الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (272) إلى الآية (274) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

3996

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم التاسع عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (272) إلى الآية (274) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

3996

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}



تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلّا ابتغاء وجه اللّه وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}معناه: إنما عليك الإبلاغ كما قال - جلّ وعزّ - {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
ومعنى {ولكنّ اللّه يهدي من يشاء}أي: يوفق من يشاء للهداية، وقال قوم: لو شاء الله لهداهم أي لاضطرهم إلى أن يهتدوا - كما قال: {إن نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين}، وكما قال - عزّ وجلّ - {ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى}
وهذا ليس كذلك. هذا فيه: {ولكنّ اللّه يهدي من يشاء} فلا مهتدي إلا بتوفيق الله - كما قال: {وما توفيقي إلاّ باللّه}.
ومعنى {وما تنفقون إلّا ابتغاء وجه اللّه}: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم أنه قد علم أنهم يريدون بنفقتهم ما عند اللّه جلّ وعزّ، لأنه إذا أعلمهم ذلك فقد علموا أنهم مثابون عليه، كما قال: {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}.
وقوله عزّ وجلّ: {فهو خير لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم}.
الرفع في {يكفّر} والجزم جائزان، ويقرأ - ونكفر عنكم - بالنون والياء.
وزعم سيبويه أنه يختار الرفع في ويكفر، قال لأن ما بعد الفاء قد صار بمنزلته في غير الجزاء، وأجاز الجزم على موضع فهو خير لكم لأن المعنى يكن خيرا لكم،
وذكر أن بعضهم قرأ:
{من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم} بجزم الراء، والاختيار عنده الرفع في قوله {ويذرهم} وفي {ونكفّر} قال: فأمّا النصب فضعيف جدا، لا يجيز {ونكفّر عنكم} إلا على جهة الاضطرار، وزعم أنه نحو قول الشاعر:
سأترك منزلي لبني تميم... وألحق بالحجاز فأستريحا
إلا أن النصب أقوى قليلا: لأنه إنّما يجب به الشيء بوجوب غيره فضارع الاستفهام وما أشبهه.
هذا قول جميع البصريين وهو بين واضح). [معاني القرآن: 1/355-356]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه اللّه وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون (272)}
روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية: «أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم»، فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام»، وذكر النقاش: «أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك في صدقة المسلمين من شيء»، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية: {ليس عليك هداهم} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية {إنّما الصّدقات}[التوبة: 60]» وروي عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وحكى بعض المفسرين أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا، فنزلت الآية في ذلك، وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله: {ليس عليك هداهم} قال أبو محمد: «وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع. وأما المفروضة فلا يجزي دفعها لكافر»، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قال ابن المنذر: «أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم ذكر جماعة ممن نص على ذلك، ولم يذكر خلافا»، وقال المهدوي: «رخص للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا مردود عندي، والهدى الذي ليس على محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية»، ثم أخبر تعالى أنه هو: يهدي من يشاء أي يرشده، وفي هذا رد على القدرية وطوائف المعتزلة، ثم أخبر أن نفقة المرء تأجرا إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت، ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى: {وما تنفقون إلّا ابتغاء وجه اللّه} وفيه تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله ابتغاء هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه شيئا، فيكون ذلك أبخس ظلما لهم، وهذا هو بيان قوله: {وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم} والخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: {خيرٌ مستقرًّا}[الفرقان: 24] وقوله تعالى: {مثقال ذرّةٍ خيراً يره}[الزلزلة: 7] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله فهو المال). [المحرر الوجيز: 2/ 85-87]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون (272) للفقراء الّذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون النّاس إلحافًا وما تنفقوا من خيرٍ فإنّ اللّه به عليمٌ (273) الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (274)}
قال أبو عبد الرّحمن النّسائيّ: أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد الرّحيم، أخبرنا الفريابي، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياسٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال:
«كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرخّص لهم، فنزلت هذه الآية: {ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون}» ،وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك، وأبو أحمد الزّبيريّ، وأبو داود الحفري، عن سفيان -وهو الثّوريّ -به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا أحمد بن القاسم بن عطيّة، حدّثني أحمد بن عبد الرّحمن -يعني الدّشتكيّ -حدّثني أبي، عن أبيه، حدّثنا أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
«أنّه كان يأمر بألّا يتصدق إلّا على أهل الإسلام، حتّى نزلت هذه الآية: {ليس عليك هداهم} إلى آخرها، فأمر بالصّدقة بعدها على كلّ من سألك من كلّ دينٍ». وسيأتي عند قوله تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم} الآية [الممتحنة:8] حديث أسماء بنت الصّديق في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
وقوله:
{وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم} كقوله: {من عمل صالحًا فلنفسه}[فصّلت: 46، الجاثية: 15] ونظائرها في القرآن كثيرةٌ.
وقوله:
{وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه} قال الحسن البصريّ: «نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن -إذا أنفق -إلّا ابتغاء وجه اللّه».
وقال عطاءٌ الخراسانيّ:
«يعني إذا أعطيت لوجه اللّه، فلا عليك ما كان عمله» وهذا معنًى حسنٌ، وحاصله أنّ المتصدّق إذا تصدّق ابتغاء وجه اللّه فقد وقع أجره على اللّه، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: ألبرّ أو فاجرٍ أو مستحقٍّ أو غيره، هو مثابٌ على قصده، ومستند هذا تمام الآية: {وما تنفقوا من خيرٍ يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} والحديث المخرّج في الصّحيحين، من طريق أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «قال رجلٌ: لأتصدّقنّ اللّيلة بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانيةٍ، فأصبح النّاس يتحدّثون: تصدق على زانيةٍ! فقال: اللّهمّ لك الحمد على زانيةٍ، لأتصدّقنّ اللّيلة بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيٍّ، فأصبحوا يتحدّثون: تصدق اللّيلة على غني! فقال: اللّهمّ لك الحمد على غنيٍّ، لأتصدّقنّ اللّيلة بصدقةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدّثون: تصدق اللّيلة على سارقٍ! فقال: اللّهمّ لك الحمد على زانيةٍ، وعلى غنيٍّ، وعلى سارقٍ، فأتي فقيل له: أمّا صدقتك فقد قبلت؛ وأمّا الزّانية فلعلّها أن تستعفّ بها عن زناها، ولعلّ الغنيّ يعتبر فينفق ممّا أعطاه اللّه، ولعلّ السّارق أن يستعفّ بها عن سرقته» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 703-704]


تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {للفقراء الّذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون النّاس إلحافا وما تنفقوا من خير فإنّ اللّه به عليم}
فقراء: جمع فقير مثل ظريف وظرفاء.
وقالوا في (أحصروا)
قولين:
1- قالوا أحصرهم فرض الجهاد فمنعهم من التصرف.
2- وقالوا أحصرهم عدوهم لأنه شغلهم بجهاده، ومعنى {أحصروا}: صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد، كما تقول رابط في سبيل اللّه.
ومعنى{لا يستطيعون ضربا في الأرض}أي: قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التصرف وليس لأنهم لا يقدرون أن يتصرفوا.
وهذا كقولك، أمرني المولى أن أقيم فما أقدر على أن أبرح، فالمعنى أني قد ألزمت نفسي طاعته، ليس أنه لا يقدر على الحركة " وهو صحيح سوي، ويقال ضربت في الأرض ضربا، وضرب الفحل الناقة إذا حمل عليها ضرابا، والضريب الجليد الذي يسقط على الأرض، يقال ضربت الأرض وجلدت الأرض وجلدت الأرض.

وروى الكسائي: ضربت الأرض وجلدت.
والأكثر ضربت وجلدات.
ومعنى {يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف}أي: يحسبهم الجاهل ويخالهم أغنياء من التعفف عن المسألة وإظهار التجمل.
ومعنى {لا يسألون النّاس إلحافا}:
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال ((من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف)) ومعنى ألحف أي: اشتمل بالمسألة، وهو مستغن عنها، واللّحاف من هذا اشتقاقه لأنه يشمل الإنسان في التغطية.
والمعنى: أنه ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف.
كما قال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره... إذا سافه العود النباطيّ جرجرا
المعنى: ليس به منار فيهتدى بها، وكذلك ليس من هؤلاء سؤال فيقع فيه إلحاف). [معاني القرآن: 1/356-357]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {للفقراء الّذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون النّاس إلحافاً وما تنفقوا من خيرٍ فإنّ اللّه به عليمٌ (273)}
هذه اللام في قوله للفقراء متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء، وقال مجاهد والسدي وغيرهما: «المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم»، قال الفقيه أبو محمد: «ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم»، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم، بقوله: {الّذين أحصروا في سبيل اللّه} والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو. وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار. وحصر بالعدو. وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري. وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا أحصروا به.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار المانعة «تحصر» بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به»، وقوله: {في سبيل اللّه} يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام، واللفظ يتناولهما، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد. وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يحسبهم الجاهل بباطن أحوالهم أغنياء والتّعفّف تفعل، وهو بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسبهم» بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في كل القرآن، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في كل القرآن، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك، قال أبو علي: «فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس»، ومن في قوله: {من التّعفّف} لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى:{لا يسئلون النّاس إلحافاً}: المعنى لا يسألون البتة. وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول: السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر:

... ... ... ... ....... له سيمياء لا تشقّ على البصر

واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون، فقال مجاهد: «هي التخشع والتواضع»، وقال السدي والربيع: «هي جهد الحاجة وقضف الفقر في وجوههم وقلة النعمة»، وقال ابن زيد: «هي رثة الثياب»، وقال قوم، وحكاه مكي: «هي أثر السجود». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا»، و«الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم: هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية، ومنه اللحاف، ومنه قول ابن الأحمر:

يظلّ يحفّهنّ بقفقفيه ....... ويلحفهنّ هفهافا ثخينا

يصف ذكر نعام يحضن بيضا، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما: «إلى أن المعنى: لا يسألون البتة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط،أما الأولىفعلى أن يكون التّعفّف صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون من لابتداء الغاية ويكون قوله: لا يسئلون النّاس إلحافاً لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين، فقولك: «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه.وأما المعنى الثانيفعلى أن يكون التّعفّف داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل هو قليل».
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف من لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج رحمه الله: «المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف». وهذا كما قال امرؤ القيس:

على لاحب لا يهتدى بمناره ....... ... ... ... ...

أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله:

على لاحب لا يهتدى بمناره ....... ... ... ... ...

وقوله الآخر:

قف بالطّلول التي لم يعفها القدم ....... ... ... ... ...

وقول الشاعر:

ومن خفت من جوره في القضا ....... ء فما خفت جورك يا عافيه

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان المنار موجودا، فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذا لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذا لا يكون خوف، وقوله تعالى: {لا يسئلون النّاس إلحافاً}، لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله: إلحافاً جزءا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت تكسبا أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان».
وقوله تعالى: {وما تنفقوا من خيرٍ فإنّ اللّه به عليمٌ} وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب). [المحرر الوجيز: 2/ 87-93]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {للفقراء الّذين أحصروا في سبيل اللّه} يعني: المهاجرين الّذين قد انقطعوا إلى اللّه وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سببٌ يردّون به على أنفسهم ما يغنيهم و {لا يستطيعون ضربًا في الأرض} يعني: سفرًا للتّسبّب في طلب المعاش. والضّرب في الأرض: هو السّفر؛ قال اللّه تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة}[النّساء: 101]، وقال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه} الآية [المزّمّل: 20].
وقوله:
{يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف} أي: الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعفّفهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. وفي هذا المعنى الحديث المتّفق على صحّته، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتّمرتان، واللّقمة واللّقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكنّ المسكين الّذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل النّاس شيئًا». وقد رواه أحمد، من حديث ابن مسعودٍ أيضًا.
وقوله:
{تعرفهم بسيماهم} أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال اللّه تعالى: {سيماهم في وجوههم}[الفتح: 29]، وقال: {ولتعرفنّهم في لحن القول}[محمّدٍ: 30]. وفي الحديث الّذي في السّنن: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه»، ثمّ قرأ: {إنّ في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين}[الحجر: 75].
وقوله:
{لا يسألون النّاس إلحافًا} أي: لا يلحون في المسألة ويكلّفون النّاس ما لا يحتاجون إليه، فإنّ من سأل وله ما يغنيه عن السّؤال، فقد ألحف في المسألة؛ قال البخاريّ: حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شريك بن أبي نمرٍ: أنّ عطاء بن يسار وعبد الرّحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ قالا سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليس المسكين الّذي تردّه التّمرة والتّمرتان، ولا اللّقمة واللّقمتان، إنّما المسكين الّذي يتعفّف؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله-:{لا يسألون النّاس إلحافًا}».
وقد رواه مسلم، من حديث إسماعيل بن جعفرٍ المدينيّ، عن شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر، عن عطاء بن يسارٍ -وحده -عن أبي هريرة، به.
وقال أبو عبد الرّحمن النّسائيّ: أخبرنا عليّ بن حجرٍ، حدّثنا إسماعيل، أخبرنا شرّيكٌ -وهو ابن أبي نمرٍ -عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«ليس المسكين الّذي تردّه التّمرة والتّمرتان، واللّقمة واللّقمتان، إنّما المسكين المتعفّف؛ اقرؤوا إن شئتم:{لا يسألون النّاس إلحافًا}».
وروى البخاريّ من حديث شعبة، عن محمّد بن زيادٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، نحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئبٍ، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«ليس المسكين بالطّوّاف عليكم، فتطعمونه لقمةً لقمةً، إنّما المسكين المتعفّف الّذي لا يسأل النّاس إلحافًا».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني معتمرٌ، عن الحسن بن ماتك عن صالح بن سويدٍ، عن أبي هريرة قال:
«ليس المسكين الطّوّاف الّذي تردّه الأكلة والأكلتان، ولكنّ المسكين المتعفّف في بيته، لا يسأل النّاس شيئًا تصيبه الحاجة؛ اقرؤوا إن شئتم:{لا يسألون النّاس إلحافًا}».
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا أبو بكر الحنفيّ، حدّثنا عبد الحميد بن جعفرٍ، عن أبيه، عن رجلٍ من مزينة، أنّه قالت له أمّه:
«ألا تنطلق فتسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه سلّم كما يسأله النّاس؟ فانطلقت أسأله، فوجدته قائمًا يخطب، وهو يقول: «ومن استعفّ أعفّه اللّه، ومن استغنى أغناه اللّه، ومن يسأل النّاس وله عدل خمس أواقٍ فقد سأل النّاس إلحافًا». فقلت بيني وبين نفسي: لناقةٌ لي خيرٌ من خمس أواقٍ، ولغلامه ناقةٌ أخرى فهي خيرٌ من خمس أواقٍ فرجعت ولم أسأل».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي الرّجال، عن عمارة بن غزيّة، عن عبد الرّحمن بن أبي سعيدٍ، عن أبيه قال: سرّحتني أمّي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أسأله، فأتيته فقعدت، قال: فاستقبلني فقال:
«استغنى أغناه اللّه، ومن استعفّ أعفّه اللّه، ومن استكفّ كفاه اللّه، ومن سأل وله قيمة أوقيّةٍ فقد ألحف». قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خيرٌ من أوقيّةٍ. فرجعت ولم أسأله.
وهكذا رواه أبو داود والنّسائيّ، كلاهما عن قتيبة. زاد أبو داود: وهشام بن عمّارٍ كلاهما عن عبد الرّحمن بن أبي الرّجال بإسناده، نحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الجماهير، حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي الرّجال، عن عمارة بن غزيّة، عن عبد الرّحمن بن أبي سعيدٍ قال: قال أبو سعيدٍ الخدريّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«من سأل وله قيمة وقيّةٍ فهو ملحفٌ» والوقيّة: أربعون درهمًا.
وقال أحمد: حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسارٍ، عن رجلٍ من بني أسدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«من سأل وله أوقيّةٌ -أو عدلها -فقد سأل إلحافًا».
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا سفيان، عن حكيم بن جبيرٍ، عن محمّد بن عبد الرّحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا -أو كدوحًا -في وجهه». قالوا: يا رسول اللّه، وما غناه؟ قال: «خمسون درهمًا، أو حسابها من الذّهب».
وقد رواه أهل السّنن الأربعة، من حديث حكيم بن جبيرٍ الأسديّ الكوفيّ. وقد تركه شعبة بن الحجّاج، وضعّفه غير واحدٍ من الأئمّة من جرّاء هذا الحديث.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الحضرميّ، حدّثنا أبو حصينٍ عبد اللّه بن أحمد بن يونس، حدّثني أبي، حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، عن هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين قال:
«بلغ الحارث-رجلًا كان بالشّام من قريشٍ -أنّ أبا ذرٍّ كان به عوزٌ، فبعث إليه ثلاثمائة دينارٍ، فقال: ما وجد عبد اللّه رجلًا هو أهون عليه منّي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل وله أربعون فقد ألحف» ولآل أبي ذرٍّ أربعون درهمًا وأربعون شاةً وماهنان». قال أبو بكر بن عيّاشٍ: يعني خادمين.
وقال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن محمّدٍ، أنبأنا عبد الجبّار، أخبرنا سفيان، عن داود بن سابور، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«من سأل وله أربعون درهمًا فهو ملحف، وهو مثل سفّ الملّة» يعني: الرّمل. ورواه النّسائيّ، عن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان -وهو ابن عيينة -بإسناده نحوه.
قوله:
{وما تنفقوا من خيرٍ فإنّ اللّه به عليمٌ} أي: لا يخفى عليه شيءٌ منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمّه يوم القيامة، أحوج ما يكونون إليه). [تفسير ابن كثير: 1/ 704-707]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
{الذين} رفع بالابتداء، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاء، ولا يجوز في الكلام " زيد فمنطلق " لأن الفاء لا معنى لها -، وإنما صلح في الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء). [معاني القرآن: 1/358]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (274) الّذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الّذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الرّبا وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى اللّه ومن عاد فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (275)}
قال ابن عباس: «نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية»، وقال ابن جريج: «نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم عليا ولا غيره»، وقال ابن عباس أيضا: «نزلت هذه الآية في علف الخيل»، وقاله عبد الله بن بشر الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا: «هي في علف الخيل والمرتبطة في السبيل»، وقال قتادة: «هذه الآية في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير».
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: «والآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولا محكما، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية».
وقال ابن عباس رضي الله عنه: «كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله:{إن تبدوا الصّدقات}[البقرة: 271]إلى قوله:{ولا هم يحزنون}[البقرة: 274]فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها»، وقد تقدم القول على نفي الخوف والحزن، والفاء في قوله: {فلهم} دخلت لما في الّذين من الإبهام، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط. فحسنت الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط، وإنما يوجد الشبه إذا كان الذي موصولا بفعل وإذا لم يدخل على «الذي» عامل يغير معناه، فإن قلت: الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو، بل تلبس المعنى، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء مدخل في المعنى، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى، وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد: لا يقومون). [المحرر الوجيز: 2/ 93-95]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} هذا مدحٌ منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ، والأحوال من سرٍّ وجهارٍ، حتّى إنّ النّفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا، كما ثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لسعد بن أبي وقّاصٍ -حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي روايةٍ عام حجّة الوداع-: «وإنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللّه إلّا ازددت بها درجةً ورفعةً، حتّى ما تجعل في في امرأتك».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ وبهز قالا حدّثنا شعبة، عن عديّ بن ثابتٍ قال: سمعت عبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ، يحدّث عن أبي مسعودٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّه قال:
«إنّ المسلم إذا أنفق على أهله نفقةً يحتسبها كانت له صدقةً» أخرجاه من حديث شعبة، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا سليمان بن عبد الرّحمن، حدّثنا محمّد بن شعيبٍ، قال: سمعت سعيد بن يسارٍ، عن يزيد بن عبد اللّه بن عريبٍ المليكيّ، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«نزلت هذه الآية:{الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}في أصحاب الخيل».
وقال حنشٌ الصّنعانيّ: عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية، قال:
«هم الّذين يعلفون الخيل في سبيل اللّه». رواه ابن أبي حاتمٍ، ثمّ قال: «وكذا روي عن أبي أمامة، وسعيد بن المسيّب، ومكحولٍ».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، أخبرنا يحيى بن يمانٍ، عن عبد الوهّاب بن مجاهد بن جبرٍ، عن أبيه قال:
«كان لعليٍّ أربعة دراهم، فأنفق درهمًا ليلًا ودرهمًا نهارًا، ودرهمًا سرًّا، ودرهمًا علانيةً، فنزلت:{الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً}»
وكذا رواه ابن جريرٍ من طريق عبد الوهّاب بن مجاهدٍ، وهو ضعيفٌ. ولكن رواه ابن مردويه من وجهٍ آخر، عن ابن عبّاسٍ:
«أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالبٍ».
وقوله:
{فلهم أجرهم عند ربّهم} أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطّاعات {ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} تقدّم تفسيره). [تفسير ابن كثير: 1/ 707-708]


* للاستزادة ينظر: هنا