17 Sep 2014
تفسير قول الله تعالى: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا
تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ
مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) }
تفسير
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف ولا تمسكوهنّ ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا واذكروا نعمت اللّه عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بكلّ شيء عليم}أي: وقت انقضاء عدتهن.
{فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف}أي: اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تمسكوهنّ ضرارا} أي: لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن، وقيل إنه كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء أجلها ثم يراجعها إضرارا بها، فنهاهم الله عن هذا الإضرار بهن.
وقوله عزّ وجلّ: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}أي: عرّضها لعذاب اللّه عزّ وجلّ: لأن إتيان ما نهى اللّه عنه تعرض لعذابه، وأصل الظلم وضع الشيء - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا} أي: ما قد بينه لكم من دلالاته، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره.
وقيل في هذا قولان:
1- قال بعضهم: كان الرجل يطلّق ويعتق ويقول: كنت لاعبا، فأعلم الله عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها،
2- وقال قوم: معنى {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوا}أي: لا تتركوا العمل بما حدّد اللّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه، - ويتوانى فيه: إنما أنت لاعب). [معاني القرآن: 1/309-310]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: وإذا طلّقتم النّساء الآية خطاب للرجال لا يختص بحكمه إلا الأزواج،
وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على المرأة مضارّة منه لها، بأن يرتجع قرب
انقضائها ثم يطلق بعد ذلك، قاله الضحاك وغيره، ولا خلاف فيه، ومعنى «بلغن
أجلهن» قاربن، لأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في
الإمساك، ومعنى «أمسكوهن» راجعوهن، وبمعروفٍ قيل هو الإشهاد، ولا تمسكوهنّ
أي لا تراجعوهن ضرارا، وباقي الآية بيّن. تفسير
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا
طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ إذا تراضوا
بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر ذلكم
أزكى لكم وأطهر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} {فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ} هذا مخاطبة للأولياء، وفي هذا دليل أن أمر الأولياء بين. لأنّ المطلّقة التي تراجع إنما هي مالكة بضعها إلا أن الولي لا بد منه، ومعنى{تعضلوهنّ}: تمنعوهنّ وتحبسوهنّ، من أن ينكحن أزواجهنّ. والأصل في هذا:
فيما روي أن معقل بن يسار طلق أخته زوجها، فأبى معقل بن يسار أن يزوجها
إيّاه، ومنعها بحقّ الولاية من ذلك، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقل: رغم أنفي لأمر اللّه. وأصل
العضل من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي معضل، إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج،
ويقال عضلت الناقة أيضا، فهي معضل إذا احتبس ما في بطنها... وقوله عزّ وجلّ: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر}أي: بأمر الله الذي تلا عليكم، {يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر}، أي: من صدق بأمر اللّه ووعيده والبعث وأطاع اللّه في هذه الحدود. وقال {ذلك يوعظ به} وهو يخاطب جميعا، وقد شرحنا القول فيه فيما تقدم. وقال بعض أهل اللغة: إنه توهّم أنّ ذا مع المعارف كلمة واحدة. ولا
أدري - من غير قائل هذا - بهذا التوهم. الله خاطب العرب بما يعقلونه
وخاطبهم بأفصح اللغات، وليس في القرآن توهم، تعالى اللّه - عن هذا، وإنما
حقيقة ذلك وذلكم مخاطبة الجميع، فالجميع لفظه لفظ واحد، فالمعنى ذلك أيها
القبيل يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه، وقوله عزّ وجلّ بعد هذا. {ذلكم أزكى لكم وأطهر} يدل على أنّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة. ومعنى {واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم). [معاني القرآن: 1/310-311]
قوله عز وجل: ولا
تتّخذوا آيات اللّه هزواً واذكروا نعمت اللّه عليكم وما أنزل عليكم من
الكتاب والحكمة يعظكم به واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ
(231) وإذا طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ
إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم
الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (232)
المراد آياته النازلة
في الأوامر والنواهي، وقال الحسن: «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو
هازلا أو راجع كذلك»، وقالته عائشة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث جدهن جد وهزلهن جد:
النكاح والطلاق
والرجعة». ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام ابن المسيب، النكاح والطلاق
والعتق، ثم ذكر الله عباده بإنعامه عليهم بالقرآن والسنة، والحكمة هي السنة
المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: مراد الله فيما لم ينص
عليه في الكتاب، والوصف ب عليمٌ يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي ظاهرها
خلاف النية فيها، كالمحلل والمرتجع مضارة). [المحرر الوجيز: 1/568-569]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا
طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو سرّحوهنّ بمعروفٍ ولا
تمسكوهنّ ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتّخذوا آيات اللّه
هزوًا واذكروا نعمة اللّه عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم
به واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (231)}
هذا أمرٌ من اللّه
عزّ وجلّ للرّجال إذا طلّق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعةٌ، أن
يحسن في أمرها إذا انقضت عدّتها، ولم يبق منها إلّا مقدار ما يمكنه فيه
رجعتها، فإمّا أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروفٍ، وهو أن يشهد
على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرّحها، أي: يتركها حتّى تنقضي
عدّتها، ويخرجها من منزله بالّتي هي أحسن، من غير شقاقٍ ولا مخاصمةٍ ولا
تقابحٍ، قال اللّه تعالى: {ولا تمسكوهنّ ضرارًا لتعتدوا} قال ابن عبّاسٍ،
ومجاهدٌ، ومسروقٌ، والحسن، وقتادة، والضّحّاك، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان
وغير واحدٍ: كان الرّجل يطلّق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدّة راجعها
ضرارًا، لئلّا تذهب إلى غيره، ثمّ يطلّقها فتعتدّ، فإذا شارفت على انقضاء
العدّة طلّق لتطول عليها العدّة، فنهاهم اللّه عن ذلك، وتوعّدهم عليه فقال:
{ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي: بمخالفته أمر اللّه تعالى.
وقوله: {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوًا} قال ابن جريرٍ: عند هذه الآية:
أخبرنا أبو كريب،
أخبرنا إسحاق بن منصورٍ، عن عبد السّلام بن حربٍ، عن يزيد بن عبد الرّحمن،
عن أبي العلاء الأوديّ، عن حميد بن عبد الرّحمن، عن أبي موسى: أنّ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غضب على الأشعريّين، فأتاه أبو موسى فقال: يا
رسول اللّه، أغضبت على الأشعريّين؟! فقال: يقول أحدكم: قد طلّقت، قد راجعت،
ليس هذا طلاق المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها".
ثمّ رواه من وجهٍ آخر عن أبي خالدٍ الدّالانيّ، وهو يزيد بن عبد الرّحمن، وفيه كلامٌ.
وقال مسروقٌ: هو الّذي يطلّق في غير كنهه، ويضارّ امرأته بطلاقها وارتجاعها، لتطول عليها العدّة.
وقال الحسن، وقتادة،
وعطاءٌ الخراسانيّ، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان: هو الرّجل يطلّق ويقول: كنت
لاعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعبًا. فأنزل اللّه: {ولا تتّخذوا
آيات اللّه هزوًا} فألزم اللّه بذلك.
وقال ابن مردويه:
حدّثنا إبراهيم بن محمّدٍ، حدّثنا أبو أحمد الصّيرفيّ، حدّثني جعفر بن
محمّدٍ السّمسار، عن إسماعيل بن يحيى، عن سفيان، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن
ابن عبّاسٍ قال: طلّق رجلٌ امرأته وهو يلعب، لا يريد الطّلاق؛ فأنزل اللّه:
{ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوًا} فألزمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
الطّلاق.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا عصام بن زوّاد، حدّثنا آدم، حدّثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، هو
البصريّ، قال: كان الرّجل يطلّق ويقول: كنت لاعبًا أو يعتق ويقول: كنت
لاعبًا وينكح ويقول: كنت لاعبًا فأنزل اللّه: {ولا تتّخذوا آيات اللّه
هزوًا} وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من طلّق أو أعتق أو نكح أو
أنكح، جادًّا أو لاعبًا، فقد جاز عليه".
وكذا رواه ابن جريرٍ
من طريق الزّهريّ، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، مثله. وهذا مرسلٌ. وقد
رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيدٍ، عن الحسن، عن أبي الدّرداء،
موقوفًا عليه. وقال أيضًا:
حدّثنا أحمد بن الحسن
بن أيّوب، حدّثنا يعقوب بن أبي يعقوب، حدّثنا يحيى بن عبد الحميد، حدّثنا
أبو معاوية، عن إسماعيل بن سلمة، عن الحسن، عن عبادة بن الصّامت، في قول
اللّه تعالى: {ولا تتّخذوا آيات اللّه هزوًا} قال: كان الرّجل على عهد
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول للرّجل زوّجتك ابنتي ثمّ يقول: كنت
لاعبًا. ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا فأنزل اللّه: {ولا تتّخذوا
آيات اللّه هزوًا} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاث من قالهنّ
لاعبًا أو غير لاعبٍ، فهنّ جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح".
والمشهور في هذا
الحديث الّذي رواه أبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه من طريق عبد الرّحمن بن
حبيب بن أردك، عن عطاءٍ، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثٌ جدّهنّ جدٌّ، وهزلهنّ جدٌّ: النّكاح،
والطّلاق، والرّجعة". وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ.
وقوله: {واذكروا نعمة
اللّه عليكم} أي: في إرساله الرّسول بالهدى والبيّنات إليكم {وما أنزل
عليكم من الكتاب والحكمة} أي: السّنّة {يعظكم به} أي: يأمركم وينهاكم
ويتوعّدكم على ارتكاب المحارم {واتّقوا اللّه} أي: فيما تأتون وفيما تذرون
{واعلموا أنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: فلا يخفى عليه شيءٌ من أموركم
السّرّيّة والجهريّة، وسيجازيكم على ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/629-631]
وقوله تعالى: ذلك
يوعظ به من كان منكم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: ثم رجوع إلى خطاب
الجماعة، والإشارة في ذلكم أزكى إلى ترك العضل، وأزكى وأطهر معناه أطيب
للنفس وأطهر للعرض والدين، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج، وربما لم
يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي، والله-
تعالى- يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر). [المحرر الوجيز: 1/569-570]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا
طلّقتم النّساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ إذا تراضوا
بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر ذلكم
أزكى لكم وأطهر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (232)}
قال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عبّاسٍ: نزلت هذه الآية في الرّجل يطلّق امرأته طلقةً أو
طلقتين، فتنقضي عدّتها، ثمّ يبدو له أن يتزوّجها وأن يراجعها، وتريد المرأة
ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى اللّه أن يمنعوها. وكذا روى العوفيّ،
عنه، وكذا قال مسروقٌ، وإبراهيم النّخعيّ، والزّهريّ والضّحّاك إنّها أنزلت
في ذلك. وهذا الّذي قالوه ظاهرٌ من الآية، وفيها دلالةٌ على أنّ المرأة لا
تملك أن تزوّج نفسها، وأنّه لا بدّ في تزويجها من وليٍّ، كما قاله
التّرمذيّ وابن جريرٍ عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: لا تزوّج المرأة
المرأة، ولا تزوّج المرأة نفسها، فإنّ الزّانية هي الّتي تزوّج نفسها. وفي
الأثر الآخر: لا نكاح إلّا بوليٍّ مرشدٍ، وشاهدي عدلٍ. وفي هذه المسألة
نزاعٌ بين العلماء محرّرٌ في موضعه من كتب الفروع، وقد قرّرنا ذلك في كتاب
"الأحكام"، وللّه الحمد والمنّة.
وقد روي أنّ هذه الآية نزلت في معقل بن يسارٍ المزنيّ وأخته، فقال البخاريّ، رحمه اللّه، في كتابه الصّحيح عند تفسير هذه الآية:
حدّثنا عبيد اللّه بن
سعيدٍ، حدّثنا أبو عامرٍ العقديّ، حدّثنا عبّاد بن راشدٍ، حدّثنا الحسن
قال: حدّثني معقل بن يسارٍ قال: كانت لي أختٌ تخطب إليّ -قال البخاريّ:
وقال إبراهيم، عن يونس، عن الحسن: حدّثني معقل بن يسارٍ. وحدّثنا أبو معمر،
حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا يونس، عن الحسن: أنّ أخت معقل بن يسارٍ طلّقها
زوجها، فتركها حتّى انقضت عدّتها، فخطبها، فأبى معقل، فنزلت: {فلا تعضلوهنّ
أن ينكحن أزواجهنّ}.
وهكذا رواه أبو داود،
والتّرمذيّ، وابن ماجه، وابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ، وابن مردويه من طرقٍ
متعدّدةٍ، عن الحسن، عن معقل بن يسارٍ، به. وصحّحه التّرمذيّ أيضًا، ولفظه
عن معقل ابن يسارٍ: أنّه زوّج أخته رجلًا من المسلمين، على عهد رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم، فكانت عنده ما كانت، ثمّ طلّقها تطليقةً لم يراجعها
حتّى انقضت العدّة، فهويها وهويته، ثمّ خطبها مع الخطّاب، فقال له: يا لكع
أكرمتك بها وزوّجتكها، فطلّقتها! واللّه لا ترجع إليك أبدًا، آخر ما عليك
قال: فعلم اللّه حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل اللّه: {وإذا طلّقتم
النّساء فبلغن أجلهنّ} إلى قوله: {وأنتم لا تعلمون} فلمّا سمعها معقلٌ
قال: سمعٌ لربّي وطاعةٌ ثمّ دعاه، فقال: أزوّجك وأكرمك، زاد ابن مردويه:
وكفّرت عن يميني.
وروى ابن جريرٍ عن
ابن جريجٍ قال: هي جمل بنت يسارٍ كانت تحت أبي البدّاح، وقال سفيان
الثّوريّ، عن أبي إسحاق السّبيعيّ قال: هي فاطمة بنت يسارٍ. وهكذا ذكر غير
واحدٍ من السّلف: أنّ هذه الآية نزلت في معقل بن يسارٍ وأخته. وقال
السّدّيّ: نزلت في جابر بن عبد اللّه، وابنة عمٍّ له، والصّحيح الأوّل،
واللّه أعلم.
وقوله: {ذلك يوعظ به
من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر} أي: هذا الّذي نهيناكم عنه من منع
الولايا أن يتزوّجن أزواجهنّ إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتّعظ
به وينفعل له {من كان منكم} أيّها النّاس {يؤمنّ باللّه واليوم الآخر} أي:
يؤمن بشرع اللّه، ويخاف وعيد اللّه وعذابه في الدّار الآخرة وما فيها من
الجزاء {ذلكم أزكى لكم وأطهر} أي: اتّباعكم شرع اللّه في ردّ الموليات إلى
أزواجهنّ، وترك الحميّة في ذلك، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم {واللّه يعلم} أي:
من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه {وأنتم لا تعلمون} أي: الخيرة فيما
تأتون ولا فيما تذرون). [تفسير ابن كثير: 1/631-632]
* للاستزادة ينظر: هنا