاياها ما يتحدّث به أهل العراق- وأنزل اللّه
عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريّا العنبري، عن محمّد بن عبد السّلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جريرٍ، به.
وقال السّدّيّ في قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: «أي: على عهد سليمان».
قال: «كانت
الشّياطين تصعد إلى السّماء، فتقعد منها مقاعد للسّمع، فيستمعون من كلام
الملائكة ممّا يكون في الأرض من موتٍ أو غيبٍ أو أمرٍ، فيأتون الكهنة
فيخبرونهم. فتحدّث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا. حتّى إذا أمنتهم الكهنة
كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كلّ كلمةٍ سبعين كلمةً، فاكتتب
الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب.
فبعث سليمان في النّاس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوقٍ. ثمّ دفنها تحت
كرسيّه. ولم يكن أحدٌ من الشّياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلّا احترق.
وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أنّ الشّياطين يعلمون الغيب إلّا ضربت عنقه.
فلمّا مات سليمان، عليه السّلام، وذهبت العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر
سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف تمثّل شيطانٌ في صورة إنسانٍ، ثمّ أتى نفرًا
من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلّكم على كنزٍ لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا:
نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسيّ. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام ناحيةً،
فقالوا له: فادن. قال: لا ولكنّني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني.
فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلمّا أخرجوها قال الشّيطان: إنّ سليمان إنّما
كان يضبط الإنس والشّياطين والطّير بهذا السّحر. ثمّ طار وذهب. وفشا في
الناس أن سليمان كان ساحرًا. واتّخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلمّا جاء
محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم خاصموه بها ؛ فذلك حين يقول اللّه تعالى:{وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال الرّبيع بن أنسٍ: «إنّ
اليهود سألوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم زمانًا عن أمورٍ من التّوراة،
لا يسألونه عن شيءٍ من ذلك إلّا أنزل اللّه تعالى عليه ما سألوه عنه،
فيخصمهم، فلمّا رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل اللّه إلينا منّا.
وإنّهم سألوه عن السّحر وخاصموه به، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} وإنّ
الشّياطين عمدوا إلى كتابٍ فكتبوا فيه السّحر والكهانة وما شاء اللّه من
ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان [سليمان] عليه السّلام، لا يعلم الغيب.
فلمّا فارق سليمان الدّنيا استخرجوا ذلك السّحر وخدعوا النّاس، وقالوا: هذا
علمٌ كان سليمان يكتمه ويحسد النّاس عليه. فأخبرهم النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض اللّه حجّتهم».
وقال مجاهدٌ في قوله: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} قال: «كانت
الشّياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمةٍ [إلّا] زادوا فيها مائتين
مثلها. فأرسل سليمان -عليه السّلام- إلى ما كتبوا من ذلك. فلمّا توفّي
سليمان وجدته الشّياطين فعلّمته النّاس [به] وهو السّحر».
وقال سعيد بن جبيرٍ: «كان
سليمان -عليه السّلام- يتتبّع ما في أيدي الشّياطين من السّحر فيأخذه
منهم، فيدفنه تحت كرسيّه في بيت خزانته، فلم يقدر الشّياطين أن يصلوا إليه،
فدبّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به
الشّياطين والرّياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنّه في بيت خزانته وتحت
كرسيّه. فاستثار به الإنس واستخرجوه فعملوا بها. فقال أهل الحجا: كان
سليمان يعمل بهذا وهذا سحرٌ. فأنزل اللّه تعالى على [لسان] نبيّه محمّدٍ
صلّى اللّه عليه وسلّم براءة سليمان عليه السّلام، فقال: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: «عمدت
الشّياطين حين عرفت موت سليمان بن داود -عليه السّلام- فكتبوا أصناف
السّحر: "من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتّى إذا صنّفوا
أصناف السّحر جعلوه في كتابٍ. ثمّ ختموا بخاتمٍ على نقش خاتم سليمان،
وكتبوا في عنوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصّديق للملك سليمان بن داود
-عليهما السّلام- من ذخائر كنوز العلم". ثمّ دفنوه تحت كرسيّه واستخرجته
بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتّى أحدثوا ما أحدثوا. فلمّا عثروا عليه قالوا:
واللّه ما كان سليمان بن داود إلّا بهذا. فأفشوا السّحر في النّاس
[وتعلّموه وعلّموه]. وليس هو في أحدٍ أكثر منه في اليهود لعنهم اللّه.
فلمّا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما نزل عليه من اللّه،
سليمان بن داود، وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من
يهود: ألا تعجبون من محمّدٍ! يزعم أنّ ابن داود كان نبيًّا، واللّه ما كان
إلّا ساحرًا. وأنزل اللّه [في] ذلك من قولهم:{واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}الآية».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا حسينٌ، حدّثنا الحجّاج عن أبي بكرٍ، عن شهر بن حوشب، قال: «لمّا
سلب سليمان -عليه السّلام- ملكه، كانت الشّياطين تكتب السّحر في غيبة
سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشّمس، وليقل كذا وكذا
ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشّمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت
عنوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] من ذخائر كنوز
العلم". ثمّ دفنته تحت كرسيّه. فلمّا مات سليمان -عليه السّلام- قام إبليس
-لعنه اللّه- خطيبًا، [ثمّ] قال: يا أيّها النّاس، إنّ سليمان لم يكن
نبيًّا، إنّما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثمّ دلّهم على
المكان الذي دفن فيه. فقالوا: واللّه لقد كان سليمان ساحرًا! هذا سحره،
بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًّا مؤمنًا. فلمّا بعث
اللّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جعل يذكر الأنبياء حتّى ذكر داود
وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم اللّه] انظروا إلى محمّدٍ يخلط الحقّ
بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنّما كان ساحرًا يركب الرّيح، فأنزل
اللّه تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}الآية».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى الصّنعانيّ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال:«أخذ
سليمان -عليه السّلام- من كلّ دابّةٍ عهدًا، فإذا أصيب رجلٌ فسأل بذلك
العهد، خلّى عنه. فزاد النّاس السّجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به سليمان.
فقال اللّه تعالى: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عصام بن روّاد، حدّثنا آدم، حدّثنا المسعوديّ، عن زيادٍ مولى ابن مصعبٍ، عن الحسن: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين} قال:«ثلث الشّعر، وثلث السّحر، وثلث الكهانة».
وقال: حدّثنا الحسن بن أحمد، حدّثنا
إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن
عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن: «{واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} واتّبعته اليهود على ملكه. وكان السّحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنّه إنّما اتّبع على ملك سليمان».
فهذه نبذةٌ من أقوال أئمّة السّلف في
هذا المقام، ولا يخفى ملخّص القصّة والجمع بين أطرافها، وأنّه لا تعارض بين
السّياقات على اللّبيب الفهم، واللّه الهادي.
وقوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} أي:
واتّبعت اليهود -الّذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب اللّه الذي
بأيديهم ومخالفتهم الرّسول محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم- ما تتلوه
الشّياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشّياطين على ملك سليمان. وعدّاه
بعلى؛ لأنّه تضمّن تتلو: تكذب. وقال ابن جريرٍ: "على" هاهنا بمعنى "في"،
أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جريج، وابن إسحاق.
قلت: والتّضمّن أحسن وأولى، واللّه أعلم.
وقول الحسن البصريّ، رحمه اللّه: «قد كان السّحر قبل زمان سليمان بن داود» صحيحٌ لا شكّ فيه؛ لأنّ السّحرة كانوا في زمان موسى -عليه السّلام- وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اللّه} الآية [البقرة: 246]، ثمّ ذكر القصّة بعدها، وفيها: {وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة}[البقرة: 251]. وقال قوم صالحٍ -وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام- لنبيّهم صالحٍ: {إنّما أنت من المسحّرين}[الشّعراء: 153] أي: [من] المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: {وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا
إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} اختلف النّاس في هذا المقام،
فذهب بعضهم إلى أنّ "ما" نافيةٌ، أعني التي في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال القرطبيّ: "ما" نافيةٌ ومعطوفةٌ على قوله: {وما كفر سليمان}، ثمّ قال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل} أي: السّحر {على الملكين} وذلك أنّ اليهود -لعنهم اللّه- كانوا يزعمون أنّه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم اللّه في ذلك وجعل قوله: {هاروت وماروت} بدلًا من: {الشّياطين}، قال: وصحّ ذلك، إمّا لأنّ الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: {فإن كان له إخوةٌ} [النّساء: 11]
أو يكون لهما أتباعٌ، أو ذكرا من بينهم لتمرّدهما، فتقدير الكلام عنده:
تعلّمون النّاس السّحر ببابل، هاروت وماروت. ثمّ قال: وهذا أولى ما حملت
عليه الآية وأصحّ ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جريرٍ بإسناده من طريق العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} يقول: «لم ينزل اللّه السّحر». وبإسناده، عن الرّبيع بن أنسٍ، في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال: «ما أنزل اللّه عليهما السّحر».
قال ابن جريرٍ: فتأويل الآية على هذا:
واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان من السّحر، وما كفر سليمان، ولا
أنزل اللّه السّحر على الملكين، ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس
السّحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: {ببابل هاروت [وماروت]} من المؤخّر الذي معناه المقدّم.
قال: فإن قال لنا قائلٌ: وكيف وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} -"من السّحر"- {وما كفر سليمان} وما أنزل اللّه "السّحر" على الملكين، {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}
ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيًّا بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما
السّلام؛ لأنّ سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أنّ اللّه أنزل السّحر على
لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم اللّه بذلك، وأخبر نبيّه
محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحرٍ، وبرّأ
سليمان، عليه السّلام، ممّا نحلوه من السّحر، وأخبرهم أنّ السّحر من عمل
الشّياطين، وأنّها تعلّم النّاس ذلك ببابل، وأنّ الّذين يعلّمونهم ذلك
رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا
التّأويل ترجمةً عن النّاس، وردًّا عليهم.
هذا لفظه بحروفه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثت عن عبيد اللّه بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة: {وما أنزل على الملكين} قال: «ما أنزل اللّه على جبريل وميكائيل السّحر».
حدّثنا الفضل بن شاذان، حدّثنا محمّد بن
عيسى، حدّثنا يعلى -يعني ابن أسدٍ-، حدّثنا بكرٌ -يعني ابن مصعبٍ-، حدّثنا
الحسن بن أبي جعفرٍ: أنّ عبد الرّحمن بن أبزى كان يقرؤها: "وما أنزل على
الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية: «لم ينزل عليهما السّحر، يقول: علما الإيمان والكفر، فالسّحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشدّ النّهي». رواه ابن أبي حاتمٍ.
ثمّ شرع ابن جريرٍ في ردّ هذا القول،
وأنّ "ما" بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادّعى أنّ هاروت وماروت ملكان
أنزلهما اللّه إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السّحر اختبارًا لعباده
وامتحانًا، بعد أن بيّن لعباده أنّ ذلك ممّا ينهى عنه على ألسنة الرّسل،
وادّعى أنّ هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنّهما امتثلا ما أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريبٌ جدًا! وأغرب منه قول من زعم أنّ هاروت وماروت قبيلان من الجنّ [كما زعمه ابن حزمٍ] !
وروى ابن أبي حاتمٍ بإسناده، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: أنّه كان يقرؤها: {وما أنزل على الملكين} ويقول: «هما علجان من أهل بابل».
ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق، لا بمعنى الإيحاء، في قوله: {وما أنزل على الملكين} كما قال تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ} [الزّمر: 6]، {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ}[الحديد: 25]، {وينزل لكم من السّماء رزقًا}[غافر: 13]. وفي الحديث: «ما أنزل اللّه داءً إلّا أنزل له دواءً». وكما يقال: أنزل اللّه الخير والشّرّ.
[وحكى القرطبيّ عن ابن عبّاسٍ وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم قرؤوا: "وما أنزل على الملكين" بكسر اللّام. قال ابن أبزى: «وهما داود وسليمان». قال القرطبيّ: فعلى هذا تكون "ما" نافيةً أيضًا].
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر}
[و "ما" نافيةٌ] قال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرنا
اللّيث، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم بن محمّدٍ، وسأله رجلٌ عن قول اللّه
تعالى: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} قال الرّجل: يعلّمان النّاس السّحر، ما أنزل عليهما أو يعلّمان النّاس ما لم ينزّل عليهما؟ فقال القاسم: «ما أبالي أيّتهما كانت».
ثمّ روي عن يونس، عن أنس بن عياضٍ، عن بعض أصحابه: أنّ القاسم قال في هذه القصّة: «لا أبالي أيّ ذلك كان، إنّي آمنت به».
وذهب كثيرٌ من السّلف إلى أنّهما كانا
ملكين من السّماء، وأنّهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد
ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء
اللّه تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدّلائل على
عصمة الملائكة أنّ هذين سبق في علم اللّه لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما،
فلا تعارض حينئذٍ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قولٍ: إنّه
كان من الملائكة، لقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى} [طه: 116]، إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على ذلك. مع أنّ شأن هاروت وماروت -على ما ذكر- أخفّ ممّا وقع من إبليس لعنه اللّه.
[وقد حكاه القرطبيّ عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسّدّيّ، والكلبيّ].
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صحّ سنده ورفعه- وبيان الكلام عليه:
قال الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه،
في مسنده: حدّثنا يحيى بن [أبي] بكيرٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، عن موسى بن
جبيرٍ، عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر: أنّه سمع نبيّ اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم يقول:«إنّ آدم -عليه السّلام- لمّا أهبطه اللّه إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}[البقرة: 30]، قالوا:
ربّنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال اللّه تعالى للملائكة: هلموا ملكين من
الملائكة حتّى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا: بربّنا، هاروت
وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزّهرة امرأةً من أحسن البشر،
فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تتكلّما بهذه الكلمة من
الإشراك. فقالا: واللّه لا نشرك باللّه شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثمّ رجعت
بصبيٍّ تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تقتلا هذا الصّبيّ.
فقالا: لا واللّه لا نقتله أبدًا. ثمّ ذهبت فرجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها
نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا، فوقعا عليها،
وقتلا الصّبيّ. فلمّا أفاقا قالت المرأة: واللّه ما تركتما شيئًا أبيتماه
عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة،
فاختارا عذاب الدّنيا».
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكيرٍ، به.
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ورجاله
كلّهم ثقاتٌ من رجال الصّحيحين، إلّا موسى بن جبيرٍ هذا، وهو الأنصاريّ
السّلميّ مولاهم المدينيّ الحذّاء، روى عن ابن عبّاسٍ وأبي أمامة بن سهل بن
حنيفٍ، ونافعٍ، وعبد اللّه بن كعب بن مالكٍ. وروى عنه ابنه عبد السّلام،
وبكر بن مضر، وزهير بن محمّدٍ، وسعيد بن سلمة، وعبد اللّه بن لهيعة، وعمرو
بن الحارث، ويحيى بن أيّوب. وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي
حاتمٍ في كتاب الجرح والتّعديل، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو
مستور الحال وقد تفرّد به عن نافعٍ مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم. وروي له متابعٌ من وجهٍ آخر عن نافعٍ، كما قال ابن
مردويه: حدّثنا دعلج بن أحمد، حدّثنا هشام [بن عليّ بن هشامٍ] حدّثنا عبد
اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا سعيد بن سلمة، حدّثنا موسى بن سرجس، عن نافعٍ، عن
ابن عمر: سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا القاسم،
حدّثنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التّفسير- حدّثنا الفرج بن فضالة،
عن معاوية بن صالحٍ، عن نافعٍ، قال: سافرت مع ابن عمر، فلمّا كان من آخر
اللّيل قال: يا نافع، انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرّتين أو ثلاثًا- ثمّ
قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها ولا أهلًا. قلت: سبحان اللّه! نجمٌ
مسخّرٌ سامعٌ مطيعٌ. قال: ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم -أو قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم-: «إن
الملائكة قالت: يا ربّ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذّنوب؟ قال:
إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا
ملكين منكم».
قال: «فلم يألوا جهدًا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت».
وهذان -أيضًا- غريبان جدًّا. وأقرب ما في
هذا أنّه من رواية عبد اللّه بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم، كما قال عبد الرّزّاق في تفسيره، عن الثّوريّ، عن موسى
بن عقبة، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن كعبٍ، قال: «ذكرت
الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذّنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم
اثنين، فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إنّي أرسل إلى بني آدم رسلًا
وليس بيني وبينكم رسولٌ، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا
الخمر». قال كعبٌ: «فواللّه ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتّى استكملا جميع ما نهيا عنه».
ورواه ابن جريرٍ من طريقين، عن عبد الرّزّاق، به.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أحمد بن عصامٍ، عن مؤمّل، عن سفيان الثّوريّ، به.
ورواه ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني المثنّى،
حدّثنا المعلى -وهو ابن أسدٍ- حدّثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن
عقبة، حدّثني سالمٌ أنّه سمع عبد اللّه يحدّث، عن كعب الأحبار، فذكره.
فهذا أصحّ وأثبت إلى عبد اللّه بن عمر
من الإسنادين المتقدّمين، وسالمٌ أثبت في أبيه من مولاه نافعٍ. فدار الحديث
ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، واللّه أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصّحابة والتّابعين رضي اللّه عنهم أجمعين:
قال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا
الحجّاج حدّثنا حمّادٌ، عن خالدٍ الحذّاء، عن عمير بن سعيدٍ، قال: سمعت
عليًّا -رضي اللّه عنه- يقول: «كانت
الزّهرة امرأةً جميلةً من أهل فارس، وإنّها خاصمت إلى الملكين هاروت
وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلّا أن يعلّماها الكلام الذي إذا
تكلّم [المتكلّم] به يعرج به إلى السّماء. فعلّماها فتكلّمت به فعرجت إلى
السّماء. فمسخت كوكبًا!».
وهذا الإسناد [جيّدٌ و] رجاله ثقاتٌ، وهو غريبٌ جدًّا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الفضل بن
شاذان، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا أبو معاوية،
عن [ابن أبي] خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ، عن عليٍّ قال: «هما ملكان من ملائكة السّماء». يعني: {وما أنزل على الملكين}.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في
تفسيره بسنده، عن مغيثٍ، عن مولاه جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن
عليٍّ -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثمّ رواه من طريقين آخرين، عن جابرٍ، عن أبي الطّفيل، عن عليٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لعن اللّه الزّهرة، فإنّها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت». وهذا أيضًا لا يصحّ وهو منكرٌ جدًّا. واللّه أعلم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى بن إبراهيم،
حدّثنا الحجّاج بن منهال، حدّثنا حمّادٌ، عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي عثمان
النّهديّ، عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ أنّهما قالا جميعًا: «لمّا
كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربّنا لا تهلكهم
فأوحى اللّه إلى الملائكة: إنّي أزلت الشّهوة والشّيطان من قلوبكم، ولو
نزلتم لفعلتم أيضًا».
قال: «فحدّثوا
أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى اللّه إليهم أن اختاروا ملكين من
أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزّهرة إليهما
في صورة امرأةٍ من أهل فارس يسمّونها بيذخت».
قال: «فوقعا بالخطيّة. فكانت الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا: {ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلمًا}[غافر: 7] فلمّا
وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إنّ اللّه هو الغفور الرّحيم.
فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدّنيا».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
عبد اللّه بن جعفرٍ الرّقّيّ، أخبرنا عبيد اللّه -يعني ابن عمرٍو- عن زيد
بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرٍو ويونس بن خبّابٍ، عن مجاهدٍ، قال: كنت
نازلًا على عبد اللّه بن عمر في سفرٍ، فلمّا كان ذات ليلةٍ قال لغلامه: «انظر،
هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلًا ولا حيّاها اللّه هي صاحبة
الملكين. قالت الملائكة: يا ربّ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدّم
الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إنّي ابتليتهم، فعلّ إن
ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال:
فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إنّي مهبطكما
إلى الأرض، وعاهدٌ إليكما ألّا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى
الأرض وألقي عليهما الشّبق، وأهبطت لهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ،
فتعرّضت لهما، فراوداها عن نفسها. فقالت: إنّي على دينٍ لا يصحّ لأحدٍ أن
يأتيني إلّا من كان على مثله. قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسيّة. قالا:
الشّرك! هذا شيءٌ لا نقرّ به. فمكثت عنهما ما شاء اللّه. ثمّ تعرّضت لهما
فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما، غير أنّ لي زوجًا، وأنا أكره أن يطّلع
على هذا منّي فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى
السّماء فعلت. فأقرّا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثمّ صعدا بها إلى
السّماء. فلمّا انتهيا بها إلى السّماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما فوقعا
خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبيٌّ يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم
الجمعة أجيب. فقالا: لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب لنا التّوبة فأتياه،
فقال: رحمكما اللّه كيف يطلب التّوبة أهل الأرض لأهل السّماء! قالا: إنّا
قد ابتلينا. قال: ائتياني يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيءٍ،
ائتياني في الجمعة الثّانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيّرتما، إن
أحببتما معافاة الدّنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدّنيا وأنتما
يوم القيامة على حكم اللّه. فقال أحدهما: إنّ الدّنيا لم يمض منها إلّا
القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إنّي قد أطعتك في الأمر الأوّل فأطعني الآن، إنّ
عذابًا يفنى ليس كعذابٍ يبقى. وإنّنا يوم القيامة على حكم اللّه، فأخاف أن
يعذّبنا. قال: لا إنّي أرجو إن علم اللّه أنّا قد اخترنا عذاب الدّنيا
مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا».
قال: «فاختارا عذاب الدّنيا، فجعلا في بكراتٍ من حديدٍ في قليب مملوءة من نار، عاليهما سافلهما».
وهذا إسنادٌ جيّدٌ إلى عبد اللّه بن
عمر. وقد تقدّم في رواية ابن جريرٍ من حديث معاوية بن صالحٍ، عن نافعٍ، عنه
رفعه. وهذا أثبت وأصحّ إسنادًا. ثمّ هو -واللّه أعلم- من رواية ابن عمر عن
كعبٍ، كما تقدّم بيانه من رواية سالمٍ عن أبيه. وقوله: «إنّ الزّهرة نزلت في صورة امرأةٍ حسناء»، وكذا في المرويّ عن عليٍّ، فيه غرابةٌ جدًّا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا عصام بن روّادٍ، حدّثنا آدم، حدّثنا أبو جعفرٍ، حدّثنا
الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما قال: «لمّا
وقع النّاس من بعد آدم -عليه السّلام- فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر
باللّه، قالت الملائكة في السّماء: يا ربّ، هذا العالم الذي إنّما خلقتهم
لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النّفس وأكل
المال الحرام، والزّنا والسّرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم، ولا
يعذرونهم، فقيل: إنّهم في غيب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من
أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض،
وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما اللّه أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا،
ونهيا عن قتل النّفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزّنا والسّرقة وشرب
الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين النّاس بالحقّ وذلك في زمان إدريس
عليه السّلام. وفي ذلك الزّمان امرأةٌ حسنها في النّساء كحسن الزّهرة في
سائر الكواكب، وأنّهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها
فأبت إلّا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما
صنمًا فقالت: هذا أعبده. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فغبرا ما
شاء اللّه. ثمّ أتيا عليها فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثمّ
أتيا عليها فراوداها على نفسها، فلمّا رأت أنّهما قد أبيا أن يعبدا الصّنم
قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثّلاث: إمّا أن تعبدا هذا الصّنم، وإمّا
أن تقتلا هذه النّفس، وإمّا أن تشربا هذا الخمر. فقالا: كلّ هذا لا ينبغي،
وأهون هذا شرب الخمر. فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن
يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلمّا ذهب عنهما السّكر وعلما ما وقعا فيه من
الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السّماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك،
وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السّماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا
فيه، فعجبوا كلّ العجب، وعرفوا أنّه من كان في غيبٍ فهو أقلّ خشيةً، فجعلوا
بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض}[الشّورى: 5]فقيل
لهما: اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة فقالا أمّا عذاب الدنيا فإنه
ينقطع ويذهب، وأمّا عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدّنيا،
فجعلا ببابل، فهما يعذّبان».
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطوّلًا عن
أبي زكريّا العنبريّ، عن محمّد بن عبد السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن
حكّام بن سلمٍ الرّازيّ، وكان ثقةً، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، به. ثمّ قال:
صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه. فهذا أقرب ما روي في شأنٍ الزّهرة، واللّه
أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مسلمٌ، حدّثنا القاسم بن الفضل الحدّاني حدّثنا يزيد -يعني الفارسيّ-، عن ابن عبّاسٍ [قال:]«أنّ
أهل سماء الدّنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي، فقالوا: يا
ربّ أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال اللّه: أنتم معي، وهم غيّب
عنّي. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثةً، فاختاروا منهم ثلاثةً على أن يهبطوا
إلى الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميّين، فأمروا
ألّا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسًا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثنٍ.
فاستقال منهم واحدٌ، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأةٌ من أحسن
النّاس يقال لها: مناهية. فهوياها جميعًا، ثمّ أتيا منزلها فاجتمعا عندها،
فأراداها فقالت لهما: لا حتّى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني.
فقالا: لا نسجد. ثمّ شربا من الخمر، ثمّ قتلا ثمّ سجدا. فأشرف أهل السّماء
عليهما. فقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما. فأخبراها
فطارت فمسخت جمرةً. وهي هذه الزهرة. وأمّا هما فأرسل إليهما سليمان بن داود
فخيّرهما بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدّنيا. فهما
مناطان بين السّماء والأرض».
وهذا السّياق فيه زياداتٌ كثيرةٌ وإغرابٌ ونكارةٌ، واللّه أعلم بالصّواب.
وقال عبد الرّزّاق: قال معمر: قال قتادة والزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه: «{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} كانا
ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين النّاس. وذلك أنّ الملائكة سخروا من
حكّام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأةٌ، فحافا لها. ثمّ ذهبا يصعدان فحيل
بينهما وبين ذلك، ثمّ خيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب
الدّنيا». وقال معمر: قال قتادة: «فكانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما ألّا يعلّما أحدًا حتّى يقولا {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}».
وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ أنّه قال: «كان
من أمر هاروت وماروت أنّهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما:
إنّي أعطيت بني آدم عشرًا من الشّهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت:
ربّنا، لو أعطيتنا تلك الشّهوات ثمّ نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا
فقد أعطيتكما تلك الشّهوات العشر، فاحكما بين النّاس. فنزلا ببابل
دنباوند، فكانا يحكمان، حتّى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا
كذلك حتّى أتتهما امرأةٌ تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها -واسمها بالعربيّة
"الزّهرة"، وبالنّبطيّة "بيذخت" وبالفارسيّة "أناهيد"- فقال أحدهما لصاحبه:
إنّها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر:
هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا بعذاب اللّه؟ قال الآخر:
إنّا لنرجو رحمة اللّه. فلمّا جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت:
لا حتّى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثمّ واعدتهما خربة من
الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلمّا أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا
بالذي أفعل حتّى تخبراني بأيّ كلامٍ تصعدان إلى السّماء، وبأيّ كلامٍ
تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلّمت فصعدت، فأنساها اللّه ما تنزل به، فبقيت
مكانها، وجعلها اللّه كوكبًا.
فكان عبد اللّه بن عمر كلّما رآها
لعنها، فقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلمّا كان اللّيل أرادا أن يصعدا
فلم يطيقا، فعرفا الهلكة فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة. فاختارا
عذاب الدّنيا، فعلّقا ببابل، وجعلا يكلّمان النّاس كلامهما وهو السّحر».
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ: «أمّا
شأن هاروت وماروت، فإنّ الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرّسل
والكتب والبيّنات، فقال لهم ربّهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما
يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [إلّا] هاروت وماروت، فقال
لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنّما
تأتيهم الرّسل والكتب [والبيّنات] من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما
رسولٌ، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمرٍ ونهاهما، ثمّ نزلا
على ذلك ليس أحدٌ أطوع للّه منهما، فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النّهار
بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان
فيحكمان فيعدلان، حتّى أنزلت عليهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ تخاصم،
فقضيا عليها. فلمّا قامت وجد كلّ واحدٍ منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه:
وجدت مثل الذي وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك. فلمّا رجعت
قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشّفا لها عن عورتيهما، وإنّما كانت شهوتهما في
أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النّساء ولذّتها. فلمّا بلغا ذلك
واستحلّا افتتنا، فطارت الزّهرة فرجعت حيث كانت. فلمّا أمسيا عرجا فزجرا
فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجلٍ من بني آدم فأتياه،
فقالا: ادع لنا ربّك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السّماء؟ قالا: سمعنا
ربّك يذكرك بخيرٍ في السّماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما،
فاستجيب له، فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه،
فقال: ألا تعلم أنّ أفواج عذاب اللّه في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي
الدّنيا تسع مرّاتٍ مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل، فثمّ عذابهما. وزعم
أنّهما معلّقان في الحديد مطويّان، يصفّقان بأجنحتهما».
وقد روى في قصّة هاروت وماروت عن جماعةٍ
من التّابعين، كمجاهدٍ والسّدّيّ والحسن [البصريّ] وقتادة وأبي العالية
والزّهريّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان وغيرهم، وقصّها خلقٌ من
المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين، وحاصلها راجعٌ في تفصيلها إلى أخبار
بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ صحيحٌ متّصل الإسناد إلى الصّادق
المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصّة من
غير بسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده
اللّه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثرٌ غريبٌ وسياقٌ عجيبٌ
في ذلك أحببنا أن ننبّه عليه، قال: الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه:
حدّثنا الرّبيع بن سليمان، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن أبي الزّناد،
حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
[رضي اللّه عنها وعن أبيها] أنّها قالت: «قدمت
امرأةٌ عليّ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيءٍ دخلت فيه من أمر السّحر، ولم تعمل
به».
قالت عائشة -رضي اللّه عنها- لعروة: «يا
ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فيشفيها كانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها، وتقول: إنّي أخاف أن أكون قد هلكت.
كان لي زوجٌ فغاب عنّي، فدخلت على عجوزٍ فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت
ما آمرك به فأجعله يأتيك. فلمّا كان اللّيل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت
أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيءٍ حتّى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلّقين
بأرجلهما. فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السّحر. فقالا: إنّما نحن فتنةٌ
فلا تكفري، فارجعي. فأبيت وقلت: لا. قالا: فاذهبي إلى ذلك التّنّور، فبولي
فيه. فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم. فقالا:
هل رأيت شيئًا؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا
تكفري [فإنك على رأس أمري]. فأرببت وأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور
فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت [وخفت] ثمّ رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا:
فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا
تكفري ؛ فإنّك على رأس أمرك. فأرببت وأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور،
فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنّعًا بحديدٍ خرج منّي،
فذهب في السّماء وغاب [عنّي] حتّى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا:
فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسًا مقنّعًا خرج منّي فذهب في السّماء، حتّى ما
أراه. فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: واللّه ما
أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت: بلى، لم تريدي شيئًا إلّا كان، خذي
هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت: أطلعي فأطلعت وقلت: أحقلي فأحقلت ثمّ قلت:
أفركي فأفركت. ثمّ قلت: أيبسي فأيبست. ثمّ قلت: أطحني فأطحنت. ثمّ قلت:
أخبزي فأخبزت. فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئًا إلّا كان، سقط في يدي وندمت
-واللّه- يا أمّ المؤمنين واللّه ما فعلت شيئًا قطّ ولا أفعله أبدًا».
ورواه ابن أبي حاتمٍ عن الرّبيع بن سليمان، به مطوّلًا كما تقدّم. وزاد بعد قولها: «ولا أفعله أبدًا»: «فسألت
أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حداثة وفاة رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم، وهم يومئذٍ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلّهم هاب
وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلّا أنّه قد قال لها ابن عبّاسٍ -أو بعض من
كان عنده-: لو كان أبواك حيّين أو أحدهما [لكان يكفيانك]».
قال هشامٌ: فلو جاءتنا أفتيناها
بالضّمان [قال]: قال ابن أبي الزّناد: وكان هشامٌ يقول: إنّهم كانوا أهل
الورع والخشية من اللّه. ثمّ يقول هشامٌ: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى
أهل حمقٍ وتكلّفٍ بغير علمٍ.
فهذا إسنادٌ جيّدٌ إلى عائشة، رضي اللّه عنها.
وقد استدلّ بهذا الأثر من ذهب إلى أنّ السّاحر له تمكّنٌ في قلب الأعيان؛ لأنّ هذه المرأة بذرت واستغلّت في الحال.
وقال آخرون: بل ليس له قدرةٌ إلّا على التّخييل، كما قال [اللّه] تعالى: {سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ} [الأعراف: 116]، وقال تعالى: {يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى}[طه: 66].
واستدلّ به على أنّ بابل المذكورة في
القرآن هي بابل العراق، لا بابل دنباوند كما قاله السّدّيّ وغيره. ثمّ
الدّليل على أنّها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن
الحسين، حدّثنا أحمد بن صالحٍ، حدّثني ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة ويحيى بن
أزهر، عن عمّار بن سعدٍ المراديّ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ أنّ عليّ بن أبي
طالبٍ، رضي اللّه عنه [مرّ ببابل وهو يسير، فجاء المؤذّن يؤذنه بصلاة
العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذّن فأقام الصّلاة، فلمّا فرغ] قال: «إنّ حبيبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاني أن أصلّي [بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلّي] ببابل فإنّها ملعونةٌ».
وقال أبو داود: حدّثنا سليمان بن داود،
حدّثنا ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعدٍ
المراديّ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ: أنّ عليًّا مرّ ببابل، وهو يسير، فجاءه
المؤذّن يؤذّنه بصلاة العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذّن فأقام الصّلاة
فلمّا فرغ قال: «إنّ حبيبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاني أن أصلّي في المقبرة، ونهاني أن أصلّي بأرض بابل، فإنّها ملعونةٌ».
حدّثنا أحمد بن صالحٍ: حدّثنا ابن وهبٍ،
أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجّاج بن شدّادٍ، عن أبي صالحٍ
الغفاريّ، عن عليٍّ، بمعنى حديث سليمان بن داود، قال: فلمّا "خرج" مكان
"برز".
وهذا الحديث حسنٌ عند الإمام أبي داود،
لأنّه رواه وسكت عنه ؛ ففيه من الفقه كراهية الصّلاة بأرض بابل، كما تكره
بديار ثمود الّذين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الدّخول إلى
منازلهم، إلّا أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل،
وهي من إقليم العراق، عن البحر المحيط الغربيّ، ويقال له: أوقيانوس سبعون
درجةً، ويسمّون هذا طولًا وأمّا عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من
ناحية الجنوب، وهو المسامت لخطّ الاستواء، اثنان وثلاثون درجةً، واللّه
أعلم.
وقوله تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «فإذا
أتاهما الآتي يريد السّحر نهياه أشدّ النّهي، وقالا له: إنّما نحن فتنةٌ
فلا تكفر، وذلك أنّهما علما الخير والشّرّ والكفر والإيمان، فعرفا أنّ
السّحر من الكفر».
[قال:] «فإذا
أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشّيطان فعلمه،
فإذا تعلّم خرج منه النّور، فنظر إليه ساطعًا في السماء، فيقول: يا حسرتاه!
يا ويله! ماذا أصنع؟».
وعن الحسن البصريّ أنّه قال في تفسير هذه الآية: «نعم،
أنزل الملكان بالسّحر، ليعلّما النّاس البلاء الذي أراد اللّه أن يبتلي به
النّاس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}» رواه ابن أبي حاتمٍ،
وقال قتادة: «كان أخذ عليهما ألّا يعلّما أحدًا حتّى يقولا {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}أي: بلاءٌ ابتلينا به {فلا تكفر}».
وقال [قتادة و] السّدّيّ: «إذا
أتاهما إنسانٌ يريد السّحر، وعظاه، وقالا له: لا تكفر، إنّما نحن فتنةٌ.
فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرّماد، فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نورٌ
فسطع حتّى يدخل السّماء، وذلك الإيمان. وأقبل شيءٌ أسود كهيئة الدّخان حتّى
يدخل في مسامعه وكلّ شيءٍ [منه]. وذلك غضب اللّه. فإذا أخبرهما بذلك
علّماه السّحر، فذلك قول اللّه تعالى:{وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}الآية».
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ في هذه الآية: «لا يجترئ على السّحر إلّا كافرٌ».
وأمّا الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشّاعر:
وقد فتن النّاس في دينهم ....... وخلّى ابن عفّان شرًّا طويلا
وكذلك قوله تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السّلام، حيث قال: {إن هي إلا فتنتك} أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} [الأعراف: 155].
وقد استدلّ بعضهم بهذه الآية على تكفير
من تعلّم السّحر، ويستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكرٍ البزّار:
حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
همامٍ، عن عبد اللّه، قال: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وهذا إسنادٌ جيّدٌ وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه}
أي: فيتعلّم النّاس من هاروت وماروت من علم السّحر ما يتصرّفون به فيما
يتصرّفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنّهم ليفرّقون به بين الزّوجين مع
ما بينهما من الخلطة والائتلاف. وهذا من صنيع الشّياطين، كما رواه مسلمٌ في
صحيحه، من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافعٍ، عن جابر بن عبد
اللّه، رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «إن
الشّيطان ليضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه في النّاس، فأقربهم عنده
منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلانٍ حتّى تركته وهو
يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا واللّه ما صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول:
ما تركته حتّى فرّقت بينه وبين أهله»، قال: «فيقرّبه ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم أنت».
وسبب التّفرّق بين الزّوجين بالسّحر:
ما يخيّل إلى الرّجل أو المرأة من الآخر من سوء منظرٍ، أو خلقٍ أو نحو ذلك
أو عقد أو بغضه، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
والمرء عبارةٌ عن الرّجل، وتأنيثه امرأةٌ، ويثنّى كلٌّ منهما ولا يجمعان، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} قال سفيان الثّوريّ: «إلّا بقضاء اللّه».
وقال محمّد بن إسحاق: «إلّا بتخلية اللّه بينه وبين ما أراد».
وقال الحسن البصريّ: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} قال: «نعم، من شاء اللّه سلّطهم عليه، ومن لم يشأ اللّه لم يسلّط، ولا يستطيعون ضرّ أحدٍ إلّا بإذن اللّه، كما قال اللّه تعالى»، وفي روايةٍ عن الحسن أنّه قال:«لا يضرّ هذا السّحر إلّا من دخل فيه».
وقوله تعالى: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} أي: يضرّهم في دينهم، وليس له نفعٌ يوازي ضرره.
{ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ}
أي: ولقد علم اليهود الّذين استبدلوا بالسّحر عن متابعة الرّسول صلّى
اللّه عليه وسلّم لمن فعل فعلهم ذلك، أنّه ما له في الآخرة من خلاقٍ.
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والسّدّيّ: «من نصيبٍ».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «ما له في الآخرة من جهةٍ عند اللّه»، وقال: وقال الحسن: «ليس له دينٌ».
وقال سعدٌ عن قتادة: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال: «ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد اللّه إليهم أنّ السّاحر لا خلاق له في الآخرة».
وقوله تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون* ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون} يقول تعالى: {ولبئس} البديل ما استبدلوا به من السّحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرّسل لو كان لهم علمٌ بما وعظوا به {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ} أي:
ولو أنّهم آمنوا باللّه ورسله واتّقوا المحارم، لكان مثوبة اللّه على ذلك
خيرًا لهم ممّا استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب اللّه خيرٌ لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون}[القصص: 80].
وقد استدلّ بقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا}
من ذهب إلى تكفير السّاحر، كما هو روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ وطائفةٍ
من السّلف. وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشّافعيّ
وأحمد بن حنبلٍ، رحمهما اللّه: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، أنّه سمع
بجالة بن عبدة يقول: كتب [أمير المؤمنين] عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه،
أن اقتلوا كلّ ساحرٍ وساحرةٍ. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاريّ
في صحيحه أيضًا. وهكذا صحّ أنّ حفصة أمّ المؤمنين سحرتها جاريةٌ لها، فأمرت
بها فقتلت. قال أحمد بن حنبلٍ: صحّ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم [أذنوا] في قتل السّاحر.
وروى التّرمذيّ من حديث إسماعيل بن مسلمٍ، عن الحسن، عن جندبٍ الأزديّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حدّ السّاحر ضربه بالسّيف».
ثمّ قال: لا نعرفه مرفوعًا إلّا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلمٍ يضعّف في الحديث، والصّحيح: عن الحسن عن جندب موقوفًا.
قلت: قد رواه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر، عن الحسن، عن جندبٍ، مرفوعًا. واللّه أعلم.
وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ أنّ الوليد
بن عقبة كان عنده ساحرٌ يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرّجل ثمّ يصيح به
فيردّ إليه رأسه، فقال النّاس: سبحان اللّه! يحيي الموتى! ورآه رجلٌ من
صالحي المهاجرين، فلمّا كان الغد جاء مشتملًا على سيفه، وذهب يلعب لعبه
ذلك، فاخترط الرّجل سيفه فضرب عنق السّاحر، وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى: {أفتأتون السّحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثمّ أطلقه، واللّه أعلم.
وقال أبو بكرٍ الخلّال: أخبرنا عبد
اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثني أبي، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثني أبو
إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجلٌ يلعب فجاء جندب مشتملا على
سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحرًا، وحمل الشّافعيّ -رحمه اللّه- قصّة عمر
وحفصة على سحر يكون شركًا. واللّه أعلم.
فصلٌ
حكى أبو عبد اللّه الرّازيّ في تفسيره عن المعتزلة أنّهم أنكروا وجود السّحر،
قال: وربّما كفّروا من اعتقد وجوده.
قال: وأمّا أهل السّنّة فقد جوّزوا أن
يقدر السّاحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حمارًا، والحمار إنسانًا،
إلّا أنّهم قالوا: إنّ اللّه يخلق الأشياء عندما يقول السّاحر تلك الرّقى و
[تلك] الكلمات المعيّنة، فأمّا أن يكون المؤثّر في ذلك هو الفلك والنّجوم
فلا خلافًا للفلاسفة والمنجّمين الصّابئة، ثمّ استدلّ على وقوع السّحر
وأنّه بخلق اللّه تعالى، بقوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه}
ومن الأخبار بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سحر، وأنّ السّحر عمل
فيه، وبقصّة تلك المرأة مع عائشة، رضي اللّه عنها، وما ذكرت تلك المرأة من
إتيانها بابل وتعلّمها السّحر،
قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة،
ثمّ قال بعد هذا: المسألة الخامسة في
أنّ العلم بالسّحر ليس بقبيحٍ ولا محظورٍ: اتّفق المحقّقون على ذلك؛ لأنّ
العلم لذاته شريفٌ وأيضًا لعموم قوله تعالى: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} [الزّمر: 9]؛
ولأنّ السّحر لو لم يكن يعلّم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم
بكون المعجز معجزًا واجبٌ، وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجبٌ؛ فهذا يقتضي
أن يكون تحصيل العلم بالسّحر واجبًا، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا
وقبيحًا؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظرٌ من وجوهٍ:
أحدها:
قوله: "العلم بالسّحر ليس بقبيحٍ". إن عنى به ليس بقبيحٍ عقلًا فمخالفوه
من المعتزلة يمنعون هذا وإن عنى أنّه ليس بقبيحٍ شرعًا، ففي هذه الآية
الكريمة تبشيعٌ لتعلّم السّحر، وفي الصّحيح: «من أتى عرّافًا أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ». وفي السّنن: «من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر».
وقوله: ولا محظور اتّفق المحقّقون على ذلك". كيف لا يكون محظورًا مع ما
ذكرناه من الآية والحديث؟! واتّفاق المحقّقين يقتضي أن يكون قد نصّ على هذه
المسألة أئمّة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟ ثمّ إدخاله [علم]
السّحر في عموم قوله: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون}
فيه نظرٌ؛ لأنّ هذه الآية إنّما دلّت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم
قلت إنّ هذا منه؟ ثمّ ترقيه إلى وجوب تعلّمه بأنّه لا يحصل العلم بالمعجز
إلّا به، ضعيفٌ بل فاسدٌ؛ لأنّ معظم معجزات رسولنا، عليه الصّلاة والسّلام
هي القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من
حكيمٍ حميدٍ. ثمّ إنّ العلم بأنّه معجزٌ لا يتوقّف على علم السّحر أصلًا
ثمّ من المعلوم بالضّرورة أنّ الصّحابة والتّابعين وأئمّة المسلمين
وعامّتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا
يعلمون السّحر ولا تعلّموه ولا علّموه، واللّه أعلم.
ثمّ قد ذكر أبو عبد اللّه الرّازيّ أنّ أنواع السّحر ثمانيةً:
الأوّل:
سحر الكلدانيين والكشدانيين، الّذين كانوا يعبدون الكواكب السّبعة
المتحيّرة، وهي السّيّارة، وكانوا يعتقدون أنّها مدبّرة العالم وأنّها تأتي
بالخير والشّرّ، وهم الّذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلّى اللّه عليه
وسلّم مبطلًا لمقالتهم ورادًّا لمذهبهم وقد استقصى في "كتاب السّرّ
المكتوم، في مخاطبة الشّمس والنّجوم" المنسوب إليه فيما ذكره القاضي ابن
خلّكان وغيره ويقال: إنّه تاب منه. وقيل إنّه صنّفه على وجه إظهار الفضيلة
لا على سبيل الاعتقاد. وهذا هو المظنون به، إلّا أنّه ذكر فيه طرائقهم في
مخاطبة كلّ من هذه الكواكب السّبعة، وكيفيّة ما يفعلون وما يلبسونه، وما
يتنسّكون به.
قال: والنّوع الثّاني: سحر
أصحاب الأوهام والنّفوس القويّة، ثمّ استدلّ على أنّ الوهم له تأثيرٌ،
بأنّ الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه
المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهرٍ أو نحوه. قال: وكما أجمعت الأطبّاء
على نهي المرعوف عن النّظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع إلى الأشياء
القويّة اللّمعان أو الدّوران، وما ذاك إلّا لأنّ النّفوس خلقت مطيعة
للأوهام.
قال: وقد اتّفق العقلاء على أنّ الإصابة بالعين حقٌّ.
وله أن يستدلّ على ذلك بما ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «العين حقّ، ولو كان شيءٌ سابق القدر لسبقته العين».
قال: فإذا عرفت هذا، فنقول: النّفس
التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قويّةً جدًّا، فتستغني في هذه الأفاعيل عن
الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفةً فتحتاج إلى الاستعانة بهذه
الآلات. وتحقيقه أنّ النّفس إذا كانت مستعليةً على البدن شديدة الانجذاب
إلى عالم السّماوات، صارت كأنّها روح من الأرواح السّماويّة، فكانت قويّةً
على التّأثير في موادّ هذا العالم. وإذا كانت ضعيفةً شديدة التّعلّق بهذه
الذّات البدنيّة، فحينئذٍ لا يكون لها تصرّفٌ البتّة إلّا في هذا البدن.
ثمّ أرشد إلى مداواة هذا الدّاء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن النّاس
والرّياء.
قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التّصرّف بالحال، وهو على قسمين:
تارةً تكون
حالًا صحيحةً شرعيّةً يتصرّف بها فيما أمر اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه
وسلّم، ويترك ما نهى اللّه عنه ورسوله، وهذه الأحوال مواهب من اللّه تعالى
وكراماتٌ للصّالحين من هذه الأمّة، ولا يسمّى هذا سحرًا في الشّرع.
وتارةً تكون
الحال فاسدةً لا يمتثل صاحبها ما أمر اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم
ولا يتصرّف بها في ذلك. فهذه حال الأشقياء المخالفين للشّريعة، ولا يدلّ
إعطاء اللّه إيّاهم هذه الأحوال على محبّته لهم، كما أنّ الدجّال -لعنه
اللّه- له من الخوارق العادات ما دلّت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنّه
مذمومٌ شرعًا لعنه اللّه. وكذلك من شابهه من مخالفي الشّريعة المحمّديّة،
على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام. وبسط هذا يطول جدًّا، وليس هذا موضعه.
قال: النّوع الثّالث من السّحر: الاستعانة
بالأرواح الأرضيّة، وهم الجنّ، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة: وهم على قسمين:
مؤمنون، وكفّارٌ، وهم الشياطين. قال: واتّصال النّفوس النّاطقة بها أسهل
من اتّصالها بالأرواح السّماويّة، لما بينهما من المناسبة والقرب، ثمّ إنّ
أصحاب الصّنعة وأرباب التّجربة شاهدوا أنّ الاتّصال بهذه الأرواح الأرضيّة
يحصل بأعمالٍ سهلةٍ قليلةٍ من الرّقى والدّخل والتّجريد. وهذا النّوع هو
المسمّى بالعزائم وعمل التّسخير.
النّوع الرّابع من السّحر:
التّخيّلات، والأخذ بالعيون والشّعبذة، ومبناه [على] أنّ البصر قد يخطئ
ويشتغل بالشّيء المعيّن دون غيره، ألا ترى أنّ المشعبذ الحاذق يظهر عمل
شيءٍ يذهل أذهان النّاظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتّى إذا استفرغهم
الشّغل بذلك الشّيء بالتّحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عملا بسرعةٍ شديدةٍ،
وحينئذٍ يظهر لهم شيءٌ آخر غير ما انتظروه. فيتعجّبون منه جدًّا، ولو أنّه
سكت ولم يتكلّم بما يصرف الخواطر إلى ضدّ ما يريد أن يعمله، ولم تتحرّك
النّفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن النّاظرون لكلّ ما يفعله.
قال: وكلّما كانت الأحوال تفيد حسن
البصر نوعًا من أنواع الخلل أشدّ، كان العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في
موضعٍ مضيءٍ جدًّا، أو مظلمٍ، فلا تقف القوّة النّاظرة على أحوالها بكلالها
والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسّرين: إنّ سحر السّحرة بين يدي فرعون إنّما كان من باب الشّعبذة، ولهذا قال تعالى: {فلمّا ألقوا سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ} [الأعراف: 116] وقال تعالى: {يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى} [طه: 66] قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر. واللّه أعلم.
النّوع الخامس من السّحر:
الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركّبة من النّسب الهندسيّة،
كفارسٍ على فرسٍ في يده بوقٌ، كلّما مضت ساعةٌ من النّهار ضرب بالبوق، من
غير أن يمسّه أحدٌ. ومنها الصّور التي تصوّرها الروم والهند، حتّى لا يفرّق
النّاظر بينها وبين الإنسان، حتّى يصوّرونها ضاحكةً وباكيةً.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.
قلت: يعني
ما قاله بعض المفسّرين: أنّهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصيّ، فحشوها
زئبقًا فصارت تتلوّى بسبب ما فيها من ذلك الزّئبق، فيخيّل إلى الرّائي
أنّها تسعى باختيارها.
قال الرّازيّ: ومن هذا الباب تركيب صندوق السّاعات، ويندرج في هذا الباب علم جرّ الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعدّ من باب السّحر؛ لأنّ لها أسبابًا معلومةً يقينيّةً من اطّلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن
هذا القبيل حيل النّصارى على عامّتهم، بما يرونهم إيّاه من الأنوار،
كقضيّة قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال
النّار خفيةً إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعةٍ لطيفةٍ تروج على
العوامّ [منهم] وأمّا الخواصّ فهم يعترفون بذلك، ولكن يتأوّلون أنّهم
يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبهٌ للجهلة
الأغبياء من متعبّدي الكرّامية الّذين يرون جواز وضع الأحاديث في التّرغيب
والتّرهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم:
«من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار». وقوله: «حدّثوا عنّي ولا تكذبوا عليّ فإنّه من يكذب عليّ يلج النّار».
ثمّ ذكر ههنا حكايةً عن بعض الرّهبان،
وهو أنّه سمع صوت طائرٍ حزين الصّوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطّيور ترقّ
له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزّيتون، ليتبلّغ به، فعمد هذا الراهب إلى
صنعة طائرٍ على شكله، وتوصّل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الرّيح يسمع له
صوتٌ كصوت ذلك الطّائر، وانقطع في صومعةٍ ابتناها، وزعم أنّها على قبر بعض
صالحيهم، وعلّق ذلك الطّائر في مكانٍ منها، فإذا كان زمان الزّيتون فتح
بابًا من ناحيةٍ، فتدخل الرّيح إلى داخل هذه الصّورة، فيسمع صوتها كذلك
الطّائر في شكله أيضًا، فتأتي الطّيور فتحمل من الزّيتون شيئًا كثيرًا فلا
ترى النّصارى إلّا ذلك الزّيتون في هذه الصّومعة، ولا يدرون ما سببه؟
ففتنهم بذلك، وأوهم أنّ هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن اللّه
المتتابعة إلى يوم القيامة.
قال الرّازيّ: النّوع السّادس من السّحر: الاستعانة بخواصّ الأدوية يعني في الأطعمة والدّهانات. قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواصّ، فإنّ أثر المغناطيس مشاهدٌ.
قلت:
يدخل في هذا القبيل كثيرٌ ممّن يدّعي الفقر ويتخيّل على جهلة النّاس بهذه
الخواصّ، مدّعيًا أنّها أحوالٌ له من مخالطة النّيران ومسك الحيّات إلى غير
ذلك من المحالات.
قال: النّوع السّابع من السّحر: تعليق
القلب، وهو أن يدّعي الساحر أنّه عرف الاسم الأعظم، وأنّ الجنّ يطيعونه
وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتّفق أن يكون ذلك السّامع لذلك ضعيف
العقل قليل التّمييز اعتقد أنّه حقٌّ، وتعلّق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوعٌ
من الرّهب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحسّاسة فحينئذٍ يتمكّن
السّاحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا
النّمط يقال له التّنبلة، وإنّما يروج على الضّعفاء العقول من بني آدم.
وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان المتنبل
حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من النّاس من غيره.
قال: النّوع الثّامن من السّحر: السّعي بالنّميمة والتّضريب من وجوهٍ خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
قلت: النّميمة
على قسمين، تارةً تكون على وجه التّحريش [بين النّاس] وتفريق قلوب
المؤمنين، فهذا حرامٌ متّفقٌ عليه. فأمّا إذا كانت على وجه الإصلاح [بين
النّاس] وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث:«ليس بالكذّاب من ينمّ خيرًا» أو يكون على وجه التّخذيل والتّفريق بين جموع الكفرة فهذا أمرٌ مطلوبٌ، كما جاء في الحديث: «الحرب خدعةٌ».
وكما فعل نعيم بن مسعودٍ في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، وجاء إلى
هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر،
ثمّ لأم بين ذلك، فتناكرت النّفوس وافترقت. وإنّما يحذو على مثل هذا
الذّكاء والبصيرة النّافذة. واللّه المستعان.
ثمّ قال الرّازيّ: فهذه جملة الكلام في أقسام السّحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت:
وإنّما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في فنّ السّحر، للطافة
مداركها؛ لأنّ السّحر في اللّغة: عبارةٌ عمّا لطف وخفي سببه. ولهذا جاء في
الحديث: «إنّ من البيان لسحرًا».
وسمّي السّحور لكونه يقع خفيًّا آخر اللّيل والسّحر: الرّئة، وهي محلّ
الغذاء، وسمّيت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال
أبو جهلٍ يوم بدرٍ لعتبة: انتفخ سحرك أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت
عائشة، رضي اللّه عنها:«توفّي رسول صلّى اللّه عليه وسلّم بين سحري ونحري». وقال: {سحروا أعين النّاس} أي: أخفوا عنهم عملهم، واللّه أعلم.
[فصلٌ]
قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرّد فعله
واستعماله؟ فقال مالكٌ وأحمد: نعم. وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة: لا. فأمّا
إن قتل بسحره إنسانًا فإنّه يقتل عند مالكٍ والشّافعيّ وأحمد. وقال أبو
حنيفة: لا يقتل حتّى يتكرّر منه ذلك أو يقرّ بذلك في حقّ شخصٍ معيّنٍ. وإذا
قتل فإنّه يقتل حدًّا عندهم إلّا الشّافعيّ، فإنّه قال: يقتل -والحالة
هذه-قصاصًا.
قال: وهل إذا تاب السّاحر تقبل توبته؟
فقال مالكٌ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشّافعيّ
وأحمد في الرّواية الأخرى: تقبل. وأمّا ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة
أنّه يقتل، كما يقتل السّاحر المسلم. وقال مالكٌ والشّافعيّ وأحمد: لا
يقتل. يعني لقصة لبيد بن أعصم.
واختلفوا في المسلمة السّاحرة، فعند أبي حنيفة لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثّلاثة: حكمها حكم الرّجل، واللّه أعلم.
وقال أبو بكرٍ الخلّال: أخبرنا أبو
بكرٍ المروزيّ، قال: قرأ على أبي عبد اللّه -يعني أحمد بن حنبلٍ- عمر بن
هارون، حدّثنا يونس، عن الزّهريّ، قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر
المشركين؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سحرته امرأةٌ من اليهود
فلم يقتلها.
وقد نقل القرطبيّ عن مالكٍ، رحمه اللّه، أنّه قال في الذّمّيّ إذا سحر يقتل إن قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالكٍ روايتين في الذّمّيّ إذا سحر:
إحداهما: أنّه يستتاب فإن أسلم وإلّا قتل،
والثّانية: أنّه يقتل وإن أسلم،
وأمّا السّاحر المسلم فإن تضمّن سحره كفرًا كفر عند الأئمّة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}.
لكن قال مالكٌ: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنّه كالزّنديق، فإن تاب قبل
أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلناه ولم نقتله، فإن قتل سحره قتل. قال
الشّافعيّ: فإن قال: لم أتعمّد القتل فهو مخطئٌ تجب عليه الدّية.
مسألةٌ:
وهل يسأل السّاحر حلّ سحره؟ فأجاز سعيد بن المسيّب فيما نقله عنه
البخاريّ، وقال عامرٌ الشّعبيّ: لا بأس بالنّشرة، وكره ذلك الحسن البصريّ،
وفي الصّحيح عن عائشة: أنّها قالت: يا رسول اللّه، هلّا تنشّرت، فقال: «أمّا اللّه فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على النّاس شرًّا».
وحكى القرطبيّ عن وهبٍ: أنّه قال: يؤخذ سبع ورقاتٍ من سدرٍ فتدقّ بين
حجرين ثمّ تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسيّ ويشرب منها المسحور ثلاث
حسواتٍ ثمّ يغتسل بباقيه فإنّه يذهب ما به، وهو جيّدٌ للرّجل الذي يؤخذ عن
امرأته.
قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السّحر ما أنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم في إذهاب ذلك وهما المعوّذتان، وفي الحديث: «لم يتعوّذ المتعوّذون بمثلهما»
وكذلك قراءة آية الكرسيّ فإنّها مطّردةٌ للشّيطان. وقال أبو عبد اللّه
القرطبيّ: وعندنا أنّ السّحر حقٌّ، وله حقيقةٌ يخلق اللّه عنده ما يشاء
خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشّافعيّة حيث قالوا: إنّه
تمويهٌ وتخيّلٌ. قال: ومن السّحر ما يكون بخفّة اليد كالشّعوذة والشّعوذيّ
البريد؛ لخفّة سيره. قال ابن فارسٍ: هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال
القرطبيّ: ومنه ما يكون كلامًا يحفظ ورقًى من أسماء اللّه تعالى، وقد يكون
من عهود الشّياطين ويكون أدويةً وأدخنةً وغير ذلك. قال: وقوله، عليه
السّلام: «إنّ من البيان لسحرًا»
يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوّله طائفةٌ، ويحتمل أن يكون ذمًّا للبلاغة.
قال: وهذا الأصحّ. قال: لأنّها تصوّب الباطل حين يوهم السّامع أنّه حقٌّ
كما قال: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن لحجته من بعضٍ» فاقتضى له، الحديث). [تفسير ابن كثير: 1/ 346-373]
وقد استدلّ بقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا}
من ذهب إلى تكفير السّاحر، كما هو روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ وطائفةٍ
من السّلف. وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشّافعيّ
وأحمد بن حنبلٍ، رحمهما اللّه: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، أنّه سمع
بجالة بن عبدة يقول: كتب [أمير المؤمنين] عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه،
أن اقتلوا كلّ ساحرٍ وساحرةٍ. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاريّ
في صحيحه أيضًا. وهكذا صحّ أنّ حفصة أمّ المؤمنين سحرتها جاريةٌ لها، فأمرت
بها فقتلت. قال أحمد بن حنبلٍ: صحّ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم [أذنوا] في قتل السّاحر.
وروى التّرمذيّ من حديث إسماعيل بن مسلمٍ، عن الحسن، عن جندبٍ الأزديّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حدّ السّاحر ضربه بالسّيف».
ثمّ قال: لا نعرفه مرفوعًا إلّا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلمٍ يضعّف في الحديث، والصّحيح: عن الحسن عن جندب موقوفًا.
قلت: قد رواه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر، عن الحسن، عن جندبٍ، مرفوعًا. واللّه أعلم.
وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ أنّ الوليد
بن عقبة كان عنده ساحرٌ يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرّجل ثمّ يصيح به
فيردّ إليه رأسه، فقال النّاس: سبحان اللّه! يحيي الموتى! ورآه رجلٌ من
صالحي المهاجرين، فلمّا كان الغد جاء مشتملًا على سيفه، وذهب يلعب لعبه
ذلك، فاخترط الرّجل سيفه فضرب عنق السّاحر، وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى: {أفتأتون السّحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثمّ أطلقه، واللّه أعلم.
وقال أبو بكرٍ الخلّال: أخبرنا عبد
اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثني أبي، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثني أبو
إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجلٌ يلعب فجاء جندب مشتملا على
سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحرًا، وحمل الشّافعيّ -رحمه اللّه- قصّة عمر
وحفصة على سحر يكون شركًا. واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 364-366] (م)
* للاستزادة ينظر: هنا