الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (285) إلى الآية (286) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

6721

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم العشرون

تفسير سورة البقرة [من الآية (285) إلى الآية (286) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

6721

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}



تفسير قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير}
أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون.
{كلّ آمن باللّه} أي: صدق بالله وملائكته وكتبه.
- وقرأ ابن عباس - وكتابه وقرأته جماعة من القراء.
فأمّا كتب فجمع كتاب، مثل: مثال ومثل، وحمار وحمر.
وقيل لابن عباس في قراءته " وكتابه " فقال: كتاب أكثر من كتب.
ذهب به إلى اسم الجنس
كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس.
ومعنى {لا نفرّق بين أحد من رسله} أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا. الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، نحو كفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بغيره فأخبر عن المؤمنين أنهم يقولون {لا نفرّق بين أحد من رسله}.
وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا سمعنا وأطعنا}أي: " سمعنا " سمع قابلين. و {أطعنا}: قبلنا ما سمعنا، لأن من سمع فلم يعمل قيل له أصم - كما قال جلّ وعزّ: (صمّ بكم عمي). ليس لأنهم لا يسمعون ولكنهم صاروا - في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع قال الشاعر:
أصمّ عمّا ساءه سميع
ومعنى {غفرانك ربّنا وإليك المصير} أي: أغفر غفرانك، وفعلان، من أسماء المصادر نحو السّلوان والكفران.
ومعنى {وإليك المصير} أي: نحن مقرون بالبعث). [معاني القرآن: 1/368-369]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير (285)}
سبب هذه الآية أنه لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية التي قبلها. وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر الأمر على أن قالوا سمعنا وأطعنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله عاذنا الله من نقمه، وآمن معناه صدق، والرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه من ربّه هو القرآن وسائر ما أوحي إليه، من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه قال: «ويحق له أن يؤمن»، وقرأ ابن مسعود «وآمن المؤمنون»، وكلٌّ لفظة تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام، ولما وردت هنا بعد قوله والمؤمنون دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر.
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه.
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم.
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما أخبر هو به، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «وكتبه» على الجمع، وقرؤوا في التحريم و «كتابه» على التوحيد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه» على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه» على التوحيد فيهما، وروى حفص عن عاصم هاهنا وفي التحريم «وكتبه» مثل أبي عمرو، وروى خارجة عن نافع مثل ذلك، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي وهو كما قالوا: نسج اليمن، وقال أبو علي في صدر كلامه: «أما الإفراد في قول من قرأ «وكتابه» فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير، كقوله تعالى: {وادعوا ثبوراً كثيراً}[الفرقان: 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة، كقولهم: كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك، فإن قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه مضافة، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها}[إبراهيم: 34] وفي الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها»، فهذا يراد به الكثير كما يراد بما فيه لام التعريف، ومنه قول ابن الرقاع:

يدع الحيّ بالعشيّ رعاها = وهم عن رغيفهم أغنياء

ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، وقرأت الجماعة «ورسله» بضم السين، وكذلك «رسلنا» و «رسلكم» و «رسلك» إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا» و «رسلكم»، وروي عنه في «رسلك» التثقيل والتخفيف، قال أبو علي من قرأ «على رسلك» بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتبه ورسله» بسكون التاء والسين، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله»، وقرأ جمهور الناس «لا نفرق» بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، وقرأ سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب «لا يفرق» بالياء، وهذا على لفظ كلٌّ، قال هارون وهي في حرف ابن مسعود «لا يفرقون»، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وقوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا} مدح يقتضي الحض على هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة قبول الأوامر، وغفرانك مصدر كالكفران والخسران، ونصبه على جهة نصب المصادر، والعامل فيه فعل مقدر، قال الزجّاج تقديره اغفر غفرانك، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك، وإليك المصير إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: «قال له جبريل: يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل إلى آخر السورة» ) . [المحرر الوجيز: 2/ 135-138]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير (285) لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)} ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا اللّه بهما.
الحديث الأوّل: قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن كثيرٍ، أخبرنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن عبد الرّحمن، عن أبي مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من قرأ بالآيتين»، وحدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا سفيان، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن أبي مسعودٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه».
وقد أخرجه بقيّة الجماعة من طريق سليمان بن مهران الأعمش، بإسناده، مثله. وهو في الصّحيحين من طريق الثّوريّ، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن عبد الرّحمن، عنه، به. وهو في الصّحيحين أيضًا عن عبد الرّحمن، عن علقمة عن أبي مسعودٍ -قال عبد الرّحمن: ثمّ لقيت أبا مسعودٍ، فحدّثني به.
وهكذا رواه أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا شريكٌ، عن عاصمٍ، عن المسيّب بن رافعٍ، عن علقمة، عن أبي مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال:
«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه».
الحديث الثّاني: قال الإمام أحمد: حدّثنا حسينٌ، حدّثنا شيبان، عن منصورٍ، عن ربعي، عن خرشة بن الحر، عن المعرور بن سويدٍ، عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش، لم يعطهنّ نبيٌّ قبلي».
وقد رواه ابن مردويه، من حديث الأشجعيّ، عن الثّوريّ، عن منصورٍ، عن ربعي، عن زيد بن ظبيان، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش».
الحديث الثّالث: قال مسلمٌ: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا مالك بن مغول (ح) وحدّثنا ابن نمير، وزهير بن حربٍ جميعًا، عن عبد اللّه بن نمير -وألفاظهم متقاربةٌ -قال ابن نميرٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مالك بن مغول، عن الزّبير بن عديٍّ عن طلحة، عن مرة، عن عبد اللّه، قال: «لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السّماء السّادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال:{إذ يغشى السّدرة ما يغشى}[النّجم: 16]، قال: فراش من ذهبٍ. قال: وأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثًا: أعطي الصّلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك باللّه من أمّته شيئًا المقحمات».
الحديث الرّابع: قال أحمد: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الرّازيّ، حدّثنا سلمة بن الفضل، حدّثني محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مرثد بن عبد اللّه اليزنيّ، عن عقبة بن عامرٍ الجهنيّ قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإنّي أعطيتهما من تحت العرش». هذا إسنادٌ حسنٌ، ولم يخرّجوه في كتبهم.
الحديث الخامس: قال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن كاملٍ، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، أخبرنا مسدّد أخبرنا أبو عوانة، عن أبي مالكٍ، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فضّلنا على النّاس بثلاثٍ، أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش، لم يعطها أحدٌ قبلي، ولا يعطاها أحدٌ بعدي». ثمّ رواه من حديث نعيم بن أبي هنديٍّ، عن ربعيٍّ، عن حذيفة، بنحوه.
الحديث السّادس: قال ابن مردويه: حدّثنا عبد الباقي بن نافعٍ، أنبأنا إسماعيل بن الفضل، أخبرنا محمّد بن حاتم بن بزيع، أخبرنا جعفر بن عونٍ، عن مالك بن مغول، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليٍّ قال: «لا أرى أحدًا عقل الإسلام ينام حتّى يقرأ خواتيم سورة البقرة، فإنّها كنزٌ أعطيه نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم من تحت العرش».
ورواه وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمير بن عمرٍو الخارفيّ، عن عليٍّ قال:
«ما أرى أحدًا يعقل، بلغه الإسلام، ينام حتّى يقرأ آية الكرسيّ وخواتيم سورة البقرة، فإنّها من كنزٍ تحت العرش».
الحديث السّابع: قال أبو عيسى التّرمذيّ: حدّثنا بندار، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن أشعث بن عبد الرّحمن الجرمي عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصّنعانيّ، عن النّعمان بن بشيرٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عامٍ، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأن في دارٍ ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ». ثمّ قال: هذا حديثٌ غريبٌ. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حمّاد بن سلمة به، وقال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه .
الحديث الثّامن: قال ابن مردويه: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد بن مدين، أخبرنا الحسن بن الجهم، أخبرنا إسماعيل بن عمرٍو، أخبرنا ابن أبي مريم، حدّثني يوسف بن أبي الحجّاج، عن سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسيّ ضحك، وقال: «إنّهما من كنز الرّحمن تحت العرش». وإذا قرأ: {من يعمل سوءًا يجز به}[النّساء: 123]، {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأنّ سعيه سوف يرى * ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى}[النّجم:39-41]، استرجع واستكان».
الحديث التّاسع: قال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن كوفيٍّ، حدّثنا أحمد بن يحيى بن حمزة، حدّثنا محمّد بن بكرٍ حدّثنا مكّيّ بن إبراهيم، حدّثنا عبد اللّه بن أبي حميدٍ، عن أبي مليح، عن معقل بن يسارٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، والمفصل نافلة».
الحديث العاشر: قد تقدّم في فضائل الفاتحة، من رواية عبد اللّه بن عيسى بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السّماء، فقال: هذا بابٌ قد فتح من السّماء ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفًا منهما إلّا أوتيته»، رواه مسلمٌ والنّسائيّ، وهذا لفظه.
الحديث الحادي عشر: قال أبو محمّدٍ عبد اللّه بن عبد الرّحمن الدّارميّ في مسنده: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان، حدّثنا أيفع بن عبد اللّه الكلاعيّ قال: «قال رجلٌ: يا رسول اللّه، أيّ آيةٍ في كتاب اللّه أعظم؟ قال: «آية الكرسيّ:{اللّه لا إله إلا هو الحيّ القيّوم} قال: فأيّ آيةٍ في كتاب اللّه تحبّ أن تصيبك وأمّتك؟ قال: «آخر سورة البقرة، ولم يترك خيرًا في الدّنيا والآخرة إلّا اشتملت عليه».
فقوله تعالى:
{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه} إخبارٌ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا بشرٌ، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال:
«ذكر لنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمّا نزلت هذه الآية: «ويحقّ له أن يؤمن».
وقد روى الحاكم في مستدركه: حدّثنا أبو النّضر الفقيه: حدّثنا معاذ بن نجدة القرشيّ، حدّثنا خلّاد بن يحيى، حدّثنا أبو عقيلٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال:
«لمّا نزلت هذه الآية على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه} قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «حقّ له أن يؤمن». ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه..
وقوله:
{والمؤمنون} عطفٌ على {الرّسول} ثمّ أخبر عن الجميع فقال: {كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله} فالمؤمنون يؤمنون بأنّ اللّه واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، لا إله غيره، ولا ربّ سواه. ويصدّقون بجميع الأنبياء والرّسل والكتب المنزّلة من السّماء على عباد اللّه المرسلين والأنبياء، لا يفرّقون بين أحدٍ منهم، فيؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعضٍ بإذن اللّه، حتّى نسخ الجميع بشرع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين، الّذي تقوم السّاعة على شريعته، ولا تزال طائفةٌ من أمّته على الحقّ ظاهرين.
وقوله:
{وقالوا سمعنا وأطعنا} أي: سمعنا قولك يا ربّنا، وفهمناه، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه، {غفرانك ربّنا} سؤالٌ للغفر والرّحمة واللّطف.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قول اللّه:
{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون} إلى قوله: {غفرانك ربّنا} قال: «قد غفرت لكم»، {وإليك المصير} أي: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ، عن بيانٍ، عن حكيمٍ عن جابرٍ قال:
«لمّا نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير}قال جبريل: إنّ اللّه قد أحسن الثّناء عليك وعلى أمّتك، فسل تعطه. فسأل:{لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها} إلى آخر الآية). [تفسير ابن كثير: 1/ 733-737]


تفسير قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {لا يكلّف اللّه نفسا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}
{لا يكلّف اللّه نفسا إلّا وسعها}أي: إلا قدر طاقتها، لا يكلفها فرضا من فروضه من صوم أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك إلا بمقدار طاقتها.
ومعنى {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}أي: لا يؤاخذ أحدا - بذنب غيره - كما قال - جلّ وعزّ: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
ومعنى (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)قيل فيه قولان:
1- قال بعضهم إنه على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((عفي لهذه الأمة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها))
2- وقيل: (إن نسينا أو أخطأنا) أي: إن تركنا.
و (أو أخطانا)أي: كسبنا خطيئة واللّه أعلم.
إلا أن هذا الدعاء أخبر اللّه به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وجعله في كتابه نيكون دعاء من يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رحمهم اللّه.
وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللّه - جلّ وعزّ - قال في كل فصل من هذا الدعاء [فعلت فعلت] أي استجبت.
فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ وأن يدعى به كثيرا.
وقوله جلّ وعزّ: (ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا).
كل عقد من قرابة أو عهد فهو إصر، العرب تقول: ما تأصرني على فلان آصرة. أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة قال الحطيئة:
عطفوا عليّ بغير آصرة... فقد عظم الأواصر
أي: عطفوا على بغير عهد قرابة، والمأصر من هذا مأخوذ إنما هو عقد ليحبس به، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء الإصار.
فالمعنى: لا تحمل علينا أمرا يثقل كما حملته على الذين من قبلنا نحو ما أمر به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، أي لا تمتحنا بما يثقل.
(أيضا) نحو قوله:
{ولولا أن يكون النّاس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرّحمن لبيوتهم سقفا من فضّة} والمعنى: لا تمتحنا بمحنة تثقل.
ومعنى {ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}أي: ما يثقل علينا، فإن قال قائل - فهل يجوز أن يحمّل اللّه أحدا ما لا يطيق؟
قيل له: إد أردت ما ليس في قدرته ألبتّة فهذا محال.
وإن أردت ما يثقل ويخسف فللّه عزّ وجلّ أن يفعل من ذلك ما أحب.
لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم (يثقل)، وهذا كقول القائل: ما أطيق كلام فلان، فليس المعنى ليس في قدرتي أن كلّمه ولكن معناه في اللغة أنه يثقل عليّ.
ومعنى (فانصرنا على القوم الكافرين) أي: أنصرنا عليهم في إقامة الحجة عليهم، وفي غلبنا إياهم في حربهم وسائر أمرهم، حتى تظهر ديننا على الدّين كلّه كما وعدتنا). [معاني القرآن: 1/369-371]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الّذين من قبلنا ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)}
قوله تعالى: {لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها} خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضا يدفعه اللفظ، ولذلك ساغ الخلاف.
وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[البقرة: 185] وقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ}[الحج: 78] وقوله: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}[التغابن: 16].
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث».
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة {تبّت يدا أبي لهبٍ}[المسد: 1]، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى: {سيصلى ناراً}[المسد: 3] إنما معناه إن وافى على كفره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وما لا يطاق ينقسم أقساما: فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير»، ويكلّف يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئا، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وسعها» بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قال: {وسع كرسيّه السّماوات والأرض}[البقرة: 255] وكما قال: {وسع كلّ شيءٍ علماً}[طه: 98] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر.
وقوله تعالى: «{لها ما كسبت}يريد من الحسنات،{وعليها ما اكتسبت}يريد من السيئات»، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب لها من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب عليها، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول لي مال وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليّ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام. كما قال: {فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً}[الطلاق: 17] هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى، وقال المهدوي وغيره: «وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه الآية».
وقوله تعالى: {ربّنا لا تؤاخذنا} معناه قولوا في دعائكم. واختلف الناس في معنى قوله: {نسينا أو أخطأنا} فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك، أي إن تركنا شيئا من طاعتك وأنه الخطأ المقصود. قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضوع عن المرء، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها»، وقال السدي: «لما نزلت هذه الآية فقالوها قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد فعل الله ذلك يا محمد».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فظاهر قوليهما ما صححته، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى:{يحاسبكم به اللّه}[البقرة: 284]أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ»، «والإصر» الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك ما لا طاقة لنا به من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره. وأما لفظة «أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد، قال قتادة: «الإصر العهد والميثاق الغليظ». وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء: «الإصر المسخ قردة وخنازير». وقال ابن زيد أيضا: «الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه». وقال مالك رحمه الله: الإصر: «الأمر الغليظ الصعب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام أو قرابة أو عهد ونحوه، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه»، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، والقد يضم عضدي الرجل يقال أصر يأصر أصرا والإصر بكسر الهمزة من ذلك، وفي هذا نظر. وروي عن عاصم أنه قرأ أصرا بضم الهمزة، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود. قال الضحاك: «والنصارى» ، وأما عبارات المفسرين في قوله: {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} فقال قتادة: «لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا». وقال الضحاك: «لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق»، وقال نحوه ابن زيد، وقال ابن جريج: «لا تمسخنا قردة وخنازير»، وقال سلام بن سابور: «الذي لا طاقة لنا به الغلمة»، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: «وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة»، وقال السدي: «هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم»، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: {واعف عنّا} أي فيما واقعناه وانكشف واغفر لنا أي استر علينا ما علمت منا وارحمنا أي تفضل مبتدئا برحمة منك لنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحدا وهو دخول الجنة»، و{أنت مولانا} مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات.
وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: «قل ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فقالها فقال جبريل قد فعل، فقال: قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل: قد فعل إلى آخر السورة»، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن»، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه»، يعني من قيام الليل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي»). [المحرر الوجيز: 2/ 138-146]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها} أي: لا يكلّف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي النّاسخة الرّافعة لما كان أشفق منه الصّحابة، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} أي: هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذّب إلّا بما يملك الشّخص دفعه، فأمّا ما لا يمكن دفعه من وسوسة النّفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السّيّئة من الإيمان.
وقوله:
{لها ما كسبت} أي: من خيرٍ، {وعليها ما اكتسبت} أي: من شرٍّ، وذلك في الأعمال الّتي تدخل تحت التّكليف، ثمّ قال تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله، وقد تكفّل لهم بالإجابة، كما أرشدهم وعلّمهم أن يقولوا: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا} أي: إن تركنا فرضًا على جهة النّسيان، أو فعلنا حرامًا كذلك، {أو أخطأنا} أي: الصواب في العمل، جهلًا منّا بوجهه الشّرعيّ.
وقد تقدّم في صحيح مسلمٍ لحديث أبي هريرة:
«قال اللّه: نعم» ولحديث ابن عبّاسٍ قال اللّه: «قد فعلت».
وروى ابن ماجه في سننه، وابن حبّان في صحيحه من حديث أبي عمرٍو الأوزاعيّ، عن عطاءٍ -قال ابن ماجه في روايته: عن ابن عبّاسٍ. وقال الطّبرانيّ وابن حبّان: عن عطاءٍ، عن عبيد بن عمير، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان، وما استكرهوا عليه». وقد روي من طرق أخر وأعلّه أحمد وأبو حاتمٍ واللّه أعلم. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا أبو بكرٍ الهذليّ، عن شهرٍ، عن أمّ الدّرداء، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عن ثلاثٍ: عن الخطأ، والنّسيان، والاستكراه» قال أبو بكرٍ: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآنًا: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
وقوله:
{ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} أي: لا تكلّفنا من الأعمال الشّاقّة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار الّتي كانت عليهم، الّتي بعثت نبيك محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم نبيّ الرّحمة بوضعه في شرعه الّذي أرسلته به، من الدّين الحنيف السّهل السّمح.
وقد ثبت في صحيح مسلمٍ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«قال اللّه: نعم».
وعن ابن عبّاسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«قال اللّه: قد فعلت». وجاء الحديث من طرقٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «بعثت بالحنيفيّة السّمحة».
وقوله:
{ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} أي: من التّكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.
وقد قال مكحولٌ في قوله:
{ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} قال: «الغربة والغلمة»، رواه ابن أبي حاتمٍ، «قال اللّه: نعم» وفي الحديث الآخر: «قال اللّه: قد فعلت».
وقوله:
{واعف عنّا} أي: فيما بيننا وبينك ممّا تعلمه من تقصيرنا وزللنا، {واغفر لنا} أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة، {وارحمنا} أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنبٍ آخر، ولهذا قالوا: إنّ المذنب محتاجٌ إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو اللّه عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدّم في الحديث «أنّ اللّه قال: نعم». وفي الحديث الآخر: «قال اللّه: قد فعلت».
وقوله:
{أنت مولانا} أي: أنت وليّنا وناصرنا، وعليك توكّلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة لنا إلّا بك {فانصرنا على القوم الكافرين} أي: الّذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيّتك، ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدّنيا والآخرة، قال اللّه: نعم. وفي الحديث الّذي رواه مسلمٌ، عن ابن عبّاسٍ: «قال اللّه: قد فعلت».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى بن إبراهيم، حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق:
«أنّ معاذًا، رضي اللّه عنه، كان إذا فرغ من هذه السّورة{فانصرنا على القوم الكافرين}قال: آمين».
ورواه وكيع عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجلٍ، عن معاذ بن جبلٍ:
«أنّه كان إذا ختم البقرة قال: آمين» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 737-738]


* للاستزادة ينظر: هنا