الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (265) إلى الآية (266) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

8230

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم التاسع عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (265) إلى الآية (266) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

8230

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}


تفسير قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ثم ضرب الله لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمن ولا يؤذي مثلا فقال:
{ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنّة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطلّ واللّه بما تعملون بصير}أي: ليطلب مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم، أي ينفقونها مقرين أنها مما يثيب اللّه عليها.
{كمثل جنّة بربوة} بفتح الراء وبربوة. بالضم - وبربوة - بالكسر - وبرباوة، وهذا وجه رابع.
والربوة: ما ارتفع من الأرض.
والجنة: البستان، وكل ما نبت وكثف وكثر، وستر بعضه بعضا فهو جنة - والموضع المرتفع إذا كان له ما يرويه من الماء فهو أكثر ريعا من المستفل، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن نفقة هؤلاء المؤمنين تزكو كما يزكو نبت هذه الجنة التي هي في مكان مرتفع.
{أصابها وابل} وهو: المطر العظيم القطر.
{فآتت أكله} أي: ثمرها، ويقرأ أكلها والمعنى واحد.
{ضعفين}أي: مثلين.
{فإن لم يصبها وابل فطلّ}.
و(الطّلّ) المطر الدائم الصّغار القطر الذي لا يكاد يسيل منه المثاعب.
ومعنى {واللّه بما تعملون بصير}أي: عليم، وإذا علمه جازى عليه والذي ارتفع عليه (فطلّ) أنه على معنى فإن لم يصبها وابل فالذي يصيبها طلّ). [معاني القرآن: 1/347-348]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّةٍ بربوةٍ أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ فطلٌّ واللّه بما تعملون بصيرٌ (265)}
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله، كأنه قال: كمثل غارس جنة، وابتغاء معناه طلب، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو وتثبيتاً عليه. ولا يصح في تثبيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في المشكل: «كلاهما مفعول من أجله وهو مردود بما بيناه، ومرضات مصدر من رضي يرضى»، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح: «وتثبيتاً معناه وتيقنا، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا»، وقال مجاهد والحسن: معنى قوله: «وتثبيتاً أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؟»وقال الحسن:«كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك»، والقول الأول أصوب.
لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتا، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى: {وتبتّل إليه تبتيلًا}[المزمل: 8]، وكقوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً}[نوح: 17] فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت، وقال قتادة: «وتثبيتاً معناه وإحسانا من أنفسهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا نحو القول الأول»، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، وقل ما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: زوجي كليل تهامة، وقال ابن عباس: «الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله، لأن قوله تعالى:{أصابها وابلٌ}إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار»، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر، وقال الحسن: «الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء»، وهذا أيضا أراد أنها ليست كالجبل والضرب ونحوه، وقال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيرا، وقال السدي: «بربوةٍ أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض»، قال أبو محمد: وهذه عبارة قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، يقال «ربوة» بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو.
ويقال «ربوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين، ويقال ربوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه. ويقال رباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي، وآتت معناه أعطت، و «الأكل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «أكلها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال أكل وأكل بمعنى، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل، وضعفين معناه: اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابلٌ فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض، والطل المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، وقال قوم الطل الندى، وهذا تجوز وتشبيه، وقد روي ذلك عن ابن عباس. قال المبرد: «تقديره فطلٌّ يكفيها». وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا، وفي قوله تعالى: {واللّه بما تعملون بصيرٌ} وعد ووعيد، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع. أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض). [المحرر الوجيز: 2/ 65-68]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه وتثبيتًا من أنفسهم كمثل جنّةٍ بربوةٍ أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ فطلٌّ واللّه بما تعملون بصيرٌ (265) }
وهذا مثل المؤمنين المنفقين
{أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه} عنهم في ذلك {وتثبيتًا من أنفسهم} أي: وهم متحقّقون مثبتون أنّ اللّه سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى، قوله عليه السّلام في الحديث المتّفق على صحّته: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا = » أي: يؤمن أنّ اللّه شرعه، ويحتسب عند اللّه ثوابه.
قال الشّعبيّ:
«{وتثبيتًا من أنفسهم}أي: تصديقًا ويقينًا». وكذا قال قتادة، وأبو صالحٍ، وابن زيدٍ. واختاره ابن جريرٍ. وقال مجاهدٌ والحسن: «أي: يتثبّتون أين يضعون صدقاتهم».
وقوله:
{كمثل جنّةٍ بربوةٍ} أي: كمثل بستانٍ بربوةٍ. وهو عند الجمهور: «المكان المرتفع المستوي من الأرض». وزاد ابن عبّاسٍ والضّحّاك: «وتجري فيه الأنهار».
قال ابن جريرٍ:
«وفي الرّبوة ثلاث لغاتٍ هنّ ثلاث قراءاتٍ: بضمّ الرّاء، وبها قرأ عامّة أهل المدينة والحجاز والعراق. وفتحها، وهي قراءة بعض أهل الشّام والكوفة، ويقال: إنّها لغة تميمٍ. وكسر الرّاء، ويذكر أنّها قراءة ابن عبّاسٍ».
وقوله:
{أصابها وابلٌ} وهو المطر الشّديد، كما تقدّم، {فآتت أكلها} أي: ثمرتها {ضعفين} أي: بالنّسبة إلى غيرها من الجنان. {فإن لم يصبها وابلٌ فطلٌّ} قال الضّحّاك: «هو الرّذاذ، وهو اللّيّن من المطر». أي: هذه الجنّة بهذه الرّبوة لا تمحل أبدًا؛ لأنّها إن لم يصبها وابلٌ فطلٌّ، وأيًّا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبّله اللّه ويكثّره وينمّيه، كلّ عاملٍ بحسبه؛ ولهذا قال: {واللّه بما تعملون بصيرٌ} أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيءٌ). [تفسير ابن كثير: 1/ 695]


تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل ثناؤه: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثّمرات وأصابه الكبر وله ذرّيّة ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
هذا مثل ضربه اللّه لهم للآخرة وأعلمهم أن حاجتهم إلى الأعمال الصالحة كحاجة هذا الكبير الذي له ذرية ضعفاء، فإن احترقت جنته وهو كبير وله ذرية ضعفاء انقطع به، وكذلك من لم يكن له في الآخرة عمل يوصله إلى الجنة فحسرته في الآخرة - مع عظيم الحسرة فيها - كحسرة هذا الكبير المنقطع به في الدنيا.
ومعنى:{فأصابها إعصار فيه نار}الإعصار: الريح التي تهب، من الأرض كالعمود إلى نحو السماء وهي التي تسميها الناس الزوبعة، وهي ريح شديدة، لا يقال إنها إعصار حتى تهبّ بشدة، قال الشاعر:
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
ومعنى {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات}أي: كهذا البيان الذي قد تبين الصّدقة والجهاد وقصة إبراهيم – عليه السلام - والذي مرّ على قرية، وجميع ما سلف من الآيات، أي: كمثل بيان هذه الأقاصيص {يبين اللّه لكم الآيات}، أي: العلامات والدّلالات التي تحتاجون إليها في أمر توحيده، وإثبات رسالات رسله وثوابه وعقابه. {لعلّكم تتفكّرون}). [معاني القرآن: 1/348-349]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثّمرات وأصابه الكبر وله ذرّيّةٌ ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (266)}
حكى الطبري عن السدي: «أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء»، ورجح هو هذا القول، وحكى عن ابن زيد: «أنه قرأ قول الله تعالى:{يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}[البقرة: 264]، قال ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: أيودّ أحدكم الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء»، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا:« الله ورسوله أعلم، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك عمر»، وروى ابن أبي مليكة: «أن عمر تلا هذه الآية: أيودّ أحدكم، وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها»، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن «جنات» بالجمع، وقوله من تحتها هو تحت بالنسبة إلى الشجر، والواو في قوله :{وأصابه} واو الحال، وكذلك في قوله: {وله} وضعفاء جمع ضعيف وكذلك ضعاف، وال إعصارٌ الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها»، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي: «الإعصار الريح، والنار السموم»، وقال ابن عباس: «ريح فيها سموم شديدة»، وقال ابن مسعود: «إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يريد من نار الآخرة»، وقال الحسن بن أبي الحسن: «إعصارٌ فيه نارٌ ريح فيها صر، برد»، وقاله الضحاك، وفي المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده: «أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب»، وقال الزجاج: «الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة»، قال المهدوي: «قيل لها إعصارٌ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا ضعيف»، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة، ولعلّكم ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن عباس: «تتفكّرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها» ). [المحرر الوجيز: 2/ 69-71]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثّمرات وأصابه الكبر وله ذرّيّةٌ ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (266)}
قال البخاريّ عند تفسير هذه الآية: حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا هشامٌ -هو ابن يوسف -عن ابن جريجٍ: سمعت عبد اللّه بن أبي مليكة، يحدّث عن ابن عبّاسٍ، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدّث عن عبيد بن عمير قال:
«قال عمر بن الخطّاب يومًا لأصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ}؟ قالوا: اللّه أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عبّاسٍ: في نفسي منها شيءٌ يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقّر نفسك. فقال ابن عبّاسٍ: ضربت مثلًا لعملٍ. قال عمر: أيّ عملٍ؟ قال ابن عبّاسٍ: لعملٍ. قال عمر: لرجلٍ غنيٍّ يعمل بطاعة اللّه. ثمّ بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتّى أغرق أعماله».
ثمّ رواه البخاريّ، عن الحسن بن محمّدٍ الزّعفرانيّ، عن حجّاج بن محمّدٍ الأعور، عن ابن جريجٍ، فذكره. وهو من أفراد البخاريّ، رحمه اللّه.
وفي هذا الحديث كفايةٌ في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أوّلًا ثمّ بعد ذلك انعكس سيره، فبدّل الحسنات بالسّيّئات، عياذًا باللّه من ذلك، فأبطل بعمله الثّاني ما أسلفه فيما تقدّم من الصالحٍ واحتاج إلى شيءٍ من الأوّل في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيءٌ، وخانه أحوج ما كان إليه، ولهذا قال تعالى:
{وله ذرّيّةٌ ضعفاء فأصابها إعصارٌ} وهو الرّيح الشّديد {فيه نارٌ فاحترقت} أي: أحرق ثمارها وأباد أشجارها، فأيّ حالٍ يكون حاله.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ، من طريق العوفي، عن ابن عبّاسٍ قال:
«ضرب اللّه له مثلًا حسنًا، وكلّ أمثاله حسنٌ، قال:{أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعنابٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثّمرات}يقول: ضيّعه في شيبته{وأصابه الكبر}وولده وذرّيّته ضعافٌ عند آخر عمره، فجاءه إعصارٌ فيه نارٌ فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوّةً أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خيرٌ يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذ ردّ إلى اللّه عزّ وجلّ، ليس له خيرٌ فيستعتب، كما ليس لهذا قوّةٌ فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدّم لنفسه خيرًا يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنّة اللّه عند أفقر ماكان إليها عند كبره وضعف ذرّيّته».
وهكذا، روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه:
«اللّهمّ اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سنّي وانقضاء عمري» ؛ ولهذا قال تعالى: {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون} أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون}[العنكبوت:43] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 695-696]



* للاستزادة ينظر: هنا