الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (130) إلى الآية (134) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

4200

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم العاشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (130) إلى الآية (134) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

1 Sep 2014

4200

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}



تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلّا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنه في الآخرة لمن الصّالحين }
معنى {من}التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع بالابتداء، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، والملّة قد بيناها ، وهي السّنّة والمذهب، وقد أكثر النحويون ، واختلفوا في تفسير {سفه نفسه}، وكذلك أهل اللغة،
فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن المعنى : سفه نفسه،
وقال يونس النحوي: أراها لغة، وذهب يونس إلى أن فعل للمبالغة،كما أن فعل للمبالغة ، فذهب في هذا مذهب التأويل، ويجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى : سفهت زيداً،
وقال أبو عبيدة معناه: أهلك نفسه، وأوبق نفسه، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهب يونس.
وقال بعض النحويين: إن نفسه منصوب على التفسير،
وقال التفسير في النكرات أكثر نحو : طاب زيد بأمره نفساً، وقر به عيناً، وزعم أن هذه المفسّرات المعارف أصل الفعل لها ، ثم نقل إلى الفاعل نحو : وجع زيد رأسه، وزعم أن أصل الفعل للرأس ، وما أشبهه، وأنه لا يجيز تقديم شيء من هذه المنصوبات، وجعل {سفه نفسه} من هذا الباب.
قال أبو إسحاق: وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف ؛ لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال ، فإذا عرفه صار مقصوداً قصده، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.
وقال أبو إسحاق: إن {سفه نفسه} بمعنى : سفه في نفسه إلا أن " في " حذفت، كما حذفت حروف الجر في غير موضع.
قال الله عزّ وجلّ: {ولا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم}
والمعنى : أن تسترضعوا لأولادكم، فحذف حرف الجرّ في غير ظرف، ومثله قوله عزّ وجلّ: {ولا تعزموا عقدة النكاح}،أي: على عقدة النكاح، ومثله قول الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئاً= ونرخصه إذا نضج القدور
المعنى: نغالي باللحم، ومثله قول العرب: ضرب فلان الظهر والبطن، والمعنى: على الظهر والبطن. فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر موجود في كتاب اللّه، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة، وهو عندي مذهب صالح.
والقول الجيّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل، فالمعنى: - واللّه أعلم - إلا من جهل نفسه، أي: لم يفكر في نفسه.
كقوله عزّ وجلّ: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، فوضع جهل، وعدى كما عدى.
فهذا جميع ما قال الناس في هذا، وما حضرنا من القول فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد اصطفيناه في الدّنيا}
معناه: اخترناه ، ولفظه مشتق من الصفوة.
{وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين}:فالصالح في الآخرة الفائز). [معاني القرآن: 1/209-211]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين (130) إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين (131) ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون (132)
من استفهام في موضع رفع بالابتداء، ويرغب خبره، والمعنى يزهد فيها ويربأ بنفسه عنها، والملة الشريعة والطريقة، وسفه من السفه الذي معناه الرقة والخفة، واختلف في نصب نفسه، فقال الزجاج: سفه بمعنى جهل وعداه بالمعنى، وقال غيره: سفه بمعنى أهلك، وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها، وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة، وقال الفراء نصبها على التمييز.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن السفه يتعلق بالنفس والرأي والخلق، فكأنه ميزها بين هذه ورأوا أن هذا التعريف ليس بمحض لأن الضمير فيه الإبهام الذي في من، فكأن الكلام: إلا من سفه نفسا، وقال البصريون: لا يجوز التمييز مع هذا التعريف، وإنما النصب على تقدير حذف «في»، فلما انحذف حرف الجر قوي الفعل، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم ضرب فلان الظهر والبطن أي في الظهر والبطن، وحكى مكي أن التقدير إلّا من سفه قوله نفسه على أن نفسه تأكيد حذف المؤكد وأقيم التوكيد مقامه قياسا على النعت والمنعوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول متحامل، و «اصطفى» «افتعل» من الصفوة معناه تخير الأصفى، وأبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، ومعنى هذا الاصطفاء أنه نبأه واتخذه خليلا، وفي الآخرة متعلق باسم فاعل مقدر من الصلاح، ولا يصلح تعلقه ب الصّالحين لأن الصلة لا تتقدم الموصول، هذا على أن تكون الألف واللام بمعنى الذي، وقال بعضهم: الألف واللام هنا للتعريف ويستقيم الكلام، وقيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لمن الصّالحين، فالكلام على حذف مضاف). [المحرر الوجيز: 1/353-354]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين (130) إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين (131) ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون (132)}
يقول تبارك وتعالى ردًّا على الكفّار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشّرك باللّه، المخالف لملّة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنّه جرد توحيد ربّه تبارك وتعالى، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عينٍ، وتبرّأ من كلّ معبودٍ سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتّى تبرّأ من أبيه، فقال: {يا قوم إنّي بريءٌ ممّا تشركون* إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 78، 79]، وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنّني براءٌ ممّا تعبدون* إلا الّذي فطرني فإنّه سيهدين} [الزّخرف: 26، 27]، وقال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدةٍ وعدها إيّاه فلما تبيّن له أنّه عدوٌ للّه تبرّأ منه إنّ إبراهيم لأوّاهٌ حليمٌ} [التّوبة: 114] وقال تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتًا للّه حنيفًا ولم يك من المشركين* شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ* وآتيناه في الدّنيا حسنةً وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين} [النّحل: 120 -122]، ولهذا وأمثاله قال تعالى: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم} أي: عن طريقته ومنهجه. فيخالفها ويرغب عنها {إلا من سفه نفسه} أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحقّ إلى الضّلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدّنيا للّهداية والرّشاد، من حداثة سنّه إلى أن اتّخذه اللّه خليلًا وهو في الآخرة من الصالحين السّعداء -فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتّبع طرق الضّلالة والغيّ، فأيّ سفهٍ أعظم من هذا؟ أم أيّ ظلمٍ أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: {إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ}
وقال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند اللّه وخالفوا ملّة إبراهيم فيما أخذوه، ويشهد لصحّة هذا القول قول اللّه تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين* إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين} [آل عمران: 67، 68]). [تفسير ابن كثير: 1/445]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين}
معناه: اصطفاه إذ قال له ربه أسلم: أي: في ذلك الوقت {قال أسلمت لربّ العالمين}). [معاني القرآن: 1/211]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إذ قال له ربّه أسلم، العامل في إذ اصطفيناه، وكان هذا القول من الله حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. والإسلام هنا على أتم وجوهه). [المحرر الوجيز: 1/354]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين} أي: أمره اللّه بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا). [تفسير ابن كثير: 1/446]

تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}
قوله: (بها) هذه الهاء ترجع على الملة؛ لأن إسلامه هو إظهار طريقته وسنته، ويدل على قوله: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم}، قوله: {إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين}
وإنما كسرت " إن"؛ لأن معنى وصي وأوصى: قول: المعنى : قال لهم إن اللّه اصطفى لكم الدين، ووصى أبلغ من أوصى، لأن أوصى جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصّى لا يكون إلا لمرات كثيرة.
وقوله عزّ وجلّ: {فلا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}
إن قال قائل: كيف ينهاهم عن الموت، وهم إنما يماتون، فإنما وقع هذا على سعة الكلام، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم: " لا أرينك ههنا "، فلفظ النهي إنما هو للمتكلّم، وهو في الحقيقة للمكلّم.
المعنى: لا تكونن ههنا ، فإن من كان ههنا - رأيته - ، والمعنى في الآية: ألزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت ، صادفكم مسلمين).[معاني القرآن: 1/211-212]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى»، وقرأ الباقون ووصّى، والمعنى واحد، إلا أن وصى يقتضي التكثير، والضمير في بها عائد على كلمته التي هي أسلمت لربّ العالمين، وقيل: على الملة المتقدمة، والأول أصوب لأنه أقرب مذكور، وقرأ عمرو بن فائد الأسواري «ويعقوب» بالنصب على أن يعقوب داخل فيمن أوصى، واختلف في إعراب رفعه، فقال قوم من النحاة: التقدير ويعقوب أوصى بنيه أيضا، فهو عطف على إبراهيم، وقال بعضهم: هو مقطوع منفرد بقوله يا بنيّ، فتقدير الكلام ويعقوب قال يا بني، واصطفى هنا معناه تخير صفوة الأديان، والألف واللام في الدّين للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه، وكسرت إنّ بعد وصّى لأنها بمعنى القول، ولذلك سقطت «إن» التي تقتضيها «وصى» في قوله «أن يا بني»، وقرأ ابن مسعود والضحاك «أن يا بني» بثبوت أن.
وقوله تعالى: فلا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود منه أمرهم بالإسلام والدوام عليه، فأتى ذلك بلفظ موجز يقتضي المقصود ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى؟ فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائبا لازما، وحكى سيبويه فيما يشبه هذا المعنى قولهم: لا أرينك هاهنا، وليس إلى المأمور أن يحجب إدراك الأمر عنه، فإنما المقصود: اذهب وزل عن هاهنا، فجاء بالمقصود بلفظ يزيد معنى الغضب والكراهية، وأنتم مسلمون ابتداء وخبر في موضع الحال). [المحرر الوجيز: 1/355-356]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} أي: وصّى بهذه الملّة وهي الإسلام للّه [أو يعود الضّمير على الكلمة وهي قوله: {أسلمت لربّ العالمين}]. لحرصهم عليها ومحبّتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصّوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى: {وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه} [الزّخرف: 28] وقد قرأ بعض السّلف "ويعقوب" بالنّصب عطفًا على بنيه، كأنّ إبراهيم وصّى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادّعى القشيريّ، فيما حكاه القرطبيّ عنه أنّ يعقوب إنّما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليلٍ صحيحٍ؛ والظّاهر، واللّه أعلم، أنّ إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارّة؛ لأنّ البشارة وقعت بهما في قوله: {فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هودٍ: 71] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرّيّة إسحاق كبير فائدةٍ، وأيضًا فقد قال اللّه تعالى في سورة العنكبوت: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذرّيّته النّبوّة والكتاب وآتيناه أجره في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين} [الآية: 27] وقال في الآية الأخرى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلةً} [الأنبياء: 72] وهذا يقتضي أنّه وجد في حياته، وأيضًا فإنّه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدّمة، وثبت في الصّحيحين من حديث أبي ذرٍّ قلت: يا رسول اللّه، أيّ مسجدٍ وضع أوّل؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنةً" الحديث. فزعم ابن حبّان أنّ بين سليمان الذي اعتقد أنّه باني بيت المقدس -وإنّما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنةً، وهذا ممّا أنكر على ابن حبّان، فإنّ المدّة بينهما تزيد على ألوف سنين، واللّه أعلم، وأيضًا فإنّ ذكر وصيّة يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدلّ على أنّه هاهنا من جملة الموصين.
وقوله: {يا بنيّ إنّ اللّه اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم اللّه الوفاة عليه. فإنّ المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه. وقد أجرى اللّه الكريم عادته بأنّ من قصد الخير وفّق له ويسّر عليه. ومن نوى صالحًا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث [الصّحيح] "إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا باعٌ أو ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها. وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا باعٌ أو ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها"؛ لأنّه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فيعمل بعمل أهل الجنّة فيما يبدو للنّاس، ويعمل بعمل أهل النّار فيما يبدو للنّاس. وقد قال اللّه تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى* وصدّق بالحسنى* فسنيسّره لليسرى* وأمّا من بخل واستغنى* وكذّب بالحسنى* فسنيسّره للعسرى} [اللّيل: 5 -10] ). [تفسير ابن كثير: 1/446-447]

تفسير قوله تعالى:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون }
المعنى: بل أكنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، إذ قال لبنيه ، فقولك: (إذ) الثانية، موضعها نصب كموضع الأولى، وهذا بدل مؤكد.
وقوله: {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك}
القراءة على الجمع، وقال بعضهم: {وإله أبيك}، كأنه كره أن يجعل العم أباه، وجعل إبراهيم بدلاً من أبيك مبينا عنه، وبخفض إسماعيل وإسحاق، كان المعنى : إلهك ، وإله أبيك ، وإله إسماعيل، كما تقول: رأيت غلام زيد وعمرو ، أي : غلامهما، ومن قال:{وإله آبائك}فجمع ، وهو المجتمع عليه، جعل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق بدلاً، وكان موضعهم خفضاً على البدل المبين عن آبائك.
وقوله عزّ وجلّ: {إلهاً واحداً}: منصوب على ضربين:
1- إن شئت على الحال، كأنهم قالوا نعبد: إلهك في حال وحدانيته،
2- وإن شئت على البدل، وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد، فيكون المعنى : نعبد إلهاً واحداً). [معاني القرآن: 1/212-213]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون (133) تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون (134) وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (135)
هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية والإسلام، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم؟، أي لم تشهدوا بل أنتم تفترون، وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، ومنه أم يقولون افتراه [يونس: 38، هود: 13، 35، السجدة: 3، الأحقاف: 8]، وقال قوم: أم بمعنى بل، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به، ولكنكم كفرتم جحدا ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عنادا، والأظهر أنها التي
بمعنى بل وألف الاستفهام معا، و «شهداء» جمع شاهد أي حاضر، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم، والعامل في إذ: شهداء، وإذ قال بدل من إذ الأولى، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم، وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه، ومن بعدي أي من بعد موتي، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيّ وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا: نعبد إلهك الآية، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمّ.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: «ردوا علي أبي، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود».
وقال عنه في موطن آخر: «هذا بقية آبائي»، ومنه قوله عليه السلام: «أنا ابن الذبيحين» على القول الشهير في أن إسحاق هو الذبيح.
وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك»، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده، وقال بعضهم: هو جمع سلامة، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين. قال الشاعر: [زياد بن واصل السلمي]: [المتقارب]:
فلمّا تبيّنّ أصواتنا = بكين وفدّيننا بالأبينا
وقال ابن زيد: يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق، وإلهاً بدل من إلهك، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية، وقيل إلهاً حال، وهذا قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية، نحن له مسلمون ابتداء وخبر، أي كذلك كنا نحن ونكون، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل نعبد، والتأويل الأول أمدح). [المحرر الوجيز: 1/356-358]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا ونحن له مسلمون (133) تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (134)}
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفّار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام -بأنّ يعقوب لمّا حضرته الوفاة وصّى بنيه بعبادة اللّه وحده لا شريك له، فقال لهم: {ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} وهذا من باب التّغليب لأنّ إسماعيل عمّه.
قال النّحّاس: والعرب تسمّي العمّ أبًا، نقله القرطبيّ؛ وقد استدلّ بهذه الآية من جعل الجدّ أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصّديق -حكاه البخاريّ عنه من طريق ابن عبّاسٍ وابن الزّبير، ثمّ قال البخاريّ: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أمّ المؤمنين، وبه يقول الحسن البصريّ وطاوسٌ وعطاءٌ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحدٍ من علماء السّلف والخلف؛ وقال مالكٌ والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه أنّه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالكٌ عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وجماعةٍ من السّلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي: أبو يوسف، ومحمّد بن الحسن، ولتقريرها موضعٌ آخر.
وقوله: {إلهًا واحدًا} أي: نوحّده بالألوهيّة، ولا نشرك به شيئًا غيره {ونحن له مسلمون} أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى: {وله أسلم من في السّماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون} [آل عمران: 83] والإسلام هو ملّة الأنبياء قاطبةً، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. والآيات في هذا كثيرةٌ والأحاديث، فمنها قوله صلّى اللّه عليه وسلّم:"نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحدٌ"). [تفسير ابن كثير: 1/447]

تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (134)}
معنى {خلت} :مضت، كما تقول لثلاث خلون من الشهر ، أي: مضين.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تسألون عمّا كانوا يعملون}: المعنى: إنما تسألون عن أعمالكم). [معاني القرآن: 1/213]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: قد خلت في موضع رفع نعت لأمة، ومعناه ماتت وصارت إلى الخلاء من الأرض، ويعني بالأمة الأنبياء المذكورون، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، أي أنتم أيها الناحلوهم اليهودية والنصرانية، ذلك لا ينفعكم، لأن كل نفس لها ما كسبت من خير وشر، فخيرهم لا ينفعكم إن كسبتم شرا، وفي هذه الآية رد على الجبرية القائلين لا اكتساب للعبد، ولا تسئلون عمّا كانوا يعملون فتنحلوهم دينا). [المحرر الوجيز: 1/359]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {تلك أمّةٌ قد خلت} أي: مضت {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أي: إنّ السّلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعه عليكم، فإنّ لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: {ولا تسألون عمّا كانوا يعملون}
وقال أبو العالية، والرّبيع، وقتادة: {تلك أمّةٌ قد خلت} يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط [ولهذا جاء، في الأثر: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه] ). [تفسير ابن كثير: 1/447-448]



* للاستزادة ينظر: هنا