تفسير
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ
اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا
أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ
اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا
أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:
{يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه وليكتب
بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب وليملل
الّذي عليه الحقّ وليتّق اللّه ربّه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الّذي عليه
الحقّ سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون
من الشّهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ولا يأب الشّهداء إذا
ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند اللّه
وأقوم للشّهادة وأدنى ألّا ترتابوا إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها
بينكم فليس عليكم جناح ألّا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب
ولا شهيد وإن تفعلوا فإنّه فسوق بكم واتّقوا اللّه ويعلّمكم اللّه واللّه
بكلّ شيء عليم}
{يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين}
يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين، أخذت منه وأعطيته. وتداينّا على داينته، قال الشاعر:
داينت ليلى والدّيون تقضى... فمطلت بعضا وأدّت بعضا
ويقال دنت وأدّنت أي اقترضت، وأدنت إذا أقرضت.
قال الشاعر:
أدان وأنبّأه الأولون... بأن المدان مليء وفيّ
فالمعنى: إذا كان
لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمّى فاكتبوه فأمر الله - عزّ وجلّ - بكتب
الدين، حفظا منه للأموال، وكذلك الإشهاد فيها وللناس من الظلم لأن صاحب
الدّين إذا كانت عليه الشهود والبينة قلّ تحديثه نفسه بالطمع في إذهابها،
فأمر اللّه - جلّ وعزّ - بالإشهاد والكتاب.
قال بعض أهل اللغة: هذا أدب من اللّه عزّ وجلّ وليس بأمر حتم كما قال عزّ وجلّ: {وإذا حللتم فاصطادوا}- فليس يجب كلما يحل من الإحرام أن يصطاد، وكما قال: {فإذا قضيتالصّلاة فانتشروا في الأرض}.
وهذا خلاف ما أمر اللّه به في كتاب الدين والإشهاد لأن هذين جميعا إباحة بعد تحريم - قال الله عزّ وجلّ: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما} وقال: {لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم} ثم أباح لهم - إذا زال الإحرام - الصيد " وكذلك " قال: {إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع} فأباح لهم بعد انقضاء الصلاة الابتغاء من فضله، والانتشار في الأرض لما أرادوا من بيع وغيره.
وليست آية الدّين كذلك، ولكن الذي رخص في ترك الإشهاد في قول قوم قوله: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته}أي: يكتب بالحق، لا يكتب لصاحب الدين فضلا على الذي عليه الدين ولا ينقصه من حقه - فهذا العدل.
ومعنى{ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب}أي: لا يأب أن يكتب كما أمره اللّه به من الحق.
وقيل {كما علّمه اللّه فليكتب} أي: كما فضله اللّه بالكتاب فلا يمنعن المعروف بكتابه.
وأبى يأبى في اللغة منفرد لم يأت مثله إلا قلى
يقلى، والذي أتى أبى يأبى لا غير - فعل يفعل، وهذا غير معروف إلا أن يكون
في موضع العين من الفعل أو اللام حرف من حروف الحلق، وقد بيّناها، ولكن
القول فيه أن الألف في أبى أشبهت الهمزة فجاء يفعل مفتوحا لهذه العلة، وهذا
القول لإسماعيل بن إسحاق ومثله قلى يلقى.
ومعنى قوله عزّ وجلّ {ولا يبخس منه شيئا} أي: لا ينقص منه شيئا.
وقوله عزّ وجلّ: {فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو}.
السفيه: الخفيف العقل، ومن هذا قيل تسفهت الريح الشيء إذا حركته واستخفته، قال الشاعر:
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت... أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
فالنساء والصبيان اللاتي لا يميزن تميزا صحيحا سفهاء، والضعيف في عقله سفيه، والذي لا يقدر - على الإملاء العيي.
وجائز أن يكون: الجهول سفيها كهؤلاء.
ومعنى{فليملل وليه بالعدل} أي: الذي يقوم بأمره، لأن اللّه أمر ألا نؤتي السفهاء الأموال.
وأمر أن يقام لهم بها فقال: {وارزقوهم فيها واكسوهم}.
فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزا.
وقال قوم: ولي الدّين. وهذا بعيد: كيف يقبل قول المدعي، وما حاجتنا إلى الكتاب والإشهاد والقول قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}.
معنى رجالكم من أهل ملتكم.
وقوله عزّ وجلّ: {فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء}أي: فالذي يشهد - إن لم يكن - رجلان - رجل وامرأتان.
ومعنى {ممن ترضون من الشهداء}أي: ممن ترضون مذهبه، ودل بهذا القول أن في الشهود من ينبغي ألا يرضى.
{أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى}.
من كسر (أن) فالكلام علي لفظ الجزاء، ومعناه: المعنى في (إن تضل) إن تنسى إحداهما، تذكرها الذاكرة فتذكر.
و{فتذكّر}
رفع مع كسر (إن) لا غير - ومن قرأ "أن تضل فتذكر " وهي قراءة أكثر الناس،
فزعم بعض أهل اللغة فيها أن الجزاء فيها مقدّم أصله التأخير وقال: المعنى:
استشهدوا امرأتين مكان الرجل كي تذكر الذاكرة - الناسية. إن نسيت. فلما
تقدم الجزاء اتصل بأول الكلام وفتحت أن وصار جوابه مردودا عليه.
ومثله إني ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى، قال - والمعنى إنما يعجبه الإعطاء إن سأل السائل وزعم أن هذا قول بين.
ولست أعرف لم صار الجزاء إدا تقدم - وهو في مكانه أو في غير مكانه وجب أن يفتح (أن) معه.
وذكر سيبويه والخليل " وجميع النحويين الموثوق
بعلمهم أن المعنى: استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن
تذكر إحداهما الأخرى،
قال سيبويه: فإن قال إنسان فلم جاز (أن تضل) وإنما أعد هذا للإذكار،
فالجواب أن الإذكار لما كان سببه الإضلال جاءت أن يذكر (أن تضل) لأنّ
الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.
قال ومثله: أعددت هذا الجذع أن يميل الحائط،
فأدعمه، وإنّما أعددته للدعم لا للميل، ولكن الميل ذكر لأنه سبب الدعم،
كلما ذكر الإضلال لأنه سبب الإذكار - فهذا هو البيّن إن شاء الله.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا}.
يروى عن الحسن أنه قال: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} لابتداء الشهادة، أي: ولا يأبوا إذا دعوا لإقامتها.
وهذا الذي قال الحسن هو الحق - واللّه أعلم -
لأن الشهداء إذا أبوا - وكان ذلك لهم - أن يشهدوا تويت حقوقهم وبطلت
معاملاتهم فيما يحتاجون إلى التوثق فيه.
وقال غير الحسن: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} - وكانت في أعناقهم شهادة - أن يقيموها.
فأما إذا لم يكونوا شهداء فهم مخيرون في ابتداء الشهادة، إن شاءوا شهدوا وإن شاءوا أبوا.
ويدل على: توكيد أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداء أن يجيب.
قوله تعالى: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله}أي:
لا تملوا أن تكتبوا ما أشهدتم عليه، فقد أمروا بهذا، فهذا يؤكد أن أمر
الشهادة في الابتداء واجب، وأنه لا ينبغي أن يمل ويقال سئمت أسأم سآمة.
سأما.
قال الراجز:
لما رأيت أنه لا قامة...وأنني ساق على السآمة
نزعت نزعا زعزع الدعامة ومعنى: {إلّا أن تكون تجارة حاضرة}.
أكثر القراء على: الرفع {تجارة حاضرة} على معنى: إلا أن تقع تجارة حاضرة.
ومن نصب تجارة - وهي قراءة عاصم فالمعنى إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة.
والرفع أكثر وهي قراءة الناس.
فرخص اللّه عزّ وجلّ في ترك كتابة ما يديرونه
بينهم لكثرة ما تقع المعاملة فيه، وأنه أكثر ما تقع المتاجرة بالشيء
القليل، وإن وقع فيه الدين.
ووكد في الإشهاد في البيع فقال: {وأشهدوا إذا تبايعتم} وقد بيّنّا ما الذي رخص في ترك، الإشهاد.
ومعنى{ولا يضارّ كاتب ولا شهيد}:قالوا فيه قولين:
1- قال بعضهم: {لا يضارّ}: لا يضارر، فأدغمت الراء في الراء، وفتحت لالتقاء الساكنين، ومعنى{لا يضارّ}: لا يكتب الكاتب إلا بالحق ولا يشهد الشاهد إلا بالحق.
2- وقال قوم: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد}: لا يدعى الكاتب وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يدعى الشاهد ومجيئه للشهادة يضرّ به
والأول أبين لقوله: {وإن تفعلوا فإنّه فسوق بكم}
فالفاسق أشبه بغير العدل وبمن حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهدا ليشهد، ودعا
كاتبا ليكتب، وهو مشغول فليس يسمّى هذا فاسقا ولكن يسمى من كذب في الشهادة
ومن حرف الكتاب فاسقا). [معاني القرآن: 1/360-366]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا
أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه وليكتب
بينكم كاتبٌ بالعدل ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب ...}
قال ابن عباس رضي الله عنه: «نزلت هذه الآية في السلم خاصة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا»، وبين تعالى بقوله: {بدينٍ} ما في قوله: {تداينتم}
من الاشتراك، إذ قد يقال في كلام العرب: تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضا.
ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا
لم تكن تسمية وحد فليس أجل، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على
أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه
الله تعالى بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً}[البقرة: 283]. وقال الشعبي: «كانوا يرون أن قوله: {فإن أمن}ناسخ لأمره بالكتب»، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال جمهور العلماء: «الأمر
بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره
الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق»،
وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول
الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن
يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه
سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك {فليؤدّ}[البقرة: 283]
الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن لا
يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب
فرض واجب وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى
يقوم دليل على غير ذلك.
واختلف الناس في قوله تعالى: {وليكتب بينكم} فقال عطاء وغيره: «واجب على الكاتب أن يكتب»، وقال الشعبي وعطاء أيضا: «إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب»، وقال السدي: «هو واجب مع الفراغ»، وقوله تعالى: {بالعدل} معناه بالحق والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: {وليكتب}،
وليست متعلقة ب كاتبٌ لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه،
وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتصبين
لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقال مالك رحمه
الله: «لا يكتب الوثائق من الناس إلا
عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى وليكتب بينكم كاتبٌ بالعدل ثم نهى
الله تعالى الكتاب عن الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى وأبا
يأبى، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق»، قال الزجّاج: «والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين»، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك: «أن قوله:{ولا يأب}منسوخ بقوله:{لا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ}[البقرة: 282]والكاف في قوله:{كما علّمه اللّه}متعلقة بقوله:{أن يكتب}المعنى كتبا كما علمه الله»، هذا قول بعضهم، ويحتمل أن تكون كما متعلقة بما في قوله: {ولا يأب}
من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما
أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله: {أن يكتب}، ثم يكون قوله: {كما علّمه اللّه} ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله: {فليكتب}،
أما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له
الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على
الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: {وافعلوا الخير}[الحج: 77] وهو من باب عون الضائع.
قوله عز وجل: {...
وليملل الّذي عليه الحقّ وليتّق اللّه ربّه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان
الّذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه
بالعدل ...}
أمر الله تعالى
الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت
الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن
يبخس شيئا من الحق، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة، وهؤلاء
الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا، ثم ذكر الله تعالى
ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن.
فقال: {فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيهاً}
وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك،
والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء
منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر
وهو ذو الرمة:
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ....... أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه، ثم قال: {أو ضعيفاً}
والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو
وصيا، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليّه وصيه أو أبوه والغائب عن
موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووليّه وكيله، وأما الأخرس
فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز،
ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما
اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء
الحذاق، وقال بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف
هو الكبير الأحمق، وهذا قول حسن، وجاء الفعل مضاعفا في قوله: {أن يملّ} لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل لغة قريش. و{بالعدل} معناه بالحق وقصد الصواب، وذهب الطبري: «إلى أن الضمير في وليّه عائد على الحقّ»، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا
عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في
ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف
إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع أن يملّ بمرضه إذا كان عاجزا عن
الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به،
وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض
فقط».
قوله عز وجل: {...
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممّن ترضون
من الشّهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ..}
الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في شهيدين دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه،
فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى: {من رجالكم} نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: «شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية». وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: «لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان الضمير الذي في قوله يكونا».
والمعنى في قول
الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر
ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين
إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول
الجمهور، وقوله: {فرجلٌ وامرأتان} مرتفع
بأحد ثلاثة أشياء، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان، وإما فليكن رجل
وامرأتان ويصح أن تكون تامة وناقصة، ولكن التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار،
وإما فرجل وامرأتان يشهدون، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: {أن تضلّ إحداهما} وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأتان» بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: «لا
نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة فقربت من
الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفا ساكنة كما قال الشاعر:
يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل ....... لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
يريد
«وأنا»، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي. وهي ساكنة وفي
هذا نظر، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها» وقولهم يا ذو خاتم قال أبو
الفتح: فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة
والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد
يقنع بمثله، وقوله تعالى: {ممّن ترضون من الشّهداء} رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل: {فرجلٌ وامرأتان}.
قال أبو علي: «ولا يدخل في هذه الصفة قوله: {شهيدين}اختلاف الإعراب». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين». قال ابن بكير وغيره: «قوله:{ممّن ترضون} مخاطبة للحكام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا
غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم
الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض»، وفي قوله: {ممّن ترضون}
دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين
على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة وحده: «إن تضل» بكسر الألف وفتح التاء
وكسر الضاد «فتذكر» بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش. وقرأها
الباقون «أن تضل» بفتح الألف «فتذكر» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا
عمرو خففا الذال والكاف، وشددها الباقون، وقد تقدم القول فيما هو العامل في
قوله: {أن تضلّ}، وأن مفعول من أجله والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر
إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه: «وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ولما
كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه الآية ذكر سبب
الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا
من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها
الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا
مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة». وقال أبو عبيد: «معنى تضلّ تنسى».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها»،
فأما قراءة حمزة فجعل أن الجزاء، والفاء في قوله فتذكّر جواب الجزاء،
وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور، وهما المرأتان، وارتفع «تذكر»
كما ارتفع قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم اللّه منه}[المائدة: 95] هذا قول سيبويه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي هذا نظر»،
وأما نصب قوله «فتذكر» على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب
أن، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر،
يقال: ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز، وروي عن أبي عمرو بن العلاء
وسفيان بن عيينة أنهما قالا: «معنى قوله: «فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة امرأة تصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر»،
وهذا تأويل بعيد، غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكرت
بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، وأحدهما في الآية محذوف، تقديره فتذكر
إحداهما الأخرى «الشهادة»، التي ضلت عنها، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: «أن
تضل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني،
وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول:
أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد
الرحمن ومجاهد «فتذكر» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء، وتضمنت هذه الآية
جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل، واختلف قول مالك في شهادتهما،
فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو
فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها
تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك
أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال، ففيها قولان في
المذهب.
قوله عز وجل: {...
ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى
أجله ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشّهادة وأدنى ألّا ترتابوا}
قال قتادة والربيع وغيرهما: «معنى
الآية إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم، وفي هذا المعنى نزلت، لأنه
كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة
فلا يقوم معه أحد، فنزلت الآية في ذلك»، وقال الحسن بن أبي الحسن: «الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها»، وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: «معنى الآية، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك»، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: «فأما إذا دعيت لتشهد أولا، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب»، وقاله لا حق بن حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والآية
كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة
إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب،
وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا
كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم
أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا
سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها
قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء»،
ولا تسئموا معناه تملوا، وصغيراً أو كبيراً حالان من الضمير في تكتبوه،
وقدم الصغير اهتماما به، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد
المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب وأقسط معناه أعدل. وهذا أفعل من
الرباعي وفيه شذوذ، فانظر هل هي من قسط بضم السين؟ كما تقول: «أكرم» من
«كرم» يقال: أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار، ومنه قوله تعالى: {أمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً}[الجن: 15] ومن قدر قوله تعالى: {وأقوم للشّهادة}
بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضا أفعل من الرباعي، ومن قدرها من قام بمعنى
اعتدل زال عن الشذوذ، وأدنى معناه أقرب، وترتابوا معناه، تشكوا وقرأ أبو
عبد الرحمن السلمي. «يسأموا» و «يكتبوا» و «يرتابوا» كلها بالياء على
الحكاية عن الغائب.
قوله عز وجل: {...
إلاّ أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم فليس عليكم جناحٌ ألاّ تكتبوها
وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ وإن تفعلوا فإنّه فسوقٌ
بكم واتّقوا اللّه ويعلّمكم اللّه واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (282)}
لما علم الله
تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة
بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك
ونحوها. وقال السدي والضحاك: «هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي، وأن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع»، وقوله تعالى: {تديرونها بينكم}
يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض وكثير من
الحيوان لا تقوى البينونة به ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك
بمبايعة الدين وقرأ عاصم وحده «تجارة» نصبا، وقرأ الباقون «تجارة» رفعا،
قال أبو علي وأشك في ابن عامر، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت
عن خبر، وإذا خلع
منها معنى الحدوث لزمها الخبر المنصوب، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث
ووقع، وأما من نصب فعلى خبر كان، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما
المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها، وإما إلّا أن تكون التجارة
تجارةً، ويكون ذلك مثل قول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ....... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هكذا أنشد أبو علي البيت، وكذلك أبو العباس المبرد، وأنشده الطبري:
ولله قومي أيّ قوم لحرّة ....... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب.
وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} قال الطبري: «معناه وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره»، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما: «ذلك على الندب»، وقال ابن عمرو والضحاك: «ذلك على الوجوب»، وكان ابن عمر يفعله في قليل الأشياء وكثيرها، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والوجوب
في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر
الاستيلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من
العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان،
ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر
يمنع منه كما ذكرنا».
وحكى المهدوي: «عن قوم أنهم قالوا:{وأشهدوا إذا تبايعتم}منسوخ بقوله:{فإن أمن}[البقرة: 283]»، وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ}، فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم: «المعنى ولا يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد في الشهادة أو ينقص منها»، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا أنهم قالوا: «لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول»،
والأصل في يضار على هذين القولين «يضارر» بكسر الراء ثم وقع الإدغام وفتحت
الراء في الجزم لخفة الفتحة، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك والسدي
وطاوس وغيرهم: «معنى الآية ولا يضارّ
كاتبٌ ولا شهيدٌ بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي أو اشهد
لي في وقت عذر أو شغل للكاتب أو الشاهد فإذا اعتذرا بعذرهما حرج وآذاهما،
وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول»،
ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها، والكاتب والشهيد على
القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على المفعول الذي لم يسم
فاعله، وأصل يضارّ على القول الثاني «يضارر» بفتح الراء، وروي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وعن ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارر»
بالفك وفتح الراء الأولى، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة
والشهادة، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر القراءة بهذا
المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما ذكرنا، وحكى أبو عمرو
الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى
مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة
تميم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضار» بجزم الراء، قال
أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجرى الوصل مجرى
الوقف، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى «كاتبا ولا شهيدا» بالنصب
أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه المضارة لا تنحصر، وروى مقسم عن
عكرمة أنه قرأ «ولا يضار» بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ ابن محيصن
«ولا يضار» برفع الراء مشددة، قال ابن مجاهد: ولا أدري ما هذه القراءة؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف، وذلك على أن تجعل لا نفيا أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر:
على الحكم المأتيّ يوما إذا انقضى ....... قضيّته أن لا يجوز ويقصد
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارّ» على معنى وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على معنى النهي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا قريب من النظر الأول».
وقوله تعالى: {وإن تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم}
من جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي عليهما أو
نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة الكبائر، لأن هذا من
الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه إبطال الحق، ومن جعل المضارة
المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله
أو جعلها امتناعهما إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من
شيء كما يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة فكأن فاعل هذا
فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر الله في هذه الآية
فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع، وقوله بكم تقديره فسوق حال بكم،
وباقي الآية موعظة وتعديد نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره، وقيل إن
معنى الآية الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه). [المحرر الوجيز: 2/ 110-124]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه وليكتب
بينكم كاتبٌ بالعدل ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب وليملل
الّذي عليه الحقّ وليتّق اللّه ربّه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الّذي عليه
الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممّن ترضون
من الشّهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ولا يأب الشّهداء إذا
ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند
اللّه وأقوم للشّهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارةً حاضرةً
تديرونها بينكم فليس عليكم جناحٌ ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا
يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ وإن تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم واتّقوا اللّه ويعلّمكم
اللّه واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (282)}
هذه الآية الكريمة أطول آيةٍ في القرآن العظيم، وقد قال الإمام أبو جعفر
بن جريرٍ: حدّثنا يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ قال،
حدّثني سعيد بن المسيّب: «أنّه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدّين».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «لمّا نزلت آية الدّين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ
أوّل من جحد آدم، عليه السّلام، أنّ اللّه لمّا خلق آدم، مسح ظهره فأخرج
منه ما هو ذارئٌ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذرّيّته عليه، فرأى فيهم رجلًا
يزهر، فقال: أي ربّ، من هذا؟ قال: هو ابنك داود. قال: أي ربّ، كم عمره؟
قال: ستّون عامًا، قال: ربّ زد في عمره. قال: لا إلّا أن أزيده من عمرك.
وكان عمر آدم ألف سنةٍ، فزاده أربعين عامًا، فكتب عليه بذلك كتابًا وأشهد
عليه الملائكة، فلمّا احتضر آدم وأتته الملائكة قال: إنّه قد بقي من عمري
أربعون عامًا، فقيل له: إنّك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز
اللّه عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة».
وحدّثنا أسود بن عامرٍ، عن حمّاد بن سلمة، فذكره، وزاد فيه: «فأتمّها اللّه لداود مائةً، وأتمّها لآدم ألف سنةٍ».
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، عن يوسف بن حبيبٍ، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن حمّاد بن سلمة به.
هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، وعليّ بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارةٌ. وقد رواه
الحاكم في مستدركه بنحوه، من حديث الحارث بن عبد الرّحمن بن أبي ذبابٍ عن
سعيدٍ المقبريّ، عن أبي هريرة. ومن رواية داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ،
عن أبي هريرة. ومن طريق محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ومن
حديث هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره بنحوه.
فقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه}
هذا إرشادٌ منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملاتٍ مؤجّلةٍ أن
يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وأضبط للشّاهد فيها، وقد نبّه
على هذا في آخر الآية حيث قال: {ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشّهادة وأدنى ألا ترتابوا}
وقال سفيان الثّوريّ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه} قال: «أنزلت في السّلم إلى أجلٍ معلومٍ».
وقال قتادة، عن أبي حسّان الأعرج، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجلٍ مسمّى أنّ اللّه أحلّه وأذن فيه، ثمّ قرأ:{يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى}». رواه البخاريّ.
وثبت في الصّحيحين من رواية سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عبد اللّه بن كثيرٍ، عن أبي المنهال، عن ابن عبّاسٍ، قال: »قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وهم يسلفون في الثّمار السّنتين والثّلاث، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أسلف فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم».
وقوله: {فاكتبوه}
أمرٌ منه تعالى بالكتابة والحالة هذه للتّوثقة والحفظ، فإن قيل: فقد ثبت
في الصّحيحين، عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: «إنّا أمّة أمّيّةٌ لا نكتب ولا نحسب»
فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب: أنّ الدّين من حيث هو غير
مفتقرٍ إلى كتابةٍ أصلًا؛ لأنّ كتاب اللّه قد سهل اللّه ويسّر حفظه على
النّاس، والسّنن أيضًا محفوظةٌ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم،
والّذي أمر اللّه بكتابته إنّما هو أشياء جزئيّةٌ تقع بين النّاس، فأمروا
أمر إرشادٍ لا أمر إيجابٍ، كما ذهب إليه بعضهم.
قال ابن جريجٍ: «من ادّان فليكتب، ومن ابتاع فليشهد».
وقال قتادة: «ذكر لنا أنّ أبا
سليمان المرعشيّ، كان رجلًا صحب كعبًا، فقال ذات يومٍ لأصحابه: هل تعلمون
مظلومًا دعا ربّه فلم يستجب له؟ فقالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجلٌ باع
بيعًا إلى أجلٍ فلم يشهد ولم يكتب، فلمّا حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربّه
فلم يستجب له؛ لأنّه قد عصى ربّه».
وقال أبو سعيدٍ، والشّعبيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والحسن، وابن جريجٍ، وابن زيدٍ، وغيرهم: «كان ذلك واجبًا ثمّ نسخ بقوله:{فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته}».
قال الإمام أحمد: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، حدّثنا ليثٌ، عن جعفر بن
ربيعة، عن عبد الرّحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم أنّه ذكر «أنّ رجلًا من بني
إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينارٍ، فقال: ائتني بشهداء
أشهدهم. قال: كفى باللّه شهيدًا. قال: ائتني بكفيلٍ. قال: كفى باللّه
كفيلًا. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمًّى، فخرج في البحر فقضى
حاجته، ثمّ التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الّذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ
خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينارٍ وصحيفةً معها إلى صاحبها، ثمّ زجج
موضعها، ثمّ أتى بها البحر، ثمّ قال: اللّهمّ إنّك قد علمت أنّي استسلفت
فلانًا ألف دينارٍ، فسألني كفيلًا فقلت: كفى باللّه كفيلًا. فرضي بذلك،
وسألني شهيدًا، فقلت: كفى باللّه شهيدًا. فرضي بذلك، وإنّي قد جهدت أن أجد
مركبًا أبعث بها إليه بالّذي أعطاني فلم أجد مركبًا، وإنّي استودعتكها.
فرمى بها في البحر حتّى ولجت فيه، ثمّ انصرف، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى
بلده، فخرج الرّجل الّذي كان أسلفه ينظر لعلّ مركبًا تجيئه بماله، فإذا
بالخشبة الّتي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا فلمّا كسرها وجد المال
والصّحيفة، ثمّ قدم الرّجل الّذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينارٍ وقال:
واللّه ما زلت جاهدًا في طلب مركبٍ لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الّذي
أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليّ بشيءٍ؟ قال: ألم أخبرك أنّي لم أجد مركبًا
قبل هذا الّذي جئت فيه؟ قال: فإنّ اللّه قد أدّى عنك الّذي بعثت به في
الخشبة، فانصرف بألفك راشدًا».
وهذا إسنادٌ صحيحٌ وقد رواه البخاريّ في سبعة مواضع من طرقٍ صحيحةٍ
معلقًا بصيغة الجزم، فقال: وقال اللّيث بن سعدٍ، فذكره. ويقال: إنّه رواه
في بعضها عن عبد اللّه بن صالحٍ كاتب اللّيث، عنه.
وقوله: {ليكتب بينكم كاتبٌ بالعدل} أي: بالقسط والحقّ، ولا يجر في كتابته على أحدٍ، ولا يكتب إلّا ما اتّفقوا عليه من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ.
وقوله: {ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب}
أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للنّاس، ولا ضرورة عليه في
ذلك، فكما علّمه اللّه ما لم يكن يعلم، فليتصدق على غيره ممّن لا يحسن
الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث: «إنّ من الصّدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخرق». وفي الحديث الآخر: «من كتم علمًا يعلمه ألجم يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ».
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ: «واجبٌ على الكاتب أن يكتب».
وقوله: {وليملل الّذي عليه الحقّ وليتّق اللّه ربّه} أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمّته من الدّين، وليتّق اللّه في ذلك، {ولا يبخس منه شيئًا} أي: لا يكتم منه شيئًا، {فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيهًا} محجورًا عليه بتبذيرٍ ونحوه، {أو ضعيفًا} أي: صغيرًا أو مجنونًا {أو لا يستطيع أن يملّ هو} إمّا لعيٍّ أو جهلٍ بموضع صواب ذلك من خطئه {فليملل وليّه بالعدل}.
وقوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} أمرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التّوثقة، {فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان}
وهذا إنّما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنّما أقيمت المرأتان
مقام الرّجل لنقصان عقل المرأة، كما قال مسلمٌ في صحيحه: حدّثنا قتيبة،
حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المقبري، عن أبي هريرة،
عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «يا معشر النّساء، تصدّقن وأكثرن الاستغفار، فإنّي رأيتكن أكثر أهل النّار»، فقالت امرأةٌ منهنّ جزلة: وما لنا -يا رسول اللّه -أكثر أهل النّار ؟ قال: «تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب لذي لب منكنّ». قالت: يا رسول اللّه، ما نقصان العقل والدّين؟ قال: «أمّا نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجلٍ، فهذا نقصان العقل، وتمكث اللّيالي لا تصلّي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين».
وقوله: {مممّن ترضون من الشّهداء}
فيه دلالةٌ على اشتراط العدالة في الشّهود، وهذا مقيّد، حكم به الشّافعيّ
على كلّ مطلقٍ في القرآن، من الأمر بالإشهاد من غير اشتراطٍ. وقد استدلّ من
ردّ المستور بهذه الآية الدّالّة على أن يكون الشّاهد عدلًا مرضيًا.
وقوله: {أن تضلّ إحداهما} يعني: المرأتين إذا نسيت الشّهادة {فتذكّر إحداهما الأخرى}
أي: يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد، ولهذا قرأ آخرون: "فتذكر" بالتشديد
من التذكار. ومن قال: إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكرٍ فقد أبعد،
والصّحيح الأوّل. واللّه أعلم.
وقوله: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} قيل: «معناه: إذا دعوا للتّحمّل فعليهم الإجابة»، وهو قول قتادة والرّبيع بن أنسٍ. وهذا كقوله: {ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علّمه اللّه فليكتب} ومن هاهنا استفيد أنّ تحمّل الشّهادة فرض كفايةٍ.
وقيل -وهو مذهب الجمهور -: المراد بقوله: {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} للأداء، لحقيقة قوله: {الشّهداء} والشّاهد حقيقةً فيمن تحمّل، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعيّنت وإلّا فهو فرض كفايةٍ، واللّه أعلم.
وقال مجاهدٌ وأبو مجلز، وغير واحدٍ: «إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب».
وقد ثبت في صحيح مسلمٍ والسّنن، من طريق مالكٍ، عن عبد اللّه بن أبي بكر
بن محمّد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، عن عبد
الرّحمن بن أبي عمرة، عن زيد بن خالدٍ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «ألا أخبركم بخير الشّهداء؟ الّذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها».
فأمّا الحديث الآخر في الصّحيحين:«ألا أخبركم بشرّ الشّهداء؟ الّذين يشهدون قبل أن يستشهدوا»، وكذا قوله:«ثمّ يأتي قومٌ تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم». وفي روايةٍ: «ثمّ يأتي قومٌ يشهدون ولا يستشهدون». فهؤلاء شهود الزّور. وقد روي عن ابن عبّاسٍ والحسن البصريّ: أنّها تعمّ الحالين: التحمّل والأداء.
وقوله: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله} هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحقّ صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال: {ولا تسأموا} أي: لا تملّوا أن تكتبوا الحقّ على أيّ حالٍ كان من القلّة والكثرة {إلى أجله}
وقوله {ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشّهادة وأدنى ألا ترتابوا} أي: هذا الّذي أمرناكم به من الكتابة للحقّ إذا كان مؤجّلًا هو {أقسط عند اللّه} أي: أعدل {وأقوم للشّهادة} أي: أثبت للشّاهد إذا وضع خطّه ثمّ رآه تذكّر به الشّهادة، لاحتمال أنّه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا {وأدنى ألا ترتابوا} وأقرب إلى عدم الرّيبة، بل ترجعون عند التّنازع إلى الكتاب الّذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبةٍ.
وقوله: {إلا أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم فليس عليكم جناحٌ ألا تكتبوها} أي: إذا كان البيع بالحاضر يدًا بيدٍ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأمّا الإشهاد على البيع، فقد قال تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثني يحيى بن عبد اللّه بن بكير،
حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبير في قول اللّه: {وأشهدوا إذا تبايعتم}
يعني: أشهدوا على حقّكم إذا كان فيه أجلٌ أو لم يكن، فأشهدوا على حقّكم
على كلّ حالٍ. قال: وروي عن جابر بن زيدٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، والضّحّاك، نحو
ذلك.
وقال الشّعبيّ والحسن: هذا الأمر منسوخٌ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته}
وهذا الأمر محمولٌ عند الجمهور على الإرشاد والنّدب، لا على الوجوب.
والدّليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابتٍ الأنصاريّ، وقد رواه الإمام أحمد:
حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا شعيبٌ، عن الزّهريّ، حدّثني عمارة بن خزيمة
الأنصاريّ، أنّ عمّه حدّثه -وهو من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ابتاع فرسًا من أعرابيٍّ، فاستتبعه
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم وأبطأ الأعرابيّ، فطفق رجالٌ يعترضون الأعرابيّ فيساومونه
بالفرس، ولا يشعرون أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ابتاعه، حتّى زاد
بعضهم الأعرابيّ في السّوم على ثمن الفرس الّذي ابتاعه النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم، فنادى الأعرابيّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إن كنت
مبتاعًا هذا الفرس فابتعه، وإلّا بعته، فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
حين سمع نداء الأعرابي، قال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» قال الأعرابيّ: لا واللّه ما بعتك. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «بل قد ابتعته منك».
فطفق النّاس يلوذون بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والأعرابيّ وهما
يتراجعان، فطفق الأعرابيّ يقول: هلم شهيدًا يشهد أنّي بايعتك. فمن جاء من
المسلمين قال للأعرابيّ: ويلك! إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن
يقول إلّا حقًّا. حتّى جاء خزيمة، فاستمع لمراجعة النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم ومراجعة الأعرابيّ يقول هلمّ شهيدًا يشهد أنّي بايعتك. قال خزيمة:
أنا أشهد أنّك قد بايعته. فأقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على خزيمة
فقال: «بم تشهد؟» فقال: بتصديقك يا رسول اللّه. فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيبٍ، والنّسائيّ من رواية محمّد بن الوليد الزّبيريّ كلاهما عن الزّهريّ، به نحوه.
ولكنّ الاحتياط هو الإشهاد، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه
والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذٍ العنبريّ، عن شعبة، عن فراسٍ،
عن الشّعبيّ، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
قال: «ثلاثةٌ يدعون اللّه فلا يستجاب
لهم: رجلٌ له امرأةٌ سيّئة الخلق فلم يطلّقها، ورجلٌ دفع مال يتيمٍ قبل أن
يبلغ، ورجلٌ أقرض رجلًا مالًا فلم يشهد».
ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشّيخين، قال: ولم يخرّجاه،
لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى، وإنّما أجمعوا على سند حديث
شعبة بهذا الإسناد: «ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرّتين».
وقوله: {ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ}
قيل: معناه: لا يضارّ الكاتب ولا الشّاهد، فيكتب هذا خلاف ما يملى، ويشهد
هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلّيّة، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما.
وقيل: معناه: لا يضرّ بهما، كما قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أسيد بن عاصمٍ،
حدّثنا الحسين -يعني ابن حفصٍ -حدّثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن
مقسم، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية: {ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ} قال: «يأتي الرّجل فيدعوهما إلى الكتاب والشّهادة، فيقولان: إنّا على حاجةٍ فيقول: إنّكما قد أمرتما أن تجيبا. فليس له أن يضارّهما».
ثمّ قال: وروي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وطاوسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضّحّاك،
وعطيّة، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، نحو ذلك.
وقوله: {وإن تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم} أي: إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نهيتم عنه، فإنّه فسقٌ كائنٌ بكم، أي: لازمٌ لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكّون عنه.
وقوله: {واتّقوا اللّه} أي: خافوه وراقبوه، واتّبعوا أمره واتركوا زجره {ويعلّمكم الله} كقوله {يا أيّها الّذين آمنوا إن تتّقوا اللّه يجعل لكم فرقانًا}[الأنفال: 29]، وكقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به}[الحديد: 28].
وقوله: {واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: هو عالمٌ بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات). [تفسير ابن كثير: 1/ 721-727]
* للاستزادة ينظر: هنا