الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (216) إلى الآية (218) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

4092

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الخامس عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (216) إلى الآية (218) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

4092

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}




تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون}

معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم، والكره يقال فيه كرهت الشيء كرها وكرها، وكراهة، وكراهية، وكل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من الكره فالفتح جائز فيه، تقول الكره والكره إلا أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدة - أن الناس مجمعون على ضمه، كذلك قراءة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعا {وهو كره لكم} فضموا هذا الحرف.

ارتفع (كره) لأنه خبر الابتداء - وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال أنهم إنما كرهوه على جنس غلظه عليهم ومشقته، لا أن المؤمنين يكرهون فرض اللّه - عزّ وجلّ - لأن اللّه - عزّ وجلّ - لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح.

وقوله: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}.

{وهو خير لكم} يعني به ههنا القتال، فمعنى الخير فيه، أن من قتل فهو شهيد وهذا غاية الخير، وهو إن قتل مثاب (أيضا) وهادم أمر الكفر.

وهو مع ذلك يغنم، وجائز أن يستدعي دخول من يقاتله في الإسلام، لأن أمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي تثبت أمر النبوة - والإسلام، لأن الله أخبر أنّه ينصر دينه، ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلب العدد الكثير فهذا ما في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه.

ومعنى: {وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم}أي: عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصف من الخير الذي في القتال). [معاني القرآن: 1/288-289]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكتب معناه فرض، وقد تقدم مثله، وهذا هو فرض الجهاد، وقرأ قوم «كتب عليكم القتل».
وقال عطاء بن أبي رباح: «فرض القتال على أعيان أصحاب محمد، فلما استقر الشرع وقيم به صار على الكفاية»، وقال جمهور الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام، فهو حينئذ فرض عين، وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع. وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد. فقيل له: ذلك تطوع وال كرهٌ بضم الكاف الاسم، وفتحها المصدر.
وقال قوم «الكره» بفتح الكاف ما أكره المرء عليه، و «الكره» ما كرهه هو.
وقال قوم: هما بمعنى واحد.
وقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئاً الآية، قال قوم عسى من الله واجبة، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خيرٌ لكم في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شرٌّ لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم، وفي قوله تعالى واللّه يعلم الآية قوة أمر). [المحرر الوجيز: 1/519-520]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (216)}
هذا إيجابٌ من اللّه تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكفّوا شرّ الأعداء عن حوزة الإسلام.
وقال الزّهريّ: الجهاد واجبٌ على كلّ أحدٍ، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد.
قلت: ولهذا ثبت في الصّحيح "من مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بغزوٍ مات ميتةً جاهليّةً". وقال عليه السّلام يوم الفتح: "لا هجرة، ولكن جهادٌ ونيّة، إذا استنفرتم فانفروا".
وقوله: {وهو كرهٌ لكم} أي: شديدٌ عليكم ومشقّةٌ. وهو كذلك، فإنّه إمّا أن يقتل أو يجرح مع مشقّة السّفر ومجالدة الأعداء.
ثمّ قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم} أي: لأنّ القتال يعقبه النّصر والظّفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولادهم.
{وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم} وهذا عامٌّ في الأمور كلّها، قد يحبّ المرء شيئًا، وليس له فيه خيرةٌ ولا مصلحةٌ. ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدوّ على البلاد والحكم.
ثمّ قال تعالى: {واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلّكم ترشدون). [تفسير ابن كثير: 1/572-573]

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}

{قتال} مخفوض على البدل من الشهر الحرام.

المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وقد فسرنا ما في هذه الآية فيما مضى من الكتاب.

ورفع {قل قتال فيه كبير} {قتال} مرتفع بالابتداء، و {كبير} خبره.

ورفع {وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به} على الابتداء، وخبر هذه الأشياء {أكبر عند اللّه}والمعنى: وصد عن سبيل اللّه، وكفر به، وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند اللّه، أي: أعظم إثما.

{والفتنة أكبر من القتل}أي: والكفر أكبر من القتل، المعنى وهذه الأشياء كفر، والكفر أكبر من القتل.

وقوله عزّ وجلّ: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر}.

يرتدد جزم بالشرط، والتضعيف يظهر مع الجزم، لسكون الحرف الثاني - وهو أكثر في اللغة - وقرئ: {يا أيها الذين امنوا من يرتدّ} بالإدغام والفتح وهي قراءة الناس إلا أهل المدينة فإن في مصحفهم من يرتدد وكلاهما صواب، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من يرتدد لإطباق أهل الأمصار على إظهار التضعيف وكذلك هو في مصاحفهم، والقراءة سنة لا تخالف، إذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءة بغيره.

ويجوز أن تقول: من يرتدّ منكم فتكسر لالتقاء السّاكنين إلا أن الفتح أجود لانفتاح التاء، وإطباق القراء عليه). [معاني القرآن: 1/289-290]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى يسألونك عن الشّهر الحرام الآية، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل المخزوميان والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما ذكر ابن إسحاق، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره الطبري عن السدي وغيره. والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن إسحاق فإنهم قالوا إن تركناهم اليوم دخلوا الحرم فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله والحكم، وفر نوفل فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش: محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم، فنزلت هذه الآية.
وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت، وهذا تخليط من المهدوي. وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن
جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت، لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين، وقتالٍ بدل عند سيبويه، وهو بدل الاشتمال.
وقال الفراء: هو خفض بتقدير عن.
وقال أبو عبيدة «هو خفض على الجوار»، وقوله هذا خطأ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه» بتكرير عن، وكذلك قرأها الربيع والأعمش، وقرأ عكرمة «عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل» دون ألف فيهما، والشّهر في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشّهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى قل قتالٌ فيه كبيرٌ، وصدٌّ مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر أكبر، والمسجد معطوف على سبيل اللّه، وهذا هو الصحيح.
وقال الفراء: صدٌّ عطف على كبيرٌ، وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله وكفرٌ به عطف أيضا على كبيرٌ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ومعنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد عنه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله.
وقال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله قل قتالٌ فيه كبيرٌ منسوخ بقوله وقاتلوا المشركين كافّةً [التوبة: 36]، وبقوله: فاقتلوا المشركين [التوبة: 5].
وقال عطاء: «لم تنسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم»، وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: والفتنة أكبر من القتل المعنى عند جمهور المفسرين، والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقيل: المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا.
وقال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر أي كفركم أشد من قتلنا أولئك.
قوله عز وجل: ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (217) إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمت اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ (218) يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (219)
قوله تعالى: ولا يزالون ابتداء خبر من الله- عز وجل- وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، ويردّوكم نصب ب حتّى لأنها غاية مجردة، وقوله تعالى ومن يرتدد [أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، قالت طائفة من العلماء: يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
وقال عبيد بن عمير وطاوس والحسن- على خلاف عنه- والشافعي في أحد قوليه: يقتل دون أن يستتاب، وروي نحو هذا عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومقتضى قولهما إنه يقال له للحين: راجع، فإن أبى ذلك قتل، وقال عطاء ابن أبي رباح: «إن كان المرتد ابن مسلمين قتل دون استتابة وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب»، وذلك لأنه يجهل من فضل الإسلام ما لا يجهل ابن المسلمين، واختلف القائلون بالاستتابة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستتاب ثلاثة أيام. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه.
وقال الزهري: «يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل».
وروي عن علي أبي طالب رضي الله عنه أنه استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري: يستتاب محبوسا أبدا، قال ابن المنذر: واختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كان رضي الله عنه ينفذ بحسب جرم ذلك المرتد أو قلة جرمه المقترن بالردة، وحبط العمل إذا انفسد في آخره فبطل، وقرأ أبو السمال «حبطت» بفتح الباء في جميع القرآن.
وقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وأجمع الناس على أن ورثته من أهل الكفر لا يرثونه إلا شذوذا، روي عن عمر بن عبد العزيز وعن قتادة، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه). [المحرر الوجيز: 1/520-525]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (217) إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ (218)}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن أبي بكرٍ المقدّميّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدّثني الحضرمي، عن أبي السّوار، عن جندب بن عبد اللّه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث رهطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح [أو عبيدة بن الحارث] فلمّا ذهب ينطلق، بكى صبابة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد اللّه بن جحشٍ، وكتب له كتابًا، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتّى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: لا تكرهنّ أحدًا على السّير معك من أصحابك. فلمّا قرأ الكتاب استرجع، وقال: سمعًا وطاعةً للّه ولرسوله. فخبّرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، وبقي بقيّتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أنّ ذلك اليوم من رجبٍ أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشّهر الحرام! فأنزل اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} الآية.
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّة، وكانوا سبعة نفرٍ، عليهم عبد اللّه بن جحش الأسديّ، وفيهم عمّار بن ياسرٍ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن غزوان السّلمي -حليفٌ لبني نوفل -وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد اللّه اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطّاب. وكتب لابن جحشٍ كتابًا، وأمره ألّا يقرأه حتّى ينزل بطن ملل فلمّا نزل بطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه: أن سر حتّى تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنّني موص وماضٍ لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فسار، فتخلّف عنه سعد بن أبي وقّاص، وعتبة، وأضلّا راحلةً لهما فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحشٍ إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرميّ، وعبد اللّه بن المغيرة. وانفلت [ابن] المغيرة، [فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة] وقتل عمرو، قتله واقد بن عبد اللّه. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
فلمّا رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال، أراد أهل مكّة أن يفادوا الأسيرين، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "حتّى ننظر ما فعل صاحبانا" فلمّا رجع سعدٌ وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون وقالوا: إنّ محمّدًا يزعم أنّه يتبع طاعة اللّه، وهو أوّل من استحلّ الشّهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجبٍ. فقال المسلمون: إنّما قتلناه في جمادى -وقيل: في أوّل رجبٍ، وآخر ليلةٍ من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجبٍ. فأنزل اللّه يعيّر أهل مكّة: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} لا يحلّ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشّهر الحرام، حين كفرتم باللّه، وصددتم عنه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أكبر من القتل عند اللّه.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وذلك أنّ المشركين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وردوه عن المسجد [الحرام] في شهرٍ حرامٍ، ففتح اللّه على نبيّه في شهرٍ حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم القتال في شهرٍ حرامٍ. فقال اللّه: {وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر} من القتال فيه. وأنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّةً فلقوا عمرو بن الحضرميّ، وهو مقبلٌ من الطّائف في آخر ليلةٍ من جمادى، وأوّل ليلةٍ من رجبٍ. وأنّ أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يظنّون أنّ تلك اللّيلة من جمادى، وكانت أوّل رجبٍ ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم وأخذوا ما كان معه. وأنّ المشركين أرسلوا يعيّرونه بذلك. فقال اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وغير ذلك أكبر منه: صدّ عن سبيل اللّه، وكفرٌ به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، والشّرك أشدّ منه.
وهكذا روى أبو سعد البقّال، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ أنّها أنزلت في سريّة عبد اللّه بن جحشٍ، وقتل عمرو بن الحضرميّ.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن السّائب الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرميّ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} إلى آخر الآية.
وقال عبد الملك بن هشامٍ راوي السّيرة، عن زياد بن عبد اللّه البكّائيّ، عن محمّد بن إسحاق بن يسارٍ المدنيّ، رحمه اللّه، في كتاب السّيرة له، أنّه قال: وبعث -يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -عبد اللّه بن جحش بن رئابٍ الأسديّ في رجبٍ، مقفله من بدرٍ الأولى، وبعث معه ثمانية رهطٍ من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، وكتب له كتابًا، وأمره ألّا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدًا. وكان أصحاب عبد اللّه بن جحشٍ من المهاجرين. ثمّ من بني عبد شمس بن عبد منافٍ: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد منافٍ، ومن حلفائهم: عبد اللّه بن جحشٍ، وهو أمير القوم، وعكّاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليفٌ لهم. ومن بني نوفل بن عبد منافٍ: عتبة بن غزوان بن جابرٍ، حليفٌ لهم. ومن بني زهرة بن كلابٍ: سعد بن أبي وقّاصٍ. ومن بني عديّ بن كعبٍ: عامر بن ربيعة، حليفٌ لهم من عنز بن وائلٍ، وواقد بن عبد اللّه بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوعٍ، أحد بني تميمٍ، حليفٌ لهم. وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليثٍ، حليفٌ لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.
فلمّا سار عبد اللّه بن جحشٍ يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة، بين مكّة والطّائف، ترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم". فلمّا نظر عبد اللّه بن جحشٍ في الكتاب قال: سمعًا وطاعةً. ثمّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشًا، حتّى آتيه منهم بخبرٍ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ.
فسلك على الحجاز، حتّى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يعتقبانه، فتخلّفا عليه في طلبه، ومضى عبد اللّه بن جحشٍ وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة، فمرّت به عيرٌ لقريشٍ تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارةً من تجارة قريشٍ، فيها: عمرو بن الحضرميّ، وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميّان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلمّا رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكّاشة بن محصنٍ، وكان قد حلق رأسه، فلمّا رأوه أمنوا وقالوا: عمّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يومٍ من رجبٍ، فقال القوم: واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشّهر الحرام. فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد اللّه التّميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ فقتله، واستأسر عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد اللّه فأعجزهم. وأقبل عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه بالعير والأسيرين، حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد اللّه بن جحشٍ: أنّ عبد اللّه قال لأصحابه: إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض اللّه الخمس من المغانم، فعزل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه.
قال ابن إسحاق: فلمّا قدموا على رسول اللّه قال: "ما أمرتكم بقتالٍ في الشّهر الحرام". فوقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلمّا قال ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسقط في أيدي القوم، وظنّوا أنّهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريشٌ: قد استحلّ محمّدٌ وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرّجال. فقال من يردّ عليهم من المسلمين ممّن كان بمكّة: إنّما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
وقالت: يهود تفاءل بذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: عمرو بن الحضرميّ قتله واقد بن عبد اللّه: عمرٌو: عمرت الحرب، والحضرميّ: حضرت الحرب، وواقد بن عبد اللّه: وقدت الحرب. فجعل اللّه عليهم ذلك لا لهم.
فلمّا أكثر النّاس في ذلك أنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل} أي: إن كنتم قتلتم في الشّهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللّه من قتل من قتلتم منهم، {والفتنة أكبر من القتل} أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتّى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل: {ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا} أي: ثمّ هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
قال ابن إسحاق: فلمّا نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرّج اللّه عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ في فداء عثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة ابن غزوان -فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعدٌ وعتبة، فأفداهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم.
فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة، فمات بها كافرًا.
قال ابن إسحاق: فلمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول اللّه، أنطمع أن تكون لنا غزوةٌ نعطى فيها أجر المجاهدين [المهاجرين] ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ} فوضعهم اللّه من ذلك على أعظم الرّجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزّهريّ، ويزيد بن رومان، عن عروة.
وقد روى يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير قريبًا من هذا السّياق. وروى موسى بن عقبة عن الزّهريّ نفسه، نحو ذلك.
وروى شعيب بن أبي حمزة، عن الزّهريّ، عن عروة بن الزّبير نحوًا من هذا أيضًا، وفيه: فكان ابن الحضرميّ أوّل قتيلٍ قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفدٌ من كفّار قريشٍ حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة فقالوا: أيحلّ القتال في الشّهر الحرام؟ فأنزل اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام [قتالٍ فيه]} الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ في كتاب "دلائل النّبوّة".
ثمّ قال ابن هشامٍ عن زيادٍ، عن ابن إسحاق: وقد ذكر عن بعض آل عبد اللّه [بن جحشٍ] أنّ اللّه قسم الفيء حين أحلّه، فجعل أربعة أخماسٍ لمن أفاءه، وخمسًا إلى اللّه ورسوله. فوقع على ما كان عبد اللّه بن جحشٍ صنع في تلك العير.
قال ابن هشامٍ: وهي أوّل غنيمةٍ غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرميّ أوّل من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان أوّل من أسر المسلمون.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، في غزوة عبد اللّه بن جحشٍ، ويقال: بل عبد اللّه بن جحشٍ قالها، حين قالت قريشٌ: قد أحلّ محمّدٌ وأصحابه الشّهر الحرام، فسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرّجال. قال ابن هشامٍ: هي لعبد اللّه بن جحشٍ:
تعدّون قتلا في الحرام عظيمةً = وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد
صدودكم عمّا يقول محمّدٌ = وكفرٌ به واللّه راءٍ وشاهد
وإخراجكم من مسجد اللّه أهله = لئلّا يرى للّه في البيت ساجد
فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله = وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد
سقينا من ابن الحضرميّ رماحنا = بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد
دمًا وابن عبد اللّه عثمان بيننا = ينازعه غلٌّ من القدّ عاند). [تفسير ابن كثير: 1/573-578]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمت اللّه واللّه غفور رحيم}

{الذين} نصب بأنّ، و {أولئك} رفع بالابتداء، و {يرجون} خبر {أولئك} و{أولئك يرجون} خبر {إنّ الذين} - وإنما قيل في المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إنما يرجون رحمة اللّه لأنهم عند أنفسهم غير بالغين ما يجب للّه عليهم، ولا يعملون ما يختمون به أمرهم.

وجملة ما أخبر الله به عن المؤمنين العاملين الصالحات أنّهم يجازون بالجنة.

قال الله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك هم خير البريّة (7) جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن} ). [معاني القرآن: 1/290-291]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا الآية، قال جندب بن عبد الله وعروة بن الزبير وغيرهما: لما قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام، ثم بذكرهم والإشارة إليهم في قوله: إنّ الّذين آمنوا، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكر الله عز وجل، وهاجر الرجل إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، وهي مفاعلة من هجر، ومن قال المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله، وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، ويرجون
معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء، وقد يتجوز أحيانا ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف، كما قال الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها = وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال الأصمعي: «إذا اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف»، كهذا البيت، وكقوله عز وجل: لا يرجون لقاءنا [سورة يونس: الآيات: 7- 11- 15، سورة الفرقان: الآية 21]، المعنى لا يخافون، وقد قيل: إن الرجاء في الآية على بابه، أي لا يرجون الثواب في لقائنا، وبإزاء ذلك خوف العقاب، وقال قوم: اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين، وليس هذا بجيد، وقال الجاحظ في كتاب البلدان: «إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله، فهو يصبر عليه»، وباقي الآية وعد). [المحرر الوجيز: 1/525-526]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال ابن إسحاق: فلمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول اللّه، أنطمع أن تكون لنا غزوةٌ نعطى فيها أجر المجاهدين [المهاجرين] ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ} فوضعهم اللّه من ذلك على أعظم الرّجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزّهريّ، ويزيد بن رومان، عن عروة.
وقد روى يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير قريبًا من هذا السّياق. وروى موسى بن عقبة عن الزّهريّ نفسه، نحو ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/577] (م)



* للاستزادة ينظر: هنا