تفسير
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ
نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
(270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله تبارك اسمه: {يا
أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض
ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه واعلموا
أنّ اللّه غنيّ حميد}فالمعنى: أنفقوا من جيّد ما كسبتموه من تجارة، ومن ورق وعين، وكذلك من جيّد الثمار، ومعنى {أنفقوا}: تصدقوا وكان قوم أتوا في الصدقة برديء الثمار.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر
السعاة إلا يخرص الجعرور ومعى الفارة وذلك أنها من رديء النخل، فأمر ألا
تخرص عليهم لئلا يعتلوا به في الصدقة.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون}أي: لا تقصدوا إلى رديء المال، والثمار فتتصدقوا به، وأنتم (تعلمون أنكم) لا تأخذونه إلا بالإغماض فيه.
ومعنى{ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه}: يقول: أنتم لا تأخذونه إلا بوكس، فكيف تعطونه في الصدقة.
وقوله عزّ وجلّ: {واعلموا أنّ اللّه غنيّ حميد}أي: لم يأمركم بأن تتصدقوا من عوز، ولكنه لاختباركم فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه.
يقال قد غني زيد يغنى غنى - مقصور - إذا
استغنى، وقد وقد غني القوم إذا نزلوا في مكان يقيهم، والمكان الذي ينزلون
فيه مغنى، وقد غنّى فلان غناء إذا بالغ في التطريب في الإنشاد حتى يستغنى
الشعر أن يزاد في نغمته، وقد غنيت المرأة غنيانا.
قال قيس بن الخطيم:
أجدّ بعمرة غنيانها... فتهجر أم شأننا شأنها
غنيانها: غناها.
والغواني: النساء، قيل إنهن سمين غواني لأنهن غنين بجمالهن. وقيل بأزواجهن). [معاني القرآن: 1/349-350]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا
أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض
ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه واعلموا
أنّ اللّه غنيٌّ حميدٌ (267)}
هذا الخطاب هو
لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف
المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن
أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين: «هي في الزكاة المفروضة».
نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن
يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة،
فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي
الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي
رباح ما معناه: «أن
الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في
المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفا فرآه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: «بئسما علق هذا»، فنزلت الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والأمر
على هذا القول على الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار،
والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع
يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى من طيّبات من
جيد ومختار ما كسبتم، وجعلوا الخبيث بمعنى الرديء والرذالة»، وقال ابن زيد معناه: «من حلال ما كسبتم»، قال: وقوله: {ولا تيمّموا الخبيث} أي الحرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه»، وقوله: {من طيّبات ما كسبتم}
يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال:
أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة
حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز
وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجودة والحل، ويؤيد هذا
الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث، وكسبتم معناه
كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في
هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كسبتم إنما هو لنوع الإنسان أو
المؤمنين، وممّا أخرجنا لكم من الأرض النباتات والمعادن والركاز وما ضارع
ذلك، وتيمّموا معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده،
ومنه قول امرئ القيس:
تيمّمت العين التي عند ضارج ....... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام
ومنه قول الأعشى:
تيمّمت قيسا وكم دونه ....... من الأرض من مهمه ذي شزن
ومنه
التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى
البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف،
وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا
قصدت، ومنه إمام البناء، والمعنى في القراءتين واحد، وقرأ الزهري ومسلم بن
جندب «ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال: يممت
الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى
وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا»
بهمزة بعد التاء، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم، وقد مضى القول في
معنى الخبيث وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن: «قال
فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله: الخبيث ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف
الخبيث فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، والضمير في منه عائد على الخبيث». قال الجرجاني وقال فريق آخر: «بل الكلام متصل إلى قوله فيه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فالضمير في منه عائد على ما كسبتم، ويجيء تنفقون كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقوله: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله»، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه} فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم: «معناه
ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك،
وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا
ترضونه لأنفسكم»، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية: «لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه»، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة» وقال البراء بن عازب أيضا: «معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم إلّا أن تغمضوا أي تستحيي من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا يشبه كون الآية في التطوع»، وقال ابن زيد معنى الآية: «ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه»،
وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم. وقرأ
الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وروي عنه أيضا «تغمّضوا» بضم التاء
وفتح الغين وكسر الميم مشددة، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة
الميم مفتوحة وبفتح التاء. وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم
مخففا قال أبو عمرو: «معناه إلا أن يغمض لكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز»، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضـ ....... ـيم أناس يرضون بالإغماض
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ....... أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا
كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه
مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر كما تقول: أعمن
إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور
الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على
التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا
غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما
لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره، وأما قراءة الزهري الأولى
فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو:«معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها». ويحتمل أن تكون من تغميض العين. وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها. وقال ابن جني: «معناها
توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى
النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة»،
ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب
مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، وحميدٌ معناه محمود في كل حال، وهي صفة ذات).
[المحرر الوجيز: 2/ 71-76]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض
ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ
اللّه غنيٌّ حميدٌ (267) الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه
يعدكم مغفرةً منه وفضلا واللّه واسعٌ عليمٌ (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن
يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذّكّر إلا أولو الألباب (269)}
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصّدقة هاهنا؛ قاله ابن
عبّاسٍ -من طيّبات ما رزقهم من الأموال الّتي اكتسبوها. قال مجاهدٌ: «يعني التّجارة بتيسيره إيّاها لهم».
وقال عليٌّ والسّدّيّ: «{من طيّبات ما كسبتم}يعني: الذّهب والفضّة، ومن الثّمار والزّروع الّتي أنبتها لهم من الأرض».
قال ابن عبّاسٍ: «أمرهم بالإنفاق من
أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التّصدّق برذالة المال ودنيه -وهو
خبيثه -فإنّ اللّه طيب لا يقبل إلّا طيّبًا، ولهذا قال: {ولا تيمّموا} أي: تقصدوا {الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلّا أن تتغاضوا فيه، فاللّه أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا للّه ما تكرهون».
وقيل: معناه: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، حدّثنا
أبان بن إسحاق، عن الصّبّاح بن محمّدٍ، عن مرّة الهمداني، عن عبد اللّه بن
مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن
اللّه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ اللّه يعطي الدّنيا
من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلّا لمن أحبّ، فمن أعطاه اللّه
الدّين فقد أحبّه، والّذي نفسي بيده، لا يسلم عبدٌّ حتّى يسلم قلبه ولسانه،
ولا يؤمن حتّى يأمن جاره بوائقه». قالوا: وما بوائقه يا نبيّ اللّه؟. قال: «غشمه
وظلمه، ولا يكسب عبدٌ مالًا من حرامٍ فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق
به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار، إنّ اللّه لا
يمحو السّيّئ بالسّيّئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن، إنّ الخبيث لا يمحو
الخبيث».
والصّحيح القول الأوّل؛ قال ابن جريرٍ: حدّثني الحسين بن عمرٍو
العنقزيّ، حدّثني أبي، عن أسباطٍ، عن السّدّيّ، عن عديّ بن ثابتٍ، عن
البراء بن عازبٍ في قول اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} الآية. قال: «نزلت
في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيّام جذاذ النّخل، أخرجت من حيطانها
أقناء البسر، فعلّقوه على حبلٍ بين الأسطوانتين في مسجد رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرّجل منهم إلى
الحشف، فيدخله مع أقناء البسر، يظنّ أنّ ذلك جائزٌ، فأنزل اللّه فيمن فعل
ذلك: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون}».ثمّ رواه ابن جريرٍ، وابن ماجه، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من طريق السدي، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء، بنحوه. وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرّجاه».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا عبيد اللّه، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن البراء: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: «نزلت
فينا، كنّا أصحاب نخلٍ، وكان الرّجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلّته،
فيأتي الرّجل بالقنو فيعلّقه في المسجد، وكان أهل الصّفّة ليس لهم طعامٌ،
فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتّمر، فيأكل، وكان
أناسٌ ممّن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو فيه الحشف والشّيص، ويأتي
بالقنو قد انكسر فيعلّقه، فنزلت:{ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلّا على إغماضٍ وحياء، فكنّا بعد ذلك يجيء الرّجل منّا بصالح ما عنده».
وكذا رواه التّرمذيّ، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الدّارميّ، عن عبيد
اللّه -هو ابن موسى العبسيّ -عن إسرائيل، عن السّدّيّ -وهو إسماعيل بن عبد
الرّحمن -عن أبي مالكٍ الغفاريّ -واسمه غزوان -عن البراء، فذكر نحوه.
ثمّ قال: وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا سليمان بن كثيرٍ، عن الزّهريّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، عن أبيه: «أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن لونين من التّمر: الجعرور ولون
الحبيق. وكان النّاس يتيمّمون شرار ثمارهم ثمّ يخرجونها في الصّدقة، فنزلت:
{ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون}».
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ به. ثمّ قال: أسنده أبو الوليد، عن سليمان بن كثيرٍ، عن الزّهريّ، ولفظه: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصّدقة».
وقد روى النّسائيّ هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي، عن
الزّهريّ، عن أبي أمامة. ولم يقل: عن أبيه، فذكر نحوه. وكذا رواه ابن وهبٍ،
عن عبد الجليل.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن المغيرة، حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن عبد اللّه بن معقل في هذه الآية: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} قال: «كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصّدّق بالحشف، والدّرهم الزّيف، وما لا خير فيه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن حمّادٍ -هو ابن أبي سليمان -عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضبٍّ فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت: يا رسول اللّه، نطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ممّا لا تأكلون».
ثمّ رواه عن عفّان عن حمّاد بن سلمة، به. فقلت: يا رسول اللّه، ألّا أطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ما لا تأكلون».
وقال الثّوريّ: عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن البراء {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: «لو كان لرجلٍ على رجلٍ، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلّا أن يرى أنّه قد نقصه من حقّه» رواه ابن جريرٍ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: «لو كان لكم على أحدٍ حقٌّ، فجاءكم بحقٍّ دون حقّكم لم تأخذوه بحساب الجيّد حتّى تنقصوه، قال: فذلك قوله:{إلا أن تغمضوا فيه}فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقّي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!» رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ، وزاد: وهو قوله: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون}[آل عمران:92]. ثمّ روى من طريق العوفيّ وغيره، عن ابن عبّاسٍ نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحدٍ.
قوله: {واعلموا أنّ اللّه غنيٌّ حميدٌ} أي: وإن أمركم بالصّدقات وبالطّيّب منها فهو غنيٌّ عنها، وما ذاك إلّا ليساوي الغنيّ الفقير، كقوله: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم}[الحجّ: 37]
وهو غنيٌّ عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد
ما لديه، فمن تصدّق بصدقةٍ من كسبٍ طيّبٍ، فليعلم أنّ اللّه غنيٌّ واسع
العطاء، كريمٌ جوادٌ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرةً من يقرض غير
عديمٍ ولا ظلومٍ، وهو الحميد، أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه
وقدره، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير ابن كثير: 1/ 696-699]
تفسير
قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل وعلا: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلا واللّه واسع عليم}
يقال الفقر والفقر جميعا، والمعنى: أنه يحملكم على أن تؤدوا في الصدقة رديء المال يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد - ومعنى{يعدكم الفقر}: يعدكم بالفقر ولكن الباء حذفت. وأفضى الفعل فنصب كما قال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ويقال وعدته أعده وعدا و عدة وموعدا وموعدة وموعودا وموعودة.
ومعنى{ويأمركم بالفحشاء}أي: بأن لا تتصدقوا فتتقاطعوا.
ومعنى{واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلا}أي: يعدكم أن يجازيكم على صدقتكم بالمغفرة، ويعدكم أن يخلف عليكم.
ومعنى {واللّه واسع عليم}:
{واسع} يعطي من سعة، و {عليم} يعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة). [معاني القرآن: 1/350-351]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الشّيطان
يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلاً واللّه
واسعٌ عليمٌ (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً
كثيراً وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب (269)}
هذه الآية وما
بعدها وإن لم تكن أمرا بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل
فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر
بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون
بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة
ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر
المعنى. والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود ما
هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه
وهو الفقر و «الفحشاء» كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء، وروى
حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفقر» بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن
عباس: «في الآية اثنتان من الشيطان، واثنتان من الله تعالى»، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن
للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب
بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن
وجد ذلك فليحمد الله، ثم قرأ عليه السلام{الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم} الآية»،
والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في
الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر
النقاش: «أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وليس
في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي
أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن
مصداقه: وهو {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه، وهو خير الرّازقين} [سبأ: 39]» وواسعٌ لأنه وسع كل شيء رحمة وعلما). [المحرر الوجيز: 2/ 77-78]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلا واللّه واسعٌ عليمٌ}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا هنّاد بن السّري، حدّثنا أبو
الأحوص، عن عطاء بن السّائب، عن مرّة الهمداني، عن عبد اللّه بن مسعودٍ
قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إن
للشّيطان للمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعادٌ
بالشّرّ وتكذيبٌ بالحقّ، وأمّا لمّة الملك فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحقّ.
فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه، فليحمد اللّه، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ
من الشّيطان». ثمّ قرأ: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلا}
الآية. وهكذا رواه التّرمذيّ والنّسائيّ في كتابي التّفسير من سننيهما
جميعًا، عن هنّاد بن السّري. وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، عن أبي يعلى
الموصليّ، عن هنّاد، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ، وهو حديث أبي الأحوص
-يعني سلّام بن سليمٍ -لا نعرفه مرفوعًا إلّا من حديثه. كذا قال. وقد رواه
أبو بكر بن مردويه في تفسيره، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن عبد اللّه بن
رسته، عن هارون الفروي، عن أبي ضمرة عن ابن شهابٍ، عن عبيد اللّه بن عبد
اللّه، عن ابن مسعودٍ، مرفوعًا نحوه. ولكن رواه مسعر، عن عطاء بن السّائب،
عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعودٍ. فجعله من قوله، واللّه
أعلم.
ومعنى قوله تعالى: {الشّيطان يعدكم الفقر} أي: يخوّفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة اللّه، {ويأمركم بالفحشاء} أي: مع نهيه إيّاكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق، قال اللّه تعالى: {واللّه يعدكم مغفرةً منه} أي: في مقابلة ما أمركم الشّيطان بالفحشاء، {وفضلا} أي: في مقابلة ما خوّفكم الشّيطان من الفقر {واللّه واسعٌ عليمٌ} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 699-700]
تفسير
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ (269)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكّر إلّا أولو الألباب}
معنى {يؤتي} يعطي، و {الحكمة}فيها قولان:
1- قال بعضهم هي: النبوة.
2- ويروى عن ابن
مسعود أن الحكمة هي القرآن، وكفى بالقرآن حكمة، لأن الأمّة به صارت علماء
بعد جهل، وهو وصلة إلى كل علم يقرّب من اللّه عزّ وجلّ: وذريعة إلى رحمته؛
لذلك قال الله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} أي: أعطي كل الحلم، وما يوصل إلى رحمة اللّه، و " يؤت " جزم بمن، والجواب {فقد أوتي خيرا كثيرا}
ومعنى {وما يذّكّر إلّا أولو الألباب}أي: ما يفكر فكرا يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولو الألباب، أي: ذوو العقول.
وواحد الألباب لب، يقال قد لببت يا رجل وأنت تلب، لبابة ولبّا، وقرأت على محمد بن يزيد عن يونس: لببت لبابة.
وليس في المضاعف على فعلت غير هذا، ولم يروه أحد إلا يونس، وسألت غير البصريين عنه فلم يعرفه). [معاني القرآن: 1/351-352]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه يؤتي الحكمة أي يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في الحكمة في هذا الموضع فقال السدي: «الحكمة النبوءة»، وقال ابن عباس: «هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته». وقال قتادة: «الحكمة الفقه في القرآن»، وقاله مجاهد، وقال مجاهد أيضا: «الحكمة الإصابة في القول والفعل»، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم: «الحكمة العقل في الدين»، وقال مالك: «الحكمة المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له»، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: «الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له»، وقال أيضا: «الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به»، وقال الربيع: «الحكمة الخشية»، ومنه قول النبي عليه السلام: «رأس كل شيء خشية الله تعالى»، وقال إبراهيم: «الحكمة الفهم» وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: «الحكمة الورع»،
وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من
الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل
ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس.
وقرأ الجمهور «من
يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر
التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة ف من مفعول أول مقدم والحكمة مفعول
ثان، وقرأ الأخفش: «ومن يؤته الحكمة»، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من
تشاء» بالتاء في «تؤتي» و «تشاء» منقوطة من فوق، «ومن يؤت الحكمة» بالياء،
وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة، والألباب العقول واحدها لب). [المحرر الوجيز: 2/ 78-79]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {يؤتي الحكمة من يشاء} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله». وروى جويبر، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ مرفوعًا: «الحكمة: القرآن. يعني: تفسيره»، قال ابن عبّاسٍ: «فإنّه قد قرأه البرّ والفاجر». رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: «يعني بالحكمة: الإصابة في القول».
وقال ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ: «{يؤتي الحكمة من يشاء}ليست بالنّبوّة، ولكنّه العلم والفقه والقرآن». وقال أبو العالية: «الحكمة خشية اللّه، فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ». وقد روى ابن مردويه، من طريق بقيّة، عن عثمان بن زفر الجهني، عن أبي عمّارٍ الأسديّ، عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: «رأس الحكمة مخافة اللّه». وقال أبو العالية في روايةٍ عنه: «الحكمة: الكتاب والفهم». وقال إبراهيم النخعي: «الحكمة: الفهم». وقال أبو مالكٍ: «الحكمة: السّنّة». وقال ابن وهبٍ، عن مالكٍ، قال زيد بن أسلم: «الحكمة: العقل». قال مالكٌ: «وإنّه
ليقع في قلبي أنّ الحكمة هو الفقه في دين اللّه، وأمرٌ يدخله اللّه في
القلوب من رحمته وفضله، وممّا يبيّن ذلك، أنّك تجد الرّجل عاقلًا في أمر
الدّنيا ذا نظرٍ فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه،
بصيرًا به، يؤتيه اللّه إيّاه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين اللّه». وقال السدي: «الحكمة: النبوة».
والصّحيح أنّ الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختصّ بالنّبوّة، بل هي أعمّ
منها، وأعلاها النّبوّة، والرّسالة أخصّ، ولكن لأتباع الأنبياء حظٌّ من
الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدرجت النّبوّة بين كتفيه غير أنّه لا يوحى إليه». رواه وكيع بن الجرّاح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافعٍ عن رجلٍ لم يسمّه، عن عبد اللّه بن عمر وقوله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع ويزيد قالا حدّثنا إسماعيل -يعني ابن أبي
خالدٍ -عن قيسٍ -وهو ابن أبي حازمٍ -عن ابن مسعودٍ قال: سمعت رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجلٌ آتاه اللّه حكمةً فهو يقضي بها ويعلّمها». وهكذا رواه البخاريّ، ومسلمٌ، والنّسائيّ، وابن ماجه -من طرقٍ متعدّدةٍ -عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، به.
وقوله: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} أي: وما ينتفع بالموعظة والتّذكار إلّا من له لبٌّ وعقلٌ يعي به الخطاب ومعنى الكلام). [تفسير ابن كثير: 1/ 700-701]
تفسير
قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ
نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
(270)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإنّ اللّه يعلمه وما للظّالمين من أنصار}أي: ما تصدقتم به من فرض لأنه في ذكر صدقة الزكاة وهي الفرض والنذر: التطوع، وكل ما نوى الإنسان أن يتطوع به فهو نذر.
{فإنّ اللّه يعلمه} أي: لا يخفى عليه فهو يجازي عليه، كما قال جلّ ثناؤه: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره}.
يقال نذرت النذر أنذره وأنذره، والجميع النّذور، وأنذرت القوم إذا أعلمتهم وخوفتهم إنذارا ونذيرا ونذرا.
قال اللّه عزّ وجلّ: {فستعلمون كيف نذير}.
وقال جل ثناؤه: {فكيف كان عذابي ونذر}.
النذر: مثل النّكر، والنذير مثل النكير). [معاني القرآن: 1/352]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وما
أنفقتم من نفقةٍ أو نذرتم من نذرٍ فإنّ اللّه يعلمه وما للظّالمين من
أنصارٍ (270) إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو
خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ (271)}
كانت النذر من
سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعا وما يفعله
بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذر» بضم الذال
«وينذر» بكسرها، وقوله تعالى: {فإنّ اللّه يعلمه} قال مجاهد: «معناه يحصيه»،
وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو
لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا
يجد ناصرا فيه، ووحد الضمير في يعلمه وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو
نص). [المحرر الوجيز: 2/ 80]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وما
أنفقتم من نفقةٍ أو نذرتم من نذرٍ فإنّ اللّه يعلمه وما للظّالمين من
أنصارٍ (270) إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو
خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ (271)}
يخبر تعالى بأنّه عالمٌ بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النّفقات
والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء
وجهه ورجاء موعوده. وتوعّد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذّب خبره
وعبد معه غيره، فقال: {وما للظّالمين من أنصار} أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب اللّه ونقمته). [تفسير ابن كثير: 1/ 701]
تفسير
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبير}
معنى{إن تبدوا}: تظهروا، يقال بدا الشيء يبدو إذا ظهر، وأبديته أنا إبداء، إذا أظهرته، وبدا لي بدا " إذا تغيّر رأي عمّا كان عليه.
و{تبدوا} جزم بـ {إن}، وقوله: {فنعمّا هي} الجواب.
وروى أبو عبيد أنّ أبا جعفر وشيبة ونافعا وعاصما وأبا عمرو بن العلاء قرأوا: {فنعمّا هي} بكسر النون وجزم العين وتشديد الميم، وروى أن يحيى بن وثاب، والأشمس وحمزة والكسائي قرأوا: {فنعمّا هي} - بفتح النون وكسر العين.
وذكر أبو عبيد أنّه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله لابن العاص: ((نعمّا بالمال الصّالح للرجل الصّالح)).
فذكر أبو عبيد أنه يختار هذه القراءة من أجل هذه الرواية.
ولا أحسب أصحاب الحديث ضبطوا هذا، ولا هذه
القراءة عند البصريين النحويين جائزة ألبتّة، لأن فيها الجمع بين ساكنين من
غير حرف ما ولين.
فأما ما قرأناه من حرف عاصم ورواية أبي عمرو {فنعمّا هي}، بكسر النون والعين، فهذا جيّد بالغ لأن ههنا كسر العين والنون،
وكذلك قراءة أهل الكوفة (نعمّا هي) جيدة لأن الأصل في نعم نعم ونعم. ونعم
فيها ثلاث لغات، ولا يجوز مع إدغام الميم نعمّا هي. و " ما " في تأويل -
الشيء زعم البصريون أن نعمّا هي: نعم الشيء هي. وقد فسرنا هذا فيما مضى.
ومعنى{وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير}:
هذا كان على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه
وسلم - فكان الإخفاء في إيتاء الزكاة أحسن، فأمّا اليوم فالناس يسيئون
الظن، فإظهار الزكاة أحسن، فأمّا التطوع فإخفاؤه أحسن، لأنه أدل على أنه
يريد اللّه به وحده.
يقال أخفيت الشيء إخفاء إذا سترته، وخفي خفاء إذا استتر، وخفيته أخفيه خفيا إذا أظهرته،
وأهل المدينة يسمون النبّاش: المختفي.
قال الشاعر في خفيته أظهرته:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه...وإن تبعثوا الحرب لا نقعد). [معاني القرآن: 1/353-355]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {إن تبدوا الصّدقات} الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس: «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا»، قال: «وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة»، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك»، وقال سفيان الثوري: «هذه الآية في التطوع»، وقال يزيد بن أبي حبيب: «إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر»، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: «أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل»، قال المهدوي: «وقيل
المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة
النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار
الفرض لئلا يظن بأحد المنع»، قال أبو محمد: «وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء»، وقال النقاش: «إن هذه الآية نسخها قوله تعالى:{الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً} [البقرة: 274]، وقوله:{فنعمّا هي}ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء»، واختلف القراء في قوله: {فنعمّا هي}،
فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل
«فنعمّا» بكسر النون وسكون «فنعمّا» بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر
وحمزة والكسائي «فنعمّا» بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو
علي: «من قرأ بسكون العين لم يستقم
قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك
عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو
دابة وضوال وشبهه»، ولعل أبا عمرو أخفى
الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء
إسكانا للطف، ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ «نعمّا» بكسر النون والعين
فحجته أن أصل الكلمة «نعم» بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون
ممن يقول «نعم» ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم
ملك وجسم ماجد، قال سيبويه: «نعما» بكسر النون والعين ليس على لغة من قال «نعم» فأسكن العين، ولكن على لغة من قال «نعم» فحرك العين»، وحدثنا أبو الخطاب: «أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال «نعما» ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين»، قال أبو علي: «وأما من قرأ «نعمّا» بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر:
ما أقلّت قدماي أنهم = نعم الساعون في الأمر المبر
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعم» بسكون العين، وقال المهدوي: «وذلك جائز محتمل، وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين»، قال أبو علي: «وما من قوله «نعما» في موضع نصب»،
وقوله هي تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير: نعم شيئا إبداؤها.
والإبداء هو المخصوص بالمدح، إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه،
ويدلك على هذا قوله فهو خيرٌ لكم أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا
للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء، وهو الذي اتصل به
الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه، واختلف القراء في قوله
تعالى: {ونكفّر عنكم}
فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: «ونكفر» بالنون ورفع
الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «ونكفر» بالنون والجزم في الراء، وروي
مثل ذلك أيضا عن عاصم، وقرأ ابن عامر: «ويكفر» بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن
عباس وتكفر بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة: وتكفر بالتاء وفتح
الفاء وجزم الراء، وقرأ الحسن: «ويكفر» بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش
أنه قرأ: ويكفّر بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش: «يكفر»
بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ:
«وتكفر» بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء
ونصب الراء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة»،
إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي
للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو
المكفر، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، تقدير ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني:
القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على
جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى: {فهو خيرٌ} إذ هو في موضع جزم جوابا للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ: {من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم}[الأعراف: 186] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل، وقال المهدوي: «هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام».
والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء
وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، ومن في
قوله: {من سيّئاتكم} للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: «من زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ»، وقوله: {واللّه بما تعملون خبيرٌ} وعد ووعيد). [المحرر الوجيز: 2/ 80-85]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي} أي: إن أظهرتموها فنعم شيءٌ هي.
وقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم}
فيه دلالةٌ على أنّ إسرار الصّدقة أفضل من إظهارها؛ لأنّه أبعد عن
الرّياء، إلّا أن يترتّب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ، من اقتداء النّاس به،
فيكون أفضل من هذه الحيثيّة، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصّدقة».
والأصل أنّ الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصّحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «سبعةٌ
يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في
عبادة اللّه، ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجلٌ قلبه
معلّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتّى يرجع إليه، ورجلٌ ذكر اللّه خاليًا ففاضت
عيناه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إنّي أخاف اللّه، ورجلٌ
تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوّام بن حوشبٍ، عن
سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم قال: «لمّا خلق اللّه الأرض جعلت
تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت، فتعجّبت الملائكة من خلق
الجبال، فقالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الجبال؟ قال: نعم،
الحديد. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الحديد؟ قال: نعم، النّار.
قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من النّار؟ قال: نعم، الماء. قالت:
يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الماء؟ قال: نعم، الرّيح. قالت: يا ربّ،
فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الرّيح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدّق بيمينه فيخفيها
من شماله».
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسيّ، عن أبي ذرٍّ قال: «قلت: يا رسول اللّه، أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: «سرٌّ إلى فقيرٍ، أو جهدٌ من مقل». رواه أحمد، ورواه ابن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذرٍّ فذكره. وزاد: «ثمّ نزع بهذه الآية:{إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم} الآية».
وفي الحديث المرويّ: «صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ، عزّ وجلّ».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا الحسين بن زيادٍ المحاربيّ مؤدّب محاربٍ، أخبرنا موسى بن عميرٍ، عن عامرٍ الشّعبيّ في قوله: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم} قال: «أنزلت
في أبي بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما، فأمّا عمر فجاء بنصف ماله حتّى دفعه
إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا عمر؟».
قال: خلّفت لهم نصف مالي، وأمّا أبو بكرٍ فجاء بماله كلّه يكاد أن يخفيه
من نفسه، حتّى دفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال له النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا أبا بكرٍ؟».
فقال: عدة اللّه وعدة رسوله. فبكى عمر، رضي اللّه عنه، وقال: بأبي أنت يا
أبا بكرٍ، واللّه ما استبقنا إلى باب خيرٍ قط إلا كنت سابقا.
وهذا الحديث مرويٌّ من وجهٍ آخر، عن عمر، رضي اللّه عنه. وإنّما أوردناه هاهنا لقول الشّعبيّ: «إنّ الآية نزلت في ذلك، ثمّ إنّ الآية عامّةٌ في أنّ إخفاء الصّدقة أفضل، سواءً كانت مفروضةً أو مندوبةً». لكن روى ابن جريرٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في تفسير هذه الآية، قال: «جعل
اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها، فقال: بسبعين ضعفًا. وجعل
صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها، فقال: بخمسةٍ وعشرين ضعفًا».
وقوله: {ويكفّر عنكم من سيّئاتكم}
أي: بدل الصّدقات، ولا سيّما إذا كانت سرًّا يحصل لكم الخير في رفع
الدّرجات ويكفّر عنكم السّيّئات، وقد قرئ: "ويكفّر عنكم" بالضّمّ، وقرئ:
"ونكفّر" بالجزم، عطفًا على جواب الشّرط، وهو قوله: {فنعمّا هي} كقوله: {فأصّدق وأكن}.
وقوله: {واللّه بما تعملون خبيرٌ} أي: لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ، وسيجزيكم عليه سبحانه وبحمده ). [تفسير ابن كثير: 1/ 701-703]
* للاستزادة ينظر: هنا