22 Jan 2015
تفسير
قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ
بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ
اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(49)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ورسولاً
إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين
كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي
الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك
لآية لكم إن كنتم مؤمنين}, ونصب {ورسولا إلى بني إسرائيل}على وجهين:
أحدهما: ويجعله رسولاًإلى بني إسرائيل،
2- والاختيار عندي - واللّه أعلم -: ويكلم الناس رسولاً إلى بني إسرائيل, والدليل على ذلك: أنّه قال: {أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم}, فالمعنى - واللّه أعلم - ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ولو قرئت إني قد جئتكم - بالكسر - كان صواباً, المعنى: إني قد جئتكم بآية من ربكم , أي: بعلامة تثبت رسالتي.
وقوله جلّ وعزّ: {أنّي أخلق لكم من الطّين}, يصلح أن يكون خفضاً, ورفعاً, فالخفض على البدل من (آية) , المعنى: جئتكم بأنّي أخلق لكم من الطّين،
وجائز أن يكون: {إنّي أخلق لكم من الطّين}, يخبرهم بهذه الآية : ما هي؟, أي: أقول لكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطير.
يقال: إنّه صنع؛ كهيئة الخفاش , ونفخ فيه , فصار طيراص,
وجاز أن يكون" فأنفخ فيه للفظ الطين، وقال في موضع آخر: {فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني}, للفظ الهيئة.
{وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن اللّه}: {الأكمه} :الذي يولد أعمى.
قال الراجز:
= هرجت فارتد ارتداد الأكمه
وقوله عزّ وجلّ: {وأنبّئكم بما تأكلون}, أي: أخبركم بمأكولكم، فجائز أن تكون (ما) ههنا في موضع الذي.
والمعنى: أنبئكم بالذي تأكلونه, وتدخرونه، ويجوز أن يكون " ما ", وما وقع بعدها بمنزلة المصدر.
المعنى: أنبئكم بأكلكم, وادخاركم, والأول أجود.
ومعنى تدخرون: جاء في التفسير ما تأكلون في غدوكم, وتدخرون بالدال والذال.
وقال بعض النحويين: إنما اختير تدخرون ؛ لأن
التاء تدغم في الذال نحو تذكرون، فكرهوا تذخرون؛ لأنه لا يشبه ذلك، فطلبوا
حرفاً بين التاء والذال, فكان ذلك الحرف الدال
وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة
والمهموسة: وهي فيما زعم الخليل ضربان: فالمهجورة حرف أشبع الاعتماد عليه
في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه، والمهموس حرف أضعف الاعتماد عليه في
موضعه , وجرى معه النفس.
وإنما قيل {تدّخرون} , وأصله: تذخرون، أي:
يفتعلون من الذخر؛ لأن الذال حرف مجهور لا يمكن النفس أن يجري معه لشدة
اعتماده في مكانه, والتاء مهموسة، فأبدل من مخرج التاء حرف مجهور يشبه
الذال في جهرها, وهو الدال.
فصار تذدخرون, ثم أدغمت الذال في الدال، وهذا
أصل الإدغام أن تدغم الأول في الثاني، وتذخرون جائز - فأما ما قال في
الملبس فليس تذخرون ملبسا بشيء). [معاني القرآن: 1/413-414]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله:
ورسولًا حال معطوفة على ويعلّمه إذ التقدير، ومعلما الكتاب، فهذا كله عطف
بالمعنى على قوله وجيهاً [آل عمران: 45]، ويحتمل أن يكون التقدير، ويجعله
رسولا، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، مبينا حكم التوراة
ونادبا إلى العمل بها ومحللا أشياء مما حرم فيها، كالثروب ولحوم الإبل
وأشياء من الحيتان والطير، ومن أول القول لمريم إلى قوله إسرائيل خطاب
لمريم، ومن قوله، أنّي قد جئتكم إلى قوله مستقيمٌ يحتمل أن يكون خطابا
لمريم على معنى يكون من قوله لبني إسرائيل، كيت وكيت، ويكون في آخر الكلام
متروك يدل عليه الظاهر تقديره، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا فقال لهم ما
تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدرا في صدر الكلام بعد قوله،
إلى بني إسرائيل فيكون تقديره، فجاء عيسى كما بشر الله رسولا إلى بني
إسرائيل بأني قد جئتكم، ويكون قوله: أنّي قد جئتكم ليس بخطاب لمريم، والأول
أظهر، وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم» بفتح الألف، تقديره بأني وقرئ في
الشاذ، «إني قد جئتكم»، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن
مسعود «بآيات» وكذلك في قوله بعد هذا وجئتكم بآيات من ربكم واختلف القراء
في فتح الألف وكسرها من قوله: أنّي أخلق، فقرأ نافع وجماعة من العلماء،
«إني» بكسر الألف، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء، «أني» بفتح الألف،
فوجه قراءة نافع، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله، «إني»
كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله، خلقه من تراب إلى غير ذلك من
الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية، كأنه قال: «وجئتكم بأني أخلق»،
وقيل: هي بدل من أنّي الأولى، وهذا كله يتقارب في المعنى وأخلق معناه، أقدر
وأهيئ بيدي، ومن ذلك قول الشاعر [زهير بن أبي سلمى]: [الكامل]:
ولأنت تفري ما خلقت وبع = ض القوم يخلق ثمّ لا يفري
وقوله لكم تقييد لقوله، أخلق لأنه يدل دلالة ما، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم، ويصرح
بذلك قوله بإذن اللّه
وحقيقة الخلق في الأجرام، ويستعمل في المعاني، ومنه قوله تعالى: وتخلقون
إفكاً [العنكبوت: 17] ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل مرفّل]
من كان يخلق ما يقو = ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ
«كهيئة» على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك، هاء الشيء يهاء هيئا
وهيئة، إذا ترتب واستقر على حال ما، وهو الذي تعديه فتقول: هيأت، وقرأ
الزهري «كهيّئة الطير»، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة، وقرأ أبو جعفر بن
القعقاع، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا» على الإفراد في الموضعين،
فالأول اسم الجنس والثاني مفرد، أي يكون طائرا من الطيور، وقرأ نافع وحده،
«كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا» بالإفراد في الأخير، وهكذا قرأ في
المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا» بالجمع فيهما، وكذلك
في سورة المائدة، ومعاني هذه القراءات بينة، والطّير اسم جمع وليس من أبنية
الجموع، وإنما البناء في جمع طائر أطيار، وجمع الجمع طيور، وحكاه أبو علي
عن أبي الحسن، وقوله فأنفخ فيه ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على
الطين المهيأ، ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور، وأنث الضمير في سورة
المائدة في قوله، فتنفخ فيها [المائدة: 110] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة
أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله الطّير وكون عيسى عليه السلام خالقا
بيده ونافخا بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله، وأما
الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك
له.
وقوله بإذن اللّه،
معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي، وحقيقة الإذن في الشيء
هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في
الإذن وأبلغ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبدا في قسم
الإباحة، وتأمل قوله تعالى: فهزموهم بإذن اللّه [البقرة: 251]، وقول النبي
عليه السلام، وإذنها صماتها، وروي في قصص هذه الآية، أن عيسى عليه السلام
كان يقول لبني إسرائيل: أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى؟ فيقولون: الخفاش،
لأنه طائر لا ريش له، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير، وكل
ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم، فكانوا يقولون: هذا ساحر.
قوله تعالى: ...
وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما
تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين (49)
وأبرئ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره، ويقال: برئ المريض أيضا كما يقال في الذنب والدين.
واختلف المفسرون في
الأكمه فقال مجاهد: الأكمه هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وقال ابن
عباس والحسن والسدي: الأكمه الأعمى على الإطلاق، وقال عكرمة: الأكمه
الأعمش، وحكى النقاش قولا: أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم،
الميت الفؤاد، وقال ابن
عباس أيضا وقتادة: الأكمه الذي يولد أعمى مضموم العين.
قال القاضي: وقد كان
عيسى عليه السلام يبرئ بدعائه ومسح يده كل علة، ولكن الاحتجاج على بني
إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرئ منها
طبيب بوجه، فليس يتخلص من هذه الأقوال في الأكمه إلا القول الأخير، إذ
الأكمه في اللغة هو الأعمى، وكمهت العين عميت، ولولا ضبط اللغة لكان القول
الذي حكى النقاش حسنا في معنى قيام الحجة به، والأبرص معروف، وهو داء لا
يبرأ منه إذا تمكن، وروي في إحيائه الموتى، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو
القبر أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه، وروي أنه أحيى سام بن نوح عليه
السلام، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته، وروي أنه كان يعود لموته
سريعا، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وإحياء الموتى هي
آيته المعجزة المعرضة للتحدي، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على
التحدي بها، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم
الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما
جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء
الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله، وهذا
كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع محمد عليه السلام.
ووقع في التواريخ
المترجمة عن الأطباء أن جالينوس، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل
إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك.
واختلف المفسرون في
معنى قوله تعالى: وأنبّئكم الآية، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق
ومجاهد وعطاء: كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما
يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل
لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر، وكذلك إلى أن نبئ، فكان يقول لكل من سأله
عن هذا المعنى، أكلت البارحة كذا، وادخرت كذا، قال ابن إسحاق:
وكان معلمه يريد أن
يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس، وقال
قتادة، معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم. وذلك أنها لما أنزلت أخذ
عليهم عهدا أن يأكلوا ولا يخبئ أحد شيئا ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا
وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة فكان عيسى
عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على
ذلك، وما في قوله بما تأكلون يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية
وكذلك وما تدّخرون، وقرأ الجمهور، «تدّخرون» بدال مشددة وخاء مكسورة، وهو
تفتعلون من ذخرت أصله، «تذخرون» استثقل النطق بالذال والتاء، لتقاربهما في
المخرج فأبدلت التاء دالا وأدغمت الذال في الدال، كما صنع في مدكر، ومطلع،
بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر: [زهير] [البسيط]
إن الكريم الذي يعطيك نائله = عفوا ويظلم أحيانا فيطّلم
بالطاء غير منقوطة،
وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدخرون» - بدال ساكنة
وخاء مفتوحة، وقوله: إنّ في ذلك إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء
والإنباء، وفي مصحف ابن مسعود «لآيات» على الجمع، وقوله إن كنتم مؤمنين،
توقيف والمعنى، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا
هادية، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا، هذا كله على أن
المخاطبة لمن لم يؤمن- بعد- وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل، وإن كان خطابه
لمؤمنين، أو كما كانوا مؤمنين بموسى، فمعنى الآية التشبيت وهز النفس كما
تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء: ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن
كنت من الرجال). [المحرر الوجيز: 2/226231]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{ورسولا إلى بني إسرائيل} أي: [و] يجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، قائلًا
لهم: {أنّي قد جئتكم بآيةٍ من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير
فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن اللّه} وكذلك كان يفعل: يصوّر من الطّين شكل
طيرٍ، ثمّ ينفخ فيه، فيطير عيانًا بإذن اللّه، عزّ وجلّ، الّذي جعل هذا
معجزةً يدلّ على أنّ اللّه أرسله.
{وأبرئ الأكمه} قيل: هو الّذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلًا. وقيل بالعكس.
وقيل: هو الأعشى. وقيل: الأعمش. وقيل: هو الّذي يولد أعمى. وهو أشبه؛ لأنّه
أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي {والأبرص} معروف.
{وأحيي الموتى بإذن اللّه} قال كثيرٌ من العلماء: بعث اللّه كلّ نبيٍّ من
الأنبياء بمعجزةٍ تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى، عليه
السّلام، السّحر وتعظيم السّحرة. فبعثه اللّه بمعجزةٍ بهرت الأبصار وحيّرت
كلّ سحّارٍ، فلمّا استيقنوا أنّها من عند العظيم الجبّار انقادوا للإسلام،
وصاروا من الأبرار. وأمّا عيسى، عليه السّلام، فبعث في زمن الأطبّاء وأصحاب
علم الطّبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحدٍ إليه، إلّا أن يكون
مؤيّدًا من الّذي شرع الشّريعة. فمن أين للطّبيب قدرةٌ على إحياء الجماد،
أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهينٌ إلى يوم التّناد؟
وكذلك محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم بعثه [اللّه] في زمن الفصحاء والبلغاء
ونحارير الشّعراء، فأتاهم بكتابٍ من اللّه، عزّ وجلّ، لو اجتمعت الإنس
والجنّ على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سورٍ من مثله، أو بسورةٍ من مثله لم
يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا، وما ذاك إلّا لأنّ كلام
الرّبّ لا يشبهه كلام الخلق أبدًا.
وقوله: {وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم} أي: أخبركم بما أكل
أحدكم الآن، وما هو مدّخرٌ [له] في بيته لغده {إنّ في ذلك} أي: في ذلك كلّه
{لآيةً لكم} أي: على صدقي فيما جئتكم به. {إن كنتم مؤمنين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/44-45]
تفسير
قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ
بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{ومصدّقا لما بين يديّ من التّوراة ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآية من ربّكم فاتّقوا اللّه وأطيعون}, نصب {مصدّقاً} على الحال، المعنى: وجئتكم مصدقاً لما بين يدي , أي: للكتاب الذي أنزل قبلي فهو أمري أن تتبعوني.
{ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآية من ربّكم}, أي: لم احل لكم شيئا بغير برهان، فهو حق عليكم اتباعي؛ لأني أنبئكم ببرهان، وتحليل طيبات كانت حرمت عليكم.
(فاتّقوا اللّه وأطيعون)أي: اتبعوني.
قال أبو عبيدة: معنى: {ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم},
قال معناه: كل الذي حرم عليكم، وهذا مستحيل في اللغة, وفي التفسير, وما
عليه العمل, فأمّا استحالته في اللغة ؛ فإن البعض والجزء لا يكون الكل ,
وأنشد في ذلك أبو عبيدة بيتاص غلط في معناه , وهو قول لبيد:
تراك منزلة إذا لم أرضها= أو يعتلق بعض النفوس حمامها
قال: المعنى " أو يعتلق كل النفوس حمامها" ,
وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، فهذا
إنما هو تبعيض صحيح, وإنما جاءهم عيسى بتحليل ما كان حراماً عليهم.
قال اللّه عزّ وجلّ: {فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم}, وهي نحو الشحوم وما يتبعها في التحريم، فأما أن يكون أحل لهم القتل, والسرقة, والزنا فمحال). [معاني القرآن: 1/415]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ومصدّقاً لما بين يديّ من التّوراة ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم
عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربّكم فاتّقوا اللّه وأطيعون (50) إنّ اللّه ربّي
وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ (51)
قوله: مصدّقاً حال
معطوفة على قوله: أنّي قد جئتكم بآيةٍ [آل عمران: 49]، لأن قوله بآيةٍ في
موضع الحال، وكان عيسى عليه السلام مصدقا للتوراة متبعا عاملا بما فيها،
قال وهب بن منبه: كان يسبت ويستقبل بيت المقدس، وقال قتادة في تفسير قوله:
ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم، كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء
به موسى، وقال ابن جريج، أحل لكم لحوم الإبل والشحوم، قال الربيع: وأشياء
من السمك، وما لا صيصية له من الطير، وكان في التوراة محرمات تركها شرع
عيسى على حالها، فلفظة «البعض» على هذا متمكنة، وقال أبو عبيدة: «البعض» في
هذه الآية بمعنى الكل، وخطأه الناس في هذه المقالة وأنشد أبو عبيدة شاهدا
على قوله بيت لبيد: [الكامل]
ترّاك أمكنة إذا لم يرضها = أو يخترم بعض النفوس حمامها
وليست في البيت له
حجة لأن لبيدا أراد نفسه فهو تبعيض صحيح، وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله
تعالى: حرّم عليكم إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى
رد أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله تعالى، وقال عكرمة:
«حرم عليكم» بفتح الحاء والراء المشددة، وإسناد الفعل إلى الله تعالى أو
إلى موسى عليه السلام، وقرأ الجمهور وجئتكم بآيةٍ وفي مصحف عبد الله بن
مسعود، «وجئتكم بآيات» من ربكم، وقوله تعالى: فاتّقوا اللّه وأطيعون تحذير
ودعاء إلى الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/231-232]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{ومصدّقًا لما بين يديّ من التّوراة} أي: مقرّرٌ لهم ومثبّت {ولأحلّ لكم
بعض الّذي حرّم عليكم} فيه دلالةٌ على أنّ عيسى، عليه السّلام، نسخ بعض
شريعة التّوراة، وهو الصّحيح من القولين، ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها
شيئًا، وإنّما أحلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطؤوا، فكشف لهم عن
المغطّى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: {ولأبيّن لكم بعض الّذي تختلفون
فيه} [الزّخرف: 63] واللّه أعلم.
ثمّ قال: {وجئتكم بآيةٍ من ربّكم} أي: بحجّةٍ ودلالةٍ على صدقي فيما أقوله لكم. {فاتّقوا اللّه وأطيعون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/45]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ومعنى:{إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}
{هذا صراط مستقيم}، أي: هذا طريق الدين مستوياً).[معاني القرآن: 1/416]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ
جمهور الناس إنّ اللّه ربّي وربّكم بكسر الألف على استئناف الخبر، وقرأه
قوم «أن الله ربي وربكم» بفتح الألف قال الطبري: «إن» بدل من «آية»، في
قوله جئتكم بآيةٍ، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون، لأن الله ربي وربكم،
أو يكون المعنى، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وقوله هذا صراطٌ مستقيمٌ
إشارة إلى قوله: إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه، وهو لأن ألفاظه جمعت
الإيمان والطاعات، والصراط، الطريق، والمستقيم، الذي لا اعوجاج فيه). [المحرر الوجيز: 2/232]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه} أي: أنا وأنتم سواءٌ في العبوديّة له والخضوع والاستكانة إليه {هذا صراطٌ مستقيمٌ} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/45]
* للاستزادة ينظر: هنا