الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (226) إلى الآية (230) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

3798

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم السادس عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (226) إلى الآية (230) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

3798

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }




تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم}

معنى (يؤلون): يحلفون، ومعناه في هذا الموضع: أن الرجل كان لا يريد المرأة فيحلف ألا يقربها أبدا، ولا يحب أن يزوجها غيره، فكان يتركها لا أيما ولا ذات زوج، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية والإسلام، فجعل اللّه الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر، فإذا تمت أربعة أشهر ثم لم يفئ الرجل إلى امرأته، أي لم يرجع إليها، فإن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قد بانت منه، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره.

وقال قوم: يؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق أو يفيء.

ويقال آليت أولي إيلاء والية، والوّة، وإلوّة، و (إيل).

" والكسر أقل اللغات، ومعنى التربص في اللغة الانتظار.

وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزّ وجلّ: {وإن عزموا الطلاق فإن اللّه سميع عليم}.

وقالوا {سميع} يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع، وهذا في اللغة غير ممتنع، وجائز أن يكون إنما ذكر {سميع} ههنا من أجل حلفه.

أي: اللّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده، وكلا الوجهين في اللغة محتمل). [معاني القرآن: 1/300-301]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: للّذين يؤلون من نسائهم الآية، قرأ أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون»، ويؤلون معناه يحلفون، يقال إلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال فيها أيضا ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها، والتربّص التأنّي والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى فسحة فيما دون الأربعة أشهر، واختلف من المراد أن يلزمه حكم الإيلاء فقال مالك رحمه الله: «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم، أن لا يطأها، ضررا منه، أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه»، وقال به عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي الحسن: هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أولم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.
وقال ابن عباس: «لا إيلاء إلا بغضب»، وقال ابن سيرين: «سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء». وقاله ابن مسعود والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق، إلا أن مالكا قال: ما لم يرد إصلاح ولد.
وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب: كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء، وقال ابن المسيب منهم: إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا الاحتمال الأخير الطبري، وقال ابن عباس أيضا: لا يسمى موليا إلا الذي
يحلف أن لا يطأ أبدا، حكاه ابن المنذر، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: لا يكون موليا إلا إن زاد على الأربعة الأشهر، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وقال قتادة والنخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى: من حلف على قليل من الوقت أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقوله تعالى من نسائهم يدخل فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من زوجته، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: أجله أربعة أشهر، وقال مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران، وقال الحسن: أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران، وقاله النخعي، وقال الشعبي: «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة»، وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما، وقال الزهري وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول، قال مالك: «ولا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فإن إلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم بلوغها»، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف: فإما فاء، وإما طلق، وإلا طلق عليه، وقال ابن مسعود وابن عباس وعثمان وعلي أيضا وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن ومسروق بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت، واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي، فقال عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري ومالك: هي رجعية، وفاؤ معناه رجعوا، ومنه حتّى تفيء إلى أمر اللّه [الحجرات: 9]، والفيء الظل الراجع عشيا، وقال الحسن وإبراهيم: إذا فاء المولي ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه، لقوله تعالى فإن فاؤ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في معصية، وترك وطء الزوجة معصية، وقال الجمهور: إذا فاء كفر، والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع، وإن كان مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له ولا فيء بقول، وقال مالك رحمه الله:
«لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب والمسجون»، قال ابن القاسم في المدونة:
«إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا»، واختلف القول في المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول والعزم على التكفير أم لا بد من التفكير وإلا فلا فيء، وقال الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم: الفيء من غير المعذور الجماع ولا بد، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه، وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء. أرأيت إن لم ينتشر للوطء؟
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويرجع في هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها»). [المحرر الوجيز: 1/552-555]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (226) وإن عزموا الطّلاق فإنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (227)}
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرّجل ألّا يجامع زوجته مدّةً، فلا يخلو: إمّا أن يكون أقلّ من أربعة أشهرٍ، أو أكثر منها، فإن كانت أقلّ، فله أن ينتظر انقضاء المدّة ثمّ يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدّة، وهذا كما ثبت في الصّحيحين عن عائشة: أنّ رسول اللّه آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسعٍ وعشرين، وقال: "الشّهر تسعٌ وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطّاب نحوه. فأمّا إن زادت المدّة على أربعة أشهرٍ، فللزّوجة مطالبة الزّوج عند انقضاء أربعة أشهرٍ: إمّا أن يفيء -أي: يجامع -وإمّا أنّ يطلّق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلّا يضرّ بها. ولهذا قال تعالى: {للّذين يؤلون} أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه دلالةٌ على أنّ الإيلاء يختصّ بالزّوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. {تربّص أربعة أشهرٍ} أي: ينتظر الزّوج أربعة أشهرٍ من حين الحلف، ثمّ يوقف ويطالب بالفيئة أو الطّلاق. ولهذا قال: {فإن فاءوا} أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كنايةٌ عن الجماع، قاله ابن عبّاسٍ، ومسروقٌ والشّعبيّ، وسعيد بن جبيرٍ، وغير واحدٍ، ومنهم ابن جريرٍ رحمه اللّه {فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: لما سلف من التّقصير في حقّهنّ بسبب اليمين.
وقوله: {فإن فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} فيه دلالةٌ لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن الشّافعيّ: أنّ المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنّه لا كفّارة عليه. ويعتضد بما تقدّم في الآية الّتي قبلها، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفّارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والّذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشّافعيّ أنّ عليه الكفّارة لعموم وجوب التّكفير على كلّ حالفٍ، كما تقدّم أيضًا في الأحاديث الصّحاح. واللّه أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم -في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهرٍ -الأثر الّذي رواه الإمام مالك بن أنسٍ، رحمه اللّه، في الموطّأ، عن عمرو بن دينارٍ قال: خرج عمر بن الخطّاب من اللّيل فسمع امرأةً تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه = وأرّقني ألّا خليل ألاعبه
فواللّه لولا اللّه أنّي أراقبه = لحرّك من هذا السّرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة، رضي اللّه عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستّة أشهرٍ أو أربعة أشهرٍ. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك.
وقال: محمّد بن إسحاق، عن السّائب بن جبيرٍ، مولى ابن عبّاسٍ - وكان قد أدرك أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنّه خرج ذات ليلةٍ يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرًا؛ إذ مرّ بامرأةٍ من نساء العرب مغلقةٍ بابها [وهي] تقول:
تطاول هذا اللّيل وازورّ جانبه = وأرّقني ألّا ضجيع ألاعبه
ألاعبه طورًا وطورًا كأنّما = بدا قمرًا في ظلمة اللّيل حاجبه
يسرّ به من كان يلهو بقربه = لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فواللّه لولا اللّه لا شيء غيره = لنقض من هذا السّرير جوانبه
ولكنّني أخشى رقيبًا موكلا = بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
ثمّ ذكر بقيّة ذلك كما تقدّم، أو نحوه. وقد روى هذا من طرقٍ، وهو من المشهورات). [تفسير ابن كثير: 1/604-605]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإن عزموا الطّلاق الآية، قال القائلون إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق: عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر، وقال القائلون لا بد من التوقيف بعد تمام الأشهر: العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله سميعٌ، لأن هذا الإدراك إنما هو في المقولات، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا السراح»). [المحرر الوجيز: 1/556]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإن عزموا الطّلاق} فيه دلالةٌ على أنّه لا يقع الطّلاق بمجرّد مضيّ الأربعة أشهرٍ كقول الجمهور،وذهب آخرون إلى أنّه يقع بمضيّ الأربعة أشهرٍ تطليقةً، وهو مرويٌّ بأسانيد صحيحةٍ عن عمر، وعثمان، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وزيد بن ثابتٍ، وبه يقول ابن سيرين، [ومسروقٌ] والقاسم، وسالمٌ، والحسن، وأبو سلمة، وقتادة، وشريحٌ القاضي، وقبيصة بن ذؤيبٍ، وعطاءٌ، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وسليمان بن طرخان التّيميّ، وإبراهيم النّخعيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ.
ثمّ قيل: إنّها تطلّق بمضيّ الأربعة أشهرٍ طلقةً رجعيّةً؛ قاله سعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ، ومكحولٌ، وربيعة، والزّهريّ، ومروان بن الحكم. وقيل إنّها تطلّق طلقةً بائنةً، روي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وعثمان، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وزيد بن ثابتٍ، وبه يقول: عطاءٌ وجابر بن زيدٍ، ومسروقٌ وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، ومحمّد بن الحنفيّة، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيبٍ، وأبو حنيفة، والثّوريّ، والحسن بن صالحٍ، وكلّ من قال: إنّها تطلّق بمضيّ الأربعة أشهرٍ أوجب عليها العدّة، إلّا ما روي عن ابن عبّاسٍ وأبي الشّعثاء: أنّها إن كانت حاضت ثلاث حيضٍ فلا عدّة عليها، وهو قول الشّافعيّ، والّذي عليه الجمهور أنّه يوقف فيطالب إمّا بهذا أو هذا ولا يقع عليها بمجرّد مضيّها طلاقٌ.
وروى مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: إذا آلى الرّجل من امرأته لم يقع عليه طلاقٌ وإن مضت أربعة أشهرٍ، حتّى يوقف، فإمّا أن يطلّق، وإمّا أن يفيء. وأخرجه البخاريّ.
وقال الشّافعيّ، رحمه اللّه: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سليمان بن يسارٍ قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كلّهم يوقف المولي قال الشّافعيّ: وأقلّ ذلك ثلاثة عشر. ورواه الشّافعيّ عن عليٍّ رضي اللّه عنه: أنّه وقف المولي. ثمّ قال: وهكذا نقول، وهو موافقٌ لما رويناه عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وعن عثمان، وزيد بن ثابتٍ، وبضعة عشر من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. هكذا قال الشّافعيّ، رحمه اللّه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا يحيى بن أيّوب، عن عبيد اللّه بن عمر، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلًا من الصّحابة عن الرّجل يولي من امرأته، فكلّهم يقول: ليس عليه شيءٌ حتّى تمضي أربعة أشهرٍ فيوقف، فإن فاء وإلّا طلّق.
ورواه الدّارقطنيّ من طريق سهيلٍ.
قلت: وهو مرويٌّ عن عمر، وعثمان، وعليٍّ، وأبي الدّرداء، وعائشة أمّ المؤمنين، وابن عمر، وابن عبّاسٍ. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ، وطاوسٌ، ومحمّد بن كعبٍ، والقاسم. وهو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وأصحابهم، رحمهم اللّه، وهو اختيار ابن جريرٍ أيضًا، وهو قول اللّيث [بن سعدٍ] وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيدٍ، وأبي ثورٍ، وداود، وكلّ هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطّلاق، فإن لم يطلّق طلّق عليه الحاكم، والطّلقة تكون رجعيّةً له رجعتها في العدّة.
وانفرد مالكٌ بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتّى يجامعها في العدّة وهذا غريبٌ جدًّا). [تفسير ابن كثير: 1/605-606]

تفسير قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجة واللّه عزيز حكيم}

يقال طلقت المرأة طلاقا فهي طالق، وقد حكوا طلقت وقد زعم قوم أن تاء التأنيث حذفت من " طالقة " لأنه للمؤنث لاحظ للذكر فيه، وهذا ليس بشيء، لأن في الكلام شيئا كثيرا يشترك فيه المذكر والمؤنث لا تثبت فيه الهاء في المؤنث، نحو تولهم بعير ضامر، وناقة ضامر، وبعير ساعل وناقة ساعل، وهذا أكثر من أن يحصى.

وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤنث لأن المعنى شيء طالق، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو قولهم امرأة مذكار ورجل مذكار، وامرأة مئناث ورجل مئناث، وإنما معناه ذات ذكران وذات إناث، وكذلك مطفل ذات طفل.

وكذلك طالق معناه ذات طلاق.

فإذا أجريته على الفعل قلت طالقة.

قال الأعشى:

أيا جارتا بيني فإنك طالقة... كذاك امور النّاس غاد وطارقة

وأما {ثلاثة قروء} فقد اختلف الفقهاء وأهل اللغة في تفسيرها وقد ذكرنا في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة:

فأما أهل الكوفة فيقولون: الأقراء الحيض،

وأما أهل الحجاز ومالك فيقولون: الأقراء الطهر،

وحجة أهل الكوفة في أن الأقراء و (القراء) والقروء الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم - ((تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك)) فهذا يعني أنّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيض، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال: ((إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر فتطهّري)).

وصلّي ما بين القرء إلى القرء، فهذا مذهب الكوفيين، والذي يقويه من مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول: القرء الحيض، ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت.

وقال الكسائي والقراء جميعا: أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ،

وقال القراء: أقرأت الحاجة إذا تأخرت.

وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه:

له قروء كقروء الحائض فهذا؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء، وما احتج به أهل اللغة مما يقوي مذهبهم،

وقال الأخفش أيضا: أقرأت المرأة إذا حاضت، وما قرأت حيضة ما ضمّت رحمها على حيضة.

وقال أهل الحجاز: الأقراء والقروء واحد، وأحدهما قرء، مثل قولك: فرع، وهما الأطهار، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت: الأقراء الأطهار، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك، وفقهاء أهل المدينة، والذي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراء الأطهار.

قول الأعشى:

مورّثة مالا وفي الأصل رفعة... لما ضاع فيها من قروء نسائكا

فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.

وفي هذا مذهب آخر، وهو أن القرء الطهر، والقرء الحيض.

قال أبو عبيدة: إن القرء يصلح للحيض والطهر، قال وأظنه من أقرأت النجوم إذا غابت، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى يونس أن الإقراء عنده يصلح للحيض والطهر، وذكر أبو عمرو بن العلاء أن القرء - الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر، ويقال: " هذا قارئ الرّياح ": لوقت هبوبها.

وأنشد أهل اللغة:

شنئث العقر عقر بني شليل... إذا هبت لقاريها الرياح

أي: لوقت هبوبها، وشدة بردها، ويقال " ما قرأت الناقة سلا قط! أي لم تضم رحمها على ولد، وقال عمرو بن كلثوم:

نريك إذا دخلت على خلاء... وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر... هجين اللون لم تقرأ جنينا

وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها: لم تجمع ولدا قط في رحمها وذكر قطرب هذا القول أيضا، وزاد في لم تقرأ جنينا أي لم تلقه مجموعا.

فهذا جميع ما قال الفقهاء وأهل اللغة في القرء.

والذي عندي أن القرء في اللغة الجمع، " وأن قولهم قريت الماء في الحوض من هذا، وإن كان قد ألزم الماء - فهو جمعته، وقولك قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعا، والقرد يقرئ، أي: يجمع ما يأكل في بيته، فإنما القرء اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاء، بل هو تحقيق المذهبين، والمقرأة الحوض الذي يقرأ فيه الماء أي يجمع، والمقرأ الإناء الذي يقرأ فيه الضيف.

وقوله عزّ وجلّ: {ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ}.

قيل فيه: لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إن فعلن ذلك فإنما يقصدن إلى إلزامه غير أبيه.

وقد قال قوم هو الحيض. وهو بالولد أشبه لأن ما خلق الله في أرحامهن أدل على الولد، لأن اللّه جلّ وعزّ قال: {هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء}

وقال: (ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) فوصف خلق الولد.

ومعنى:(إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر).

تأويله إن كن يصدقن باللّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل الكبائر فلا يكتمن، كما تقول لرجل يظلم إن كنت مؤمنا فلا تظلم، لا إنّه يقول له هذا مطلقا الظلم لغير المؤمن.

ولكن المعنى: إن كنت مؤمنا فينبغي أن يحجزك إيمانك عن ظلمي.

وقوله عزّ وجلّ: (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك).

بعولة جمع بعل، مثل ذكر وذكورة، وعم وعمومة أشبه ببعل وبعولة.

ويقال في جمع ذكر ذكارة وحجر حجارة.

وإنما هذه الهاء زيادة مؤكدة معنى تأنيث الجماعة، ولكنك لا تدخلها إلا في الأمكنة التي رواها أهل اللغة، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كلابة، لأن القياس في هذه الأشياء معلوم، وقد شرحنا كثيرا مما فيه فيما تقدم من الكتاب.

ومعنى(في ذلك)أي: في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه، فأزواج قبل انقضاء القروء الثلاثة أحق بردهن إن ردّوهنّ على جهة الإصلاح، ألا ترى قوله: (إن أرادوا إصلاحا).

ومعنى قوله عزّ وجلّ: (ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف)أي: للنساء مثل الذي عليهنّ بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة.

وهو معنى (بالمعروف).

وقوله عزّ وجلّ: (وللرّجال عليهنّ درجة)معناه: زيادة فيما للنساء عليهن كما قال تعالى: (الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).

والمعنى: أن المرأة تنال من اللّذة من الرجل كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها.

وقوله عزّ وجلّ: (واللّه عزيز حكيم):معناه ملك يحكم بما أراد، ويمتحن بما أحب، إلا أن ذلك لا يكون إلا بحكمة بالغة - فهو عزيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك). [معاني القرآن: 1/301-307]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجةٌ واللّه عزيزٌ حكيمٌ (228)
قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول، اللام همزة، وروي عن نافع شد الواو دون همز، وقرأ الحسن «ثلاثة قرو» بفتح القاف وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة، وحكم هذه الآية مقصده الاستبراء لا أنه عبادة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها. بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة، والمطلّقات لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد، وقال قوم: تناولهن العموم ثم نسخن، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض، وهو عرف النساء وعليه معظمهن، فأغنى ذلك عن النص عليه، والقرء في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله وقرء الريح وقت هبوبها، ومنه قول الراجز: [الرجز]
يا رب ذي ضغن على فارض = له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه، فالحيض على هذا يسمى قرءا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتركي الصلاة أيام أقرائك»، أي أيام حيضك، وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءا، لأنه وقت معتاد تردده يعاقب الحيض، ومنه قول الأعشى:
أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة = تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة = بما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي من أطهارهن، وقال قوم: القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت الطهر، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها للمطلقة، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل العلم: المراد الحيض، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من العدة، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل، هذا قول سعيد بن جبير وغيره، وقالت عائشة وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان بن يسار ومالك: المراد الاطهار، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقول ابن القاسم ومالك: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة خرجت من العصمة. وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره، وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم من غير الحيض، واختلف المتأولون في المراد بقوله ما خلق فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك هو الحيض والحبل جميعا، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه، فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من الارتجاع، وقال قتادة: «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية»، وقال السدي: «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها أبها حمل؟ مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في ذلك». وقال إبراهيم النخعي وعكرمة: المراد ب ما خلق الحيض، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: ولا يحلّ لهنّ ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهن» بضم الهاء، وقوله إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر الآية، أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق، وهذا كما تقول: إن كنت حرا فانتصر، وأنت تخاطب حرا، وقوله وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحاً، البعل: الزوج، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس. لكن هو المسموع. وقال قوم: الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة، وقيل: هي هاء تأنيث دخلت على بعول. وبعول لا شذوذ فيه. وقرأ ابن مسعود «بردتهن» بزيادة تاء، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهن» بضم الهاء، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة ما دامت في العدة، والإشارة ب ذلك هي إلى المدة، ثم اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وهذا بيان الأحكام التي بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة الرجال الإصلاح، فإن قصد أحد بعد هذا إفسادا أو كتمت امرأة ما في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر، والبواطن إلى الله تعالى يتولى جزاء كل ذي عمل.
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي: إن بانقضاء الأشهر الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها، لأن أكثر ما تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم الطلاق، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن وبعولتهن أحق بردهن.
وقوله تعالى: ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف، قال ابن عباس: «ذلك في التزين والتصنع والمؤاتاة»، وقال الضحاك وابن زيد: ذلك في حسن العشرة وحفظ بعضهم لبعض وتقوى الله فيه، والآية تعم جميع حقوق الزوجية، وقوله وللرّجال عليهنّ درجةٌ قال مجاهد وقتادة: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها، وقال عامر الشعبي: «ذلك الصداق الذي يعطي الرجل، وأنه يلاعن إن قذف وتحد إن قذفت»، فقال ابن عباس: «تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق»، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهذا قول حسن بارع، وقال ابن إسحاق: «الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها»، وقال ابن زيد: «الدرجة ملك العصمة وأن الطلاق بيده»، وقال حميد: «الدرجة اللحية».
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل، وعزيزٌ لا يعجزه أحد، وحكيمٌ فيما ينفذه من الأحكام والأمور). [المحرر الوجيز: 1/556-560]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرّجال عليهنّ درجةٌ واللّه عزيزٌ حكيمٌ (228)}
هذا الأمر من اللّه سبحانه وتعالى للمطلّقات المدخول بهنّ من ذوات الأقراء، بأن يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ، أي: بأن تمكث إحداهنّ بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروءٍ؛ ثمّ تتزوّج إنّ شاءت، وقد أخرج الأئمّة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلّقت، فإنّها تعتدّ عندهم بقرءين، لأنّها على النّصف من الحرّة، والقرء لا يتبعّض فكمّل لها قرءان. ولما رواه ابن جريحٍ عن مظاهر بن أسلم المخزوميّ المدنيّ، عن القاسم، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان".
رواه أبو داود، والتّرمذيّ وابن ماجه. ولكن مظاهرٌ هذا ضعيفٌ بالكلّيّة. وقال الحافظ الدّارقطنيّ وغيره: الصحيح أنّه من قول القاسم بن محمّدٍ نفسه.
ورواه ابن ماجه من طريق عطيّة العوفي عن ابن عمر مرفوعًا. قال الدّارقطنيّ: والصّحيح ما رواه سالمٌ ونافعٌ، عن ابن عمر قوله. وهكذا روي عن عمر بن الخطّاب. قالوا: ولم يعرف بين الصّحابة خلافٌ. وقال بعض السّلف: بل عدّتها كعدّة الحرّة لعموم الآية؛ ولأنّ هذا أمرّ جبلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواءً، واللّه أعلم، حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البرّ، عن محمّد بن سيرين وبعض أهل الظّاهر، وضعّفه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل -يعني ابن عيّاش -عن عمرو بن مهاجرٍ، عن أبيه: أنّ أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصاريّة قالت: طلّقت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولم يكن للمطلّقة عدّةٌ، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ، حين طلّقت أسماء العدّة للطّلاق، فكانت أوّل من نزلت فيها العدّة للطّلاق، يعني: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ}.
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وقد اختلف السّلف والخلف والأئمّة في المراد بالأقراء ما هو؟ على قولين:
أحدهما: أنّ المراد بها: الأطهار، وقال مالكٌ في الموطّأ عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة أنّها قالت: انتقلت حفصة بنت عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ، حين دخلت في الدّم من الحيضة الثّالثة، قال الزّهريّ: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرّحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناسٌ فقالوا: إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: " ثلاثة قروءٍ " فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراء؟ إنّما الأقراء: الأطهار.
وقال مالكٌ: عن ابن شهابٍ، سمعت أبا بكر بن عبد الرّحمن يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلّا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة. وقال مالكٌ: عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر، أنّه كان يقول: إذا طلّق الرّجل امرأته فدخلت في الدّم من الحيضة الثّالثة فقد برئت منه وبرئ منها. وقال مالكٌ: وهو الأمر عندنا. وروي مثله عن ابن عبّاسٍ وزيد بن ثابتٍ، وسالمٍ، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسارٍ، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباحٍ، وقتادة، والزّهريّ، وبقيّة الفقهاء السّبعة، وهو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ [وغير واحدٍ، وداود وأبي ثورٍ، وهو روايةٌ عن أحمد، واستدلّوا عليه بقوله تعالى: {فطلّقوهنّ لعدّتهنّ} [الطّلاق: 1] أي: في الأطهار. ولمّا كان الطّهر الّذي يطلّق فيه محتسبًا، دلّ على أنّه أحد الأقراء الثّلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إنّ المعتدة تنقضي عدّتها وتبين من زوجها بالطّعن في الحيضة الثّالثة، وأقلّ مدّةٍ تصدّق فيها المرأة في انقضاء عدّتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان].
واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشّاعر -وهو الأعشى -:
ففي كلّ عامٍ أنت جاشم غزوة = تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة عدّا، وفي الحيّ رفعةٌ = لمّا ضاع فيها من قروء نسائكا
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتّى ضاعت أيّام الطّهر من نسائه لم يواقعهنّ فيها.
والقول الثّاني: أنّ المراد بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدّة حتّى تطهر من الحيضة الثّالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها. وأقلّ وقتٍ تصدّق فيه المرأة في انقضاء عدّتها ثلاثةٌ وثلاثون يومًا ولحظةٌ. قال الثّوريّ: عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنّا عند عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، فجاءته امرأةٌ فقالت: إن زوجي فارقني بواحدةٍ أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت مائي] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد اللّه -يعني ابن مسعودٍ -[ما ترى؟ قال]: أراها امرأته، ما دون أن تحلّ لها الصّلاة. قال [عمر:] وأنا أرى ذلك.
وهكذا روي عن أبي بكرٍ الصّديق، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وأبي الدّرداء، وعبادة بن الصّامت، وأنس بن مالكٍ، وابن مسعودٍ، ومعاذٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وأبي موسى الأشعريّ، وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، ومحمّد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشّعبيّ، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، ومكحولٍ، والضّحّاك، وعطاءٍ الخراسانيّ، أنّهم قالوا: الأقراء: الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصحّ الرّوايتين عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، وحكى عنه الأثرم أنّه قال: الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثّوريّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيّد هذا ما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود والنّسائيّ، من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزّبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لها: "دعي الصّلاة أيّام أقرائك". فهذا لو صحّ لكان صريحًا في أنّ القرء هو الحيض، ولكنّ المنذر هذا قال فيه أبو حاتمٍ: مجهولٌ ليس بمشهورٍ. وذكره ابن حبّان في الثّقات.
وقال ابن جريرٍ: أصل القرء في كلام العرب: "الوقت لمجيء الشّيء المعتاد مجيئه في وقتٍ معلومٍ، ولإدبار الشّيء المعتاد إدباره لوقتٍ معلومٍ". وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الأصوليّين فاللّه أعلم. وهذا قول الأصمعيّ: أنّ القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمّي الحيض: قرءًا، وتسمّي الطّهر: قرءًا، وتسمّي الحيض مع الطّهر جميعًا: قرءًا. وقال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أنّ القرء يراد به الحيض ويراد به الطّهر، وإنّما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله: {ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ} أي: من حبل أو حيضٍ. قاله ابن عبّاسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌ، والشّعبيّ، والحكم بن عيينة والرّبيع بن أنسٍ، والضّحّاك، وغير واحدٍ.
وقوله: {إن كنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر} تهديدٌ لهنّ على قول خلاف الحقّ. ودلّ هذا على أنّ المرجع في هذا إليهنّ؛ لأنّه أمرٌ لا يعلم إلّا من جهتين، وتتعذّر إقامة البيّنة غالبًا على ذلك، فردّ الأمر إليهنّ، وتوعّدن فيه، لئلّا تخبر بغير الحقّ إمّا استعجالًا منها لانقضاء العدّة، أو رغبةً منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحقّ في ذلك من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ.
وقوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا} أي: وزوجها الّذي طلّقها أحقّ بردّتها ما دامت في عدّتها، إذا كان مراده بردّتها الإصلاح والخير. وهذا في الرّجعيّات. فأمّا المطلّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلّقةٌ بائنٌ، وإنّما صار ذلك لمّا حصروا في الطّلقات الثّلاث، فأمّا حال نزول هذه الآية فكان الرّجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلّقها مائة مرّةٍ، فلمّا قصروا في الآية الّتي بعدها على ثلاث تطليقاتٍ صار للنّاس مطلّقةٌ بائنٌ وغير بائنٍ. وإذا تأمّلت هذا تبيّن لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليّين، من استشهادهم على مسألة عود الضّمير -هل يكون مخصّصًا لما تقدّمه من لفظ العموم أم لا؟ - بهذه الآية الكريمة، فإنّ التّمثيل بها غير مطابقٍ لما ذكروه، واللّه أعلم.
وقوله: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف} أي: ولهنّ على الرّجال من الحقّ مثل ما للرّجال عليهنّ، فليؤد كلٌّ واحدٌ منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلمٍ، عن جابرٍ، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجّة الوداع: "فاتّقوا اللّه في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه، ولكم عليهنّ ألّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرّح، ولهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف". وفي حديث بهز بن حكيمٍ، عن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جدّه، أنّه قال: يا رسول اللّه، ما حقّ زوجة أحدنا؟
قال: "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلّا في البيت". وقال وكيع عن بشير بن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّي لأحبّ أن أتزيّن للمرأة كما أحبّ أن تتزيّن لي المرأة؛ لأنّ اللّه يقول: {ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف} رواه ابن جريرٍ، وابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {وللرّجال عليهنّ درجةٌ} أي: في الفضيلة في الخلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالحٍ، والفضل في الدّنيا والآخرة، كما قال تعالى: {الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} [النّساء:34].
وقوله: {واللّه عزيزٌ حكيمٌ} أي: عزيزٌ في انتقامه ممّن عصاه وخالف أمره، حكيمٌ في أمره وشرعه وقدره). [تفسير ابن كثير: 1/606-610]

تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألّا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون}

{الطلاق} رفع بالابتداء، و {مرتان} الخبر، والمعنى الطلاق الذي تملك فيه الرجعة مرتان، يدل عليه {فإمساك بمعروف}المعنى: فالواجب عليكم إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

ولو كان في الكلام فإمساكا بمعروف كان جائزا.

على فأمسكوهن إمساكا بمعروف كما قال عزّ وجلّ: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}، ومعنى {بمعروف} بما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة.

وقوله عزّ وجلّ: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا} أي: مما أعطيتموهن من مهر وغيره.

وقوله عزّ وجلّ: {إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه}.

قرئت {يخافا}، ويحافا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة وغيره: معنى {إلّا أن يخافا} إلا أن يوقنا، وحقيقة قوله: {إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود اللّه} أن يكون الأغلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر منهما من أسباب التباعد الخوف في أن لا يقيما حدود اللّه - ومعنى {حدود اللّه} ما حدّه الله جلّ وعزّ مما لا تجوز مجاوزته إلى غيره، وأصل الحدّ في اللغة المنع، يقال حددت الدار.

وحددت حدود الدار، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل فيها.

وحددت الرجل أقمت عليه الحد، والحد هو الذي به منع الناس من أن يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة، ويقال أحدت المرأة على زوجها وحدت فهي حادّ ومحدّ، إذا امتنعت عن الزينة، وأحددت إليه النظر إذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إليه، وأحددت السكين إحدادا.

قال الشاعر:

إن العبادي أحدّ فأسه... فعاد حدّ فأسه برأسه

وإنّما قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به، والعرب تقول للحاجب والبواب وصاحب السجن: الحدّاد، وإنما قيل له حداد لأنه يمنع من يدخل ومن يخرج، وقول الأعشى:

فقمنا ولمّا يصح ديكنا... إلى خمرة عند حدّادها

أي: عند ربها الذي منع منها إلا بما يريد.

ومعنى:(فلا تعتدوها)أي: لا تجاوزوها). [معاني القرآن: 1/307-308]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافا ألاّ يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألاّ يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229)
قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم: نزلت هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم:
المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها وإما أمسكها محسنا عشرتها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تتضمن هذين المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه: أولها أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي قوله: أو تسريحٌ بإحسانٍ، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ وإن عزموا السراح [البقرة: 227]، والوجه الثالث أن فعّل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و «إمساك» مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك، وقوله بإحسانٍ معناه أن لا يظلمها شيئا من حقها ولا يتعدى في قول. وقوله تعالى: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا الآية خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب فلذلك خص بالذكر. وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا» بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب خاف في التعدي إلى مفعول واحد وهو أن، وقرأ حمزة وحده «يخافا» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر أن بتقدير حرف جر محذوف، فموضع أن: خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي، ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا» بالياء وواو الجمع، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس. وحرم الله- تعالى- على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر: «روينا معنى ذلك عن ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور»، وقال مالك- رحمه الله- والشعبي وجماعة معهما: فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومعنى ذلك أن يكون الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ»، قال ابن المنذر: «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ، ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه»، وحدود اللّه في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.
ونازلة حبيبة بنت سهل- وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه، وقوله تعالى: فإن خفتم ألّا يقيما حدود اللّه المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت له: لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما، حل الخلع، وقال الشعبي: ألّا يقيما حدود اللّه: معناه أن لا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة»، وقال عطاء بن أبي رباح: «يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبّك ونحو هذا».
وقوله تعالى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق، وقال ابن عمر والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى بذلك عمر بن الخطاب، وقال طاوس والزهري وعطاء وعمر بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق: لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها. وبه قال الربيع، وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة «منه»، يعني مما آتيتموهن وهو المهر. وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب: «لا أرى أن يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئا». وقال بكر بن عبد الله المزني: «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا» قال: «وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً [النساء: 20].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.
وقوله تعالى: تلك حدود اللّه الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا تتجاوزوها، ثم توعد- تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة»). [المحرر الوجيز: 1/560-565]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229) فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقومٍ يعلمون (230)}
هذه الآية الكريمة رافعةٌ لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أنّ الرّجل كان أحقّ برجعة امرأته، وإن طلّقها مائة مرّةٍ ما دامت في العدّة، فلمّا كان هذا فيه ضررٌ على الزّوجات قصرهم اللّه عزّ وجلّ إلى ثلاث طلقاتٍ، وأباح الرّجعة في المرّة والثّنتين، وأبانها بالكلّيّة في الثّالثة، فقال: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}
قال أبو داود، رحمه اللّه، في سننه: "بابٌ في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث": حدثنا أحمد ابن محمّدٍ المروزيّ، حدّثني عليّ بن الحسين بن واقدٍ، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ} الآية: وذلك أنّ الرّجل كان إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: {الطّلاق مرّتان} الآية.
ورواه النّسائيّ عن زكريّا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عليّ بن الحسين، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا هارون بن إسحاق، حدّثنا عبدة - يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنّ رجلًا قال لامرأته: لا أطلّقك أبدًا ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلّقك، حتّى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان}
وهكذا رواه ابن جريرٍ في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد، وابن إدريس. ورواه عبد بن حميد في تفسيره، عن جعفر بن عونٍ، كلّهم عن هشامٍ، عن أبيه. قال: كان الرّجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلّقها ما شاء، ما دامت في العدّة، وإنّ رجلًا من الأنصار غضب على امرأته فقال: واللّه لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك. قال: أطلّقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثمّ أطلّقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {الطّلاق مرّتان} قال: فاستقبل النّاس الطّلاق، من كان طلّق ومن لم يكن طلّق.
وقد رواه أبو بكر بن مردويه، من طريق محمّد بن سليمان، عن يعلى بن شبيبٍ -مولى الزّبير -عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدّم. ورواه التّرمذيّ، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيبٍ به. ثمّ رواه عن أبي كريبٍ، عن ابن إدريس، عن هشامٍ، عن أبيه مرسلًا. قال: هذا أصحّ. ورواه الحاكم في مستدركه، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسبٍ، عن يعلى بن شبيبٍ به، وقال صحيح الإسناد.
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه، حدّثنا محمّد بن حميد، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لم يكن للطّلاق وقتٌ، يطلق الرّجل امرأته ثمّ يراجعها ما لم تنقض العدّة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين النّاس فقال: واللّه لأتركنّك لا أيّمًا ولا ذات زوجٍ، فجعل يطلّقها حتّى إذا كادت العدّة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيه: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} فوقّت الطّلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثّالثة، حتّى تنكح زوجًا غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلًا. وذكره السّدّيّ، وابن زيدٍ، وابن جريرٍ كذلك، واختار أنّ هذا تفسير هذه الآية.
وقوله: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} أي: إذا طلّقتها واحدةً أو اثنتين، فأنت مخيّرٌ فيها ما دامت عدّتها باقيةً، بين أن تردّها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتّى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا إليها، لا تظلمها من حقّها شيئًا، ولا تضارّ بها.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قال: إذا طلّق الرّجل امرأته تطليقتين، فليتّق اللّه في الثّالثة، فإمّا أن يمسكها بمعروفٍ فيحسن صحابتها أو يسرّحها [بإحسانٍ] فلا يظلمها من حقّها شيئًا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني سفيان الثّوريّ، حدّثني إسماعيل بن سميعٍ، قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} أين الثّالثة؟ قال: "التّسريح بإحسانٍ".
ورواه عبد بن حميدٍ في تفسيره، ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي حكيمٍ، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميعٍ، أنّ أبا رزينٍ الأسديّ يقول: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، أرأيت قول اللّه: " الطّلاق مرّتان "، فأين الثّالثة؟ قال: "التّسريح بإحسانٍ الثّالثة".
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصورٍ، عن خالد بن عبد اللّه، عن إسماعيل بن زكريّا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميعٍ، عن أبي رزينٍ، به. وكذا رواه قيس بن الرّبيع، عن إسماعيل بن سميعٍ عن أبي رزينٍ به مرسلًا. ورواه ابن مردويه [أيضًا] من طريق عبد الواحد بن زيادٍ، عن إسماعيل بن سميعٍ، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره. ثمّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن عبد الرّحيم، حدّثنا أحمد بن يحيى، حدّثنا عبيد اللّه بن جرير بن جبلة حدّثنا ابن عائشة حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، ذكر اللّه الطّلاق مرّتين، فأين الثّالثة؟ قال: "إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ".
وقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا [إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه]} أي: لا يحلّ لكم أن تضاجروهن وتضيّقوا عليهنّ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهنّ من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ} [النّساء:19] فأمّا إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفسٍ منها. فقد قال تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النّساء:4] وأمّا إذا تشاقق الزّوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرّجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به} الآية.
فأمّا إذا لم يكن لها عذرٌ وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الوهّاب -وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة -قالا جميعًا: حدّثنا أيّوب، عن أبي قلابة، عمّن حدّثه، عن ثوبان، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أيّما امرأةٍ سألت زوجها طلاقها من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنّة".
وهكذا رواه التّرمذيّ، عن بندارٍ، عن عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثّقفيّ به. وقال حسنٌ: قال: ويروى، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. ورواه بعضهم، عن أيّوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن أبي قلابة -قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أيّما امرأةٍ سألت زوجها الطّلاق في غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنّة".
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن جريرٍ، من حديث حمّاد بن زيدٍ، به.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن ليثٍ، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "أيّما امرأةٍ سألت زوجها الطّلاق في غير ما بأسٍ، حرّم اللّه عليها رائحة الجنّة". وقال: "المختلعات هنّ المنافقات".
ثمّ رواه ابن جريرٍ والتّرمذيّ جميعًا، عن أبي كريبٍ، عن مزاحم بن ذوّاد بن علبة، عن أبيه، عن ليثٍ، هو ابن أبي سليمٍ عن أبي الخطّاب، عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "المختلعات هنّ المنافقات". ثمّ قال التّرمذيّ: غريبٌ من هذا الوجه، وليس إسناده بالقويّ.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب حدّثنا حفص بن بشرٍ، حدّثنا قيس بن الرّبيع، عن أشعث بن سوّارٍ، عن الحسن عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ المختلعات المنتزعات هنّ المنافقات" غريبٌ من هذا الوجه ضعيفٌ.

حديثٌ آخر: قال ابن ماجه: حدّثنا بكر بن خلفٍ أبو بشرٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان، عن عمّه عمارة بن ثوبان، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تسأل امرأةٌ زوجها الطّلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا وهيبٌ، حدّثنا أيّوب، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات".
ثمّ قد قال طائفةٌ كثيرةٌ من السّلف وأئمّة الخلف: إنّه لا يجوز الخلع إلّا أن يكون الشّقاق والنّشوز من جانب المرأة، فيجوز للرّجل حينئذٍ قبول الفدية، واحتجّوا بقوله: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا [إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه]}. قالوا: فلم يشرع الخلع إلّا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلّا بدليلٍ، والأصل عدمه، وممّن ذهب إلى هذا ابن عبّاسٍ، وطاوسٌ، وإبراهيم، وعطاءٌ، [والحسن] والجمهور، حتّى قال مالكٌ والأوزاعيّ: لو أخذ منها شيئًا وهو مضارٌّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطّلاق رجعيًّا. قال مالكٌ: وهو الأمر الّذي أدركت الناس عليه. وذهب الشّافعيّ، رحمه اللّه، إلى أنّه يجوز الخلع في حالة الشّقاق، وعند الاتّفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبةً. وحكى الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب "الاستذكار" له، عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ، أنّه ذهب إلى أنّ الخلع منسوخٌ بقوله: {وآتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} [النّساء: 20]. ورواه ابن جريرٍ عنه وهذا قولٌ ضعيفٌ ومأخذٌ مردودٌ على قائله. وقد ذكر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، أنّ هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شمّاس وامرأته حبيبة بنت عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول. ولنذكر طرق حديثها، واختلاف ألفاظه: قال الإمام مالكٌ في موطّئه: عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة بنت عبد الرّحمن بن سعد بن زرارة، أنّها أخبرته عن حبيبة بنت سهلٍ الأنصاريّة، أنّها كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهلٍ عند بابه في الغلس، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من هذه؟ " قالت: أنا حبيبة بنت سهلٍ. فقال: "ما شأنك؟ " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيسٍ -لزوجها -فلمّا جاء زوجها ثابت بن قيسٍ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هذه حبيبة بنت سهلٍ قد ذكرت ما شاء اللّه أن تذكر". فقالت حبيبة: يا رسول اللّه، كلّ ما أعطاني عندي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "خذ منها". فأخذ منها وجلست في أهلها.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن مالكٍ بإسناده -مثله. ورواه أبو داود، عن القعنبيّ، عن مالكٍ. والنّسائيّ، عن محمّد بن مسلمة، عن ابن القاسم، عن مالكٍ به.
حديثٌ آخر: عن عائشة: قال أبو داود وابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن معمرٍ، حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا أبو عمرٍو السّدوسيّ، عن عبد اللّه -بن أبي بكرٍ -عن عمرة، عن عائشة، أنّ حبيبة بنت سهلٍ كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، فضربها فكسر نغضها فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد الصّبح فاشتكته إليه، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثابتًا فقال: "خذ بعض مالها وفارقها". قال: ويصلح ذلك يا رسول اللّه؟ قال: "نعم". قال: فإنّي أصدقتها حديقتين، فهما بيدها. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "خذهما وفارقها". ففعل.
وهذا لفظ ابن جريرٍ. وأبو عمرٍو السّدوسيّ هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
حديثٌ آخر فيه: عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنه:
قال البخاريّ: حدّثنا أزهر بن جميلٍ، أخبرنا عبد الوهّاب الثّقفيّ، حدّثنا خالدٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنّ امرأة ثابت بن قيس بن شمّاسٍ أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، ما أعتب عليه في خلقٍ ولا دينٍ، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتردّين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اقبل الحديقة وطلّقها تطليقةً".
وكذا رواه النّسائيّ، عن أزهر بن جميلٍ بإسناده، مثله. ورواه البخاريّ أيضًا، عن إسحاق الواسطيّ، عن خالدٍ هو ابن عبد اللّه الطّحّان، عن خالدٍ، هو ابن مهران الحذّاء، عن عكرمة به، نحوه.
وهكذا رواه البخاريّ أيضًا من طرقٍ، عن أيّوب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، به. وفي بعضها أنّها قالت: لا أطيقه، تعني: بغضًا. وهذا الحديث من أفراد البخاريّ من هذا الوجه.
ثمّ قال: حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن عكرمة، أن جميلة رضي اللّه عنها. كذا قال، والمشهور أنّ اسمها حبيبة [كما تقدّم].
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا أزهر بن مروان الرّقاشيّ، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، أنّ جميلة بنت سلول أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: واللّه ما أعتب على ثابت بن قيس بن شمّاسٍ في دينٍ ولا خلقٍ، ولكنّني أكره الكفر بعد الإسلام، لا أطيقه بغضًا. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "تردّين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد.
وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان، بإسناده مثله سواءٍ، وهو إسنادٌ جيّدٌ مستقيمٌ ورواه أيضًا أبو القاسم البغويّ، عن عبيد اللّه القواريريّ، عن عبد الأعلى، مثله، لكن قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، حدّثنا الحسين بن واقدٍ، عن ثابتٍ، عن عبد اللّه بن رباحٍ عن جميلة بنت أبيّ ابن سلول: أنّها كانت تحت ثابت بن قيسٍ، فنشزت عليه، فأرسل إليها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "يا جميلة، ما كرهت من ثابتٍ؟ " قالت: واللّه ما كرهت منه دينًا ولا خلقًا، إلّا أنّي كرهت دمامته! فقال لها: "أتردّين الحديقة؟ " قالت: نعم. فردّت الحديقة، وفرّق بينهما.
قال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيلٍ، عن أبي جريرٍ أنّه سأل عكرمة: هل كان للخلع أصلٌ؟ قال: كان ابن عبّاسٍ يقول: إنّ أوّل خلعٍ كان في الإسلام في أخت عبد اللّه بن أبيٍّ، أنّها أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللّه، لا يجمع رأسي ورأسه شيءٌ أبدًا، إنّي رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدّةٍ، فإذا هو أشدّهم سوادًا، وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهًا. قال زوجها: يا رسول اللّه، إنّي قد أعطيتها أفضل مالي، حديقةً لي، فإن ردّت عليّ حديقتي؟ قال: "ما تقولين؟ " قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرّق بينهما.
حديثٌ آخر: قال ابن ماجه: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن حجّاجٍ، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: كانت حبيبة بنت سهلٍ تحت ثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وكان رجلًا دميمًا، فقالت: يا رسول اللّه، واللّه لولا مخافة اللّه إذا دخل عليّ بصقت في وجهه! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتردّين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. فردّت عليه حديقته. قال ففرّق بينهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد اختلف الأئمّة، رحمهم اللّه، في أنّه: هل يجوز للرّجل أن يفاديها بأكثر ممّا أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، لعموم قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، أخبرنا أيّوب، عن كثيرٍ مولى سمرة: أنّ عمر أتي بامرأةٍ ناشزٍ، فأمر بها إلى بيتٍ كثير الزّبل، ثمّ دعا بها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلّا هذه اللّيلة الّتي حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها ورواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن أيّوب، عن كثيرٍ مولى سمرة، فذكر مثله، وزاد: فحبسها فيه ثلاثة أيّامٍ.
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرّحمن: أنّ امرأةً أتت عمر بن الخطّاب، فشكت زوجها، فأباتها في بيت الزّبل. فلمّا أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما كنت عنده ليلةً أقرّ لعيني من هذه اللّيلة. فقال: خذ ولو عقاصها.
وقال البخاريّ: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ: أنّ الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء حدّثته قالت: كان لي زوجٌ يقلّ عليّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عنّي. قالت: فكانت منّي زلّةٌ يومًا، فقلت له: أختلع منك بكلّ شيءٍ أملكه؟ قال: نعم. قالت: ففعلت. قالت فخاصم عمّي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفّان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرّأس.
ومعنى هذا: أنّه يجوز أن يأخذ منها كلّ ما بيدها من قليلٍ وكثيرٍ، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها. وبه يقول ابن عمر، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وإبراهيم النّخعيّ، وقبيصة بن ذؤيبٍ، والحسن بن صالحٍ، وعثمان البتّيّ. وهذا مذهب مالكٍ، واللّيث، والشّافعيّ، وأبي ثورٍ، واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة، رحمهم اللّه: إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا تجوز الزّيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء: وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئًا، فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها. وهذا قول سعيد بن المسيّب، وعطاءٍ، وعمرو بن شعيبٍ، والزّهريّ، وطاوسٍ، والحسن، والشّعبيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال معمرٌ، والحكم: كان عليٌّ يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعيّ: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر ممّا ساق إليها.
قلت: ويستدلّ لهذا القول بما تقدّم من رواية قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قصّة ثابت بن قيسٍ: فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روى عبد بن حميدٍ حيث قال: أخبرنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كره أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي: من الّذي أعطاها؛ لتقدّم قوله: {ولا [يحلّ لكم أن] تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي: من ذلك. وهكذا كان يقرؤها الرّبيع بن أنسٍ: "فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه" رواه ابن جريرٍ؛ ولهذا قال بعده: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون}
فصلٌ
قال الشّافعيّ: اختلف أصحابنا في الخلع، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ في رجلٍ طلّق امرأته تطليقتين ثمّ اختلعت منه بعد،يتزوّجها إن شاء؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: {الطّلاق مرّتان} قرأ إلى: {أن يتراجعا} قال الشّافعيّ: وأخبرنا سفيان، عن عمرو [بن دينارٍ] عن عكرمة قال: كلّ شيءٍ أجازه المال فليس بطلاقٍ.
وروى غير الشّافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّ إبراهيم بن سعد بن أبي وقّاصٍ سأله فقال: رجلٌ طلّق امرأته تطليقتين ثمّ اختلعت منه، أيتزوّجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاقٍ، ذكر اللّه الطّلاق في أوّل الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيءٍ، ثمّ قرأ: {الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} وقرأ: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره} وهذا الّذي ذهب إليه ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما -من أنّ الخلع ليس بطلاقٍ، وإنّما هو فسخٌ - هو روايةٌ عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، وابن عمر. وهو قول طاوسٍ، وعكرمة. وبه يقول أحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثورٍ، وداود بن عليٍّ الظّاهريّ. وهو مذهب الشّافعيّ في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة.
والقول الثّاني في الخلع: إنّه طلاقٌ بائنٌ إلّا أن ينوي أكثر من ذلك. قال مالكٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان مولى الأسلميّين عن أمّ بكرٍ الأسلميّة: أنّها اختلعت من زوجها عبد اللّه بن خالد بن أسيدٍ، فأتيا عثمان بن عفّان في ذلك، فقال: تطليقةٌ؛ إلّا أن تكون سمّيت شيئًا فهو ما سمّيت. قال الشّافعيّ: ولا أعرف جمهان. وكذا ضعّف أحمد بن حنبلٍ هذا الأثر، واللّه أعلم.
وقد روي نحوه عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاءٌ، وشريحٌ، والشّعبيّ، وإبراهيم، وجابر بن زيدٍ. وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وعثمان التبي، والشّافعيّ في الجديد. غير أنّ الحنفيّة عندهم أنّه متى نوى المخالع بخلعه تطليقةً أو اثنتين أو أطلق فهو واحدةٌ بائنةٌ. وإنّ نوى ثلاثًا فثلاثٌ. وللشّافعيّ قولٌ آخر في الخلع، وهو: أنّه متى لم يكن بلفظ الطّلاق، وعرّي عن النّيّة فليس هو بشيءٍ بالكلّيّة.
مسألةٌ:
وذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، والشّافعيّ، وأحمد وإسحاق في روايةٍ عنهما، وهي المشهورة؛ إلى أنّ المختلعة عدّتها عدّة المطلّقة بثلاثة قروءٍ، إن كانت ممّن تحيض. وروي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسارٍ، وعروة، وسالمٌ، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهابٍ، والحسن، والشّعبيّ، وإبراهيم النّخعيّ، وأبو عياضٍ، وجلاس بن عمرٍو، وقتادة، وسفيان الثّوريّ، والأوزاعيّ، واللّيث بن سعدٍ، وأبو عبيدٍ. قال التّرمذيّ: وهو قول أكثر أهل العلم من الصّحابة وغيرهم. ومأخذهم في هذا أنّ الخلع طلاقٌ، فتعتدّ كسائر المطلّقات.
والقول الثّاني: أنّها تعتدّ بحيضةٍ واحدةٍ تستبرئ بها رحمها. قال ابن أبي شيبة: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عبيد اللّه بن عمر، عن نافعٍ أنّ الرّبيّع اختلعت من زوجها، فأتى عمّها عثمان، رضي اللّه عنه، فقال: تعتدّ حيضةً. قال: وكان ابن عمر يقول: تعتدّ ثلاث حيضٍ، حتّى قال هذا عثمان، فكان ابن عمر يفتي به ويقول: عثمان خيرنا وأعلمنا.
وحدّثنا عبدة، عن عبيد اللّه، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: عدّة المختلعة حيضةٌ.
وحدّثنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: عدّتها حيضةٌ. وبه يقول عكرمة، وأبان بن عثمان، وكلّ من تقدّم ذكره ممّن يقول: إنّ الخلع فسخٌ – يلزمه القول بهذا، واحتجّوا لذلك بما رواه أبو داود، والتّرمذيّ، حيث قال كلٌّ واحدٌ منهما: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحيم البغداديّ، حدّثنا عليّ بن بحرٍ، حدّثنا هشام بن يوسف، عن معمرٍ، عن عمرو بن مسلمٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنّ امرأة ثابت بن قيسٍ اختلعت من زوجها على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن تعتدّ بحيضةٍ. ثمّ قال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. وقد رواه عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن عمرو بن مسلمٍ، عن عكرمة مرسلًا.
حديثٌ آخر: قال التّرمذيّ: حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن وهو مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسارٍ، عن الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء: أنّها اختلعت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمرها النّبيّ - أو أمرت -أن تعتدّ بحيضةٍ. قال التّرمذيّ: الصّحيح أنّها أمرت أن تعتدّ بحيضةٍ.
طريقٌ أخرى: قال ابن ماجه: حدّثنا عليّ بن سلمة النّيسابوريّ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، حدّثنا أبي عن ابن إسحاق، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء قال: قلت لها: حدّثيني حديثك. قالت: اختلعت من زوجي، ثمّ جئت عثمان، فسألت: ماذا عليّ من العدّة؟ قال: لا عدّة عليك، إلّا أن يكون حديث عهدٍ بك فتمكثين عنده حتّى تحيضي حيضةً. قالت: وإنّما تبع في ذلك قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيسٍ، فاختلعت منه.
وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن أبي سلمة ومحمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان، عن الرّبيّع بنت معوّذٍ قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمر امرأة ثابت بن قيسٍ حين اختلعت منه أن تعتدّ بحيضةٍ.
مسألةٌ:
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدّة بغير رضاها عند الأئمّة الأربعة وجمهور العلماء؛ لأنّها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد اللّه بن أبي أوفى، وماهان الحنفيّ، وسعيد بن المسيّب، والزّهريّ أنّهم قالوا: إن ردّ إليها الّذي أعطاها جاز له رجعتها في العدّة بغير رضاها، وهو اختيار أبي ثورٍ، رحمه اللّه. وقال سفيان الثّوريّ: إن كان الخلع بغير لفظ الطّلاق فهو فرقةٌ ولا سبيل له عليها. وإن كان سمّى طلاقًا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدّة. وبه يقول داود بن عليٍّ الظّاهريّ: واتّفق الجميع على أنّ للمختلع أن يتزوّجها في العدّة. وحكى الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ، عن فرقةٍ أنّه لا يجوز له ذلك، كما لا يجوز لغيره، وهو قولٌ شاذٌّ مردودٌ.
مسألةٌ:
وهل له أن يوقع عليها طلاقًا آخر في العدّة؟ فيه ثلاثة أقوالٍ للعلماء:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنّها قد ملكت نفسها وبانت منه. وبه يقول ابن عبّاسٍ، وابن الزّبير، وعكرمة، وجابر بن زيدٍ، والحسن البصريّ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثورٍ.
والثّاني: قال مالكٌ: إن أتبع الخلع طلاقًا من غير سكوتٍ بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع. قال ابن عبد البرّ: وهذا يشبه ما روي عن عثمان، رضي اللّه عنه.
والثّالث: أنّه يقع عليها الطّلاق بكلّ حالٍ ما دامت في العدّة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثّوريّ، والأوزاعيّ. وبه يقول سعيد بن المسيّب، وشريحٌ، وطاوسٌ، وإبراهيم، والزّهريّ، والحكم وحمّاد بن أبي سليمان. وروي ذلك عن ابن مسعودٍ، وأبي الدّرداء قال ابن عبد البرّ: وليس ذلك بثابتٍ عنهما.
وقوله: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون} أي: هذه الشّرائع الّتي شرعها لكم هي حدوده، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصّحيح: "إن اللّه حدّ حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيّعوها، وحرّم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم من غير نسيانٍ، فلا تسألوا عنها".
وقد يستدلّ بهذه الآية من ذهب إلى أنّ جمع الطّلقات الثّلاث بكلمةٍ واحدةٍ حرامٌ، كما هو مذهب المالكيّة ومن وافقهم، وإنّما السّنّة عندهم أن يطلّق واحدةً واحدةً، لقوله: {الطّلاق مرّتان} ثمّ قال: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون} ويقوّون ذلك بحديث محمود بن لبيدٍ الّذي رواه النّسائيّ في سننه حيث قال: حدّثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهبٍ عن مخرمة بن بكيرٍ عن أبيه، عن محمود بن لبيدٍ قال: أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا فقام غضبان، ثمّ قال: "أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم؟! " حتّى قام رجلٌ فقال يا رسول اللّه، ألا أقتله؟ فيه انقطاعٌ.
[تفسير ابن كثير: 1/610-621]

تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقوم يعلمون}أي: فإن طلقها الثالثة، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما، أي: فلا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره، وفعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل، فحرم عليه التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق، وأن يتثبتوا.

وقوله عزّ وجلّ: (بعد ذلك أمرا) يدل على ما قلناه.

وقوله عزّ وجلّ: {فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}أي: فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، وموضع أن نصب، المعنى لا يأثمان في أن يتراجعا.

فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون موضع أن خفضا على إسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام.

وكذلك قال الكسائي.

والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف، ويكون جعلها موصولة عوضا مما حذف، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما الرجوع لم يصلح.

والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضع جر على إرادة في.

ومعنى (إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه)أي: إن كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللّه.

وقوله عزّ وجلّ: (وتلك حدود اللّه يبيّنها لقوم يعلمون).

ويقرأ "نبينها" بالياء والنون جميعا.

(لقوم يعلمون) أي: يعلمون أن وعد اللّه حق وأن ما أتى به رسوله صدق). [معاني القرآن: 1/308-309]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه وتلك حدود اللّه يبيّنها لقومٍ يعلمون (230) وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو سرّحوهنّ بمعروفٍ ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: هذا ابتداء الطلقة الثالثة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه: «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق»، واحتج من هذه الآية بذكر الله- تعالى- الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن عكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم، وقال مجاهد: «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح، والتسريح هو الطلقة الثالثة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله تعالى: أو تسريحٌ يحتمل الوجهين: إما تركها تتم العدة، وإما إرداف الثالثة. ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة. وتنكح في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت سموأل امرأة رفاعة حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها ثلاثا، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن، ما معه إلا مثل الهدبة»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته»، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال: «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة»، وقال بعض الفقهاء: التقاء الختانين يحل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والمعنى واحد، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح، ويتأول على سعيد- رحمه الله- أن الحديث لم يبلغه، ولما رأى العقد عاملا في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث. والذي يحل عند مالك- رحمه الله- النكاح الصحيح والوطء المباح، والمحلل إذا وافق المرأة: فلم تنكح زوجا، ولا يحل ذلك، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافا، وقال عثمان بن عفان: «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها».
ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج. وقال الحسن بن أبي الحسن: «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول»، وهذا شاذ، وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان.
وقوله تعالى: فإن طلّقها فلا جناح عليهما الآية، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين، وقال أبو عبيدة: «المعنى أيقنا»، وقوله في ذلك ضعيف، وحدود اللّه الأمور التي أمر أن لا تتعدى، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا لهم، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين. أي نصب للعبرة من قول أو صنعة، وأما إن أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء، وقرأ السبعة «يبينها» بالياء، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون). [المحرر الوجيز: 1/565-568]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره} أي: أنّه إذا طلّق الرّجل امرأته طلقةً ثالثةً بعد ما أرسل عليها الطّلاق مرّتين، فإنّها تحرم عليه حتّى تنكح زوجًا غيره، أي: حتّى يطأها زوجٌ آخر في نكاحٍ صحيحٍ، فلو وطئها واطئٌ في غير نكاحٍ، ولو في ملك اليمين لم تحلّ للأوّل؛ لأنّه ليس بزوجٍ، وهكذا لو تزوّجت، ولكن لم يدخل بها الزّوج لم تحلّ للأوّل، واشتهر بين كثيرٍ من الفقهاء عن سعيد بن المسيّب، رحمه اللّه، أنّه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأوّل بمجرّد العقد على الثّاني. وفي صحّته عنه نظرٌ، على أنّ الشّيخ أبا عمر بن عبد البرّ قد حكاه عنه في الاستذكار، فاللّه أعلم.
وقد قال أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن علقمة بن مرثدٍ، عن سالم بن رزينٍ، عن سالم بن عبد اللّه عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الرّجل يتزوّج المرأة فيطلّقها قبل أن يدخل بها البتّة، فيتزوّجها زوجٌ آخر فيطلّقها، قبل أن يدخل بها: أترجع إلى الأوّل؟ قال: "لا حتّى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها".
هكذا وقع في رواية ابن جريرٍ، وقد رواه الإمام أحمد فقال:
حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن علقمة بن مرثدٍ، سمعت سالم بن رزينٍ يحدّث عن سالم بن عبد اللّه، يعني: ابن عمر، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: في الرّجل تكون له المرأة فيطلّقها، ثمّ يتزوّجها رجلٌ فيطلّقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى زوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "حتى يذوق العسيلة".
وهكذا رواه النّسائيّ، عن عمرو بن عليٍّ الفلّاس، وابن ماجه عن محمّد بن بشّارٍ بندارٍ كلاهما عن محمّد بن جعفرٍ غندرٍ، عن شعبة، به كذلك. فهذا من رواية سعيد بن المسيّب عن ابن عمر مرفوعًا، على خلاف ما يحكى عنه، فبعيدٌ أن يخالف ما رواه بغير مستندٍ، واللّه أعلم.
وقد روى أحمد أيضًا، والنّسائيّ، وابن جريرٍ هذا الحديث من طريق سفيان الثّوريّ، عن علقمة بن مرثدٍ، عن رزين بن سليمان الأحمريّ، عن ابن عمر قال: سئل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرّجل يطلّق امرأته ثلاثًا فيتزوّجها آخر، فيغلق الباب ويرخي السّتر ثمّ يطلّقها، قبل أن يدخل بها: هل تحلّ للأوّل؟ قال: "لا حتّى يذوق العسيلة".
وهذا لفظ أحمد، وفي روايةٍ لأحمد: سليمان بن رزينٍ.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا محمّد بن دينارٍ، حدّثنا يحيى بن يزيد الهنائيّ، عن أنس بن مالكٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن رجلٍ كانت تحته امرأةٌ فطلّقها ثلاثًا فتزوّجت بعده رجلًا فطلّقها قبل أن يدخل بها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا حتّى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته".
ورواه ابن جريرٍ، عن محمّد بن إبراهيم الأنماطيّ، عن هشام بن عبد الملك، حدّثنا محمّد بن دينارٍ، فذكره.
قلت: ومحمّد بن دينار بن صندلٍ أبو بكرٍ الأزديّ ثمّ الطّاحيّ البصريّ، ويقال له: ابن أبي الفرات: اختلفوا فيه، فمنهم من ضعّفه، ومنهم من قوّاه وقبله وحسن له. وقال أبو داود: أنّه تغيّر قبل موته، فاللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا عبيد بن آدم بن أبي إياسٍ العسقلانيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا شيبان، حدّثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي الحارث الغفاريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المرأة يطلّقها زوجها ثلاثًا فتتزوّج زوجًا غيره، فيطلّقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأوّل أن يراجعها، قال: "لا حتّى يذوق الآخر عسيلتها".
ثمّ رواه من وجهٍ آخر عن شيبان، وهو ابن عبد الرّحمن، به. وأبو الحارث غير معروفٍ.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن مثنّى، حدّثنا يحيى، عن عبيد اللّه، حدّثنا القاسم، عن عائشة: أنّ رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجت زوجًا فطلّقها قبل أن يمسّها، فسئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أتحلّ للأوّل؟ فقال: "لا حتّى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأوّل".
أخرجه البخاريّ، ومسلمٌ، والنّسائيّ، من طرقٍ، عن عبيد اللّه بن عمر العمريّ، عن القاسم بن عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ، عن عمّته عائشة، به.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا عبيد اللّه بن إسماعيل الهبّاريّ، وسفيان بن وكيعٍ، وأبو هشامٍ الرّفاعيّ قالوا: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رجلٍ طلّق امرأته، فتزوّجت رجلًا غيره، فدخل بها ثمّ طلّقها قبل أن يواقعها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تحلّ لزوجها الأوّل حتّى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته".
وكذا رواه أبو داود عن مسدّدٍ، والنّسائيّ عن أبي كريبٍ، كلاهما عن أبي معاوية، وهو محمد بن حازم الضّرير، به.
طريقٌ أخرى: قال مسلمٌ في صحيحه:
حدّثنا محمّد بن العلاء الهمدانيّ، حدّثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن المرأة يتزوّجها الرّجل فيطلّقها، فتتزوّج رجلًا فيطلّقها قبل أن يدخل بها: أتحلّ لزوجها الأوّل؟ قال: "لا حتّى يذوق عسيلتها".
قال مسلمٌ: وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا ابن فضيلٍ: وحدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا أبو معاوية جميعًا، عن هشامٍ بهذا الإسناد.
وقد رواه البخاريّ من طريق أبي معاوية محمّد بن حازمٍ، عن هشامٍ به. وتفرّد به مسلمٌ من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جريرٍ من طريق عبد اللّه بن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا بنحوه أو مثله. وهذا إسنادٌ جيّدٌ. وكذا رواه ابن جريرٍ أيضًا، من طريق عليّ بن زيد بن جدعان، عن امرأة أبيه أمينة أمّ محمّدٍ عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمثله وهذا السّياق مختصرٌ من الحديث الّذي رواه البخاريّ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، عن هشامٍ، حدّثني أبي، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنّ رفاعة القرظيّ تزوّج امرأةً ثمّ طلّقها، فتزوّجت آخر فأتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكرت له أنّه لا يأتيها، وأنّه ليس معه إلّا مثل هدبة الثّوب فقال: "لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ".
تفرّد به من هذين الوجهين.
طريقٌ أخرى: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الأعلى، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظيّ -وأنا وأبو بكرٍ عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -فقالت: إنّ رفاعة طلّقني البتّة، وإنّ عبد الرّحمن بن الزّبير تزوّجني، وإنّما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبةً من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكرٍ، ألا تنهى هذه عمّا تجهر به بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم! فما زاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على التّبسّم، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كأنّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وهكذا رواه البخاريّ من حديث عبد اللّه بن المبارك، ومسلمٌ من حديث عبد الرّزّاق، والنّسائيّ من حديث يزيد بن زريعٍ، ثلاثتهم عن معمرٍ به. وفي حديث عبد الرّزّاق عند مسلمٍ: أن رفاعة طلّقها آخر ثلاث تطليقاتٍ. وقد رواه الجماعة إلّا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة، والبخاريّ من طريق عقيلٍ، ومسلمٌ من طريق يونس بن يزيد [وعنده ثلاث تطليقاتٍ، والنّسائيّ من طريق أيّوب بن موسى، ورواه صالح بن أبي الأخضر] كلّهم عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة، به.
وقال مالكٌ عن المسور بن رفاعة القرظيّ عن الزّبير بن عبد الرّحمن بن الزّبير: أنّ رفاعة بن سموالٍ طلّق امرأته تميمة بنت وهبٍ في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثًا، فنكحت عبد الرّحمن بن الزّبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسّها، ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الأوّل الّذي كان طلّقها، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنهاه عن تزويجها، وقال: "لا تحلّ لك حتّى تذوق العسيلة" كذا رواه أصحاب الموطّأ عن مالكٍ وفيه انقطاعٌ. وقد رواه إبراهيم بن طهمان، وعبد اللّه بن وهبٍ، عن مالكٍ، عن رفاعة، عن الزّبير بن عبد الرّحمن، عن أبيه، فوصله.
فصلٌ
والمقصود من الزّوج الثّاني أن يكون راغبًا في المرأة، قاصدًا لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التّزويج، واشترط الإمام مالكٌ مع ذلك أن يطأها الثّاني وطئًا مباحًا، فلو وطئها وهي محرمةٌ أو صائمةٌ أو معتكفةٌ أو حائضٌ أو نفساء أو والزّوج صائمٌ أو محرمٌ أو معتكفٌ، لم تحلّ للأوّل بهذا الوطء. وكذا لو كان الزّوج الثّاني ذمّيًّا لم تحلّ للمسلم بنكاحه؛ لأنّ أنكحة الكفّار باطلةٌ عنده. واشترط الحسن البصريّ فيما حكاه عنه الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ أن ينزل الزّوج الثّاني، وكأنّه تمسّك بما فهمه من قوله عليه السّلام: "حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضًا. وليس المراد بالعسيلة المنيّ لما رواه الإمام أحمد والنّسائيّ، عن عائشة رضي اللّه عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنّ العسيلة الجماع" فأمّا إذا كان الثّاني إنّما قصده أن يحلّها للأوّل، فهذا هو المحلّل الّذي وردت الأحاديث بذمّه ولعنه، ومتى صرّح بمقصوده في العقد بطل النّكاح عند جمهور الأئمّة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأوّل: عن ابن مسعودٍ. قال الإمام أحمد:
حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا سفيان، عن أبي قيسٍ، عن الهذيل، عن عبد اللّه قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والمحلّل والمحلّل له، وآكل الرّبا وموكله.
ثمّ رواه أحمد، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من غير وجهٍ، عن سفيان، وهو الثّوريّ، عن أبي قيسٍ واسمه عبد الرّحمن بن ثروان الأوديّ، عن هزيل بن شرحبيل الأوديّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم به. ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصّحابة، منهم: عمر، وعثمان، وابن عمر. وهو قول الفقهاء من التّابعين، ويروى ذلك عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ.
طريقٌ أخرى: عن ابن مسعودٍ. قال الإمام أحمد: حدّثنا زكريّا بن عديٍّ، حدّثنا عبيد اللّه، عن عبد الكريم، عن أبي الواصل، عن ابن مسعودٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لعن اللّه المحلّل والمحلّل له".
طريقٌ أخرى: روى الإمام أحمد، والنّسائيّ، من حديث الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن الحارث الأعور، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: آكل الرّبا وموكله، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصّدقة، والمتعدّي فيها، والمرتدّ على عقبيه إعراضًا بعد هجرته، والمحلّل والمحلّل له، ملعونون على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم القيامة.
الحديث الثّاني: عن عليٍّ رضي اللّه عنه. قال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا سفيان، عن جابرٍ [وهو ابن يزيد الجعفيّ] عن الشّعبيّ، عن الحارث، عن عليٍّ قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آكل الرّبا وموكله، وشاهديه وكاتبه، والواشمة والمستوشمة للحسن، ومانع الصّدقة، والمحلّل، والمحلّل له، وكان ينهى عن النّوح.
وكذا رواه عن غندرٍ، عن شعبة، عن جابرٍ، وهو ابن يزيد الجعفيّ، عن الشّعبيّ عن الحارث، عن عليٍّ، به.
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، وحصين بن عبد الرّحمن، ومجالد بن سعيدٍ، وابن عونٍ، عن عامرٍ الشعبي، به.
وقد رواه أبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه من حديث الشّعبيّ، به. ثمّ قال أحمد:
حدّثنا محمّد بن عبد اللّه، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صاحب الرّبا، وآكله، وكاتبه، وشاهده، والمحلّل، والمحلّل له.
الحديث الثّالث: عن جابرٍ: قال التّرمذيّ:
حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، أخبرنا أشعث بن عبد الرّحمن بن زبيدٍ الياميّ، حدّثنا مجالدٌ، عن الشّعبيّ، عن جابر بن عبد اللّه وعن الحارث، عن عليٍّ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعن المحلّل والمحلّل له ثمّ قال: وليس إسناده بالقائم، ومجالدٌ ضعّفه غيرٌ واحدٍ من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبلٍ. قال: ورواه ابن نميرٍ، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن جابر بن عبد اللّه، عن عليٍّ. قال: وهذا وهمٌ من ابن نميرٍ، والحديث الأوّل أصحّ.
الحديث الرّابع: عن عقبة بن عامرٍ: قال أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد بن ماجه:
حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، حدّثنا أبي، سمعت اللّيث بن سعدٍ يقول: قال أبو مصعبٍ مشرحٌ هو: ابن عاهان، قال عقبة بن عامرٍ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: "هو المحلّل، لعن اللّه المحلّل والمحلّل له".
تفرّد به ابن ماجه. وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ، عن عثمان بن صالحٍ، عن اللّيث، به، ثمّ قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا.
قلت: عثمان هذا أحد الثّقات، روى عنه البخاريّ في صحيحه. ثمّ قد تابعه غيره، فرواه جعفرٌ الفريابيّ عن العبّاس المعروف بابن فريقٍ عن أبي صالحٍ عبد اللّه بن صالحٍ، عن اللّيث به، فبرئ من عهدته واللّه أعلم.
الحديث الخامس: عن ابن عبّاسٍ. قال ابن ماجه:
حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا أبو عامرٍ، عن زمعة بن صالحٍ، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المحلّل والمحلّل له.
طريقٌ أخرى: قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجانيّ السّعديّ: حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن نكاح المحلّل قال: "لا إلّا نكاح رغبةٍ، لا نكاح دلسة ولا استهزاءٍ بكتاب اللّه، ثمّ يذوق عسيلتها".
ويتقوّى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن حميد بن عبد الرّحمن، عن موسى بن أبي الفرات، عن عمرو بن دينارٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوّى كلٌّ من هذا المرسل والّذي قبله بالآخر، واللّه أعلم.
الحديث السّادس: عن أبي هريرة. قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا عبد اللّه، هو ابن جعفرٍ، عن عثمان بن محمّدٍ، المقبريّ، عن أبي هريرة قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المحلّل والمحلّل له.
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجانيّ، والبيهقيّ، من طريق عبد اللّه بن جعفرٍ القرشيّ. وقد وثّقه أحمد بن حنبلٍ، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معينٍ وغيرهم. وأخرج له مسلمٌ في صحيحه، عن عثمان بن محمّدٍ الأخنسيّ -وثّقه ابن معينٍ -عن سعيد المقبريّ، وهو متّفقٌ عليه.
الحديث السّابع: عن ابن عمر. قال الحاكم في مستدركه:
حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، حدّثنا محمّد بن إسحاق الصّغانيّ حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان محمّد بن مطرّفٍ المدنيّ، عن عمر بن نافعٍ، عن أبيه أنّه قال: جاء رجلٌ إلى ابن عمر، فسأله عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوّجها أخٌ له من غير مؤامرةٍ منه، ليحلّها لأخيه: هل تحلّ للأوّل؟ فقال: لا إلّا نكاح رغبةٍ، كنّا نعدّ هذا سفاحًا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ثمّ قال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
وقد رواه الثّوريّ، عن عبد اللّه بن نافعٍ، عن أبيه، عن ابن عمر، به. وهذه الصّيغة مشعرةٌ بالرّفع. وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجانيّ، وحربٌ الكرمانيّ، وأبو بكرٍ الأثرم، من حديث الأعمش، عن المسيّب بن رافعٍ، عن قبيصة بن جابرٍ، عن عمر أنّه قال: لا أوتى بمحلّلٍ ولا محلّلٍ له إلّا رجمتهما.
وروى البيهقيّ من حديث ابن لهيعة، عن بكير بن الأشجّ، عن سليمان بن يسارٍ: أنّ عثمان بن عفّان رفع إليه رجلٌ تزوّج امرأةً ليحلّها لزوجها، ففرّق بينهما. وكذا روي عن عليٍّ، وابن عباس، وغير واحدٍ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم.
وقوله: {فإن طلّقها} أي: الزّوج الثّاني بعد الدّخول بها {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} أي: المرأة والزّوج الأوّل {إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه} أي: يتعاشرا بالمعروف [وقال مجاهدٌ: إنّ ظنًّا أنّ نكاحهما على غير دلسةٍ] {وتلك حدود اللّه} أي: شرائعه وأحكامه {يبيّنها} أي: يوضّحها {لقومٍ يعلمون}
وقد اختلف الأئمّة، رحمهم اللّه، فيما إذا طلّق الرّجل امرأته طلقةً أو طلقتين، وتركها حتّى انقضت عدّتها، ثمّ تزوّجت بآخر فدخل بها، ثمّ طلّقها فانقضت عدّتها، ثمّ تزوّجها الأوّل: هل تعود إليه بما بقي من الثّلاث، كما هو مذهب مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وهو قول طائفةٍ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم؟ أو يكون الزّوج الثّاني قد هدم ما قبله من الطّلاق، فإذا عادت إلى الأوّل تعود بمجموع الثّلاث، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه؟ وحجّتهم أنّ الزّوج الثّاني إذا هدم الثّلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/621-629]



* للاستزادة ينظر: هنا