الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (33) إلى الآية (37) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

4983

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم الرابع

تفسير سورة آل عمران[من الآية (33) إلى الآية (37) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

4983

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}
معنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم, أي: جعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى؛ لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، وإذا سمع السامع ذلك المعلوم , كان عنده بمنزلة ما يشاهده عياناً, فنحن نعين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة اللّه من خلقه، وفيه ثلاث لغات: صفوة, وصفوة, وصفوة, وهم من لا دنس فيهم من جهة من الجهات في الدّين, والخيريّة.
وقيل في
معنى اصطفاهم قولان:
1- قال قوم: اصطفى دينهم, أي: اختاره على سائر الأديان؛ لأن دين هؤلاء الجماعة: الإسلام، وقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الدّين عند اللّه الإسلام}
2- وقال قوم: اصطفى آدم بالرسالة إلى الملائكة, وإلى ولده, واصطفى نوحاً, وإبراهيم, وآله بالرّسالة، ألا ترى قوله عزّ وجلّ: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}, فأمره اللّه تعالى أن ينبئ عنه ملائكته، وآل عمران هم آل إبراهيم). [معاني القرآن: 1/398-399]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرّيّةً بعضها من بعضٍ واللّه سميعٌ عليمٌ (34) إذ قالت امرأت عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم (35)
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى آل عمران منها ثم خص امرأت عمران بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان واصطفى معناه: اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدرا، وآدم هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم إنّ اللّه اصطفى آدم عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله:
أنبئهم بأسمائهم [البقرة: 33] وهذا ضعيف، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم، كهود ولوط، وآل إبراهيم
يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام، والآل في اللغة، الأهل والقرابة، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل، فمنه آل فرعون، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو:
[الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه = عليّ وعبّاس وآل أبي بكر
أراد جميع المؤمنين، و «الآل» في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير إنّ اللّه اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاما بأن يقدر محمدا عليه السلام من آل إبراهيم، وإن قلنا أراد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل» الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم، وآل عمران أيضا يحتمل من التأويل ما تقدم في آل إبراهيم، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري، قال مكي: هو عمران بن ماثال، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم، وقال ابن عباس: «اصطفى الله» هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له). [المحرر الوجيز: 2/197-199]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرّيّةً بعضها من بعضٍ واللّه سميعٌ عليمٌ (34)}
يخبر تعالى أنّه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السّلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيءٍ، وأسكنه الجنّة ثمّ أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحًا، عليه السّلام، وجعله أوّل رسولٍ [بعثه] إلى أهل الأرض، لمّا عبد النّاس الأوثان، وأشركوا في دين اللّه ما لم ينزّل به سلطانا، وانتقم له لمّا طالت مدّته بين ظهراني قومه، يدعوهم إلى اللّه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلّا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم اللّه عن آخرهم، ولم ينج منهم إلّا من اتّبعه على دينه الّذي بعثه اللّه به.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيّد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أمّ عيسى ابن مريم، عليهم السّلام. قال محمّد بن إسحاق بن يسار رحمه اللّه: هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيّان بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السّلام. فعيسى، عليه السّلام، من ذرّيّة إبراهيم، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، إن شاء اللّه وبه الثّقة).
[تفسير القرآن العظيم: 2/33]


تفسير قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {ذرّيّة بعضها من بعض واللّه سميع عليم}, المعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض, فيكون نصب {ذرّيّة} على البدل، وجائزاً أن ينصب على الحال, المعنى: واصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض,
و
{ذرّيّة}, قال النحويون: هي فعليّة من الذر، لأن اللّه أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى},
وقال بعض النحويين:
{ذرّيّة}, أصلها: ذرورة على وزن فعولة, ولكن التضعيف لمّا كثر أبدل من الراء الأخيرة, فصارت ذروية , ثم أدغمت الواو في الياء, فصارت ذرّيّة,
والقول الأول أقيس, وأجود عند النحويين).
[معاني القرآن: 1/399-400]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ذرّيّةً نصب على البدل، وقيل على الحال لأن معنى ذرّيّةً بعضها من بعضٍ متشابهين في الدين والحال، وهذا أظهر من البدل، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلا، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى: أنّا حملنا ذرّيّتهم في الفلك المشحون [يس: 41] أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها، وكذلك إن جعلناها من «ذرى» وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل، قال أبو الفتح: الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلا لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة من ظهورهم ذرّيّتهم [الأعراف: 172] قال الزجّاج: أصلها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، قال أبو الفتح: هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي بكسر الحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج: وقيل أصل ذرّيّةً ذرورة، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت ذرّيّةً.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا اشتقاق من ذر يذر، أو من ذرى، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق، وفي كوكب دري، في قول من رآه من- درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه.
وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك، «ذرية» بكسر الذال، وقوله تعالى: بعضها من بعضٍ أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة). [المحرر الوجيز: 2/199-200]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرّيّةً بعضها من بعضٍ واللّه سميعٌ عليمٌ (34)}
يخبر تعالى أنّه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السّلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيءٍ، وأسكنه الجنّة ثمّ أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحًا، عليه السّلام، وجعله أوّل رسولٍ [بعثه] إلى أهل الأرض، لمّا عبد النّاس الأوثان، وأشركوا في دين اللّه ما لم ينزّل به سلطانا، وانتقم له لمّا طالت مدّته بين ظهراني قومه، يدعوهم إلى اللّه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلّا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم اللّه عن آخرهم، ولم ينج منهم إلّا من اتّبعه على دينه الّذي بعثه اللّه به.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيّد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أمّ عيسى ابن مريم، عليهم السّلام. قال محمّد بن إسحاق بن يسار رحمه اللّه: هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيّان بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السّلام. فعيسى، عليه السّلام، من ذرّيّة إبراهيم، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، إن شاء اللّه وبه الثّقة).
[تفسير القرآن العظيم: 2/33] (م)


تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إذ قالت امرأت عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم}
قال أبو عبيدة: معناه :{قالت امرأة عمران}, و " إذ " لغو , وكذلك:{وإذ قالت الملائكة يا مريم}, قال معناه: وقالت: ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً.
قال جميع النحويين: إن (إذ) يدل على ما مضى من الوقت, فكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً, وهي اسم مع ما بعدها,
وقال غير أبي عبيدة منهم أبو الحسن الأخفش، وأبو العباس محمد بن يزيد،
المعنى: اذكروا إذ قالت امرأة عمران.
والمعنى عندي - واللّه أعلم -: غير ما ذهبت إليه هذه الجماعة , وإنما العامل في {إذ قالت}, معنى الاصطفاء , المعنى- واللّه أعلم - واصطفى آل عمران {إذ قالت امرأت عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا}, واصطفاهم {إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ اللّه اصطفاك}, فذكر اصطفاك يدل على ما وصفنا, ومعنى نذرت: يدل على ما وصفنا.
ومعنى {نذرت لك ما في بطني محرّراً}, أي: جعلته خادماً يخدم في متعبّداتنا، وكان ذلك جائزاً لهم، وكان على أولادهم فرضاًأن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبّده, ولعبّادهم، ولم يكن ذلك النذر في النّساء, إنما كان ذلك في الذكورة، فلمّا ولدت امرأة عمران مريم قالت: {ربّ إنّي وضعتها أنثى} , وليست الأنثى مما يصلح للنذر، فجعل الله عزّ وجلّ من الآيات في مريم لما أراده اللّه من أمر عيسى أن جعلها متقبّلة في النذر, فقال عزّ وجلّ: {فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفّلها زكريّا كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب}). [معاني القرآن: 1/400-401]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف الناس في العامل في قوله إذ قالت فقال أبو عبيدة معمر: إذ زائدة، وهذا قول مردود، وقال المبرد والأخفش: العامل فعل مضمر تقديره، اذكر إذ وقال الزجاج: العامل معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران إذ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء، وقال الطبري ما معناه: إن العامل في إذ قوله سميعٌ وامرأت عمران اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق، وهي أم مريم بنت عمران، ومعنى قوله: نذرت لك ما في بطني محرّراً أي جعلت نذرا أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، أي عتيقا من ذلك فهو من لفظ الحرية، ونصبه على الحال، قال مكي: فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره، غلاما محررا، وفي هذا نظر، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس.
قال ابن إسحاق: كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدا فحملت بمريم وهلك عمران، فلما علمت أن في بطنها جنينا جعلته نذيرة لله، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا، وقال مجاهد: محرّراً معناه خادما للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفا في الذكور خاصة، وكان فرضا على الأبناء التزام ذلك، فقالت ما في بطني ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكرا، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها فتقبّل منّي أي ارض عني في ذلك واجعله فعلا مقبولا مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها). [المحرر الوجيز: 2/200-201]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إذ قالت امرأة عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم (35) فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها أنثى واللّه أعلم بما وضعت وليس الذّكر كالأنثى وإنّي سمّيتها مريم وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم (36)}
امرأة عمران هذه أمّ مريم [بنت عمران] عليها السّلام وهي حنّة بنت فاقوذ، قال محمّد بن إسحاق: وكانت امرأةً لا تحمل، فرأت يومًا طائرًا يزقّ فرخه، فاشتهت الولد، فدعت اللّه، عزّ وجلّ، أن يهبها ولدًا، فاستجاب اللّه دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحقّقت الحمل نذرته أن يكون {محرّرًا} أي: خالصًا مفرّغًا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس، فقالت: {ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم} أي: السّميع لدعائي، العليم بنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرًا أم أنثى؟).
[تفسير القرآن العظيم: 2/33]


تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها أنثى واللّه أعلم بما وضعت وليس الذّكر كالأنثى وإنّي سمّيتها مريم وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم (36) فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريّا كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ (37)
هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والوضع الولادة، وأنث الضمير في وضعتها، حملا على الموجودة ورفعا للفظ ما التي في قولها ما في بطني [آل عمران: 33] وقولها، ربّ إنّي وضعتها أنثى لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبيّن الله ذلك بقوله: واللّه أعلم بما وضعت. وقرأ جمهور الناس «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعت»، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضا مخرج قولها، ربّ إنّي وضعتها أنثى من معنى الخبر إلى معنى
التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكرا فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره، وقرأ ابن عباس «وضعت» بكسر التاء على الخطاب من الله لها، وقولها وليس الذّكر كالأنثى تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد، وفي قولها وإنّي سمّيتها مريم سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى، قال مالك رحمه الله: ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية، قال ابن حبيب: أحب إلي أن يسمى، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته، ومريم، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه، وباقي الآية إعادة، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال: كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها: وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته). [المحرر الوجيز: 2/201-202]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها أنثى واللّه أعلم بما وضعت} قرئ برفع التّاء على أنّها تاء المتكلّم، وأنّ ذلك من تمام قولها، وقرئ بتسكين التّاء على أنّه من قول اللّه عزّ وجلّ {وليس الذّكر كالأنثى} أي: في القوّة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى {وإنّي سمّيتها مريم} فيه دلالةٌ على جواز التّسمية يوم الولادة كما هو الظّاهر من السياق؛ لأنه شرع من قبلنا، وقد حكي مقرّرًا، وبذلك ثبتت السّنّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيث قال: "ولد لي اللّيلة ولد سمّيته باسم أبي إبراهيم". أخرجاه وكذلك ثبت فيهما أنّ أنس بن مالكٍ ذهب بأخيه، حين ولدته أمّه، إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فحنّكه وسمّاه عبد اللّه وفي صحيح البخاريّ: أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، ولد لي ولد، فما أسمّيه؟ قال: "اسم ولدك عبد الرّحمن" وثبت في الصّحيح أيضًا: أنّه لمّا جاءه أبو أسيد بابنه ليحنّكه، فذهل عنه، فأمر به أبوه فردّه إلى منزلهم، فلمّا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المجلس سمّاه المنذر.
فأمّا حديث قتادة، عن الحسن البصريّ، عن سمرة بن جندب؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "كلّ غلامٍ رهين بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويسمّى ويحلق رأسه" فقد رواه أحمد وأهل السّنن، وصحّحه التّرمذيّ بهذا اللّفظ، ويروي: "ويدمّى"، وهو أثبت وأحفظ واللّه أعلم. وكذا ما رواه الزّبير بن بكّارٍ في كتاب النّسب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عقّ عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسمّاه إبراهيم. فإسناده لا يثبت، وهو مخالفٌ لما في الصّحيح ولو صحّ لحمل على أنّه أشهر اسمه بذلك يومئذٍ، واللّه أعلم.
وقوله إخبارًا عن أمّ مريم أنّها قالت: {وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم} أي: عوّذتها باللّه، عزّ وجلّ، من شرّ الشّيطان، وعوّذت ذرّيّتها، وهو ولدها عيسى، عليه السّلام. فاستجاب اللّه لها ذلك كما قال عبد الرزّاق: أنبأنا معمر، عن الزّهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "ما من مولودٍ يولد إلّا مسّه الشّيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا من مسّه إيّاه، إلّا مريم وابنها". ثمّ يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم} أخرجاه من حديث عبد الرّزّاق. ورواه ابن جريرٍ، عن أحمد بن الفرج، عن بقيّة، [عن الزّبيديّ] عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بنحوه. وروى من حديث قيسٍ، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما من مولود إلّا وقد عصره الشّيطان عصرةً أو عصرتين إلّا عيسى ابن مريم ومريم". ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم}.
ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه مسلمٌ، عن أبي الطّاهر، عن ابن وهبٍ، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة. ورواه وهبٌ أيضًا، عن ابن أبي ذئبٍ، عن عجلان مولى المشمعلّ، عن أبي هريرة. ورواه محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بأصل الحديث. وهكذا رواه اللّيث بن سعدٍ، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرّحمن بن هرمز، الأعرج قال: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلّ بني آدم يطعن الشّيطان في جنبه حين تلده أمّه، إلّا عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب").
[تفسير القرآن العظيم: 2/33-35]


تفسير قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفّلها زكريّا كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب}
الأصل في العربية: بتقبّل حسن، ولكن قبول محمول على قوله قبلها قبولاً حسناً, يقال: قبلت الشيء قبولاً حسناً، ويجوز: قبولاً إذا رضيته.
وقبلت الريح قبولاً, وهي تقبل، وقبلت بالرجل أقبل قبالة، أي: كفلت به، وقد روى: قبلت بالرجل في معنى: كفلت به على مثال: فعلت، ويقال: سقى فلان إبله قبلاً, أي : صب الماء في الحوض , وهي تشرب منه, فأصابها، وكل ما عاينت, قلت فيه أتاني قبلاً, أي: معاينة، وكل ما استقبلك فهو قبل بالفتح.
وتقول: لا أكملك إلى عشر من ذي قبل وقبل، المعنى: قبل إلى عشر مما نشاهده من هذه الأيام، ومعنى " قبل " عشر نستقبلها، ويقال: قبلت العين تقبل قبلاً إذا أقبل النظر على الأنف.
وقوله عزّ وجلّ: {أو يأتيهم العذاب قبلا}, وقبلا وقبلا: كله جائز، فمن قرأ: (قبلاً) , فهو جمع قبيل , وقبل مثل: رغيف, ورغف، المعنى: أو يأتيها العذاب ضروباً, ومن قرأ:( قبلا ), بالكسر, فالمعنى: أو يأتيهم العذاب معاينة، ومن قرأ: (قبلا) بالفتح فالمعنى: أو يأتيهم العذاب مقابلا، والقبلة: جمع قبل شبيهة بالفلكة، أي: بفلكة المغزل تكون في القلادة.
ومعنى{وأنبتها نباتا حسناً}, أي: جعل نشوءها نشوءاً حسناً, وجاء ( نباتاً) على غير لفظ أنبت، على معنى: نبت نباتاً حسناً,
وقوله عزّ وجلّ: {وكفّلها زكريّا}, في هذا غير وجه،
1- يجوز: (وكفّلها زكريّاء) بالمدّ ,
2- كلّما دخل عليها زكريّاء, {وكفّلها زكريّا} بالقصر ,
3- {كلّما دخل عليها زكريّا} بالقصر.
وفي {زكريّا} ثلاث لغات هي المشهورة المعروفة: زكرياء بالمد, وزكريا بالقصر غير منون في الجهتين جميعاً, وزكريّ بحذف الألف معرب منون, فإما ترك صرفه؛ فلأن في آخره ألفى التأنيث في المد, وألف التأنيث في القصر،
وقال بعض النحويين: إنه لم يصرف؛ لأنّه أعجميّ، وما كانت فيه ألف التأنيث, فهو سواء في العربية والعجمية؛ لأن ما كان أعجمياً, فهو يتصرف في النكرة،
ولا يجوز أن: تصرف الأسماء التي فيها ألف التأنيث في معرفة ولا نكرة ؛ لأن فيها علامة التأنيث, وأنها مصوغة مع الاسم صيغة واحدة، فقد فارقت هاء التأنيث, فلذلك لم تصرف في النكرة.

ويجوز (كفلها زكرياء) بنصب زكرياء، ويجوز في هذا الموضوع (زكريا) بالقصر، فمن قرأ:(كفّلها زكريّاء), رفعه بفعله، فالمعنى: فيما ذكر أبو عبيدة ضمنها، ومعناه: في هذا ضمن القيام بأمرها.
ومن قرأ (كفلها زكرياء) بالنصب, فالمعنى: وكفلها اللّه زكرياء، وأما اللغة الثالثة: فلا تجوز في القرآن؛ لأنها مخالفة المصحف، وهي كثيرة في كلام العرب.
وقوله جلّ وعزّ: {كلّما دخل عليها زكريّا المحراب}, القصر؟, والمد في زكريا, والقراءة بهما كثيرة كما وصفنا, و (المحراب): أشرف المجالس والمقدم فيها، وقد قيل: إن مساجدهم كانت تسمى: المحاريب، والمحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف.
قال الشاعر:
ربّة محراب إذا جئتها= لم ألقها أو ارتقى سلما
ومنه قوله عزّ ونجل:{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب}, ونصب كلّما بقوله: {وجد}, أي: يجد عندها الرزق في كل وقت يدخل عليها المحراب, فيكون ما مع دخل بمنزلة الدخول, أي: كل وقت دخول.
وقوله عزّ وجلّ {قال يا مريم أنّى لك}, أي: من أين لك هذا؟
{هذا قالت هو من عند اللّه},وإنما سأل زكريا عن الرزق؛ لأنه خاف أن يأتيها من غير جهته, فتبين عنده أنه من عند اللّه، وذلك من آيات مريم، قال اللّه تبارك وتعالى: {وجعلناها وابنهاآية للعالمين} , فمن آياتها:
1- أنها أول امرأة قبلت في نذر في المتعبد.
2- ومنها أن اللّه أنشأ فيها عيسى - عليه السلام - من كلمة ألقاها إليها.
3- ومنها أن اللّه عزّ وجلّ غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيده.
وقد قيل في التفسير: أنّها لم تلقم ثدياً قط.

ومعنى (إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب),أي: بغير تقتير،و {حساب}:
إن شئت فتحت الألف, وألزمتها جهة الفتح،
وإن شئت أملتها إلى الكسر، لانكسار الحاء، وذلك كثير في لغة العرب).
[معاني القرآن: 1/401-404]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فتقبّلها إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت، وقوله بقبولٍ مصدر جاء على غير الصدر، وكذلك قوله نباتاً بعد أنبت، وقوله وأنبتها نباتاً حسناً، عبارة عن حسن النشأة وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق، وقوله تعالى: وكفّلها زكريّا معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن، قال ابن إسحاق: إن زكرياء كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكرياء يحيى وولدت امرأة عمران مريم، وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة، قال مكي: وهو زكريا بن آذن، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم: أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه، وأنهم فعلوا في مريم ذلك، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، وقيل أقلاما بروها من عود كالسهام والقداح، وقيل عصيا لهم، وهذه كلها تقلم، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن، وروي أنهم ألقوه في عين، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته، وروي أن أقلام القوم عامت على الماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزا واقفا كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام، وحكى الطبري عن ابن إسحاق: أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء: إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق.
قال أبو محمد: وهذا الاستهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها، والأول المراد منه أخذها، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته، وهكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وكفلها زكرياء مفتوحة الفاء، خفيفة «زكرياء» مرفوعا ممدودا، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وكفلها مشدد الفاء ممدودا منصوبا في جميع القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص، «كفّلها» مشددة الفاء مفتوحة، «زكريّا» مقصورا في جميع القرآن، وفي رواية أبي بن كعب، و «أكفلها زكرياء» بفتح الفاء على التعدية بالهمزة، وقرأ مجاهد، «فتقبلها» بسكون اللام على الدعاء «ربّها» بنصب الباء على النداء و «أنبتها» بكسر الباء على الدعاء، و «كفلها» بكسر الفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوبا ممدودا، وروي عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، «وكفلها» بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال: كفل يكفل بضم العين في المضارع، وكفل بكسر العين يكفل بفتحها في المضارع، «زكرياء» اسم أعجمي يمد ويقصر، قال أبو علي: لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصر، قال الزجاج: فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث، قال أبو علي: ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه، ولا يجوز أن تكون منقلبة، ويقال في لغة زكرى منون معرب، قال أبو علي: هاتان ياء نسب ولو كانتا اللتين في زكريّا لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب، وحكى أبو حاتم، زكرى بغير صرف وهو غلط عند النحاة، ذكره مكي.
وقوله تعالى: كلّما ظرف والعامل فيه وجد، والمحراب المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب، وقال الشاعر:
[وضاح اليمن] [السريع]
ربّة محراب إذا جئتها = لم ألقها أو أرتقي سلّما
ومثل قول الآخر: [عدي بن زيد] [الخفيف]
كدمى العاج في المحاريب أو كال = بيض في الرّوض زهره مستنير
وقوله تعالى: وجد عندها رزقاً، معناه طعاما تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها، وكانت فيما ذكر الربيع، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها بسلم، وقال ابن عباس: وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه، وقاله ابن جبير ومجاهد، وقال الضحاك ومجاهد أيضا وقتادة: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وقال ابن عباس: كان يجد عندها ثمار الجنة: فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال الحسن: كان يجد عندها رزقا من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه، وقال ابن إسحاق: هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله كلّما دخل عليها إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيرا، وذلك أن جريجا كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال: يا مريم أنّى لك هذا والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق، وقوله أنّى معناه كيف ومن أين؟ وقولها: هو من عند اللّه، دليل على أنه ليس من جلب بشر، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب، قال الزجاج: وهذا من الآية التي قال تعالى: وجعلناها وابنها آيةً للعالمين [الأنبياء: 91] وروي أنها لم تلقم ثديا قط، وقولها: إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والله تعالى لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما يخرج منها، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/202-206]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ وأنبتها نباتًا حسنًا وكفّلها زكريّا كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ (37)}
يخبر ربّنا أنّه تقبّلها من أمّها نذيرة، وأنه {وأنبتها نباتًا حسنًا} أي: جعلها شكلًا مليحًا ومنظرًا بهيجًا، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصّالحين من عباده تتعلّم منهم الخير والعلم والدّين. ولهذا قال: {وكفلها زكريّا} وفي قراءةٍ: {وكفّلها زكريّا} بتشديد الفاء ونصب زكريّا على المفعوليّة، أي جعله كافلًا لها.
قال ابن إسحاق: وما ذاك إلّا أنّها كانت يتيمةً. وذكر غيره أنّ بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب، فكفل زكريّا مريم لذلك. ولا منافاة بين القولين. واللّه أعلم.
وإنّما قدّر اللّه كون زكريّا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علمًا جمًّا نافعًا وعملًا صالحًا؛ ولأنّه كان زوج خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جريرٍ [وغيرهما] وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصّحيح: "فإذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة"، وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضًا توسّعا، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها. وقد ثبت في الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالبٍ وقال: "الخالة بمنزلة الأمّ".
ثمّ أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محلّ عبادتها، فقال: {كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقًا} قال مجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو الشّعثاء، وإبراهيم النخعيّ، والضّحّاك، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، وعطيّة العوفي، والسّدّي [والشّعبيّ] يعني وجد عندها فاكهة الصّيف في الشّتاء وفاكهة الشّتاء في الصّيف. وعن مجاهدٍ {وجد عندها رزقًا} أي: علمًا، أو قال: صحفًا فيها علمٌ. رواه ابن أبي حاتمٍ، والأوّل أصحّ، وفيه دلالةٌ على كرامات الأولياء. وفي السّنّة لهذا نظائر كثيرةٌ. فإذا رأى زكريّا هذا عندها {قال يا مريم أنّى لك هذا} أي: يقول من أين لك هذا؟ {قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ}.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا سهل بن زنجلة، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، حدّثنا عبد الله ابن لهيعة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابرٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أقام أيّامًا لم يطعم طعامًا، حتّى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدةٍ منهنّ شيئًا، فأتى فاطمة فقال: "يا بنيّة، هل عندك شيء آكله، فإنّي جائع؟ " فقالت: لا واللّه بأبي أنت وأمّي. فلمّا خرج من عندها بعثت إليها جارةٌ لها برغيفين وقطعة لحمٍ، فأخذته منها فوضعته في جفنةٍ لها، وقالت: واللّه لأوثرنّ بهذا رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] على نفسي ومن عندي. وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعامٍ، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فرجع إليها فقالت له: بأبي وأمّي قد أتى اللّه بشيءٍ فخبّأته لك. قال: "هلمّي يا بنيّة" قالت: فأتيته بالجفنة. فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءةٌ خبزًا ولحمًا، فلمّا نظرت إليها بهتت وعرفت أنّها بركةٌ من اللّه، فحمدت اللّه وصلّت على نبيّه، وقدّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا رآه حمد اللّه وقال: "من أين لك هذا يا بنية؟ " فقالت يا أبت، {هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ} فحمد اللّه وقال: "الحمد لله الّذي جعلك -يا بنيّة-شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت إذا رزقها الله شيئًا فسئلت عنه قالت: {هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ} فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى علي ثمّ أكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأكل عليٌّ، وفاطمة، وحسنٌ، وحسينٌ، وجميع أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأهل بيته جميعًا حتّى شبعوا. قالت: وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت ببقيّتها على جميع الجيران، وجعل اللّه فيها بركة وخيرا كثيرا).
[تفسير القرآن العظيم: 2/35-36]



* للاستزادة ينظر: هنا