الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (261) إلى الآية (264) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

8940

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم التاسع عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (261) إلى الآية (264) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

8940

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}



تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة واللّه يضاعف لمن يشاء واللّه واسع عليم} أي: جواد لا ينقصه ما يتفضّل به من السعة، عليم حيث يضعه). [معاني القرآن: 1/346-347]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ واللّه يضاعف لمن يشاء واللّه واسعٌ عليمٌ (261) الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذىً لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (262)}
هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة، وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس:

آليت حب العراق الدهر أطعمه ....... والحب يأكله في القرية السوس

وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد
حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح، واختلف العلماء في معنى قوله: {واللّه يضاعف لمن يشاء}، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة. وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف. وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. وليس هذا بثابت الإسناد عنه، وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه السلام «رب زد أمتي». فنزلت: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له}[الحديد: 11]، فقال: «رب زد أمتي»، فنزلت: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزمر: 10] وسنبلةٍ فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب، والجمع سنابل، وفي قوله تعالى: {مثل الّذين}، حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، أو تقدره كمثل ذي حبة، وقال الطبري في هذه الآية: «إن قوله:{في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ}معناه: إن وجد ذلك وإلا فعلى أن نفرضه» ثم أدخل عن الضحاك أنه قال: «في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة»، فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال هو، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك، قال أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة). [المحرر الوجيز: 2/ 57-58]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ واللّه يضاعف لمن يشاء واللّه واسعٌ عليمٌ (261)}
هذا مثلٌ ضربه اللّه تعالى لتضعيف الثّواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأنّ الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، فقال:
{مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه} قال سعيد بن جبيرٍ: «في طاعة اللّه». وقال مكحولٌ: «يعني به: الإنفاق في الجهاد، من رباط الخيل وإعداد السّلاح وغير ذلك»، وقال شبيب بن بشرٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «الجهاد والحجّ، يضعف الدّرهم فيهما إلى سبعمائة ضعفٍ؛ ولهذا قال اللّه تعالى:{كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ}»
وهذا المثل أبلغ في النّفوس، من ذكر عدد السّبعمائة، فإنّ هذا فيه إشارةٌ إلى أنّ الأعمال الصالحٍة ينمّيها اللّه عزّ وجلّ، لأصحابها، كما ينمّي الزّرع لمن بذره في الأرض الطّيّبة، وقد وردت السّنّة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعفٍ، قال الإمام أحمد: حدّثنا زياد بن الرّبيع أبو خداش، حدّثنا واصلٌ مولى ابن عيينة، عن بشّار بن أبي سيفٍ الجرميّ، عن عياض بن غطيفٍ قال:
«دخلنا على أبي عبيدة بن الجرّاح نعوده من شكوى أصابه -وامرأته تحيفة قاعدةٌ عند رأسه -قلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: واللّه لقد بات بأجرٍ، قال أبو عبيدة: ما بتّ بأجرٍ، وكان مقبلًا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، وقال: ألا تسألوني عمّا قلت؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل اللّه فبسبعمائةٍ، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضًا أو ماز أذًى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصّوم جنّةٌ ما لم يخرقها، ومن ابتلاه اللّه عزّ وجلّ، ببلاءٍ في جسده فهو له حطّةٌ». وقد روى النّسائيّ في الصّوم بعضه من حديث واصلٍ به، ومن وجهٍ آخر موقوفًا.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن سليمان، سمعت أبا عمرٍو الشّيبانيّ، عن ابن مسعودٍ:
«أنّ رجلًا تصدّق بناقةٍ مخطومةٍ في سبيل اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لتأتينّ يوم القيامة بسبعمائة ناقةٍ مخطومةٍ». ورواه مسلمٌ والنّسائيّ، من حديث سليمان بن مهران، عن الأعمش، به. ولفظ مسلمٍ: «جاء رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: يا رسول اللّه، هذه في سبيل اللّه. فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقةٍ».
حديثٌ آخر: قال أحمد: حدّثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكنديّ، أخبرنا إبراهيم الهجريّ، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إن اللّه عزّ وجلّ، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ، إلّا الصّوم، والصّوم لي وأنا أجزي به، وللصّائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره وفرحةٌ يوم القيامة، ولخلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك».
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«كلّ عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى ما شاء اللّه، يقول اللّه: إلّا الصّوم، فإنّه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصّائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحةٌ عند لقاء ربّه، ولخلوف فيه أطيب عند اللّه من ريح المسك. الصّوم جنّةٌ، الصّوم جنّةٌ». وكذا رواه مسلمٌ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي سعيدٍ الأشجّ، كلاهما عن وكيعٍ، به.
حديثٌ آخر: قال أحمد: حدّثنا حسين بن عليٍّ، عن زائدة، عن الرّكين، عن يسير بن عميلة عن خريم بن فاتكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«من أنفق نفقةً في سبيل اللّه تضاعف بسبعمائة ضعفٍ».
حديثٌ آخر: قال أبو داود: حدّثنا أحمد بن عمرو بن السّرح، حدّثنا ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيّوب وسعيد بن أبي أيّوب، عن زبّان بن فائدٍ، عن سهل بن معاذٍ، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ الصّلاة والصّيام والذّكر يضاعف على النّفقة في سبيل اللّه سبعمائة ضعفٍ».
حديثٌ آخر: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هارون بن عبد اللّه بن مروان، حدّثنا ابن أبي فديكٍ، عن الخليل بن عبد اللّه، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«من أرسل بنفقةٍ في سبيل اللّه، وأقام في بيته فله بكلّ درهم سبعمائة درهمٍ يوم القيامة ومن غزا في سبيل اللّه، وأنفق في جهة ذلك فله بكلّ درهم سبعمائة ألف درهمٍ». ثمّ تلا هذه الآية: {واللّه يضاعف لمن يشاء} وهذا حديثٌ غريبٌ.
وقد تقدّم حديث أبي عثمان النّهديّ، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنةٍ، عند قوله:
{من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} [البقرة:245].
حديثٌ آخر: قال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العسكريّ البزّاز، أخبرنا الحسن بن عليّ بن شبيبٍ، أخبرنا محمود بن خالدٍ الدّمشقيّ، أخبرنا أبي، عن عيسى بن المسيب، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال:
«لمّا نزلت هذه الآية: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه} قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ربّ زد أمّتي» قال: فأنزل اللّه: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا} قال: «ربّ زد أمّتي»قال: فأنزل اللّه: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حسابٍ}[الزّمر:10].
وقد رواه أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه، عن حاجب بن أركين، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقرئ، عن أبي إسماعيل المؤدّب، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
وقوله هاهنا:
{واللّه يضاعف لمن يشاء} أي: بحسب إخلاصه في عمله {واللّه واسعٌ عليمٌ} أي: فضله واسعٌ كثيرٌ أكثر من خلقه، عليمٌ بمن يستحقّ ومن لا يستحقّ). [تفسير ابن كثير: 1/ 691-693]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين ينفقون أموالهم} الآية، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى، وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى.

فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة، وذكر النقاش:«أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه»، وقال مكي: «في عثمان وابن عوف رضي الله عنهما»، والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم. قال: «ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي هذا القول نظر، لأن التحكم فيه باد»، وقال زيد بن أسلم: «لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه»، وقالت له امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال لها: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم. وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه، لأنه يغتبط بآخرته »). [المحرر الوجيز: 2/ 58-60]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (262) قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى واللّه غنيٌّ حليمٌ (263) يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر فمثله كمثل صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين (264)}
يمدح تعالى الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه، ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصّدقات منًّا على من أعطوه، فلا يمنّون على أحدٍ، ولا يمنّون به لا بقولٍ ولا فعلٍ.
وقوله:
{ولا أذًى} أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهًا يحبطون به ما سلف من الإحسان. ثمّ وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال: {لهم أجرهم عند ربّهم} أي: ثوابهم على اللّه، لا على أحدٍ سواه {ولا خوفٌ عليهم} أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة {ولا هم يحزنون} أي: على ما خلّفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدّنيا وزهرتها لا يأسفون عليها؛ لأنّهم قد صاروا إلى ما هو خيرٌ لهم من ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 693]


تفسير قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذىً واللّه غنيٌّ حليمٌ (263) يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر فمثله كمثل صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين (264)}

هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها. وقال المهدوي وغيره: «التقدير في إعرابه قولٌ معروفٌ أولى ومغفرةٌ خيرٌ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج». ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال النقاش: «يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم»، ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره، وحمله عمن يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم). [المحرر الوجيز: 2/ 60-61]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {قولٌ معروفٌ} أي: من كلمةٍ طيّبةٍ ودعاءٍ لمسلمٍ {ومغفرة} أي: غفر عن ظلمٍ قوليٍّ أو فعليٍّ {خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن نفيلٍ قال: قرأت على معقل بن عبيد اللّه، عن عمرو بن دينارٍ قال: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«ما من صدقةٍ أحبّ إلى اللّه من قولٍ معروفٍ، ألم تسمع قوله:{قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى}»،{واللّه غنيٌّ} أي: عن خلقه، {حليمٌ} أي: يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم). [تفسير ابن كثير: 1/ 693]


تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين}
فالمن: أن تمنّ بما أعطيت وتعتدّ به كأنك إنما تقصد به الاعتداد والأذى أن توبخ المعطي.
فأعلم الله عزّ وجلّ أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما تبطل نفقة المنافق الذي إنما يعطي وهو لا يريد بذلك العطاء ما عند اللّه، إنما يعطي ليوهم أنه مؤمن، وقال عزّ وجلّ: {فمثله كمثل صفوان} والصفوان: الحجر الأملس وكذلك الصفا.
وقوله عزّ وجلّ: {عليه تراب فأصابه وابلا}والوابل: المطر العظيم القطر - فإذا أصاب هذا المطر الحجر الذي عليه تراب لم يبق عليه من التراب شيء، وكذلك تبطل نفقة المنافق ونفقة المنّان والمؤذي.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه لا يهدي القوم الكافرين}أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين، وقيل لا يجعل جزاءهم على الكفر أن يهديهم). [معاني القرآن: 1/347]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} الآية، العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية: «إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة»، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حسن، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى»، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي ينفق رئاء لا لوجه الله، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية. كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس. قال المهدوي: «والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء»، وقوله تعالى: {ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر} يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك. ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان. ثم مثل هذا المنفق رئاء ب صفوانٍ عليه ترابٌ فيظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى. فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية. فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن أرضا. وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير همز. ورويت عن عاصم.
والصفوان الحجر الكبير الأملس. قيل هو جمع واحدته صفواته. وقال قوم واحدته صفواة، وقيل هو إفراد وجمعه صفى، وأنكره المبرد وقال: «إنما هو جمع صفا»، ومن هذا المعنى الصفواء والصفا. قال امرؤ القيس:

كميت يزل اللبد عن حال متنه ....... كما زلت الصفواء بالمتنزل

وقال أبو ذؤيب:

حتى كأني للحوادث مروة = بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع

وقرأ الزهري وابن المسيب «صفوان» بفتح الفاء، وهي لغة، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه، ومنه قول رؤبة: برّاق أصلاد الجبين الأجله، قال النقاش: «الصلد الأجرد بلغة هذيل»، وقوله تعالى: {لا يقدرون} يريد به الذين ينفقون رئاء، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم، وجاءت العبارة ب يقدرون على معنى الذي. وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولا على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ، وقوله تعالى: {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسير إبطال المن والأذى للصدقة). [المحرر الوجيز: 2/ 61-65]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقد وردت الأحاديث بالنّهي عن المنّ في الصّدقة، ففي صحيح مسلمٍ، من حديث شعبة، عن الأعمش عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب».
وقال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمّدٍ الدّوريّ، أخبرنا هشيم بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدّرداء، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«لا يدخل الجنّة عاقٌّ، ولا منّانٌ، ولا مدمن خمرٍ، ولا مكذب بقدر»، وروى أحمد وابن ماجه، من حديث يونس بن ميسرة نحوه.
ثمّ روى ابن مردويه، وابن حبّان، والحاكم في مستدركه، والنّسائيّ من حديث عبد اللّه بن يسارٍ الأعرج، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«ثلاثةٌ لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنّان بما أعطى».
وقد روى النّسائيّ، عن مالك بن سعدٍ، عن عمّه روح بن عبادة، عن عتّاب بن بشيرٍ، عن خصيفٍ الجزريّ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«لا يدخل الجنّة مدمن خمرٍ، ولا عاقٌّ لوالديه، ولا منّانٌ».
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ، عن الحسن بن المنهال عن محمّد بن عبد اللّه بن عمّارٍ الموصليّ، عن عتّابٍ، عن خصيف، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ.
ورواه النّسائيّ من حديث، عبد الكريم بن مالكٍ الجزريّ، عن مجاهدٍ، قوله. وقد روي عن مجاهدٍ، عن أبي سعيدٍ وعن مجاهدٍ، عن أبي هريرة، نحوه. ولهذا قال تعالى:
{يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} فأخبر أنّ الصّدقة تبطل بما يتبعها من المنّ والأذى، فما يفي ثواب الصّدقة بخطيئة المنّ والأذى.
ثمّ قال تعالى:
{كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس} أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها النّاس، فأظهر لهم أنّه يريد وجه اللّه وإنّما قصده مدح النّاس له أو شهرته بالصّفات الجميلة، ليشكر بين النّاس، أو يقال: إنّه كريمٌ ونحو ذلك من المقاصد الدّنيويّة، مع قطع نظره عن معاملة اللّه تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه؛ ولهذا قال: {ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر}
ثمّ ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه -قال الضّحّاك:
«والّذي يتبع نفقته منًّا أو أذًى -فقال:{فمثله كمثل صفوانٍ}وهو جمع صفوانة»، ومنهم من يقول: الصّفوان يستعمل مفردًا أيضًا، وهو الصّفا، وهو الصّخر الأملس {عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ} وهو المطر الشّديد {فتركه صلدًا} أي: فترك الوابل ذلك الصّفوان صلدًا، أي: أملس يابسًا، أي: لا شيء عليه من ذلك التّراب، بل قد ذهب كلّه، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحلّ عند اللّه وإن ظهر لهم أعمالٌ فيما يرى النّاس كالتّراب؛ ولهذا قال: {لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين}). [تفسير ابن كثير: 1/ 693-694]



* للاستزادة ينظر: هنا