تفسير
قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
تفسير
قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {لا
إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن
باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم}
(إكراه) نصب بغير تنوين، ويجوز الرفع " لا إكراه " ولا يقرا به إلا أن تثبت رواية صحيحة وقالوا في (لا إكراه في الدّين) ثلاثة أقوال:
1- قال بعضهم إن هذه نسخها أمر الحرب في قوله جلّ وعزّ: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}
2- وقيل إن هذه
الآية نزلت بسبب أهل الكتاب في أنّ لا يكرهوا بعد أن يؤدوا الجزية، فأما
مشركو العرب فلا يقبل منهم جزية وليس في أمرهم إلا القتل أو الإسلام.
3- وقيل معنى {لا إكراه في الدّين}أي: لا تقولوا فيه لمن دخل بعد حرب أنه دخل مكرها، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره.
ومعنى{فمن يكفر بالطّاغوت}: قيل الطاغوت مردة أهل الكتاب، وقيل إن الطاغوت الشيطان، وجملته أن من يكفر به، وصدق باللّه وما أمر به فقد استمسك بالعروة الوثقى، أي: فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا لا تحله حجة.
وقوله عزّ وجلّ: {لا انفصام لها}: لا انقطاع لها.
يقال فصمت الشيء أفصمه فصما أي قطعته.
ومعنى {واللّه سميع عليم}أي: يسمع ما يعقد على نفسه الإنسان من أمر الإيمان، ويعلم نيته في ذلك). [معاني القرآن: 1/338-339]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {لا
إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن
باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ (256)}
الدّين في هذه
الآية المعتقد والملة، بقرينة قوله قد تبيّن الرّشد من الغيّ، والإكراه
الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما
يجيء في تفسير قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}،
فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل
فاختلف الناس في معنى الآية، فقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى:
{لا إكراه في الدّين} فقال: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى
المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له»، قال الطبري: «والآية منسوخة في هذا القول».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويلزم على هذا، أن الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف»، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: «هذه
الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة،
قالا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا
يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل
الجزية، ونزلت فيهم لا إكراه في الدّين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وعلى
مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان، فتجيء الآية
خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال
قتادة والضحاك». وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: «إنما
نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش
لها ولد، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده، فكان في بني النضير
جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير
قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم
أفضل مما نحن عليه، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه، فنزلت {لا إكراه في الدّين} الآية»، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد، إلا أنه قال:«كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع»، وقال السدي: «نزلت
الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين، كان له ابنان، فقدم تجار من
الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين
فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم من يردهما، فنزلت {لا إكراه في الدّين}، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: «أبعدهما الله هما أول من كفر»، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله جل ثناؤه: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم}[النساء: 65]، ثم إنه نسخ لا إكراه في الدّين، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والصحيح في سبب قوله تعالى:{فلا وربّك لا يؤمنون}، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي»،
وقوله تعالى: قد تبيّن الرّشد من الغيّ معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول
الداعي إلى الله والآيات المنيرة، والرّشد مصدر من قولك رشد بكسر الشين
وضمها يرشد رشدا ورشدا ورشادا، والغيّ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو
رأي، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي
«الرشاد» بالألف، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرّشد» بفتح الراء والشين.
وروي عن الحسن «الرّشد» بضم الراء والشين، و «الطاغوت» بناء مبالغة من طغى
يطغى، وحكى الطبري «يطغو» إذا جاوز الحد بزيادة عليه، وزنه فعلوت، ومذهب
سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل، ومذهب أبي على أنه
مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين،
وعينه موضع اللام فقيل: طاغوت، وقال المبرد: هو جمع، وذلك مردود.
واختلف المفسرون في معنى «الطاغوت»، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي: «الطاغوت: الشيطان». وقال ابن سيرين وأبو العالية: «الطاغوت: الساحر»، وقال سعيد بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج: «الطاغوت: الكاهن». قال أبو محمد: «وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان، والشيطان أصل ذلك كله»، وقال قوم: الطاغوت: الأصنام، وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه
تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى
ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق
العبدة، وذلك مجاز، إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو
الشيطان»، وقدم تعالى ذكر الكفر
بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. و
«العروة» في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي. واستمسك معناه قبض وشد
يديه، والوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه، واختلفت عبارة المفسرين
في الشيء المشبه بالعروة، فقال مجاهد: «العروة الإيمان». وقال السدي: «الإسلام». وقال سعيد بن جبير والضحّاك: «العروة لا إله إلا الله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد».
والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه، والفصم
كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة، ومن ذلك قول ذي
الرمة:
كأنه دملج من فضة نبه ....... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما
كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن
في الصفات سميعٌ من أجل النطق وعليمٌ من أجل المعتقد). [المحرر الوجيز: 2/ 29-33]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {لا
إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن
باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ (256)}
يقول تعالى: {لا إكراه في الدّين}
أي: لا تكرهوا أحدًا على الدّخول في دين الإسلام فإنّه بيّنٌ واضحٌ جليٌّ
دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحدٌ على الدّخول فيه، بل من هداه
اللّه للإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بيّنةٍ، ومن أعمى اللّه
قلبه وختم على سمعه وبصره فإنّه لا يفيده الدّخول في الدّين مكرهًا
مقسورًا. وقد ذكروا أنّ سبب نزول هذه الآية في قومٍ من الأنصار، وإن كان
حكمها عامًّا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ حدّثنا ابن أبي عديٍّ عن شعبة عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «كانت
المرأة تكون مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تهوّده، فلمّا
أجليت بنو النّضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل
اللّه عزّ وجلّ: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ}».
وقد رواه أبو داود والنّسائيّ جميعًا عن بندار به ومن وجوهٍ أخر عن شعبة
به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتمٍ وابن حبّان في صحيحه من حديث شعبة به،
وهكذا ذكر مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ والشّعبيّ والحسن البصريّ وغيرهم: «أنّها نزلت في ذلك».
وقال محمّد بن إسحاق عن محمّد بن أبي محمّدٍ الجرشيّ عن زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قوله: {لا إكراه في الدّين} قال: «نزلت
في رجلٍ من الأنصار من بني سالم بن عوفٍ يقال له: الحصينيّ كان له ابنان
نصرانيّان، وكان هو رجلًا مسلمًا فقال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ألا
أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النّصرانيّة؟ فأنزل اللّه فيه ذلك».
رواه ابن جريرٍ وروى السّدّيّ نحو ذلك وزاد: «وكانا
قد تنصّرا على يدي تجّارٍ قدموا من الشّام يحملون زيتًا فلمّا عزما على
الذّهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما، وطلب من رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم أنّ يبعث في آثارهما، فنزلت هذه الآية».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي حدّثنا عمرو بن عوفٍ أخبرنا شريكٌ عن أبي هلالٍ عن أسق قال: «كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًّا لعمر بن الخطّاب فكان يعرض عليّ الإسلام فآبى فيقول: {لا إكراه في الدّين} ويقول: يا أسق لو أسلمت لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين».
وقد ذهب طائفةٌ كثيرةٌ من العلماء أنّ هذه محمولةٌ على أهل الكتاب ومن
دخل في دينهم قبل النّسخ والتّبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي
منسوخةٌ بآية القتال وأنّه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدّخول في الدّين
الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحدٌ منهم الدّخول فيه ولم ينقد له أو يبذل
الجزية، قوتل حتّى يقتل. وهذا معنى الإكراه قال اللّه تعالى: {ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون}[الفتح:16] وقال تعالى: {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم}[التّحريم:9] وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظةً واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين}[التّوبة:123] وفي الصّحيح: «عجب ربّك من قومٍ يقادون إلى الجنّة في السّلاسل»
يعني: الأسارى الّذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود
والأكبال ثمّ بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل
الجنّة.
فأمّا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا يحيى عن حميدٍ عن أنسٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لرجلٍ: «أسلم» قال: إنّي أجدني كارهًا. قال: «وإن كنت كارهًا»
فإنّه ثلاثيٌّ صحيحٌ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنّه لم يكرهه النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أنّ نفسه ليست قابلةً له
بل هي كارهةٌ فقال له: «أسلم وإن كنت كارهًا فإنّ اللّه سيرزقك حسن النّيّة والإخلاص».
وقوله: {فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ}
أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشّيطان من عبادة كلّ ما يعبد
من دون اللّه، ووحّد اللّه فعبده وحده وشهد أن لا إله إلّا هو {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطّريقة المثلى والصّراط المستقيم.
قال أبو القاسم البغويّ: حدّثنا أبو روحٍ البلديّ حدّثنا أبو الأحوص سلّام
بن سليمٍ، عن أبي إسحاق عن حسّان -هو ابن فائدٍ العبسيّ-قال: قال عمر رضي
اللّه عنه: «إنّ الجبت: السّحر
والطّاغوت: الشّيطان، وإنّ الشّجاعة والجبن غرائز تكون في الرّجال يقاتل
الشّجاع عمّن لا يعرف ويفرّ الجبان من أمّه، وإنّ كرم الرّجل دينه، وحسبه
خلقه، وإن كان فارسيًّا أو نبطيًّا». وهكذا رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ من حديث الثّوريّ عن أبي إسحاق عن حسّان بن فائدٍ العبسيّ عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطّاغوت: إنّه الشّيطان قويٌّ جدًّا فإنّه يشمل كلّ شرٍّ
كان عليه أهل الجاهليّة، من عبادة الأوثان والتّحاكم إليها والاستنصار
بها.
وقوله: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}
أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبّه ذلك بالعروة الوثقى الّتي لا
تنفصم فهي في نفسها محكمةٌ مبرمةٌ قويّةٌ وربطها قويٌّ شديدٌ ولهذا قال: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ}.
قال مجاهدٌ: «{فقد استمسك بالعروة الوثقى}يعني: الإيمان». وقال السّدّيّ: «هو الإسلام»، وقال سعيد بن جبيرٍ والضّحّاك: «يعني لا إله إلّا اللّه»، وعن أنس بن مالكٍ: «{بالعروة الوثقى}:القرآن». وعن سالم بن أبي الجعد قال: «هو الحبّ في اللّه والبغض في اللّه». وكلّ هذه الأقوال صحيحةٌ ولا تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبلٍ في قوله: «{لا انفصام لها} أي: لا انقطاع لها دون دخول الجنّة». وقال مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ: «{فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}ثمّ قرأ:{إنّ اللّه لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم}[الرّعد:11]».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن يوسف حدّثنا ابن عونٍ عن محمّدٍ عن قيس بن عبّادٍ قال: «كنت
في المسجد فجاء رجلٌ في وجهه أثرٌ من خشوعٍ، فدخل فصلّى ركعتين أوجز فيهما
فقال القوم: هذا رجلٌ من أهل الجنّة. فلمّا خرج اتّبعته حتّى دخل منزله
فدخلت معه فحدّثته فلمّا استأنس قلت له: إنّ القوم لمّا دخلت قبل المسجد
قالوا كذا وكذا. قال: سبحان اللّه ما ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لا يعلم
وسأحدّثك لم: إنّي رأيت رؤيا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
فقصصتها عليه: رأيت كأنّي في روضةٍ خضراء -قال ابن عونٍ: فذكر من خضرتها
وسعتها-وسطها عمود حديدٍ أسفله في الأرض وأعلاه في السّماء في أعلاه عروةٌ،
فقيل لي: اصعد عليه فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف -قال ابن عونٍ: هو
الوصيف -فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد. فصعدت حتّى أخذت بالعروة فقال:
استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنّها لفي يدي فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم فقصصتها عليه. فقال: «أمّا الرّوضة فروضة الإسلام وأمّا العمود فعمود الإسلام وأمّا العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتّى تموت».
قال: وهو عبد اللّه بن سلامٍ» أخرجاه في الصّحيحين من حديث عبد اللّه بن عونٍ وأخرجه البخاريّ من وجهٍ آخر، عن محمّد بن سيرين به.
طريقٌ أخرى وسياقٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى وعفّان
قالا حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة عن المسيّب بن رافعٍ عن خرشة
بن الحرّ قال: «قدمت
المدينة فجلست إلى مشيخةٍ في مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فجاء
شيخٌ يتوكّأ على عصًا له فقال القوم: من سرّه أنّ ينظر إلى رجلٍ من أهل
الجنّة فلينظر إلى هذا. فقام خلف ساريةٍ فصلّى ركعتين فقمت إليه، فقلت له:
قال بعض القوم: كذا وكذا. فقال: الجنّة للّه يدخلها من يشاء وإنّي رأيت على
عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رؤيا، رأيت كأنّ رجلًا أتاني فقال:
انطلق. فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريقٌ عن يساري، فأردت أن
أسلكها. فقال: إنّك لست من أهلها. ثمّ عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتّى
انتهت إلى جبلٍ زلقٍ فأخذ بيدي فزجل فإذا أنا على ذروته، فلم أتقارّ ولم
أتماسك فإذا عمود حديدٍ في ذروته حلقةٌ من ذهبٍ فأخذ بيدي فزجل حتّى أخذت
بالعروة فقال: استمسك. فقلت: نعم. فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة،
فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «رأيت
خيرًا أمّا المنهج العظيم فالمحشر، وأمّا الطّريق الّتي عرضت عن يسارك
فطريق أهل النّار، ولست من أهلها، وأمّا الطّريق الّتي عرضت عن يمينك فطريق
أهل الجنّة، وأمّا الجبل الزّلق فمنزل الشّهداء، وأمّا العروة الّتي
استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتّى تموت». قال: فإنّما أرجو أن أكون من أهل الجنّة. قال: وإذا هو عبد اللّه بن سلامٍ».
وهكذا رواه النّسائيّ عن أحمد بن سليمان عن عفّان، وابن ماجه عن أبي بكر
بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حمّاد بن سلمة به نحوه.
وأخرجه مسلمٌ في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحرّ
الفزاريّ به). [تفسير ابن كثير: 1/ 682-685]
تفسير
قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {اللّه
وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم
الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها
خالدون}
يقال قد توليت فلانا، ووليت فلانا ولاية،
والولاية بالكسر اسم لكل ما يتولى، ومعنى ولى على ضروب، فاللّه - ولي
المؤمنين في حجاجهم وهدايتهم، وإقامة البرهان لهم لأنه يزيدهم بإيمانهم
هداية، كما قال عزّ وجلّ: {والّذين اهتدوا زادهم هدى}.
ووليهم أيضا في نصرهم وإظهار دينهم على دين مخالفيهم،
ووليهم أيضا بتولي قولهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم.
وقوله عزّ وجلّ: {يخرجهم من الظّلمات إلى النّور} أي: يخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور الهدى لأن أمر الضلالة مظلم غير بين، وأمر الهدى واضح كبيان النور.
وقد قال قوم {يخرجهم من الظّلمات إلى النّور} يحكم لهم بأنهم خارجون من الظلمات إلى النور، وهذا ليس قول أهل التفسير، ولا قول أكثر أهل اللغة.
إنما قاله الأخفش وحده.
والدليل على أنه يزيدهم هدى ما ذكرناه من الآية.
وقوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانا}.
ومعنى{والّذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} أي: الذين يتولون أمرهم هم الطاغوت.
وقد فسرنا الطاغوت.
و {الطاغوت} ههنا واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة.
قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأمّا عظامها... فبيض وأمّا جلدها فصليب
جلدها في معنى جلودها). [معاني القرآن: 1/339-340]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {اللّه
وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم
الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها
خالدون (257)}
ال وليّ فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه، فإذا لازم أحد أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه، هذا عرفه في اللغة. قال قتادة: «الظّلمات الضلالة، والنّور الهدى». وبمعناه قال الضحاك والربيع.
وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: «إن قوله:{اللّه وليّ الّذين آمنوا}الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فكأن هذا القول أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات».
ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها
كالعرب، ومترتب في الناس جميعا، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من
ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الداعي النبي المرسل
فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد وأهل للدخول فيه. وهذا
كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت
لم تدخل فيه البتة.
ولفظة الطّاغوت في
هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس، ولذلك قال أولياؤهم بالجمع، إذ هي أنواع،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن، أولياؤهم الطواغيت، يعني الشياطين، وحكم عليهم
بالخلود في النار لكفرهم). [المحرر الوجيز: 2/ 33-34]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {اللّه
وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم
الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها
خالدون (257)}
يخبر تعالى أنّه يهدي من اتّبع رضوانه سبل السّلام فيخرج عباده المؤمنين من
ظلمات الكفر والشّكّ والرّيب إلى نور الحقّ الواضح الجليّ المبين السّهل
المنير، وأنّ الكافرين إنّما وليّهم الشّياطين تزيّن لهم ما هم فيه من
الجهالات والضّلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحقّ إلى الكفر
والإفك {أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}.
ولهذا وحّد تعالى لفظ النّور وجمع الظّلمات؛ لأنّ الحقّ واحدٌ والكفر أجناسٌ كثيرةٌ وكلّها باطلةٌ كما قال: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون}[الأنعام:153] وقال تعالى: {وجعل الظّلمات والنّور}[الأنعام:1] وقال تعالى: {عن اليمين والشّمائل}[النّحل:48] إلى غير ذلك من الآيات الّتي في لفظها إشعارٌ بتفرّد الحقّ، وانتشار الباطل وتفرّده وتشعّبه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي حدّثنا عليّ بن ميسرة حدّثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيّوب بن خالدٍ قال: «يبعث
أهل الأهواء -أو قال: يبعث أهل الفتن-فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته
بيضاء مضيئةً، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمةً، ثمّ قرأ هذه
الآية:{اللّه وليّ الّذين آمنوا
يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت يخرجونهم
من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 685]
* للاستزادة ينظر: هنا