تفسير
قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ
لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ (10)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {إنّ الّذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا وأولئك هم وقود النّار}
{وأولئك هم وقود النّار}أي: الكفار يعذبون , وهم وقود أنفسهم، كلما نضجت جلودهما وعظامهم بالاتقاد, بدّلوا خلوداً غيرها, فعذبهم بجلودهم , وعظامهم). [معاني القرآن: 1/379]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {إنّ
الّذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً وأولئك هم
وقود النّار (10) كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم
اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب (11)}
هم الكفار الذين
لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي
المال والبنون، فأخبر الله تعالى في هذه الآية، أن ذلك المتهم فيه لا يغني
عن صاحبه شيئا ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه، ومن في قوله: {من اللّه}
لابتداء الغاية، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم،
وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم، وهي- بعد- متناولة كل كافر، وقرأ أبو عبد
الرحمن: «لن يغني» بالياء، على تذكير العلامة، والوقود بفتح الواو ما
يحترق في النار من حطب ونحوه، وكذلك هي قراءة جمهور الناس، وقرأ الحسن
ومجاهد وجماعة غيرهما وقود بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره، حطب وقود
النّار، والوقود بضم الواو المصدر، وقدت النار تقد إذا اشتعلت). [المحرر الوجيز: 2/ 165]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {إنّ
الّذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئًا وأولئك هم
وقود النّار (10) كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم
اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب (11)}
يخبر تعالى عن الكفّار أنّهم وقود النّار، {يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللّعنة ولهم سوء الدّار}[غافرٍ: 52] وليس ما أوتوه في الدّنيا من الأموال والأولاد بنافعٍ لهم عند اللّه، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، بل كما قال تعالى: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريد اللّه أن يعذّبهم بها في الدّنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}[التّوبة: 85] وقال تعالى: {لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثمّ مأواهم جهنّم وبئس المهاد} [آل عمران:196: 197] كما قال هاهنا: {إنّ الّذين كفروا} أي: بآيات اللّه وكذّبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئًا وأولئك هم وقود النّار} أي: حطبها الّذي تسجر به وتوقد به، كقوله: {إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون}[الأنبياء:98].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي مريم، أخبرنا ابن لهيعة،
أخبرني ابن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أمّ الفضل أمّ عبد اللّه بن
عبّاسٍ قالت: «بينما نحن بمكّة قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من
اللّيل، فقال: «هل بلّغت، اللّهمّ هل بلّغت = » ثلاثًا، فقام عمر بن الخطّاب فقال: نعم. ثمّ أصبح فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليظهرنّ
الإسلام حتّى يردّ الكفر إلى مواطنه، ولتخوضنّ البحار بالإسلام، وليأتينّ
على النّاس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه، ثمّ يقولون: قد قرأنا وعلمنا،
فمن هذا الّذي هو خيرٌ منّا، فهل في أولئك من خيرٍ؟» قالوا: يا رسول اللّه، فمن أولئك؟ قال: «أولئك منكم وأولئك هم وقود النّار». وكذا رأيته بهذا اللّفظ.
وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد اللّه بن الهاد، عن هند بنت
الحارث، امرأة عبد اللّه بن شدّادٍ، عن أمّ الفضل؛ أنّ رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم قام ليلةً بمكّة فقال: «هل بلّغت»
يقولها ثلاثًا، فقام عمر بن الخطّاب -وكان أوّاها-فقال: اللّهمّ نعم،
وحرصت وجهدت ونصحت فاصبر. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليظهرنّ
الإيمان حتّى يردّ الكفر إلى مواطنه، وليخوضنّ رجالٌ البحار بالإسلام
وليأتينّ على الناس زمان يقرؤون القرآن، فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون: قد
قرأنا، وقد علمنا، فمن هذا الّذي هو خيرٌ منّا؟ فما في أولئك من خيرٍ» قالوا: يا رسول اللّه، فمن أولئك؟ قال: «أولئك منكم، وأولئك هم وقود النّار» ثمّ رواه من طريق موسى بن عبيدٍ، عن محمّد بن إبراهيم، عن بنت الهاد، عن العبّاس بن عبد المطلب بنحوه). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 15-16]
تفسير
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب}أي: كشأن آل فرعون، وكأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة, والقول عندي فيه - واللّه أعلم - إن " دأب " ههنا, أي:
اجتهادهم في كفرهم, وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم كتظاهر آل
فرعون على موسى عليه السلام, وموضع الكاف رفع , وهو في موضع خبر الابتداء، المعنى: دأبهم مثل دأب آل فرعون، و{كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم}
يقال: دأبت , أدأب دأباً, ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء, ولا يصلح أن تكون الكاف في موضع نصب بـ {كفروا}؛ لأن كفروا في صلة الذين، لا يصلح أن الذين كفروا ككفر آل فرعون ؛ لأن الكاف خارجة من الصلة, ولا يعمل فيها ما في الصلة). [معاني القرآن: 1/380]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والدأب
والدأب، بسكون الهمزة وفتحها، مصدر دأب يدأب- إذا لازم فعل شيء ودام عليه
مجتهدا فيه، ويقال للعادة- دأب- فالمعنى في الآية، تشبيه هؤلاء في لزومهم
الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب
هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب.
والكاف في قوله كدأب في موضع رفع، التقدير: دأبهم كدأب، ويصح أن يكون الكاف في موضع نصب، قال الفراء: «هو نعت لمصدر محذوف تقديره كفرا كدأب، فالعامل فيه كفروا»، ورد هذا القول الزجاج بأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة.
قال القاضي رحمه الله: «ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ «الوقود» ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:{أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب، النّار يعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا}[غافر: 46]»،
والقول الأول أرجح الأقوال أن يكون الكاف في موضع رفع، والهاء في قبلهم
عائدة على آل فرعون، ويحتمل أن تعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الكفار، وقوله: {بآياتنا}
يحتمل أن يريد بالآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة،
واختلفت عبارة المفسرين، في تفسير الدأب، وذلك كله راجع إلى المعنى الذي
ذكرناه). [المحرر الوجيز: 2/ 165-166]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {كدأب آل فرعون} قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «كصنيع آل فرعون».
وكذا روي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وأبي مالكٍ، والضّحّاك، وغير واحدٍ، ومنهم من
يقول: كسنّة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربةٌ.
والدّأب -بالتّسكين، والتّحريك أيضًا كنهر ونهر-: هو الصّنع والشّأن
والحال والأمر والعادة، كما يقال: لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ
القيس:
وقوفًا بها صحبي عليّ مطيّهم ....... يقولون: لا تهلك أسًى وتجمّل
كدأبك من أمّ الحويرث قبلها ....... وجارتها أمّ الرّباب بمأسل
والمعنى: كعادتك في أمّ الحويرث حين أهلكت نفسك في حبّها وبكيت دارها ورسمها.
والمعنى في الآية: أنّ الكافرين لا تغني عنهم الأولاد ولا الأموال، بل
يهلكون ويعذّبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما
جاؤوا به من آيات اللّه وحججه.
{كدأب آل فرعون والّذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم اللّه بذنوبهم واللّه شديد العقاب}
أي: شديد الأخذ أليم العذاب، لا يمتنع منه أحدٌ، ولا يفوته شيءٌ بل هو
الفعّال لما يريد، الّذي قد غلب كلّ شيءٍ وذلّ له كلّ شيءٍ، لا إله غيره
ولا رب سواه). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 16]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد}
وتقرأ :{سيغلبون}, فمن قرأ بالتاء فللحكاية والمخاطبة، أي: قل لهم في خطابك ستغلبون, ومن قال:{سيغلبون}, فالمعنى: بلغهم أنهم سيغلبون.
وهذا فيه أعظم آية للنبي صلى الله عليه وسلم؛
لأنه أنبأهم بما لم يكن, وأنبأهم بغيب، ثم بان تصديق ما أنبأ به ؛لأنه صلى
الله عليه وسلم غلبهم أجمعين كما أنبأهم.
ومعنى {وبئس المهاد}: بئس المثوى, وبئس الفراش).[معاني القرآن: 1/380]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {قل
للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد (12) قد كان لكم آيةٌ
في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي
العين واللّه يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار (13)}
قرأ ابن كثير وأبو
عمرو وعاصم وابن عامر، «ستغلبون وتحشرون» بالتاء من فوق و «يرونهم» بالياء
من تحت، وحكى أبان عن عاصم «ترونهم» بالتاء من فوق مضمومة، وقرأ نافع
ثلاثتهن بالتاء من فوق، وقرأ حمزة ثلاثتهن بالياء من تحت، وبكل قراءة من
هذه قرأ جمهور من العلماء، وقرأ ابن عباس، وطلحة بن مصرف وأبو حيوة،
«يرونهم» بالياء المضمومة، وقرأ أبو عبد الرحمن، بالتاء من فوق مضمومة.
واختلف من الذين
أمر بالقول لهم من الكفار، فقيل هم جميع معاصريه من الكفار، أمر بأن يقول
لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب ووعيد، قد صدق بحمد الله غلب الكفر وصار من
مات عليه إلى جهنم، ونحا إلى هذا أبو علي في- الحجة- وتظاهرت روايات بأن
المراد يهود المدينة، قال ابن عباس وغيره: «لما أصاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم قريشا يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع
فقال: «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا»
فقالوا يا محمد: لا يغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا
يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله في قولهم
هذه الآية»،
وروي حديث آخر ذكره النقاش، وهو أن النبي عليه السلام لما غلب قريشا ببدر
قالت اليهود: هذا هو النبي المبعوث الذي في كتابنا وهو الذي لا تهزم له
راية، وكثرت فتنتهم بالأمر، فقال لهم رؤساؤهم وشياطينهم: لا تعجلوا وأمهلوا
حتى نرى أمره في وقعة أخرى، فلما وقعت أحد كفر جميعهم وبقوا على أولهم،
وقالوا: ليس محمد بالنبي المنصور فنزلت الآية في ذلك، أي قل لهؤلاء اليهود
سيغلبون يعني قريشا، وهذا التأويل إنما يستقيم على قراءة «سيغلبون ويحشرون»
بالياء من تحت، ومن قرأ بالتاء فمعنى الآية: قل للكفار جميعا هذه الألفاظ،
ومن قرأ بالياء من تحت، فالمعنى قل لهم كلاما هذا معناه، ويحتمل قراءة
التاء التأويل الذي ذكرناه آنفا، أي قل لليهود ستغلب قريش، ورجح أبو علي
قراءة التاء على المواجهة، وأن الذين كفروا يعم الفريقين، المشركين
واليهود، وكل قد غلب بالسيف والجزية والذلة، والحشر: الجمع والإحضار،
وقوله: وبئس المهاد يعني جهنم، هذا ظاهر الآية، وقال مجاهد: «المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى، وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم» ). [المحرر الوجيز: 2/ 166-167]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قل
للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد (12) قد كان لكم آيةٌ
في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي
العين واللّه يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار (13)}
يقول تعالى: قل يا محمّد للكافرين: {ستغلبون} أي: في الدّنيا، {وتحشرون} أي: يوم القيامة {إلى جهنّم وبئس المهاد}.
وقد ذكر محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلم لما أصاب من أهل بدرٍ ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع
اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه ما أصاب قريشًا».
فقالوا: يا محمّد، لا يغرّنّك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريشٍ كانوا
أغمارًا لا يعرفون القتال، إنّك واللّه لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس،
وأنّك لم تلق مثلنا؟ فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد} إلى قوله: {لعبرةً لأولي الأبصار}.
وقد رواه ابن إسحاق أيضًا، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيدٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ فذكره؛ ولهذا قال تعالى: {قد كان لكم آيةٌ} أي: قد كان لكم -أيّها اليهود القائلون ما قلتم - {آيةٌ} أي: دلالةٌ على أنّ اللّه معزٌّ دينه، وناصرٌ رسوله، ومظهرٌ كلمته، ومعلٍ أمره {في فئتين} أي: طائفتين {التقتا} أي: للقتال {فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه} وهم المسلمون، {وأخرى كافرةٌ} وهم مشركو قريشٍ يوم بدرٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 17]
تفسير
قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ
يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قد
كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرة يرونهم
مثليهم رأي العين واللّه يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرة لأولي
الأبصار}
آية علامة من أعلام النبي صلى الله عليه وسلم
التي تدل على تصديقه، والفئة في اللغة الفرقة، وهي مأخوذة من قولهم : فأوت
رأسه بالسيف, وفأيته إذا فلقته , ومعنى{فئتين}: فرقتين.
{فئة تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرة}: الرفع , والخفض جائزان جميعاً.
فأما من رفع فالمعنى: إحداهما
تقاتل في سبيل اللّه , والأخرى كافرة، ومن خفض جعل فئة تقاتل في سبيل الله
, وأخرى كافرة بدلاً من فئتين: المعنى: قد كان لكم آية في فئة تقاتل في
سبيل اللّه, وفي أخرى كافرة.
وأنشدوا بيت كثير على جهتين:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة= ورجل رمى فيها الزمان فشفت
وأنشدوا أيضاً: رجل صحيحة، ورجل رمى فيها الزمان على البدل من الرجلين.
وقد اختلف أهل اللغة في قوله :{يرونهم مثليهم رأي العين}, ونحن نبين ما قالوه إن شاء اللّه, وما هو الوجه,واللّه أعلم.
زعم الفراء أن معنى {يرونهم مثليهم}:يرونهم
ثلاثة أمثالهم , قال: لأنك إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثلها , فأنت
تحتاج إلى ألفين , كأنك قلت أحتاج إلي مثليها, وإذا قلت عندي ألف , وأحتاج
إلى مثليها, فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلاف، وهذا باب الغلط فيه غلط بيّن في
جميع المقاييس وجميع الأشياء، لأنا إنما نعقل مثل الشيء ما هو مساو له،
ونعقل مثليه ما يساويه مرتين، فإذا جهلنا المثل فقد بطل التميز، وإنما قال
هذا ؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثمائة, وأربعة عشر
رجلاً, وكان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً, فالذي قال يبطل في اللفظ
,ويبطل في معنى الدلالة على الآية التي تعجز؛ لأنهم إذا رأوهم على
هيئتهم,فليس هذا آية، فإن زعم أن الآية في هذا : غلبة القليل على الكثير ,
فقد أبطل أيضاً؛ لأن القليل يغلب الكثير موجود ذلك أبداً.
فهذا الذي قال يبطل في اللغة, وفي المعنى ,
وإنّما الآية في هذا أنّ المشركين كانوا تسعمائة وخمسين , وكان المسلمون
ثلاثمائة وأربعة عشر , فأرى اللّه جلّ وعزّ المشركين أنّ المسلمين أقل من
ثلاثمائة , واللّه قد أعلم المسلمين أن المائة تغلب المائتين , فأراهم
المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم ؛ ليقوّي قلوبهم، وأرى المشركين
المسلمين أقل من عدد المسلمين، ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب , فجعلوا
يرون عدداً قليلاً مع رعب شديد حتى غلبوا.
والدليل على صحة هذا القول: قول اللّه عزّ وجلّ: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقلّلكم في أعينهم ليقضي اللّه أمرا كان مفعولاً}, فهذا هو الذي فيه آية أن يرى الشيء بخلاف صورته, واللّه أعلم.
ويجوز نصب {فئة تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرة}, ولا أعلم أحداً قرأ بها.
ونصبها من وجهين:
أحدهما: الحال المعنى التقتا مؤمنة وكافرة ,
ويجوز: نصبها على أعني فئة تقاتل في سبيل اللّه, وأخرى كافرة). [معاني القرآن: 1/380-382]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قد كان لكم آيةٌ في فئتين}
الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب
بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم، فمن رأى أن الخطاب بها
للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها، لأنه لما قال للكفار ما أمر
به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين، كما قال قائل يوم
الخندق: يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب،
وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي، فقلت
في نفسي: وأين دعار طيئ الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله، فنزلت الآية
مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع، فمن قرأ
«ترونهم» بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور
منهم، والهاء والميم في «ترونهم» تجمع المشركين، وفي «مثلهم» تجمع
المؤمنين، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار
مثلي جمع المؤمنين، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود
فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجا عليهم،
وتبيينا لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون، فمن قرأ بالياء من تحت،
فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين، ومن قرأ
بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في
نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر، ومن قرأ بضم التاء أو الياء
فكأن المعنى، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخمينا وظنا لا
يقينا، فلذلك ترك في العبارة من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما
بقي عندك فيه نظر وأرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه، ونحا هذا
المنحى أبو الفتح وهو صحيح، قال أبو علي: والرؤية في هذه الآية عين، ولذلك
تعدت إلى مفعول واحد، ومثليهم نصب على الحال من الهاء والميم في ترونهم
وأجمع الناس على الفاعل ب ترونهم المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار، إلا
ما حكى الطبري: «عن قوم أنهم قالوا: بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم»،
وضعف الطبري هذا القول، وكذلك هو مردود من جهات، بل قلل الله كل طائفة في
عين الأخرى، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فقلل الكفار في عيون المؤمنين
ليقع التجاسر ويحتقر العدو، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله، واعتقاد أولي
الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف، لكن أذهب الله عنهم البهاء
وانتشار العساكر وفخامة الترتيب، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه: «لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ فقال: أظنهم مائة، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفا»،
وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا، وتظاهرت الروايات
أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان
ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا وقيل وثلاثة عشر فكان الكفار ثلاثة من المؤمنين،
لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس
كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين، وقد ذكر النقاش نحوا من هذا فذكر
الله تعالى المثلين، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد، وقد حكى الطبري عن
ابن عباس: «أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا»، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين: «أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط»، قال: «فهذا التقليل في الآية الأخرى»،
ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد، لأنه قد كان أعلم
المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وروى علي بن أبي طالب
رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر: «القوم ألف»، وقوله تعالى: {لكم آيةٌ} يريد علامة وأمارة ومعتبرا، والفئة: الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها، أي يرجع في وقت الشدة، وقال الزجاج: «الفئة الفرقة»،
مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف، ويقال: فأيته إذا فلقته، ولا خلاف أن الإشارة
بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر، وقرأ جمهور الناس «فئة تقاتل» برفع «فئة»
على خبر ابتداء، تقديره إحداهما فئة، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد:
«فئة» بالخفض على البدل، ومنهم من رفع «كافرة» ومنهم من خفضها على العطف،
وقرأ ابن أبي عبلة: «فئة» بالنصب وكذلك «كافرة» قال الزجاج: «يتجه ذلك على الحال كأنه قال: التقتا مؤمنة وكافرة»، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه ورأي العين نصب على المصدر، ويؤيّد معناه يقوي من الأيد وهو القوة). [المحرر الوجيز: 2/ 168-170]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقد
ذكر محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلم لما أصاب من أهل بدرٍ ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع
اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه ما أصاب قريشًا».
فقالوا: يا محمّد، لا يغرّنّك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريشٍ كانوا
أغمارًا لا يعرفون القتال، إنّك واللّه لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن النّاس،
وأنّك لم تلق مثلنا؟ فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد} إلى قوله: {لعبرةً لأولي الأبصار}».
وقد رواه ابن إسحاق أيضًا، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيدٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ فذكره؛ ولهذا قال تعالى: {قد كان لكم آيةٌ} أي: قد كان لكم -أيّها اليهود القائلون ما قلتم - {آيةٌ} أي: دلالةٌ على أنّ اللّه معزٌّ دينه، وناصرٌ رسوله، ومظهرٌ كلمته، ومعلٍ أمره {في فئتين} أي: طائفتين {التقتا} أي: للقتال {فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه} وهم المسلمون، {وأخرى كافرةٌ} وهم مشركو قريشٍ يوم بدرٍ.
وقوله: {يرونهم مثليهم رأي العين} قال بعض العلماء -فيما حكاه ابن جريرٍ: «يرى المشركون يوم بدرٍ المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي: جعل اللّه ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم».
وهذا لا إشكال عليه إلّا من جهةٍ واحدةٍ، وهي أنّ المشركين بعثوا عمر بن
سعدٍ يومئذٍ قبل القتال يحزر لهم المسلمين، فأخبرهم بأنّهم ثلاثمائةٍ،
يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا. وهكذا كان الأمر، كانوا ثلاثمائةٍ وبضعة
عشر رجلًا ثمّ لمّا وقع القتال أمدّهم اللّه بألفٍ من خواصّ الملائكة
وساداتهم.
والقول الثّاني: " أنّ المعنى في قوله: {يرونهم مثليهم رأي العين}
أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي: ضعفيهم في العدد، ومع
هذا نصرهم اللّه عليهم. وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفيّ، عن ابن
عبّاسٍ أنّ المؤمنين كانوا يوم بدرٍ ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر رجلًا والمشركين
كانوا ستّمائةٍ وستّةً وعشرين رجلًا. وكأنّ هذا القول مأخوذٌ من ظاهر هذه
الآية، ولكنّه خلاف المشهور عند أهل التّواريخ والسّير وأيّام النّاس،
وخلاف المعروف عند الجمهور من أنّ المشركين كانوا ما بين التّسعمائة إلى
الألف كما رواه محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير، أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجّاج
عن عدّة قريشٍ، فقال: كثيرٌ، قال: "كم ينحرون كلّ يومٍ؟ " قال: يومًا
تسعًا ويومًا عشرًا، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «القوم ما بين التّسعمائة إلى الألف».
وروى أبو إسحاق السّبيعي، عن حارثة، عن عليٍّ، قال: كانوا ألفًا، وكذا
قال ابن مسعودٍ. والمشهور أنّهم كانوا ما بين التّسعمائة إلى الألف، وعلى
كلّ تقديرٍ فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول
واللّه أعلم. لكن وجّه ابن جريرٍ هذا، وجعله صحيحًا كما تقول: عندي ألفٌ
وأنا محتاجٌ إلى مثليها، وتكون محتاجًا إلى ثلاثة آلافٍ، كذا قال. وعلى هذا
فلا إشكال.
لكن بقي سؤالٌ آخر وهو واردٌ على القولين، وهو أن يقال: ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصّة بدرٍ: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا}؟ [الأنفال: 44] والجواب: أنّ هذا كان في حالٍ، والآخر كان في حالٍ أخرى، كما قال السّدّي، عن مرة الطّيّب عن ابن مسعودٍ في قوله: {قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي العين} الآية، قال: «هذا يوم بدرٍ». قال عبد اللّه بن مسعودٍ: «وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثمّ نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قوله تعالى:{وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلّلكم في أعينهم}».
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: «لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجلٍ إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائةً. قال: فأسرنا رجلًا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا.
فعندما عاين كلّ الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي: أكثر
منهم بالضّعف، ليتوكّلوا ويتوجّهوا ويطلبوا الإعانة من ربّهم، عزّ وجلّ.
ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرّعب والخوف والجزع والهلع، ثمّ
لمّا حصل التّصافّ والتقى الفريقان قلّل اللّه هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء
في أعين هؤلاء، ليقدم كلٌّ منهما على الآخر».
{ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا} أي: ليفرّق بين الحقّ والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر، ويعزّ المؤمنين ويذلّ الكافرين، كما قال تعالى: {ولقد نصركم اللّه ببدرٍ وأنتم أذلّةٌ} [آل عمران: 123] وقال هاهنا: {واللّه يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار} أي:
إنّ في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرةٌ وفهمٌ يهتدي به إلى حكم اللّه وأفعاله،
وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدّنيا ويوم يقوم
الأشهاد). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 17-18]
* للاستزادة ينظر: هنا