الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (283) إلى الآية (284) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

3702

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم العشرون

تفسير سورة البقرة [من الآية (283) إلى الآية (284) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

3702

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}


تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه واللّه بما تعملون عليم}
قرأ الناس " فرهن مقبوضة " و " فرهان مقبوضة "
فأمّا "رهن" فهي قراءة أبي عمرو، وذكر فيه غير واحد أنها قرئت: " فرهن " ليفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع رهن في غيرها، ورهن ورهان أكثر في اللغة:
1-قال الفراء " رهن " جمع رهان،
2-وقال غيره: رهن وررهن " مثل سقف وسقف.
وفعل وفعل قليل إلا إنّه صحيح قد جاء؛ فأما في الصفة فكثير، يقال: فرس ورد، وخيل ورد.
ورجل ثط وقوم ثط، والقراءة على " رهن " أعجب إليّ لأنها موافقة للمصحف، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو المختار.
ورهان جيّد بالغ.
يقال: رهنت الرهن وأرهنته، وأرهنت أقلهما.
قال الشاعر في أرهنت:
فلمّا خشيت أظافيرهم... نجوت وأرهنتهم مالكا
وقال في رهنت: أنشده غير واحد:
فهل من كاهن أو ذي إله... إذا ما حان من ربي قفول
يراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بني بما أقول
لما يدري الفقير متى غناه... وما يدري الغنيّ متى يعيل). [معاني القرآن: 1/366-368]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ (283)}
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال
الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: «إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي».
وقد قال جمهور من العلماء: «الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر»، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: «وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومثله صاحب وصحاب»، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا: «المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف»، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا».
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره» قال ابن سيده: «ورهنه أي أدامه»، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:

اللحم والخبز لهم راهن ....... وقهوة راووقها ساكب

أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة:

يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا ....... عيدية أرهنت فيها الدّنانير

العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق: أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: «أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر، تقول: رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا، لا كما تقول: رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا»، قال أبو علي: «وقد يقال في هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر:

يراهنني ويرهنني بنيه ....... وأرهنه بنيّ بما أقول

وقال الأعشى:

حتّى يقيدك من بنيه رهينة ....... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا

فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة:

ولمّا خشيت أظافرهم ....... نجوت وأرهنتهم مالكا

قال الزجّاج: «يقال في الرهن رهنت وأرهنت»، وقاله ابن الأعرابي، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن، ك «كبش» و «كباش»، و «كعب» وكعاب، ونعل ونعال، وبغل وبغال، ومن قرأ «فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن، ك «سقف وسقف، وأسد وأسد، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك»، قال أبو علي: «وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى:

آليت لا أعطيه من أبنائنا ....... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا

قال الطبري: «تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع»، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة:

وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما ....... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر

ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.
وقوله عز وجل: {مقبوضةٌ} يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: «قبض العدل قبض»، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: «ليس قبض العدل بقبض»، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: {فإن أمن} الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، وقوله: {فليؤدّ} أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله: {أمانته} مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال: فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضا لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله.
وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشّهادة} نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس: «على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق»، وآثمٌ معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن»، وقلبه فاعل ب آثمٌ، ويجوز أن يكون ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون قلبه بدلا على بدل البعض من الكل.
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء، قال مكي: «هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة».
وفي قوله تعالى: {واللّه بما تعملون عليمٌ} توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد). [المحرر الوجيز: 2/ 125-131]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ (283)}
يقول تعالى:
{وإن كنتم على سفرٍ} أي: مسافرين وتداينتم إلى أجلٍ مسمّى {ولم تجدوا كاتبًا} يكتب لكم. قال ابن عبّاسٍ: «أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواةً أو قلمًا فرهن مقبوضةٌ، أي: فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضةٌ في يد صاحب الحقّ».
وقد استدلّ بقوله:
{فرهانٌ مقبوضة} على أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، كما هو مذهب الشّافعيّ والجمهور، واستدلّ بها آخرون على أنّه لا بدّ أن يكون الرّهن مقبوضًا في يد المرتهن، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وذهب إليه طائفةٌ.
واستدلّ آخرون من السّلف بهذه الآية على أنّه لا يكون الرّهن مشروعًا إلّا في السّفر، قاله مجاهدٌ وغيره.
وقد ثبت في الصّحيحين، عن أنسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توفّي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ على ثلاثين وسقًا من شعيرٍ، رهنها قوتًا لأهله. وفي روايةٍ: من يهود المدينة. وفي رواية الشّافعيّ: عند أبي الشّحم اليهوديّ. وتقرير هذه المسائل في كتاب "الأحكام الكبير"، ولله الحمد والمنة، وبه المستعان.
وقوله:
{فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} روى ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ جيّدٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّه قال: «هذه نسخت ما قبلها».
وقال الشّعبيّ:
«إذا ائتمن بعضكم بعضًا فلا بأس ألّا تكتبوا أو لا تشهدوا».
وقوله:
{وليتّق اللّه ربّه} يعنى: المؤتمن، كما جاء في الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من رواية قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه».
وقوله:
{ولا تكتموا الشّهادة} أي: لا تخفوها وتغلّوها ولا تظهروها. قال ابن عبّاسٍ وغيره: «شهادة الزّور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك». ولهذا قال: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} قال السّدّيّ: يعني: «فاجرٌ قلبه»، وهذه كقوله تعالى: {ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين}[المائدة: 106]، وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا}[النّساء: 135]، وهكذا قال هاهنا: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 727-728]


تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيء قدير}معناه: هو خالقهما.
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}معناه: إن تظهروا العمل به أو تسرّوه يحاسبكم به اللّه، وقد قيل إن هذا منسوخ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((تجوّز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها)).
ولما ذكر اللّه - جلّ وعزّ - فرض الصلاة والزكاة والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وأقاصيص الأنبياء والدّين والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك فقال:
{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير}). [معاني القرآن: 1/368]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (284)}
المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب ما وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة.
وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: {في أنفسكم} تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز.
واختلف الناس في معنى هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي: «هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب»، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين: «إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم: «أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا»، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: {لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها}[البقرة: 286]، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك»، هذا معنى الحديث المروي، لأنه تطرق من جهات، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} ثم قال: «والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه، وسمع نشيجه، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله{لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها}الآية فنسخت الوسوسة، وثبت القول والفعل»، وقال الطبري وقال آخرون: «هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق»، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى، وقال مجاهد: «الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين»، وقال الحسن: «الآية محكمة ليست بمنسوخة»، قال الطبري: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا هو الصواب»، وذلك أن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه {لا يكلّف نفساً إلّا وسعها}[البقرة: 286]، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين}[الأنفال: 65] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفر»، «ويعذب» جزما، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفر» و «يعذب» رفعا، فوجه الجزم أنه أتبعه ما قبله ولم يقطعه، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول، وقطعه على أحد وجهين، إما أن تجعل الفعل خبرا لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفر» و «يعذب» بالنصب على إضمار «أن»، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: {فيضاعفه} [الحديد 11] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني: «هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر:

رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ....... تلاقوا غدا خيلي على سفوان

تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ....... إذا ما غدت في المأزق المتدان

فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول.
وقوله تعالى: {ويعذّب من يشاء} يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد، قال النقاش: «{يغفر لمن يشاء}أي لمن ينزع عنه،{ويعذّب من يشاء}أي من أقام عليه»، وقال سفيان الثوري: «{يغفر لمن يشاء}العظيم ويعذب من يشاء على الصغير».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق».، وقال: «إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك».
ومسألة تكليف ما لا يطاق، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها). [المحرر الوجيز: 2/ 131-135]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (284)}
يخبر تعالى أنّ له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وما بينهنّ، وأنّه المطّلع على ما فيهنّ، لا تخفى عليه الظّواهر ولا السّرائر والضّمائر، وإن دقّت وخفيت، وأخبر أنّه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال:
{قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه ويعلم ما في السّماوات وما في الأرض واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}[آل عمران: 29]، وقال: {يعلم السّرّ وأخفى}[طه: 7]، والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وقد أخبر في هذه بمزيدٍ على العلم، وهو: المحاسبة على ذلك، ولهذا لمّا نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على الصّحابة، رضي اللّه عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة اللّه لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدّة إيمانهم وإيقانهم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم، حدّثني أبو عبد الرّحمن - يعني العلاء -عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
{للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، وقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير». فلمّا أقر بها القوم وذلّت بها ألسنتهم، أنزل اللّه في أثرها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه فأنزل: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخره.
ورواه مسلمٌ منفردًا به، من حديث يزيد بن زريعٍ، عن روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكر مثله ولفظه:
«فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه، فأنزل:{لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}قال: نعم،{ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا}قال: نعم،{ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}قال: نعم،{واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم».
حديث ابن عبّاسٍ في ذلك: قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، سمعت سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال:
«لمّا نزلت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: «دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيءٍ، قال: فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا». فألقى اللّه الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله. {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} إلى قوله: {فانصرنا على القوم الكافرين}.
وهكذا رواه مسلمٌ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيعٍ، به وزاد:
«{ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت{ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا}قال: قد فعلت،{ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}قال: قد فعلت{واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا}قال: قد فعلت».
طريقٌ أخرى عن ابن عبّاسٍ: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، قال: دخلت على ابن عبّاسٍ فقلت:
«يا أبا عبّاسٍ، كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى. قال: أيّة آيةٍ؟ قلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال ابن عبّاسٍ، إنّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غمًّا شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا، يعني، وقالوا: يا رسول اللّه، هلكنا، إن كنّا نؤاخذ بما تكلّمنا وبما نعمل، فأمّا قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلّم: «قولوا: سمعنا وأطعنا». قالوا: سمعنا وأطعنا. قال: فنسختها هذه الآية: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه} إلى {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فتجوز لهم عن حديث النّفس وأخذوا بالأعمال.
طريقٌ أخرى عنه: قال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن مرجانة، سمعه يحدّث:
«أنّه بينما هو جالسٌ مع عبد اللّه بن عمر تلا هذه الآية: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء} الآية. فقال: «واللّه لئن واخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ، ثمّ بكى ابن عمر حتّى سمع نشيجه. قال ابن مرجانة: فقمت حتّى أتيت ابن عبّاسٍ، فذكرت له ما قال ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد اللّه بن عبّاسٍ: يغفر اللّه لأبي عبد الرّحمن. لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد اللّه بن عمر، فأنزل اللّه بعدها:{لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها} إلى آخر السّورة، قال ابن عبّاسٍ: فكانت هذه الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى اللّه، عزّ وجلّ، أنّ للنّفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل».
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ:
«أنّ أباه قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ،فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزلت، فنسختها الآية الّتي بعدها:{لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها}». فهذه طرقٌ صحيحةٌ عن ابن عبّاسٍ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عبّاسٍ.
قال البخاريّ: حدّثنا إسحاق، حدّثنا روحٌ، حدّثنا شعبة، عن خالدٍ الحذّاء، عن مروان الأصفر، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -أحسبه ابن عمر -
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: «نسختها الآية الّتي بعدها».
وهكذا روي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وكعب الأحبار، والشّعبيّ، والنخعي، ومحمّد بن كعبٍ القرظي، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة:
«أنّها منسوخةٌ بالّتي بعدها».
وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم السّتّة من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ اللّه تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها، ما لم تكلّم أو تعمل ».
وفي الصّحيحين، من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«قال اللّه: [إذا هم عبدي بسيّئةٍ فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيّئةً، وإذا همّ بحسنةٍ فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا]. لفظ مسلمٍ وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفرٍ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال اللّه:[إذا همّ عبدي بحسنةٍ ولم يعملها كتبتها له حسنةً، فإن عملها كتبتها عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ، وإذا همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيّئةً واحدةً].
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن همام بن منبّهٍ قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«قال اللّه: [إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئةً فأنا أغفرها له، ما لم يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها]. وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قالت الملائكة: ربّ، وإنّ عبدك يريد أن يعمل سيّئةً -وهو أبصر به -فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنةً، وإنّما تركها من جراي». وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا أحسن أحدٌ إسلامه، فكلّ حسنةٍ يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، وكلّ سيّئةٍ تكتب بمثلها حتّى يلقى اللّه عزّ وجلّ».
تفرّد به مسلمٌ عن محمّد بن رافعٍ، عن عبد الرّزّاق بهذا السّياق واللّفظ وبعضه في صحيح البخاريّ.
وقال مسلمٌ أيضًا: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةً، ومن همّ بحسنةٍ فعملها كتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعفٍ، ومن همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت». تفرّد به مسلمٌ دون غيره من أصحاب الكتب.
وقال مسلمٌ حدّثنا شيبان بن فرّوخٍ، حدّثنا عبد الوارث، عن الجعد أبي عثمان، حدّثنا أبو رجاءٍ العطاردي، عن ابن عبّاسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يروي عن ربّه تعالى قال:
[إنّ اللّه كتب الحسنات والسّيّئات، ثمّ بيّن ذلك، فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنةً كاملةً، وإن همّ بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ. وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنةً كاملةً، وإن همّ بها فعملها كتبها اللّه سيّئةً واحدةً].
ثمّ رواه مسلمٌ، عن يحيى بن يحيى، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث وزاد:
«ومحاها اللّه، ولا يهلك على اللّه إلّا هالكٌ».
وفي حديث سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به. قال:
«وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال:«ذاك صريح الإيمان».
لفظ مسلمٍ وهو عند مسلمٍ أيضًا من طريق الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، به. وروى مسلمٌ أيضًا من حديث مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الوسوسة، قال:
«تلك صريح الإيمان». وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}فإنّها لم تنسخ، ولكنّ اللّه إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم، ممّا لم يطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: {يحاسبكم به اللّه}يقول: يخبركم، وأمّا أهل الشّكّ والرّيب فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب وهو قوله:{فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}وهو قوله:{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}[البقرة: 225]أي: من الشّكّ والنّفاق». وقد روى العوفيّ والضّحّاك عنه قريبًا من هذا.
وروى ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ والضّحّاك، نحوه. وعن الحسن البصريّ أنّه قال:
«هي محكمة لم تنسخ». واختار ابن جريرٍ ذلك، واحتجّ على أنّه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنّه تعالى قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الّذي رواه عند هذه الآية، قائلًا حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ وهشامٍ، (ح) وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا هشامٌ، قالا جميعًا في حديثهما: عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: «بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجلٌ فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول في النّجوى؟ فقال: سمعت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه، عزّ وجلّ، حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربّ أعرف -مرّتين -حتّى إذا بلغ به ما شاء اللّه أن يبلغ قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا وأنا أغفرها لك اليوم». قال: "فيعطى صحيفة حسناته -أو كتابه -بيمينه، وأمّا الكفّار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد:{هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة اللّه على الظّالمين}[هودٍ: 18]».
وهذا الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين وغيرهما من طرقٍ متعدّدةٍ، عن قتادة، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أميّة قالت: سألت عائشة عن هذه الآية:
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقالت: «ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها فقال: «هذه مبايعة اللّه العبد، وما يصيبه من الحمّى، والنّكبة، والبضاعة يضعها في يد كمّه، فيفتقدها فيفزع لها، ثمّ يجدها في ضبنه، حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير».
وكذا رواه التّرمذيّ، وابن جريرٍ من طريق حمّاد بن سلمة، به. وقال التّرمذيّ: غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديثه.
قلت: وشيخه عليّ بن زيد بن جدعان ضعيفٌ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أمّ محمّدٍ أميّة بنت عبد اللّه، عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه).
[تفسير ابن كثير: 1/ 728-733]



* للاستزادة ينظر: هنا