تفسير
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ
لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ
مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ
وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ
إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ
عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
تفسير
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (258)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:
{ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال
إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنّ اللّه
يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر واللّه لا يهدي
القوم الظّالمين}
هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه، ولفظها لفظ استفهام، تقول في الكلام: ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا.
وهذا مما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -
حجة على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف
عليه بقراءة كتاب أو تعليم معلم، أو بوحي من اللّه عزّ وجلّ.
فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول اللّه -
صلى الله عليه وسلم - أنه أمّيّ، وأنه لم يعلم التوراة والإنجيل وأخبار من
مضى من الأنبياء، فلم يبق وجه تعلم منه هذه الأحاديث إلا الوحي.
وقوله عزّ وجلّ: {أن آتاه اللّه الملك} أي: آتى
الكافر الملك، وهذا هو الذي عليه أهل التفسير وعليه يصح المعنى، وقال قوم
إن الذي آتاه - الله الملك إبراهيم عليه السلام وقالوا: اللّه عزّ وجلّ لا
يملك الكفار وإنما قالوا هذا لذكره عزّ وجلّ: {آتاه الملك} واللّه قال: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء} فتأويل إيتاء اللّه الكافر الملك ضرب من امتحانه الذي يمتحن الله به خلقه، وهو أعلم بوجه الحكمة فيه.
والدليل على أن الكافر هو الذي كان ملّك إنّه قال: {أنا أحيي وأميت} وأنه
دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر، فلولا أنه كان ملكا وإبراهيم عليه
السلام غير ملك لم يتهيأ له أن يقتل وإبراهيم الملك، وهو النبي عليه
السلام.
وأمّا معنى احتجاجه على إبراهيم بأنه يحيى
ويميت، وترك إبراهيم مناقضته في الإحياء والإماتة، فمن أبلغ ما يقطع به
الخصوم ترك الإطالة والاحتجاج بالحجة المسكتة لأن إبراهيم لما قال له: {فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب} كان جوابه على حسب ما أجاب في المسألة الأولى أن يقول: فأنا أفعل ذلك فتبيّن عجزه وكان في هذا إسكات الكافر فقال اللّه عز وجل: {فبهت الّذي كفر}
وتأويله انقطع وسكت متحيّرا، يقال: بهت الرجل يبهت بهتا إذا انقطع وتحير،
ويقال بهذا المعنى " بهت الرجل يبهت "، ويقال بهت الرجل أبهته بهتانا إذا
قابلته بكذب). [معاني القرآن: 1/340-341]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ألم
تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم
ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنّ اللّه يأتي
بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر واللّه لا يهدي القوم
الظّالمين (258)}
ألم تر تنبيه، وهي رؤية القلب، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم تر» بجزم الراء، «والّذي حاجّ إبراهيم هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة»، هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جريج: «هو أول ملك في الأرض» وهذا مردود. وقال قتادة: «هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل».
وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين. والآخر
بخت نصر. وقيل: إن الّذي حاجّ إبراهيم نمرود بن فالخ بن عامر بن شالخ بن
أرفخشد بن سام بن نوح، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما:
ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء قوم
قال: من ربكم وإلهكم؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميّروهم وجاء إبراهيم عليه
السلام يمتار، فقال له من ربك وإلهك؟ قال قال إبراهيم: ربّي الّذي يحيي
ويميت، فلما سمعها نمرود قال: أنا أحيي وأميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس،
فبهت الّذي كفر، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على
كثيب من رمل كالدقيق، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان
حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق
الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا
إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته،
فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت من الدقيق الذي سقت، فعلم
إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك، وقال الربيع وغيره في هذه القصص: ان
النمرود لما قال: أنا أحيي وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال:
قد أحييت هذا وأمتّ هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت، والرواية الأخرى
ذكر السدي: أنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل
ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال
نمرود: أنا أحيي وأميت، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا
ولا يسقون، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت اثنين فماتا،
فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية: أن إبراهيم عليه
السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له
حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام الحقيقة، ففزع نمرود إلى المجاز وموه
به على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه
بأمر لا مجاز فيه، فبهت الّذي كفر، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من
المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه.
وقوله حاجّ وزنه
«فاعل» من الحجة أي جاذبه إياها والضمير في ربّه يحتمل أن يعود على إبراهيم
عليه السلام، ويحتمل أن يعود على الّذي حاجّ، وأن مفعول من أجله والضمير
في آتاه للنمرود، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي: يحتمل أن يعود
الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل من التأويل، وقرأ
جمهور القراء أن أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أنا إذا وصلوا في كل
القرآن غير نافع، فإن ورشا وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا
لقيتها همزة في كل القرآن، مثل أنا أحيي أنا أخوك إلا في قوله تعالى: {إن أنا إلّا نذيرٌ}[الأعراف: 188] [الشعراء: 115] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، قال أبو علي: «ضمير
المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق
الهاء أحيانا في الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء
فكذلك الألف، وهي مثل ألف حيهلا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي، فتأمل». قال أبو علي: «فإذا
اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام
الألف، وقد جاءت الألف مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ....... حميدا قد تذريت السناما
وقرأ الجمهور: «فبهت» الذي بضم الباء وكسر الهاء، يقال بهت الرجل: إذا انقطع وقامت عليه الحجة. قال ابن سيده: «ويقال في هذا المعنى: «بهت» بفتح الباء وكسر الهاء، «وبهت» بفتح الباء وضم الهاء». قال الطبري: «وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى، «بهت» بفتح الباء والهاء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هكذا ضبطت اللفظة في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء»، قال ابن جني: «قرأ أبو حيوة: «فبهت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع: «فبهت» بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون «بهت» بفتحهما لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهت» بكسر الهاء كخرق ودهش، قال: والأكثر بالضم في الهاء»، قال ابن جني: «يعني أن الضم يكون للمبالغة»، قال الفقيه أبو محمد: «وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة».
وقوله تعالى: {واللّه لا يهدي القوم الظّالمين}،
إخبار لمحمد عليه السلام وأمته. والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم،
لأنه لا هدى في الظلم، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله
قد يهدي الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص فيمن
يوافي ظالما). [المحرر الوجيز: 2/ 34-38]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ألم
تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم
ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنّ اللّه يأتي
بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر واللّه لا يهدي القوم
الظّالمين (258)}
هذا الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان بن كوش بن
سام بن نوحٍ. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن
نوحٍ والأوّل قول مجاهدٍ وغيره.
قال مجاهدٌ: «وملك
الدّنيا مشارقها ومغاربها أربعةٌ: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن
داود وذو القرنين. والكافران: نمرود بن كنعان وبختنصّر. فاللّه أعلم».
ومعنى قوله: {ألم تر} أي: بقلبك يا محمّد {إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه} أي: في وجود ربّه. وذلك أنّه أنكر أن يكون ثمّ إلهٌ غيره كما قال بعده فرعون لملئه: {ما علمت لكم من إلهٍ غيري}[القصص:38]
وما حمله على هذا الطّغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشّديدة إلّا تجبّره،
وطول مدّته في الملك؛ وذلك أنّه يقال: إنّه مكث أربعمائة سنةٍ في ملكه؛
ولهذا قال: {أن آتاه اللّه الملك} وكأنّه طلب من إبراهيم دليلًا على وجود الرّبّ الّذي يدعو إليه فقال إبراهيم: {ربّي الّذي يحيي ويميت}
أي: الدّليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد
وجودها. وهذا دليلٌ على وجود الفاعل المختار ضرورةً؛ لأنّها لم تحدث بنفسها
فلا بدّ لها من موجدٍ أوجدها وهو الرّبّ الّذي أدعو إلى عبادته وحده لا
شريك له. فعند ذلك قال المحاجّ -وهو النّمروذ-: {أنا أحيي وأميت}، قال قتادة ومحمّد بن إسحاق والسّدّيّ وغير واحدٍ: «وذلك أنّي أوتى بالرّجلين قد استحقّا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة».
والظّاهر -واللّه أعلم-أنّه ما أراد هذا؛ لأنّه ليس جوابًا لما قال
إبراهيم ولا في معناه؛ لأنّه غير مانعٍ لوجود الصّانع. وإنّما أراد أنّ
يدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرةً ويوهم أنّه الفاعل لذلك وأنّه هو
الّذي يحيّي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {ما علمت لكم من إلهٍ غيري} ولهذا قال له إبراهيم لمّا ادّعى هذه المكابرة: {فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب}
أي: إذا كنت كما تدّعي من أنّك أنت الّذي تحيي وتميت فالّذي يحيي ويميت هو
الّذي يتصرّف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشّمس
تبدو كلّ يومٍ من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادّعيت تحيي وتميت فأت بها من
المغرب. فلمّا علم عجزه وانقطاعه، وأنّه لا يقدر على المكابرة في هذا
المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلّم، وقامت عليه الحجّة. قال اللّه تعالى {واللّه لا يهدي القوم الظّالمين} أي: لا يلهمهم حجّةً ولا برهانًا بل حجّتهم داحضةٌ عند ربّهم، وعليهم غضبٌ ولهم عذابٌ شديدٌ.
وهذا التّنزيل على هذا المعنى أحسن ممّا ذكره كثيرٌ من المنطقيّين: أنّ
عدول إبراهيم عن المقام الأوّل إلى المقام الثّاني انتقالٌ من دليلٍ إلى
أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارةً رديّةً. وليس كما قالوه بل المقام
الأوّل يكون كالمقدّمة للثّاني ويبيّن بطلان ما ادّعاه نمروذ في الأوّل
والثّاني، وللّه الحمد والمنة.
وقد ذكر السّدّيّ أنّ هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج
إبراهيم من النّار ولم يكن اجتمع بالملك إلّا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه
المناظرة.
وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن زيد بن أسلم: «أنّ
النّمروذ كان عنده طعامٌ وكان النّاس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في
جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطّعام
كما أعطى النّاس بل خرج وليس معه شيءٌ من الطّعام، فلمّا قرب من أهله عمد
إلى كثيبٍ من التّراب فملأ منه عدليه وقال: أشغل أهلي عنّي إذا قدمت عليهم
فلمّا قدم وضع رحاله وجاء فاتّكأ فنام. فقامت امرأته سارّة إلى العدلين
فوجدتهما ملآنين طعامًا طيّبًا فعملت منه طعامًا. فلمّا استيقظ إبراهيم وجد
الّذي قد أصلحوه فقال: أنّى لكم هذا؟ قالت: من الّذي جئت به. فعرف أنّه
رزقٌ رزقهموه اللّه عزّ وجلّ». قال زيد بن أسلم: «وبعث
اللّه إلى ذلك الملك الجبّار ملكا يأمره بالإيمان باللّه فأبى عليه ثمّ
دعاه الثّانية فأبى ثمّ الثّالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع
النّمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشّمس، وأرسل اللّه عليهم بابًا من البعوض
بحيث لم يروا عين الشّمس وسلّطها اللّه عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم
عظامًا باديةً، ودخلت واحدةٌ منها في منخري الملك فمكثت في منخريه
أربعمائة سنةٍ، عذّبه اللّه بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدّة
كلّها حتّى أهلكه اللّه بها» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 686-687]
تفسير
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ
عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ
إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو
كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد
موتها فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض
يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى
حمارك ولنجعلك آية للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما
فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير}
هذا الكلام معطوف على معنى الكلام الأول، والمعنى - واللّه أعلم - أرأيت كالذي مرّ على قرية، والقرية في اللغة: سميت قرية لاجتماع الناس فيها، يقال قريت الماء في الحوض إذا جمعته.
وقوله عزّ وجلّ: {وهي خاوية على عروشها}.
معنى{خاوية}: خالية -
و {عروشها} - قال أبو عبيدة: هي الخيام وهي بيوت الأعراب، وقال غير أبي عبيدة: معنى{وهي خاوية على عروشها}: بقيت حيطانها لا سقوف لها.
ويقال خوت الدار والمدينة تخوي خواء - ممدود -
إذا خلت من أهلها، ويقال فيها: " خويت " والكلام هو الأول - ويقال للمرأة
إذا خلا جوفها بعد الولادة وللرجل إذا خلا جوفه من الطعام - قد خوي ويخوى
خوى - مقصور - وقد يقال فيه خوى يخوي - والأول في هذا أجود.
وقوله عزّ وجلّ: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها}معناه: من أين يحيي هذه اللّه بعد موتها.
وقيل في التفسير إنه كان مؤمنا وقد قيل إنه كان
كافرا، ولا ينكر أن يكون مؤمنا أحبّ أن يزداد بصيرة في إيمانه فيقول: ليت
شعري كيف تبعث الأموات كما قال إبراهيم عليه السلام: {ربّ أرني كيف تحي الموتى}.
وقوله عزّ وجلّ: {فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه}معناه: ثم أحياه لأنه لا يبعث ولا يتصرف إلا وهو حي.
وقوله عزّ وجلّ: {كم لبثت}.
يقرأ بتبيين الثاء، وبإدغام الثاء في التاء، وإنما أدغمت لقرب المخرجين.
ومعنى{قال لبثت يوما أو بعض يوم}:
أنه كان أميت في صدر النهار ثم بعث بعد مائة سنة في آخر النهار، فظن أنّ
مقدار لبثه ما بين أول النهار وآخره، فأعلمه اللّه أنه قد لبث مائة عام
وأراه علامة ذلك ببلى عظام حماره، وأراه طعامه وشرابه غير متغير وأراه كيف
ينشز العظام، وكيف تكتسى اللحم.
فقال: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه}.
يجوز بإثبات الهاء وبإسقاط الهاء في الكلام،
ومعناه لم تغيره السنون، فمن قال في السنة سانهت فالهاء من أصل الكلمة، ومن
قال في السّنة سانيت فالهاء زيدت لبيان الحركة، ووجه القراءة على كل حال
إثباتها والوقوف عليها بغير وصل فمن جعله سانيت ووصلها إن شاء أو وقفها على
من جعله من سانهت، فأما من قال: إنه من تغير من أسن الطعام يأسن فخطأ.
وقد قال بعض النحويين: إنه جائز أن يكون من
(التغيير) من قولك من حمإ مسنون وكان الأصل عنده " لم يتسنن " ولكنه أبدل
من النون ياء كما قال:
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد تقضض، وهذا ليس من ذاك لأن " مسنون " إنما هو مصبوب على سنة الطريق.
وقوله عزّ وجلّ: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها}.
يقرأ (ننشزها) بالزاي، وننشرها، وننشرها بالراء، فمن قرأ {ننشزها} كان معناه نجعلها بعد بلاها وهجودها ناشزه ينشز بعضها إلى بعض، أي يرتفع.
والنشز في اللغة: ما ارتفع عن الأرض، ومن قرأ (ننشرها)، و (ننشرها)، فهو من أنشر اللّه الموتى ونشرهم - وقد يقال نشرهم اللّه أي بعثهم، كما قال: (وإليه النّشور).
وقوله عزّ وجلّ: {فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير} معناه: فلما تبين له كيف إحياء الموتى.
قال: {أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير}، فإن كان كلما قيل أنه كان مؤمنا، فتأويل ذكره: {أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير} ليس لأنه لم يكن يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله: أني قد علمت ما كنت أعلمه غيبا - مشاهدة، ومن قرأ {اعلم أن اللّه على كل شي قدير} فتأويله إذا جزم أنه يقبل على نفسه فيقول: " اعلم أيها الإنسان أن اللّه على كل شيء قدير " - والرفع على الإخبار). [معاني القرآن: 1/342-344]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عامٍ} عطفت أو في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله: {ألم تر إلى الّذي حاجّ}[الآية: 258]
يقتضي أن المعنى أرأيت كالذي حاج، ثم جاء قوله أو كالّذي، عطفا على ذلك
المعنى، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أو كالذي مر» بفتح الواو، وهي واو عطف دخل
عليها ألف التقرير، قال سليمان بن بريدة وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس
والربيع وعكرمة والضحاك: «الذي مر على القرية هو عزير»، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير وبكر بن مضر: «هو أرمياء»، وقال ابن إسحاق: «أرمياء هو الخضر» وحكاه النقاش عن وهب بن منبه، قال الفقيه أبو محمد: «وهذا
كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي
مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه»، وحكى مكي عن مجاهد: «أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمى»، قال النقاش: «ويقال هو غلام لوط عليه السلام». قال أبو محمد: «واختلف في القرية أيما هي؟»فحكى النقاش:«أن قوما قالوا هي المؤتفكة». وقال ابن زيد: «إن القوم{الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا}[البقرة: 243]مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عامٍ»، وترجم الطبري على هذا القصص بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقول
ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى
المكان، وعلى نفس القول هي إلى العظام والأجساد. وهذا القول من ابن زيد
مناقض لألفاظ الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها.
والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء
والسكان». وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة والربيع: «القرية
بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في الحديث الطويل، حين أحدثت بنو
إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت
المقدس لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، ورأى
أرمياء البيوت قد سقطت حيطانها على سقفها»، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى: {وممّا يعرشون}[النحل: 68] قال السدي: «يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها»، وقال غير السدي: «معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت، وسقفها عليها لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة»، قال أبو محمد: «وانظر استعمال العريش مع على، في الحديث في قوله، وكان المسجد يومئذ على عريش في أمر ليلة القدر»، وخاويةٌ معناه خالية، يقال خوت الدار تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري: «والأول أفصح».
وقوله: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها}
معناه من أي طريق وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة
وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن فكأن هذا
تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له
المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل
أن يكون على أن سؤاله، إنما كان عن إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي
الله موتاها، وقد حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكا في قدرة
الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وليس
يدخل شك في قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك
من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك»،
وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث الله عليهم
بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس فخربه، فلما ذهب عنه جاء
أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال، أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟ قال:
فأماته اللّه تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها
تبن وهو طعامه، وقيل تبن وعنب، وكان معه ركوة من خمر، وقيل من عصير وقيل،
قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتا مائة عام، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو
وحماره، وروي أنه بلي دون الحمار، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا
أكل شيئا ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير، وروي
أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني إسرائيل حيث كملت
على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي عزير، وروي أن الله رد عليه عينيه وخلق له
حياة يرى بها كيف تعمر القرية ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه
بقي سبعين ميتا كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية.
وقوله تعالى: {ثمّ بعثه}
معناه: أحياه وجعل له الحركة والانتقال، فسأله الله تعالى بواسطة الملك كم
لبثت؟ على جهة التقرير، وكم في موضع نصب على الظرف، فقال: لبثت يوماً أو
بعض يومٍ، قال ابن جريج وقتادة والربيع: «أماته
الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب، فظن هذا اليوم واحدا فقال لبثت يوماً ثم
رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال: أو بعض يومٍ فقيل له بل لبثت
مائة عامٍ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك»، قال النقاش: «العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح»، وقال تعالى: {وكلٌّ في فلكٍ يسبحون}[الأنبياء: 33].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذا معنى كلام النقاش. والعام على هذا كالقول والقال. وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد»،
وروي في قصص هذه الآية: أن الله بعث لها ملكا من الملوك يعمرها ويجد في
ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها
وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع: لبثت في كل القرآن بإظهار الثاء وذلك لتباين
الثاء من مخرج التاء، وذلك أن الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال
والثاء المثلثة من حيز، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، بالإدغام
في كل القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف
اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان، قال أبو علي: ويقوي ذلك وقوع
هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة».
قوله عز وجل: {...
فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للنّاس
وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ
اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (259)}
وقف في هذه
الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّا
على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني، وقف على الحمار
كيف يحيى وتجتمع عظامه.
وقرأ ابن مسعود: «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه»، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة»، قال أبو علي: «واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل:{لم يتسنّه} {واقتده}[الأنعام: 90]، و{ما أغنى عنّي ماليه}[الحاقة: 28] و{سلطانيه}[الحاقة: 29]{وما أدراك ما هيه} [القارعة: 10]وإسقاطها في الوصل، ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء
في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في {يتسنّه}، {واقتده}، ويثبتها في الباقي.ولم يختلفوا في {حسابيه}[الحاقة: 20- 26] و{كتابيه}[الحاقة: 19- 25]أنهما بالهاء في الوقف والوصل»، ويتسنّه يحتمل أن يكون من تسنن الشيء إذا تغير وفسد، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم. وقال الزجّاج: «ليس
منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض، فإذا كان من تسنن فهو لم يتسنن.
قلبت النون ياء كما فعل في تظننت، حتى قلت لم أتظنن، فيجيء تسنن تسنى. ثم
تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع لم يتسن».
ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت. وعلى هذا يحسن حذفها في
الوصل. ويحتمل يتسنّه أن يكون من السنة وهو الجدب. والقحط، وما أشبهه،
يسمونه بذلك. وقد اشتق منه فعل فقيل: استنّوا، وإذا كان هذا أو من السنة
التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت،
والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام.
وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع سنهات، وقال أسنهت عند بني
فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ....... ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن
القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر
الجزم ب لم، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، وقد ذكر. وقرأ
طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام.
وقال النقاش: «{لم يتسنّه}معناه: لم يتغير من قوله تعالى:{من ماءٍ غير آسنٍ}[محمد: 15]»، ورد النحاة على هذا القول، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، وأما قوله تعالى: {وانظر إلى حمارك}، فقال وهب بن منبه وغيره: «المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا».
ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل
حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق، وروي عن الضحاك
ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: «بل قيل له وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة»، قالا: «وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه»، قالا: «وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته».
وقوله تعالى: {ولنجعلك آيةً للنّاس} معناه لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش: «موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا»، وقال عكرمة: «جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة»، وقال غير الأعمش: «بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض».
وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن
قال: هي عظام الحمار، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بضم النون
الأولى وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. «ننشزها» بالزاي،
وروى أبان عن عاصم «ننشرها» بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء، وقرأها
كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
فمن قرأها «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها. يقال أنشر الله الموتى فنشروا، قال الله تعالى: {ثمّ إذا شاء أنشره}[عبس: 22].
وقال الأعشى:
... ... ... ... ....... يا عجبا للميّت النّاشر
وقراءة
عاصم: «ننشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال:
نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها،
وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن
الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من
قرأ: «ننشزها» بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول
الشاعر:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه ....... إذا ما علا نشزا حصان مجلّل
قال أبو علي وغيره: «فتقديره ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء»، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى:
... ... ... ... ....... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشزا
يقال نشز وأنشزته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقلق
عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز
الارتفاع قليلا قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد
منها عند الاختراع»، وقال النقاش: «ننشزها
معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب
البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال
التي ينبغي أن تكون عليها»، وقوله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا}[المجادلة: 11]
أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز الناب. فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب
من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة: نشز.
وقرأ النخعي «ننشزها» بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس
وقتادة وقرأ أبي بن كعب: «كيف ننشيها» بالياء. والكسوة: ما وارى من الثياب،
وشبه اللحم بها، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ....... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال الطبري: «المعنى في قوله: {فلمّا تبيّن له} أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال أعلم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف»، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «أعلم أن» مقطوعة الألف مضمومة الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة الميم. وقرأها أبو رجاء، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش، «قيل أعلم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فأما
هذه فبينة المعنى أي قال الملك له. والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا
أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما
زعم الطبري. بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى
شيئا غريبا من قدرة الله: الله لا إله إلا هو ونحو هذا». وقال أبو علي: «معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يعني علم المعاينة»،
وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما، قال الملك له «اعلم»،
والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى فلما تبين له
قال لنفسه: «اعلم» وأنشد أبو علي في مثل هذا قول الأعشى:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ....... ... ... ... ...
وقوله:
وألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ ....... ... ... ... ...
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ....... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل ). [المحرر الوجيز: 2/ 38-49]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أو
كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد
موتها فأماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض
يومٍ قال بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى
حمارك ولنجعلك آيةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحمًا
فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (259)}
تقدّم قوله تعالى: {ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك} وهو في قوّة قوله: هل رأيت مثل الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه؟ ولهذا عطف عليه بقوله: {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها}
اختلفوا في هذا المارّ من هو؟ فروى ابن أبي حاتمٍ عن عصام بن روّاد عن آدم
بن أبي إياسٍ عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعبٍ عن عليّ بن أبي
طالبٍ أنّه قال: «هو عزيرٌ». ورواه
ابن جريرٍ عن ناجية نفسه. وحكاه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ عن ابن عبّاسٍ
والحسن وقتادة والسّدّيّ وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور.
وقال وهب بن منبّهٍ وعبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ: «هو أرميا بن حلقيا». قال محمّد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبّهٍ أنّه قال: «وهو اسم الخضر عليه السّلام».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي قال: سمعت سليمان بن محمّدٍ اليساريّ
الجاري -من أهل الجار، ابن عم مطرف-قال: سمعت رجلًا من أهل الشّام يقول: «إنّ الّذي أماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه اسمه: حزقيل بن بورا».
وقال مجاهد بن جبر: «هو رجل من بني إسرائيل».
وذكر غير واحدٍ أنّه مات وهو ابن أربعين سنةً؛ فبعثه اللّه وهو كذلك،
وكان له ابنٌ فبلغ من السّنّ مائةً وعشرين سنةً، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان
الجدّ شابًّا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم، وأنشدني به بعض
الشّعراء:
واسودّ رأس شابٍّ من قبل ابنه ....... ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر
يرى أنّه شيخًا يدبّ على عصا ....... ولحيته سوداء والرّأس أشعر
وما لابنه حبلٌ ولا فضل قوّةٍ ....... يقوم كما يمشي الصّغير فيعثر
وعمر ابنه أربعون أمرّها ....... ولابن ابنه في النّاس تسعين غبّر
وأمّا القرية: فالمشهور أنّها بيت المقدس مرّ عليها بعد تخريب بختنصّر لها وقتل أهلها. {وهي خاوية} أي: ليس فيها أحدٌ من قولهم: خوت الدّار تخوي خواءً وخويا.
وقوله: {على عروشها} أي: ساقطةٌ سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكّرًا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها} وذلك لما رأى من دثورها وشدّة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال اللّه تعالى: {فأماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه}
قال: وعمرت البلدة بعد مضيّ سبعين سنةً من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت
بنو إسرائيل إليها. فلمّا بعثه اللّه عزّ وجلّ بعد موته كان أوّل شيءٍ أحيا
اللّه فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع اللّه فيه كيف يحيي بدنه؟ فلمّا
استقلّ سويًّا قال اللّه له -أي بواسطة الملك-: {كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم} قالوا: وذلك أنّه مات أوّل النّهار ثمّ بعثه اللّه في آخر نهارٍ، فلمّا رأى الشّمس باقيةً ظنّ أنّها شمس ذلك اليوم فقال: {أو بعض يومٍ قال بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه}
وذلك: أنّه كان معه فيما ذكر عنبٌ وتينٌ وعصيرٌ فوجده كما فقده لم يتغيّر
منه شيءٌ، لا العصير استحال ولا التّين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفّن {وانظر إلى حمارك} أي: كيف يحييه اللّه عزّ وجلّ وأنت تنظر {ولنجعلك آيةً للنّاس} أي: دليلًا على المعاد {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} أي: نرفعها فتركب بعضها على بعضٍ.
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن أبي حكيمٍ عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ: {كيف ننشزها} بالزّاي ثمّ قال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه».
وقرئ: (ننشرها) أي: نحييها قاله مجاهدٌ {ثمّ نكسوها لحمًا}. وقال السّدّيّ وغيره: «تفرّقت
عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث اللّه
ريحًا فجمعتها من كلّ موضعٍ من تلك المحلّة، ثمّ ركب كلّ عظمٍ في موضعه
حتّى صار حمارًا قائمًا من عظامٍ لا لحم عليها ثمّ كساها اللّه لحمًا
وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث اللّه ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كلّه
بإذن اللّه عزّ وجلّ وذلك كلّه بمرأى من العزير فعند ذلك لمّا تبيّن له هذا
كلّه {قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} أي: أنا عالمٌ بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك» وقرأ آخرون: "قال اعلم" على أنّه أمرٌ له بالعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 687-688]
تفسير
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ
قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ
قلبي قال فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا
ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا واعلم أنّ اللّه عزيز حكيم}
{وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ
إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيا واعلم أنّ
اللّه عزيز حكيم}
موضع " إذ " نصب، المعنى اذكر هذه القصة - وقوله (ربّ أرني).
أصله أرإني، ولكن المجمع عليه في كلام العرب والقراءة طرح الهمزة، ويجوز (أرني). وقد فسرنا إلقاء هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب.
وموضع {كيف} نصب بقوله: {تحي الموتى} أي:
بأي حال تحي الموتى وإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا ولكنه لم يكن شاهد
إحياء ميّت، ولا يعلم كيف تجتمع العظام المتفرقة البالية، المستحيلة، من
أمكنة متباينة فأحب علم ذلك مشاهدة.
ويروى في التفسير: أنه كان مرّ بجيفة على شاطئ
البحر والحيتان تخرج من البحر فتنتف من لحم الجيفة، والطير تحط عليها وتنسر
منها، ودوابّ الأرض تأكل منها، ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة فحلّ
في حيتان البحر وطير السماء ودواب الأرض ثم يعود ذلك حيا، فسأل اللّه
تبارك وتعالى أن يريه كيف يحي الموتى، وأمره اللّه أن يأخذ أربعة من الطير،
وهو قوله عز وجل: {فصرهنّ إليك} وتقرأ فصرهنّ إليك - بالضم والكسر -.
قال أهل اللغة: معنى صرهنّ: أملهن إليك، وأجمعهن إليك، قال ذلك أكثرهم،
وقال بعضهم: صرهن إليك اقطعهن، فأما نظير صرهن أملهن وأجمعهن فقول الشاعر:
وجاءت خلعة دهس صفايا... يصور عنوقها أحوى زنيم
المعنى: أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى.
ومن قال صرت: قطعت، فالمعنى فخذ أربعة من الطير فصرهن أي قطعهنّ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.
المعنى: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا.
ففعل ذلك إبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إلى الريش يسعى بعضه إلى بعض، وكذلك العظام واللحم.
وقوله عزّ وجلّ: {واعلم أنّ اللّه عزيز حكيم}.
{عزيز} أي: لا يمتنع عليه ما يريد - {حكيم} فيما يدبر، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.
فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيبا
رأي عين، وعلم كيف يفعل اللّه ذلك، فلما قص اللّه ما فيه البرهان والدلالة
على أمر توحيده.
وما آتاه الرسل من البيّنات حثّ على الجهاد،
وأعلن أن من عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمرا عظيما وأن من
جاهد من كفر بعد هذا البرهان فله - في جهاده ونفقته فيه - الثواب العظيم،
وأن الله عزّ وجلّ وعد في الجنّة عشر أمثالها من الجهاد.
ووعد في الجهاد أن يضاعف الواحد بسبع مائة مرة لما في إقامة الحق من التوحيد، وما في الكفر من عظم الفساد فقال:
{مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه
كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة واللّه يضاعف لمن يشاء
واللّه واسع عليم}). [معاني القرآن: 1/344-346]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ
قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ
قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ
جزءاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (260)}
العامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكر. واختلف الناس لم صدرت هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟ فقال الجمهور: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة». وترجم الطبري في تفسيره فقال: «وقال
آخرون سأل ذلك ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت
الترجمة عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها»، وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: ربّ أرني كيف تحي الموتى؟ وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم». الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث. وقال: «إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟» وأما من قال: بأن إبراهيم لم يكن شاكا، فاختلفوا في سبب سؤاله، فقال قتادة: «إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل هذا السؤال». وقال الضحاك: «نحوه، قال: وقد علم عليه السلام أن الله قادر على إحياء الموتى»، وقال ابن زيد: «رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر»، وقال ابن إسحاق: «بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له: أنا أحيي وأميت، فكر في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال». وقال السدي وسعيد بن جبير: «بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما لا يدل به غيره»، وقال سعيد بن جبير: «{ولكن ليطمئنّ قلبي}يريد بالخلة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول»، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أولم تؤمن؟} أي إن الإيمان كاف لا يحتاج بعده إلى تنقير وبحث»، وأما قول عطاء بن أبي رباح: «دخل
قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن
النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة»،
وأما قول النبي عليه السلام نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان
شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك،
فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه السلام
أنه قال: ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما
الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن
الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه
السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {ربّي الّذي يحيي ويميت}[البقرة: 258]
فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوءة والخلة،
والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا
تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام
بكيف إنما هو عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو
قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك وكيف زيد
فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون كيف خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم
عنه، كيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي،
وكيف في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن
لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة
لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال
ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول له المكذب: أرني كيف ترفعه؟
فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه
أرني كيف؟ فلما كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي،
خلص الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له: أولم تؤمن قال بلى،
فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقوله تعالى: {أولم تؤمن} معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى»،
والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير، وليطمئنّ معناه ليسكن عن فكره،
والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما
قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا»،
الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة
الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر فيها عبر،
فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما
أمر الدابة المأكولة وإما قول النمرود: أنا أحيي وأميت، وقال الطبري: «معنى ليطمئنّ ليوقن». وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض»،
وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب،
ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول، وقاله مجاهد وابن جريج وابن
زيد، وقال ابن عباس: «مكان الغراب الكركي».
وروي في قصص هذه
الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا
صغارا وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على
كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال
تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء
وطار الدم إلى
الدم، والريش إلى الريش، حتى التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر
النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى،
وقرأ حمزة وحده: «فصرهن إليك» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها ويقال صرت
الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول رؤبة:
صرنا به الحكم وعنّا الحكما ....... ... ... ... ...
ومنه قول الخنساء:
فلو يلاقي الذي لاقيته حضن ....... لظلّت الشّمّ منه وهي تنصار
أي تنقطع ويقال أيضا صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر:
يصور عنوقها أحوى زنيم ....... له صخب كما صخب الغريم
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور، وعن الخنا زور، فهذا كله في ضم الصاد.
ويقال أيضا في هذين المعنيين: القطع والإمالة. صرت الشيء بكسر الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر:
وفرع يصير الجيد وجف كأنّه ....... على اللّيت قنوان الكروم الدّوالح
ففي اللفظة لغتان قرئ بهما، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه الآية {صرهن}:«معناه: قطعهن»، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض ما روي عنه: «أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن»، وقاله الضحاك، وقال أبو الأسواد الدؤلي: «هي بالسريانية»، وقال قتادة: «{صرهن}فصلهن»، وقال ابن إسحاق: «معناه قطعهن، وهو الصور في كلام العرب»، وقال عطاء بن أبي رباح: «{فصرهنّ} معناه اضممهن إليك». وقال ابن زيد: «معناه اجمعهن»، وروي عن ابن عباس: «معناه أوثقهن».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فقد
تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى الإمالة. فقوله إليك على تأويل
التقطيع متعلق بخذ. وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بصرهن، وفي الكلام
متروك يدل عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن».
وقرأ قوم «فصرّهن» بضم الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه
صرة الدنانير. وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة ومعناه
صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت، ذكره النقاش. قال ابن جني وهي
قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه
يفعل بضم العين كشد يشد ونحوه. لكن قد جاء منه نمّ الحديث ينمّه وينمّه وهر
الحرب يهرها ويهرها ومنه قول الأعشى: «ليعتورنك القول حتّى تهرّه إلى غير ذلك في حروف قليلة».
قال ابن جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح
والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال المهدوي وغيره
وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة»، واختلف المتأولون في معنى قوله: {ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءاً}، فروى أبو حمزة عن ابن عباس: «أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة». وفي هذا القول بعد، وقال قتادة والربيع: «المعنى
واجعل على أربعة أجبل على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث
الله هذه الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع
الدنيا وجميع أقطارها». وقرأ الجمهور:
«جزءا» بالهمز، وقرأ أبو جعفر «جزّا» بشد الزاي في جميع القرآن. وهي لغة في
الوقف فأجرى أبو جعفر الوصل مجراه. وقال ابن جريج والسدي: «أمر أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها». قالا: «وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء». وقال مجاهد: «بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا». قال الطبري: «معناه
دون أن تحصر الجبال بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف
الله إياه تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله أعلم أي ذلك كان».
ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث يرى الأجزاء في مقامه، ويرى
كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة، وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب
الآية منه وتكون بسبب من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله
تعالى سيرهن إليه سعياً، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه، فكان
من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته. ولو جاءته مشيا
لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب
منه. ثم وقف عليه السلام على العلم بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى
الحكمة التي بها إتقان كل شيء). [المحرر الوجيز: 2/ 49-57]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذ
قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ
قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ
جزءًا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيًا واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (260)}
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السّلام، أسبابًا، منها: أنّه لمّا قال لنمروذ: {ربّي الّذي يحيي ويميت} أحبّ أن يترقّى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدةً فقال: {ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}
فأمّا الحديث الّذي رواه البخاريّ عند هذه الآية: حدّثنا أحمد بن صالحٍ،
حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة وسعيدٍ، عن أبي
هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم، إذ قال: ربّ أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن. قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي»
وكذا رواه مسلمٌ، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهبٍ به -فليس المراد هاهنا
بالشّكّ ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلافٍ. وقد أجيب عن هذا الحديث
بأجوبةٍ، أحدها = .
وقوله: {قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك}
اختلف المفسّرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ
لو كان في ذلك متّهم لنصّ عليه القرآن، فروي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «هي الغرنوق، والطّاوس، والدّيك، والحمامة». وعنه أيضًا: «أنّه أخذ وزًّا، ورألًا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا». وقال مجاهد وعكرمة: «كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا».
وقوله: {فصرهنّ إليك}«أي: قطّعهنّ». قاله ابن عبّاسٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو مالكٍ، وأبو الأسود الدّؤليّ، ووهب بن منبّهٍ، والحسن، والسّدّيّ، وغيرهم.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «{فصرهنّ إليك}أوثقهنّ»،
فلمّا أوثقهنّ ذبحهنّ، ثمّ جعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، فذكروا أنّه عمد
إلى أربعةٍ من الطّير فذبحهنّ، ثمّ قطّعهنّ ونتف ريشهنّ، ومزّقهنّ وخلط
بعضهن في ببعض، ثمّ جزّأهنّ أجزاءً، وجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، قيل:
أربعة أجبلٍ. وقيل: سبعةٌ. قال ابن عبّاسٍ: «وأخذ
رؤوسهنّ بيده، ثمّ أمره اللّه عزّ وجلّ، أن يدعوهنّ، فدعاهنّ كما أمره
اللّه عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الرّيش يطير إلى الرّيش، والدّم إلى الدّم،
واللّحم إلى اللّحم، والأجزاء من كلّ طائرٍ يتّصل بعضها إلى بعضٍ، حتّى قام
كلّ طائرٍ على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرّؤية الّتي
سألها، وجعل كلّ طائرٍ يجيء ليأخذ رأسه الّذي في يد إبراهيم، عليه السّلام،
فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدّم إليه رأسه تركب مع بقيّة جثّته
بحول اللّه وقوّته؛ ولهذا قال: {واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ}
أي: عزيزٌ لا يغلبه شيءٌ، ولا يمتنع منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانعٍ
لأنّه العظيم القاهر لكلّ شيءٍ، حكيمٌ في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره».
قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن أيّوب في قوله: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: قال ابن عبّاسٍ: «ما في القرآن آيةٌ أرجى عندي منها».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ،
حدّثنا شعبة، سمعت زيد بن عليٍّ يحدّث، عن رجلٍ، عن سعيد بن المسيّب قال: «اتّعد عبد اللّه بن عبّاسٍ وعبد اللّه بن عمرو بن العاص أن يجتمعا. قال: ونحن شببةٌ، فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آيةٍ في كتاب اللّه أرجى لهذه الأمّة؟ فقال عبد اللّه بن عمرو: قول الله تعالى:{ياعبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعًا} الآية [الزّمر:53]. فقال ابن عبّاسٍ: أمّا إن كنت تقول: إنّها، وإنّ أرجى منها لهذه الأمّة قول إبراهيم: {ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني ابن أبي سلمة عن محمّد بن المنكدر، أنّه قال: «التقى عبد اللّه بن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال ابن عبّاسٍ لابن عمرو بن العاص: أيّ آيةٍ في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد اللّه بن عمرٍو: قول اللّه عز وجل:{يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه} الآية -فقال ابن عبّاسٍ: لكنّ أنا أقول: قول اللّه:{وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى}فرضي من إبراهيم قوله: {بلى} قال: فهذا لما يعترض في النّفوس ويوسوس به الشّيطان».
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، عن أبي عبد اللّه محمّد بن يعقوب بن
الأخرم، عن إبراهيم بن عبد اللّه السّعديّ، عن بشر بن عمر الزّهرانيّ، عن
عبد العزيز بن أبي سلمة، بإسناده، مثله. ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم
يخرّجاه). [تفسير ابن كثير: 1/ 688-690]
* للاستزادة ينظر: هنا