الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (219) إلى الآية (221) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

4137

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم السادس عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (219) إلى الآية (221) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

4137

0

0


0

0

0

0

0


تفسير قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}




تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
{الخمر} المجمع عليه، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر.
وأن يكون في التحريم بمنزلتها.
وتأويل الخمر في اللغة: أنه كل ما ستر العقل، يقال لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر، وما ستره من شجر خاصة ضرى، " مقصور "، ويقال دخل فلان في خمار أي في الكثير الذي يستتر فيه وخمار المرأة قناعها، وإنما قيل له خمار لأنه يغطي، والخمرة التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العجين وخمرته، وفطرته وأفطرته.
فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه، وليس يقول أحد للشارب إلا مخمور - من كل سكر - وبه خمار، فهذا بيّن واضح.
وقد لبّس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له: إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له، ثم قاده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد، فقال:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني... رأيت أخاها مجزيا لمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه... أخوها غذته أمها بلبانها
وقال أهل التفسير في قوله عزّ وجلّ: {قل فيهما إثم كبير} وقرئت " كثير " قال قوم زهّد فيها في هذا الموضع وبين تحريمها في سورة المائدة في قوله: {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون (90) إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون (91)}.
ومعنى{فهل أنتم منتهون}: التحضيض على الانتهاء والتفديد على ترك الانتهاء.
وقال قوم: لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع آخر.
لأنه قال: {إثم كبير} وقد حرم الله الإثم نصّا فقال: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ}.
وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعا عليه ليعلم أن نص ذلك في الكتاب.
فأما الإثم الكبير الذي في الخمر: فبين، لأنها توقع العداوة والبغضاء وتحول بين المرء وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه.
والقمار: يورث العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه،
وأما المنافع للناس فيه: فاللذة في الخمر والربح في المتجّر فيها، وكذلك المنفعة في القمار، يصير الشيء إلى الإنسان بغير كد ولا تعب فأعلم اللّه أن الإثم فيهما {إثم} أكبر من نفعهما.
وقوله عزّ وجلّ: {ويسألونك ماذا ينفقون}.
النصنب والرفع في {العفو} جميعا، من " جعل {ماذا} اسما واحدا رد العفو عليه ومن جعل " ما " اسما و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي رد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفو، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسما فتحمل العفو علي ينفقون، كأنه قيل أنفقوا العفو.
ويجوز أيضا أن ترفع - وإن جعلت {ماذا} بمنزلة شيء واحد على "قل هو العفو".
والعفو في اللغة: الفضل والكثرة، يقال عفا القوم إذا كثروا.
فأمروا أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير، والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها.
وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يبين اللّه لكم الآيات}أي: مثل هذا البيان في الخمر والميسر {يبين الله لكم الآيات}: لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال عزّ وجلّ: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء}
ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الإجماع بذلك، وذلكم أكثر في اللغة، وقد أتي في القرآن في غير " ذلك " للجماعة - قال اللّه تعالى:
{يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيرا } -
والأصل ذلكن، إلا أن الجماعة في معنى القبيل.
وقوله عز وجل: {لعلّكم تتفكّرون (219) في الدّنيا والآخرة}يجوز أن يكون:
(تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة -،
ويجوز أن يكون في الدنيا والآخرة من صلة كذلك يبين الله لكم الآيات).
أي: يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة لعلكم تتفكرون). [معاني القرآن: 1/291-294]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر الآية، السائلون هم المؤمنون، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمروا الإناء»، ومنه خمار المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، ومنه قول الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا = فقد جاوزتما خمر الطريق
أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره، ومنه قول العجاج:
في لامع العقبان لا يمشي الخمر = ... ... ... ...
يصف جيشا جاء برايات غير مستخف، ومنه قولهم: دخل فلان في غمار الناس وخمارهم، أي هو بمكان خاف، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك، والخمر ماء العنب الذي غلي ولم يطبخ وما خامر العقل من غير ذلك فهو في حكمه.
قال أبو حنيفة: قد تكون الخمر من الحبوب، قال ابن سيده: وأظنه تسفحا منه، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: العنب والنخلة»، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح، ولم تكن عندهم خمر عنب، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره.
والحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، فما لا يسكر منه حلال، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف يرده النظر، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه، وروي أن النبي عليه السلام قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام»، قال ابن المنذر في الإشراف: «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج»، وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى [النساء: 43]، ثم قوله تعالى: إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة، فهل أنتم منتهون، [المائدة: 91]، ثم قوله تعالى: إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه [المائدة: 90]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر»، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم وأبو داود، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضربا مشاعا، وحزره أبوبكر أربعين سوطا، وعمل بذلك هو ثم عمر، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين، وبه قال مالك، وقال الشافعي بالأربعين، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة من العلماء لا يبدو إبط الضارب، وقال مالك: «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح»، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع، وقالت طائفة: هذه الآية منسوخة بقوله: فاجتنبوه لعلّكم تفلحون [المائدة: 90]، يريد ما في قوله ومنافع للنّاس من الإباحة والإشارة إلى الترخيص.
والميسر مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر، ومنه قول الشاعر:
فلم يزل بك واشيهم ومكرهم = حتّى أشاطوا بغيب لحم من يسروا
ومنه قول الآخر:
أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني = ألم تيأسوا إنّي ابن فارس زهدم؟
والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسرا لأنه موضع اليسر، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة. وقال الطبري: «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى»، ونسب القول إلى مجاهد، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله، بل أراد مجاهد الجزر، واليسر: الذي يدخل في الضرب بالقداح، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر، كحارس وحرس وأحراس، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ، وثلاثة لا حظوظ لها، ولا فروض فيها، وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بها، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسما، وليس كذلك. ثم يضرب على العشرة الأقسام، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى: [السريع]
المطعمو الضيف إذا ما شتا = والجاعلو القوت على الياسر
ومنه قول الآخر: [الطويل]
بأيديهم مقرومة ومغالق = يعود بأرزاق العفاة منيحها
والمنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال، فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد جرير بقوله: [الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة = كرّ المنيح وجلن ثمّ مجالا
ومن الميسر قول لبيد:
[الطويل]
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم = فواحش ينعى ذكرها بالمصائف
فهذا كله هو نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل، ففيه إثم كبير، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز.
وقوله تعالى: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس الآية، قال ابن عباس والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبله، وقالت طائفة: الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا = وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
إلى غير ذلك من أفراحها، وقال مجاهد: «المنفعة بها كسب أثمانها»، ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم، وقرأ حمزة والكسائي «كثير» بالثاء المثلثة، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فهذه آثام كثيرة، وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير» بالباء بواحدة، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق، وأيضا فاتفاقهم على أكبر حجة لكبير بالباء بواحدة، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة، إلا ما في مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر» بالثاء مثلثة في الحرفين، وقوله تعالى: فيهما إثمٌ يحتمل مقصدين، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما، وقال سعيد بن جبير: لما نزلت قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع، فلما نزلت لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى [النساء: 43] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس، فلما نزلت إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون [المائدة: 90] قال عمر بن الخطاب: ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمر.
ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91] قال: «انتهينا، انتهينا»، قال الفارسي: وقال بعض أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال: قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم [الأعراف: 33]، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثما، فهي حرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ليس هذا النظر بجيد لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر. وقال قتادة: ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها.
وقوله تعالى ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو قال قيس بن سعد: «هذه الزكاة المفروضة». وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع. وقال بعضهم: نسخت بالزكاة. وقال آخرون: هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة. والعفو: هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله. ونحو هذا هي عبارة المفسرين، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من كان له فضل فلينفقه على نفسه، ثم على من يعول، فإن فضل شيء فليتصدق به»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وفي حديث آخر: «ما كان عن ظهر غنى».
وقرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب، وقرأ أبو عمرو وحده «العفو» بالرفع، واختلف عن ابن كثير، وهذا متركب على ماذا، فمن جعل «ما» ابتداء و «ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في ينفقون هـ عائدا قرأ «العفو» بالرفع، لتصح مناسبة الجمل، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم، أو الذي تنفقون العفو، ومن جعل ماذا اسما واحدا مفعولا ب ينفقون، قرأ «قل العفو» بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع «العفو» مع نصب «ما» جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها.
وقوله تعالى: كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته، وقال مكي: «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات، فقوله في الدّنيا متعلق على هذا التأويل ب الآيات، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق في الدّنيا ب تتفكّرون). [المحرر الوجيز: 1/526-536]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (219) في الدّنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (220)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا خلف بن الوليد، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر أنّه قال: لمّا نزل تحريم الخمر قال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ [ومنافع للنّاس]} فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النّساء: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النّساء: 43]، فكان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أقام الصّلاة نادى: ألّا يقربنّ الصّلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلمّا بلغ: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا.
وهكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ وابن مردويه من طريق الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفيّ، عن عمر. وليس له عنه سواه، لكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. واللّه أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالحٌ وصحّحه التّرمذيّ. وزاد ابن أبي حاتمٍ -بعد قوله: انتهينا -: إنّها تذهب المال وتذهب العقل. وسيأتي هذا الحديث أيضًا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضًا -عند قوله في سورة المائدة: {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90] الآيات.
فقوله: {يسألونك عن الخمر والميسر} أمّا الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: إنّه كلّ ما خامر العقل. كما سيأتي بيانه في سورة المائدة، وكذا الميسر، وهو القمار.
وقوله: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} أمّا إثمهما فهو في الدّين، وأمّا المنافع فدنيويّةٌ، من حيث إنّ فيها نفع البدن، وتهضيم الطّعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشّدّة المطربة التي فيها، كما قال حسّان بن ثابتٍ في جاهليّته:
ونشربها فتتركنا ملوكًا = وأسدًا لا ينهنهها اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها. وما كان يقمّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ولكنّ هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الرّاجحة، لتعلّقها بالعقل والدّين، ولهذا قال: {وإثمهما أكبر من نفعهما}؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهّدةً لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرّحةً بل معرّضةً؛ ولهذا قال عمر، رضي اللّه عنه، لمّا قرئت عليه: اللّهمّ بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، حتّى نزل التّصريح بتحريمها في سورة المائدة: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون * إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء اللّه، وبه الثّقة.
قال ابن عمر، والشّعبيّ، ومجاهدٌ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هذه أوّل آيةٍ نزلت في الخمر: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ [ومنافع للنّاس]} ثمّ نزلت الآية التي في سورة النّساء، ثمّ التي في المائدة، فحرّمت الخمر.
وقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قرئ بالنّصب وبالرّفع وكلاهما حسنٌ متّجه قريبٌ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبان، حدّثنا يحيى أنّه بلغه: أنّ معاذ بن جبلٍ وثعلبة أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا يا رسول اللّه، إن لنا أرقّاء وأهلين [فما ننفق] من أموالنا. فأنزل اللّه: {ويسألونك ماذا ينفقون}.
وقال الحكم، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: ما يفضل عن أهلك.
وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، ومحمّد بن كعبٍ، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالمٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وغير واحدٍ: أنّهم قالوا في قوله: {قل العفو} يعني الفضل.
وعن طاوسٍ: اليسير من كلّ شيءٍ، وعن الرّبيع أيضًا: أفضل مالك، وأطيبه.
والكلّ يرجع إلى الفضل.
وقال عبد بن حميدٍ في تفسيره: حدّثنا هوذة بن خليفة، عن عوفٍ، عن الحسن: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: ذلك ألّا تجهد مالك ثمّ تقعد تسأل النّاس.
ويدلّ على ذلك ما رواه ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن مسلمٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، عن ابن عجلان، عن المقبريّ، عن أبي هريرة قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، عندي دينارٌ؟ قال: "أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر؟ قال: "فأنت أبصر".
وقد رواه مسلمٌ في صحيحه. وأخرج مسلمٌ أيضًا عن جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لرجلٍ: "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلك، فإن فضل شيءٌ عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا".
وعنده عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنًى، واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول".
وفي الحديث أيضًا: "ابن آدم، إنّك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كفافٍ".
ثمّ قد قيل: إنّها منسوخةٌ بآية الزّكاة، كما رواه عليّ بن أبي طلحة، والعوفيّ عن ابن عبّاسٍ، وقاله عطاءٌ الخراسانيّ والسّدّيّ، وقيل: مبيّنةٌ بآية الزّكاة، قاله مجاهدٌ وغيره، وهو أوجه.
وقوله: {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} أي: كما فصّل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبيّن لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة). [تفسير ابن كثير: 1/578-580]

تفسير قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيز حكيم}
هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساء إن شاء الله، إلا أن جملته أنهم كانوا يظلمون اليتامى، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع أموالهم، فشدّد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزويج بنساء اليتامى ومخالطتهم، فأعلمهم اللّه أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع تحري الإصلاح فقال: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم.
فالرفع على هذا. والنصب جائز {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: فإخوانكم تخالطون، ولا أعلم أحدا قرأ بها، فلا تقرأنّ بها إلا أن تثبت رواية صحيحة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لأعنتكم}
قال أبو عبيدة معناه: لأهلككم، وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم فتعنتون،
وأصل العنت في اللغة: من قولهم عنت البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها، ويقال أكمة غنوت إذا كان لا يمكن أن يحازيها إلا بمشقة عنيفة.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه عزيز حكيم} أي: يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه دافع.
{حكيم} أي: ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره). [معاني القرآن: 1/294-295]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: في الدّنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (220) ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعوا إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون (221)
قوله قبل في الدّنيا ابتداء آية، وقد تقدم تعلقه، وكون تتفكّرون موقفا يقوي تعلق في الدّنيا ب الآيات، وقرأ طاوس «قل أصلح لهم خير»، وسبب الآية فيما قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: سببها أن المسلمين لما نزلت ولا تقربوا مال اليتيم [الأنعام: 152] الآية ونزلت إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً [النساء: 10] تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت وإن تخالطوهم فإخوانكم الآية، وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم فهو خير، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج، ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم، مثال ذلك أن يكتفي اليتيم دون خلطة بقدر ما في الشهر، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح، وقوله تعالى: فإخوانكم خبر ابتداء محذوف، وقوله واللّه يعلم المفسد من المصلح تحذير، والعنت المشقة، منه عنت العزبة، وعقبة عنوت أي شاقة، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر، فالمعنى: لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى، ولكنه خفف عنكم، وقال ابن عباس: المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى، وعزيزٌ مقتضاه لا يرد أمره، وحكيمٌ أي محكم ما ينفذه). [المحرر الوجيز: 1/536-537]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} أي: كما فصّل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبيّن لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: يعني في زوال الدّنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا علي بن محمد الطّنافسي، حدثنا أبو أسامة، عن الصعّق العيشيّ قال: شهدت الحسن -وقرأ هذه الآية من البقرة: {لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} قال: هي واللّه لمن تفكّر فيها، ليعلم أنّ الدّنيا دار بلاءٍ، ثمّ دار فناءٍ، وليعلم أنّ الآخرة دار جزاءٍ، ثمّ دار بقاءٍ.
وهكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.
وقال عبد الرّزّاق عن معمر، عن قتادة: لتعلموا فضل الآخرة على الدّنيا. وفي روايةٍ عن قتادة: فآثروا الآخرة على الأولى.
[وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآياتٍ لأولي الألباب} [آل عمران: 190] آثارًا كثيرةً عن السّلف في معنى التّفكّر والاعتبار].
وقوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم} الآية: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} [الإسراء: 34] و {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النّساء: 10] انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشّيء من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
وهكذا رواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من طرقٍ، عن عطاء بن السّائب، به. وكذا رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ. وكذا رواه السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ -بمثله. وهكذا ذكر غير واحدٍ في سبب نزول هذه الآية كمجاهدٍ، وعطاءٍ، والشّعبيّ، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحدٍ من السّلف والخلف.
قال وكيع بن الجرّاح: حدّثنا هشامٌ الدّستوائي عن حمّادٍ، عن إبراهيم قال: قالت عائشة: إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرّة حتّى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
فقوله: {قل إصلاحٌ لهم خيرٌ} أي: على حدة {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنّهم إخوانكم في الدّين؛ ولهذا قال: {واللّه يعلم المفسد من المصلح} أي: يعلم من قصده ونيّته الإفساد أو الإصلاح.
وقوله: {ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} أي: ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجكم ولكنّه وسّع عليكم، وخفّف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالّتي هي أحسن، كما قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} [الأنعام: 152]، بل قد جوّز الأكل منه للفقير بالمعروف، إمّا بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجّانًا كما سيأتي بيانه في سورة النّساء، إن شاء اللّه، وبه الثّقة). [تفسير ابن كثير: 1/580-582]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون}
معنى{لا تنكحوا}: لا تتزوجوا المشركات، ولو قرئت ولا تنكحوا المشركات كان وجها، ولا أعلم أحدا قرأ بها، والمعنى في هذا: ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن،
ومعنى المشركات: ههنا لكل من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين، ثم أحل تزويج نساء أهل الكتاب من بينهم. فقال اللّه - عزّ وجلّ: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم}
فإن قال قائل: من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك وإن قال إن اللّه عزّ وجل واحد؟
فالجواب: في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللّه - جل ثناؤه - والقرآن إنما هو من عند اللّه - عزّ وجلّ - لأنه يعجز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إلا اللّه - عزّ وجلّ - فقد أشرك به غيره.
{ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون}
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} أي: لا تزوجوهم مسلمة.
وقوله: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}معناه: وإن أعجبكم، إلا أن " لو " تأتي فتنوب عن أن في الفعل الماضي.
ومعنى الكلام: أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم أمره في باب الدنيا، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي يعملان بأعمال أهل النار - فكأن نسلكم يتربى مع من هذه حاله.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} أي: يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصل لكم إلى الجنة.
ومعنى{بإذنه}أي: بعلمه الذي أعلم إنّه وصلة لكم إليها.
{ويبيّن آياته}أي: علاماته، يقال آية وآي، وآيات أكثر وعليها أتى القرآن الكريم.
وقوله عزّ وجلّ: {لعلّهم يتذكّرون}
معنى لعل ههنا: الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللّه أعلم أيتذكرون أم لا، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم). [معاني القرآن: 1/295-296]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ الآية، قرأ جمهور الناس «تنكحوا» بفتح التاء، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسه، ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وقالت طائفة: المشركات هنا من يشرك مع الله إلها آخر، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية، ولا في معناها، وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة، وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص أي غير الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول قط الكتابيات، وقال ابن عباس والحسن: تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب وقال: «ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم»، وكره مالك رحمه الله تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري والشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة، ومنه مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق نكاح المجوسية، وقال ابن حنبل: لا يعجبني، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وقال ابن الفصار: «قال بعض أصحابنا: يجب- على أحد القولين أن لهم كتابا- أن تجوز مناكحتهم». وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من كان على غير الإسلام حرام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة، وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ: «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى»، وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة:
أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن، وروي عن ابن عباس نحو هذا، وقوله تعالى: ولأمةٌ مؤمنةٌ إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره، وقال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقال: هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه مؤمنة. فقال ابن رواحة: لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل، فطعن عليه ناس فنزلت الآية فيه، ومالك رحمه الله لا يجوز عنده نكاح الأمة الكتابية، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات.
وقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا الآية، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام، والقراء على ضم التاء من تنكحوا، وقال بعض العلماء: إن الولاية في النكاح نص في لفظ هذه الآية.
ولعبدٌ مؤمنٌ مملوك خيرٌ من مشركٍ حسيب ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم، وليس التفضيل هنا بلفظة خيرٌ من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة «أفعل» التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك. كقولك «الثلج أبرد من النار»، والنور أضوأ من الظلمة»، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: تصح لفظة «أفعل» حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك، وحكى مكي عن نفطويه أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ونفيا عن الثاني.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله، وكما قال تعالى: نعم العبد إنّه أوّابٌ [ص: 30]، فكأن الكلام في هذه الآية: ولامرأة ولرجل.
وقوله تعالى: أولئك الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أنّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة من أن يدعو إلى دينه نصا من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والمغفرة» بالرفع على الابتداء، والإذن العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت «أذنت كذا» فليس يلزمك أنك أمرت، ولعلّهم ترجّ في حق البشر، ومن تذكر عمل حسب التذكر فنجا). [المحرر الوجيز: 1/537-542]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون (221)}
هذا تحريمٌ من اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان. ثمّ إن كان عمومها مرادًا، وأنّه يدخل فيها كلّ مشركةٍ من كتابيّةٍ ووثنيّةٍ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين [ولا متّخذي أخدانٍ]} [المائدة: 5].
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} استثنى اللّه من ذلك نساء أهل الكتاب. وهكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، ومكحولٌ، والحسن، والضّحّاك، وزيد بن أسلم، والرّبيع بن أنسٍ، وغيرهم.
وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلّيّة، والمعنى قريبٌ من الأوّل، واللّه أعلم.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ: حدّثني عبيد بن آدم بن أبي إياسٍ العسقلانيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاريّ، حدّثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد اللّه بن عبّاسٍ يقول: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النّساء، إلّا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرّم كلّ ذات دينٍ غير الإسلام، قال اللّه عزّ وجلّ: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5]. وقد نكح طلحة بن عبيد اللّه يهوديّةً، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانيّةً، فغضب عمر بن الخطّاب غضبًا شديدًا، حتّى همّ أن يسطو عليهما. فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكنّي أنتزعهنّ منكم صغرة قمأة -فهو حديثٌ غريبٌ جدًّا. وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا.
قال أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيّات: وإنّما كره عمر ذلك، لئلّا يزهد النّاس في المسلّمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما حدّثنا أبو كريب، حدّثنا ابن إدريس، حدّثنا الصّلت بن بهرام، عن شقيقٍ قال: تزوّج حذيفة يهوديّةً، فكتب إليه عمر: خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنّها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنّها حرامٌ، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وروى الخلّال عن محمّد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصّلت نحوه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، حدّثنا محمّد بن بشرٍ، حدّثنا سفيان بن سعيدٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن زيد بن وهبٍ قال: قال [لي] عمر بن الخطّاب: المسلم يتزوّج النّصرانيّة، ولا يتزوّج النّصرانيّ المسلمة.
قال: وهذا أصحّ إسنادًا من الأوّل .
ثمّ قال: وقد حدّثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرق عن شريكٍ، عن أشعث بن سوّارٍ، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا".
ثمّ قال: وهذا الخبر -وإن كان في إسناده ما فيه -فالقول به لإجماع الجميع من الأمّة على صحّة القول به.
كذا قال ابن جريرٍ، رحمه اللّه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، حدّثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر: أنّه كره نكاح أهل الكتاب، وتأوّل {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ}
وقال البخاريّ: وقال ابن عمر: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: ربّها عيسى.
وقال أبو بكرٍ الخلّال الحنبليّ: حدّثنا محمّد بن هارون حدّثنا إسحاق بن إبراهيم (ح) وأخبرني محمّد بن عليٍّ، حدّثنا صالح بن أحمد: أنّهما سألا أبا عبد اللّه أحمد بن حنبل، عن قول اللّه: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} قال: مشركات العرب الّذين يعبدون الأوثان.
وقوله: {ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم} قال السّدّيّ: نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كانت له أمةٌ سوداء، فغضب عليها فلطمها، ثمّ فزع، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبره خبرها. فقال له: "ما هي؟ " قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه. فقال: "يا أبا عبد اللّه، هذه مؤمنةٌ". فقال: والّذي بعثك بالحقّ لأعتقنّها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المسلمين، وقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبةً في أحسابهم، فأنزل اللّه: {ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم} {ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم}
وقال عبد بن حميدٍ: حدّثنا جعفر بن عونٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن زيادٍ الإفريقيّ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تنكحوا النّساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا تنكحوهنّ على أموالهنّ فعسى أموالهنّ أن تطغيهنّ وانكحوهنّ على الدّين، فلأمةٌ سوداء خرماء ذات دينٍ أفضل". والإفريقيّ ضعيفٌ.
وقد ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدّين تربت يداك". ولمسلمٍ عن جابرٍ مثله. وله، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "الدّنيا متاعٌ، وخير متاع الدّنيا المرأة الصالحٍة".
وقوله: {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} أي: لا تزوّجوا الرّجال المشركين النّساء المؤمنات، كما قال تعالى: {لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ} [الممتحنة: 10].
ثمّ قال تعالى: {ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم} أي: ولرجلٌ مؤمنٌ -ولو كان عبدًا حبشيًّا -خيرٌ من مشركٍ، وإن كان رئيسًا سريًا {أولئك يدعون إلى النّار} أي: معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حبّ الدّنيا واقتنائها وإيثارها على الدّار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمةٌ {واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه} أي: بشرعه وما أمر به وما نهى عنه {ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون} ). [تفسير ابن كثير: 1/582-584]



* للاستزادة ينظر: هنا