17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا
لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبا ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين} هذا على ضربين: أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياء إلا ما قد حظر الله عزّ وجلّ من الميتة ، وما ذكر معها، فيكون {طيّباً}نعتاً للحلال، ويكون طيباً نعتا لما يستطاب، والأجود أن يكون {طيّباً} من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم ، كقوله عزّ وجلّ: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} وقوله عزّ وجلّ: {ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان}: أكثر القراءة خطوات بضم الخاء والطاء، وإن شئت أسكنت الطاء. {خطوات} لثقل الضمة، وإن شئت خطوات، وهي قراءة شاذة ، ولكنها جائزة في العربية قوية، وأنشد الخليل، وسيبويه، وجميع البصريين النحويين: ولما رأونا باديا ركباتنا= على موطن لا نخلط الجدّ بالهزل ومعنى{خطوات الشيطان}: طرقه، أي: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان). [معاني القرآن: 1/241] تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} تفسير
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} معنى:{ألفينا}: صادفنا، فعنّفهم اللّه ، وعاب عليهم تقليدهم آباءهم. فقال: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} المعنى:
أيتبعون آباءهم ، وإن كانوا جهالاً، وهذه الواو مفتوحة ؛ لأنها واو عطف،
دخلت عليها ألف التوبيخ، وهي ألف الاستفهام ، فبقيت الواو مفتوحة على ما
يجب لها). [معاني القرآن: 1/242] تفسير
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ
بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ (171)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء ونداء صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون} وضرب
اللّه عزّ وجلّ لهم هذا المثل، وشبههم بالغنم المنعوق بها بما لا يسمع منه
إلا الصوت، فالمعنى: مثلك يا محمد، ومثلهم كمثل الناعق والمنعوق به، بما
لا يسمع، لأن سمعهم ما كان ينفعهم، فكانوا في شركهم ،وعدم قبول ما يسمعون
بمنزلة من لم يسمع، والعرب تقول لمن يسمع ، ولا يعمل بما يسمع: أصم. قال الشاعر: = أصمّ عمّا ساءه سميع وقوله عزّ وجلّ :{صمّ بكم عمي} وصفهم
بالبكم ، وهو الخرس، وبالعمى؛ لأنهم في تركهم ما يبصرون من الهداية بمنزلة
العمي، وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحا كافيا إن شاء اللّه). [معاني القرآن: 1/242] تفسير
قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
(172)} تفسير
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(173)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم} النّصب في {الميتة}،
وما عطف عليها هو القراءة، ونصبه لأنه مفعول به، دخلت " ما " تمنع إنّ من
العمل، ويليها الفعل، وقد شرحنا دخول ما مع إن، ويجوز : إنما حرم عليكم
الميتة، والذي أختاره أن يكون ما تمنع أن من العمل، ويكون المعنى : ما حرم
عليكم إلا الميتة، والدم ، ولحم الخنزير؛ لأن " إنما " تأتي إثباتاً لما
يذكر بعدها لما سواه. قال الشاعر: أنا الزائد الحامي الذمار وإنما= يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي، فالاختيار ما عليه جماعة القراء ؛ لإتباع السنة، وصحته في المعنى.. ومعنى{ما أهلّ به لغير الله}أي: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله عليه ، وهذا موجود في اللغة، ومنه الإهلال بالحج ، إنما هو رفع الصوت بالتلبية. والميتة: أصلها الميّتة، فحذقت الياء الثانية استخفافاً، لثقل الياءين ، والكسرة ، والأجود في القراءة الميتة بالتخفيف. وكذلك في قوله: {أومن كان ميتاً فأحييناه}أصله: أو من كان ميّتا بالتشديد، وتفسير الحذف، والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة. وقوله عزّ وجلّ: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد} في تفسيرها ’ ومعناها ثلاثة أوجه: 1- قال بعضهم: {فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد}، أي : فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير آكلها تلذذا - ولا عاد، ولا مجاوز ما يدفع عن نفسه الجوع، فلا إثم عليه. 2- وقالوا: {غير باغ}: غير مجاوز قدر حاجته ، وغير مقصر عما يقيم به حياته، 3- وقالوا: أيضا: معنى غير باغ على إمام، وغير متعد على أمته. ومعنى البغي في اللغة:
قصد الفساد، يقال: بغى الجرح يبغي بغياً، إذا ترامى إلى فساد، هذا إجماع
أهل اللغة، ويقال: بغى الرجل حاجته يبغيها بغاء.، والعرب تقول خرج في بغاء
إبله ، قال الشاعر: لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم= إنّ الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم ويقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال اللّه عزّ وجلّ: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً}أي: على الفجور . ويقال: ابتغى لفلان أن يفعل كذا، أي: صلح له أن يفعل كذا، وكأنه قال: طلب فعل كذا ، فانطلب له، أي: طاوعه، ولكن اجتزئ ، بقولهم ابتغى، والبغايا في اللغة شيئان: 1- البغايا الفواجر. 2- والبغايا الإماء، قال الأعشى: والبغايا يركضن أكسية ألا= ضريج والشرعبيّ ذا الأذيال ونصب {غير باغ} على الحال). [معاني القرآن: 1/244]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
الخطاب عام و «ما» بمعنى الذي، وحلالًا حال من الضمير العائد على «ما»، وقال مكي: «نعت لمفعول محذوف تقديره شيئا حلالا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا يبعد، وكذلك مقصد الكلام لا يعطي أن يكون حلالًا مفعولا ب كلوا وتأمل»،
وطيّباً نعت، ويصح أن يكون طيّباً حالا من الضمير في كلوا تقديره
مستطيبين، والطيب عند مالك: الحلال، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند
الشافعي: المستلذ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث، وخطوات
جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي، فالمعنى النهي عن اتباع الشيطان
وسلوك سبله وطرائقه، قال ابن عباس: «خطواته أعماله»، قال غيره: آثاره، قال مجاهد: «خطاياه»، قال أبو مجلز: «هي النذور والمعاصي»، قال الحسن: «نزلت فيما سنوه من البحيرة والسائبة ونحوه»، قال النقاش: «نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب».
وقرأ ابن عامر
والكسائي «خطوات» بضم الخاء والطاء، ورويت عن عاصم وابن كثير بخلاف، وقرأ
الباقون بسكون الطاء، فإما أرادوا ضم الخاء والطاء وخففوها إذ هو الباب في
جمع فعلة كغرفة وغرفات، وإما أنهم تركوها في الجمع على سكونها في المفرد،
وقرأ أبو السمال «خطوات» بفتح الخاء والطاء وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة
والأعمش وسلام «خطؤات» بضم الخاء والطاء وهمزة على الواو، وذهب بهذه
القراءة إلى أنها جمع خطأة من الخطأ لا من الخطو. وكل ما عدا السنن
والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان، وعدوٌّ يقع للمفرد والتثنية
والجمع). [المحرر الوجيز: 1/ 406-407]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبًا ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان
إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ (168) إنّما يأمركم بالسّوء والفحشاء وأن تقولوا على
اللّه ما لا تعلمون (169)}
لمّا بيّن تعالى
أنّه لا إله إلّا هو، وأنّه المستقلّ بالخلق، شرع يبيّن أنّه الرّزّاق
لجميع خلقه، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنّه أباح لهم أن يأكلوا ممّا في
الأرض في حال كونه حلالًا من اللّه طيّبًا، أي: مستطابًا في نفسه غير ضارٍّ
للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتّباع خطوات الشّيطان، وهي: طرائقه
ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسّوائب والوصائل ونحوها
ممّا زينه لهم في جاهليّتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلمٍ،
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال:[يقول اللّه تعالى: إنّ كلّ ما أمنحه عبادي فهو لهم حلالٌ] وفيه: [وإنّي خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم].
وقال الحافظ أبو
بكر بن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمّد بن عيسى بن شيبة
المصريّ، حدّثنا الحسين بن عبد الرّحمن الاحتياطيّ، حدّثنا أبو عبد اللّه
الجوزجانيّ -رفيق إبراهيم بن أدهم -حدّثنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن
عبّاسٍ قال: «تليت هذه الآية عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبًا} فقام سعد بن أبي وقّاصٍ، فقال: «يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني مستجاب الدّعوة»، فقال. «يا
سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدّعوة، والذي نفس محمّدٍ بيده، إنّ الرّجل
ليقذف اللّقمة الحرام في جوفه ما يتقبّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبدٍ نبت
لحمه من السّحت والرّبا فالنّار أولى به».
وقوله: {إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ} تنفيرٌ عنه وتحذيرٌ منه، كما قال: {إنّ
الشّيطان لكم عدوٌّ فاتّخذوه عدوًّا إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السّعير} [فاطرٍ: 6] وقال تعالى: {أفتتّخذونه وذرّيّته أولياء من دوني وهم
لكم عدوٌّ بئس للظّالمين بدلا}[الكهف: 50].
وقال قتادة، والسّدّيّ في قوله: «{ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان}كلّ معصيةٍ للّه فهي من خطوات الشّيطان».
وقال عكرمة: «هي نزغات الشّيطان»، وقال مجاهدٌ: «خطاه»، أو قال: «خطاياه».
وقال أبو مجلز: «هي النّذور في المعاصي».
وقال الشّعبيّ: «نذر رجلٌ أن ينحر ابنه فأفتاه مسروقٌ بذبح كبشٍ. وقال:هذا من خطوات الشّيطان».
وقال أبو الضّحى، عن مسروقٍ: أتى عبد اللّه بن مسعودٍ بضرع وملحٍ، فجعل يأكل، فاعتزل رجلٌ من القوم، فقال ابن مسعودٍ: «ناولوا صاحبكم». فقال: «لا أريده». فقال: «أصائمٌ أنت؟» قال: «لا.» قال: «فما شأنك؟» قال: «حرّمت أن آكل ضرعًا أبدًا.» فقال ابن مسعودٍ: «هذا من خطوات الشّيطان، فاطعم وكفّر عن يمينك».
رواه ابن أبي حاتمٍ، وقال أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا حسّان بن عبد اللّه المصري، عن سليمان التّيميّ، عن أبي رافعٍ، قال: «غضبت على امرأتي»، فقالت: «هي يومًا يهوديّةٌ ويومًا نصرانيّةٌ، وكلّ مملوكٍ لها حرٌّ، إن لم تطلّق امرأتك». فأتيت عبد اللّه بن عمر فقال: «إنّما هذه من خطوات الشّيطان». وكذلك قالت زينب بنت أمّ سلمة، وهي يومئذٍ أفقه امرأةٍ في المدينة. وأتيت عاصمًا وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وقال عبد بن حميدٍ: حدّثنا أبو نعيمٍ عن شريكٍ، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «ما كان من يمينٍ أو نذرٍ في غضب، فهو من خطوات الشّيطان، وكفّارته كفّارة يمينٍ».
وقال سعيد بن داود في تفسيره: حدّثنا عبادة بن عبّادٍ المهلّبيّ عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه: «إن لم أجلدك مائة سوطٍ فامرأته طالقٌ»، قال: «لا يجلد غلامه، ولا تطلّق امرأته هذا من خطوات الشّيطان»). [تفسير ابن كثير: 1/ 478-479]
و {السوء} مصدر من ساء يسوء فهي المعاصي وما تسوء عاقبته، والفحشاء قال السدي: «هي الزنا»، وقيل: كل ما بلغ حدا من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ، وقيل: ما تفاحش ذكره، وأصل الفحش قبح المنظر كما قال امرؤ القيس:
وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش ....... إذا هي نصّته ولا بمعطّل
ثم استعملت اللفظة
فيما يستقبح من المعاني، والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه
الشريعة فهو من الفحشاء، وما لا تعلمون: قال الطبري:«يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها وجعلوه شرعا»). [المحرر الوجيز: 1/ 407-408]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إنّما يأمركم بالسّوء والفحشاء وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون}
أي: إنّما يأمركم عدوّكم الشّيطان بالأفعال السّيّئة، وأغلظ منها الفاحشة
كالزّنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على اللّه بلا علمٍ، فيدخل في هذا
كلّ كافرٍ وكلّ مبتدعٍ أيضًا). [تفسير ابن كثير: 1/ 479]
فألفيته غير مستعتب ....... ولا ذاكر الله إلّا قليلا
والألف في قوله
أولو للاستفهام، والواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في
الالتزام أن يقولوا نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم
هذا إذ هذه حال آبائهم.
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد). [المحرر الوجيز: 1/ 408]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا
قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو
كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون (170) ومثل الّذين كفروا كمثل
الّذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون
(171)}
يقول تعالى: {وإذا قيل} لهؤلاء الكفرة من المشركين: {اتّبعوا ما أنزل اللّه} على رسوله، واتركوا ما أنتم فيه من الضّلال والجهل، قالوا في جواب ذلك: {بل نتّبع ما ألفينا} أي: وجدنا {عليه آباءنا} أي: من عبادة الأصنام والأنداد. قال اللّه تعالى منكرًا عليهم: {أولو كان آباؤهم} أي: الّذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم {لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} أي: ليس لهم فهمٌ ولا هدايةٌ!!.
وروى ابن إسحاق عن
محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّها
نزلت في طائفةٍ من اليهود، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى
الإسلام، فقالوا: بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا. فأنزل اللّه هذه الآية).
[تفسير ابن كثير: 1/ 480]
فذكر تعالى بعض هذه الجملة وترك البعض، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز.
والنعيق زجر الغنم والصياح بها، قال الأخطل:
انعق بضأنك يا جرير فإنّما ....... منّتك نفسك في الخلاء ضلالا
وقال قوم: إنما
وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان، فهي تحمق راعيها، وفي
المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن: «راعي ضأن والله»، وقال الشاعر:
أصبحت هزءا لراعي الضّأن يهزأ بي ....... ماذا يريبك منّي راعي الضّأن
فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحا يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه، وقال ابن زيد: «المعنى
في الآية: ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي
ينعق بما لا يسمع منه شيئا إلا دويا غير مفيد، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب
من الجبال»، ووجه الطبري في الآية معنى آخر، وهو أن المراد: «ومثل
الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من
أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه، فإنما شبه في
هذين التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به، وشبهوا في الصمم
والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك
ما ينبغي»، ومنه قول الشاعر:
... ... ... ... ....... أصم عمّا ساءه، سميع
ولما تقرر فقدهم
لهذه الحواس قضى بأنهم لا يعقلون إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره: علوم
ضرورية تعطيها هذه الحواس، أو لا بد في كسبها من الحواس، وتأمل). [المحرر الوجيز: 1/ 408-410]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ضرب لهم تعالى مثلًا كما قال تعالى: {للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السّوء}[النّحل: 60] فقال: {ومثل الّذين كفروا}
أي: فيما هم فيه من الغيّ والضّلال والجهل كالدّوابّ السّارحة التي لا
تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها، لا
تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنّما تسمع صوته فقط.
هكذا روي عن ابن عبّاسٍ، وأبي العالية، ومجاهدٍ، وعكرمة، وعطاءٍ، والحسن، وقتادة، وعطاءٍ الخراسانيّ والرّبيع بن أنسٍ، نحو هذا.
وقيل: إنّما هذا
مثلٌ ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئًا،
اختاره ابن جريرٍ، والأوّل أولى؛ لأنّ الأصنام لا تسمع شيئًا ولا تعقله ولا
تبصره، ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} أي: صمٌّ عن سماع الحقّ، بكمٌ لا يتفوّهون به، عميٌ عن رؤية طريقه ومسلكه {فهم لا يعقلون} أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: {والّذين كذّبوا بآياتنا صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات من يشأ اللّه يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ}[الأنعام: 39] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 480]
{الطيب}
هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض من إلى الحرام رزق، وحض
تعالى على الشكر والمعنى في كل حالة، وإن شرط، والمراد بهذا الشرط التثبيت
وهز النفس، كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا). [المحرر الوجيز: 1/ 410]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم واشكروا للّه إن كنتم إيّاه
تعبدون (172) إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به
لغير اللّه فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ
رحيمٌ (173)}
يقول تعالى آمرًا
عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن
كانوا عبيده، والأكل من الحلال سببٌ لتقبّل الدّعاء والعبادة، كما أنّ
الأكل من الحرام يمنع قبول الدّعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه
الإمام أحمد:
حدّثنا أبو
النّضر، حدّثنا الفضيل بن مرزوقٍ، عن عديّ بن ثابتٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي
هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّها النّاس، إنّ اللّه طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّبًا، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحًا إنّي بما تعملون عليمٌ}[المؤمنون: 51]وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم}ثمّ
ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ، يا
ربّ، ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب
لذلك».
ورواه مسلمٌ في صحيحه، والتّرمذيّ من حديث فضيل بن مرزوقٍ). [تفسير ابن كثير: 1/ 480-481]
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هكذا هو استعمال العرب» ويشهد بذلك قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ....... إنّما الميت ميّت الأحياء
استراح: من الراحة، وقيل: من الرائحة، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير وما هو بميّتٍ [إبراهيم: 17]، والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ....... فسرّك أن يعيش فجىء بزاد
فالأبلغ في الهجاء
أن يريد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت
والأول أشعر، وقرأ قوم «الميتة» بالرفع على أن تكون ما بمعنى الذي وإنّ
عاملة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حرّم» على ما لم يسمّ فاعله ورفع ما
ذكر تحريمه، فإن كانت ما كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله، وإن كانت بمعنى
الذي فالميتة خبر.
ولفظ الميتة عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم، {والميتة}:
ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره
ومنعه العراقيون، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف، منعه مالك وجمهور
أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم، وقال ابن وهب:«إن ضم في غرائر فضمه ذكاته» ، وقال ابن القاسم: «لا، حتى يصنع به شيء يموت منه كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء» ، وقال سحنون: «لا يطرح في ماء بارد» ، وقال أشهب: «إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل».
{والدّم}
يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وفي دم الحوت
المزايل للحوت اختلاف، روي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم من طهارته أنه غير
محرم، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم
الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه، وفي
خنزير الماء كراهية، أبي مالك أن يجيب فيه، وقال:« أنتم تقولون خنزيرا».
وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية، وحكى ابن سيده عن بعضهم
أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر، فاللفظة على هذا ثلاثية.
{وما أهلّ به لغير اللّه} ، قال ابن عباس وغيره: «المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان»
، وأهلّ معناه صيح، ومنه استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم
المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة
التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل
التي نحرها غالب أبو الفرزدق، فقال إنها مما أهلّ به لغير الله فتركها
الناس، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت
للعبها عرسا فذبحت جزورا، فقال الحسن: «لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم»، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة.
واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع، وقال ابن حبيب: «ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال»، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم، وقوله تعالى: {فمن اضطرّ}
الآية، ضمت النون للالتقاء اتباعا للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور، وقرأ
أبو جعفر وأبو السمال فمن اضطرّ بكسر الطاء، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت
حركة الراء إلى الطاء، وقرأ ابن محيصن «فمن اطّر» بإدغام الضاد في الطاء،
وكذلك حيث ما وقع في القرآن، ومعنى {اضطرّ}:
ضمه عدم وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء، وقيل
معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات، وغير باغٍ في موضع نصب على الحال،
والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم: «غير قاصد فساد وتعدّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها»، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: «المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم»
، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل، والخارج على السلطان، والمسافر في
قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله، ولغير هؤلاء هي الرخصة، وقال
السدي: «غير باغٍ أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته، فيجيء أكله شهوة» ، {ولا عادٍ} أي متزود، وقال مالك رحمه الله: «يأكل المضطر شبعه»،
وفي الموطأ- وهو لكثير من العلماء: أنه يترود إذا خشي الضرورة فيما بين
يديه من مفازة وقفر، وقيل: في عادٍ أن معناه عايد، فهو من المقلوب كشاكي
السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ، استثقلت
الكسرة على الياء فسكنت، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها.
ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة
متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم، ويطلق التحريم على العين تجوزا، ومنع
قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة
قبل.
ومن العلماء من
يرى أن الميتة من ابن آدم والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار، لأنهما لا
تصح فيهما ذكاة بوجه، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه). [المحرر الوجيز: 1/ 410-415]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ولمّا
امتنّ تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيّبه، ذكر أنّه لم يحرّم
عليهم من ذلك إلّا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكيةٍ، وسواءً
كانت منخنقةً أو موقوذةً أو متردّية أو نطيحةً أو قد عدا عليها السّبع.
وقد خصّص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى: {أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسّيّارة}[المائدة: 96] على ما سيأتي، وحديث العنبر في الصّحيح وفي المسند والموطّأ والسّنن قوله، عليه السّلام، في البحر: «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» وروى الشّافعيّ وأحمد وابن ماجه والدّارقطنيّ من حديث ابن عمر مرفوعًا: «أحلّ لنا ميتتان ودمان: السّمك والجراد، والكبد والطّحال»وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة.
ولبن الميتة
وبيضها المتّصل بها نجسٌ عند الشّافعيّ وغيره؛ لأنّه جزءٌ منها. وقال مالكٌ
في روايةٍ: هو طاهرٌ إلّا أنّه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها
الخلاف والمشهور عندهم أنّها نجسةٌ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصّحابة من
جبن المجوس، فقال القرطبيّ في تفسيره هاهنا: «يخالط اللّبن منها يسيرٌ، ويعفى عن قليل النّجاسة إذا خالط الكثير من المائع».
وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون، عن سليمان التّيميّ، عن أبي عثمان
النّهديّ، عن سلمان سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن السّمن
والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحلّ اللّه في كتابه، والحرام ما حرّم اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه».
وكذلك حرّم عليهم
لحم الخنزير، سواءٌ ذكّي أو مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إمّا
تغليبًا أو أنّ اللّحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأيٍ. و كذلك حرّم
عليهم ما أهلّ به لغير اللّه، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب
والأنداد والأزلام، ونحو ذلك ممّا كانت الجاهليّة ينحرون له. وذكر القرطبيّ
عن ابن عطيّة أنّه نقل عن الحسن البصريّ: أنّه سئل عن امرأةٍ عملت عرسًا
للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال: «لا تؤكّل لأنّها ذبحت لصنمٍ»، وأورد القرطبيّ عن عائشة أنّها سئلت عمّا يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: «ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم». ثمّ أباح تعالى تناول ذلك عند الضّرورة والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ} أي: في غير بغيٍ ولا عدوانٍ، وهو مجاوزة الحدّ {فلا إثم عليه} أي: في أكل ذلك {إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
وقال مجاهدٌ: « {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ}، قاطعًا
للسّبيل، أو مفارقًا للأئمّة، أو خارجًا في معصية اللّه، فله الرّخصة، ومن
خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية اللّه فلا رخصة له، وإن اضطرّ إليه»، وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ.
وقال سعيدٌ -في روايةٍ عنه -ومقاتل بن حيّان: «غير باغٍ: يعني غير مستحلّه». وقال السّدّيّ: «غير باغٍ يبتغي فيه شهوته»، وقال عطاءٌ الخراسانيّ في قوله:{غير باغٍ} قال: «لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه، ولا يأكل إلّا العلقة، ويحمل معه ما يبلّغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه وهو قوله: {ولا عادٍ} يقول: «لا يعدو به الحلال».
وعن ابن عبّاسٍ: «لا يشبع منها». وفسّره السّدّيّ بالعدوان. وعن ابن عبّاسٍ {غير باغٍ ولا عادٍ} قال: «{غير باغٍ}في الميتة{ولا عادٍ}في أكله». وقال قتادة: «فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ في أكله: أن يتعدّى حلالًا إلى حرامٍ، وهو يجد عنه مندوحةً».
وحكى القرطبيّ عن مجاهدٍ في قوله: {فمن اضطرّ}«أي: أكره على ذلك بغير اختياره».
مسألةٌ: ذكر
القرطبيّ إذا وجد المضطرّ ميتةً وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذًى،
فإنّه لا يحلّ له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلافٍ -كذا قال -ثمّ
قال: وإذا أكله، والحالة هذه، هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن
مالكٍ، ثمّ أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياسٍ جعفر بن أبي
وحشيّة: سمعت عبّاد بن العنزيّ قال: «أصابتنا
عامًا مخمصةٌ، فأتيت المدينة. فأتيت حائطًا، فأخذت سنبلًا ففركته وأكلته،
وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته، فقال للرّجل: «ما أطعمته إذ كان جائعًا أو ساعيًا، ولا علّمته إذ كان جاهلا». فأمره فردّ إليه ثوبه، وأمر له بوسقٍ من طعامٍ أو نصف وسقٍ»،
إسنادٌ صحيحٌ قويٌّ جيّدٌ وله شواهد كثيرةٌ: من ذلك حديث عمرو بن شعيبٍ،
عن أبيه، عن جدّه: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الثّمر
المعلّق، فقال: «من أصاب منه من ذي حاجةٍ بفيه غير متّخذٍ خبنةً فلا شيء عليه»الحديث.
وقال مقاتل بن حيّان في قوله: «{فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}فيما أكل من اضطرارٍ، وبلغنا -واللّه أعلم -أنّه لا يزاد على ثلاث لقمٍ».
وقال سعيد بن جبيرٍ: «غفورٌ لما أكل من الحرام. رحيمٌ إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار».
وقال وكيع: حدّثنا الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ قال: «من اضطرّ فلم يأكل ولم يشرب، ثمّ مات دخل النّار».
وهذا يقتضي أنّ
أكل الميتة للمضطرّ عزيمةٌ لا رخصةٌ. قال أبو الحسن الطّبريّ -المعروف
بالكيا الهرّاسيّ رفيق الغزّاليّ في الاشتغال: وهذا هو الصّحيح عندنا؛
كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك ). [تفسير ابن كثير: 1/ 481-483]
* للاستزادة ينظر: هنا