الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (52) إلى الآية (58) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

6482

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم الخامس

تفسير سورة آل عمران[من الآية (52) إلى الآية (58) ]
22 Jan 2015
22 Jan 2015

22 Jan 2015

6482

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}


تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى اللّه قال الحواريّون نحن أنصار اللّه آمنّا باللّه واشهد بأنّا مسلمون}
معنى أحسّ في اللغة: علم ووجد، ويقال: هل أحست في معنى هل أحسست ؟, ويقال: حسيت بالشيء إذا علمته وعرفته , وأنشد الأصمعي:
سوى أنّ العتاق من المطايا= أحسن به فهنّ إليه شوس
ويقال: حسّهم القائد، أي: قتلهم.
ومعنى{من أنصاري إلى اللّه}:
جاء في التفسير: من أنصاري مع اللّه، و (إلى) ههنا إنما قاربت (مع) معنى بأن صار اللفظ لو عبر عنه بـ " مع " أفاد مثل هذا المعنى، لا أن (إلى) في معنى " مع " , لو قلت ذهب زيد إلى عمرو, لم يجز ذهب زيد مع عمرو، لأن (إلى) غاية, و ( مع ) تضم الشيء إلى الشيء, فالمعنى: يضيف نصرته إياي إلى نصرة اللّه, وقولهم إنّ، (إلى) في معنى (مع) ليس بشيء. والحروف قد تقاربت في الفائدة, فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد.
من ذلك قوله جلّ وعزّ: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل}, ولو كانت (على) ههنا؛ لأدّت هذه الفائدة، لأنك لو قلت لأصلبنكم على جذوع النخل كان مستقيما.
وأصل (في) إنما هو للوعاء، وأصل " على " لما مع الشيء كقولك: التمر في الجراب, ولو قلت التمر على الجراب لم يصلح في هذا المعنى،
ولكن جاز
{ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل} ؛ لأن الجذع يشتمل على المصلوب، لأنه قد أخذه من أقطاره, ولو قلت زيد على الجبل , وفي الجبل يصلح؛ لأن الجبل قد اشتمل على زيد، فعلى هذا مجاز هذه الحروف.
وقوله جلّ وعزّ: {قال الحواريّون نحن أنصار اللّه}, قال الحذاق باللغة: {الحواريون}: صفوة الأنبياء عليهم السلام الذين خلصوا, وأخلصوا في التصديق بهم, ونصرتهم, فسماهم الله جلّ وعزّ: {الحواريون}, وقد قيل: أنهم كانوا قصارين , فسموا الحواريين لتبييضهم الثياب، ثم صار هذا الاسم يستعمل فيمن أشبههم من المصدقين تشبيهاً بهم.
وقيل: إنهم كانوا ملوكاً, وقيل كانوا صيادين، والذي عليه أهل اللغة أنهم الصفوة كما أخبرتك, ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّه قال: ((الزبير ابن عمتي, وحواريّي من أمتي)), ويقال: لنساء الأنصار حواريات، لأنهن تباعدن عن قشف الأعرابيات بنظافتهن.
وأنشد أبو عبيدة , وغيره لأبي جلدة اليشكري:
فقل للحواريات يبكين غيرنا= ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقال أهل اللغة في المحور: وهو العود الذي تدور عليه البكرة قولين:-
قال بعضهم: إنما قيل له محور للدوران؛ لأنه يرجع إلى المكان الذي زال منه.
وقيل: إنما قيل له محور؛ لأنه بدورانه ينصقل حتى يصير أبيض، ويقال : دقيق حوّاري من هذا, أي : قد أخذ لبابه, وكذلك عجين محوّر للذي يمسح وجهه بالماء حتى يصفو، ويقال عين حوراء إذا اشتد بياضها, وخلص, واشتد سوادها، ولا يقال امرأة حوراء إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء، وما روي، في الحديث: (( نعوذ باللّه من الحور بعد الكور)).
معناه: نعوذ باللّه من الرجوع والخروج عن الجماعة بعد الكور, أي: بعد أن كنا في الكور، أي: في الجماعة, يقال: كار الرجل عمامة إذا لفّها على رأسه، وحار عمامته إذا نقضها، وقد قيل: " بعد الكون " , ومعناه: بعد أن كنا على استقامة، إلا أن مع الكون محذوفاً في الكلام دليلاً عليه). [معاني القرآن: 1/416-418]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى اللّه قال الحواريّون نحن أنصار اللّه آمنّا باللّه واشهد بأنّا مسلمون (52) ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين (53) ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين (54)
قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات، تقديره، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل، فلمّا أحسّ ومعنى أحس، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض يقال أحسست بالشيء وحسيت به، أصله، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء، والكفر هو التكذيب به، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله، فحينئذ طلب النصر، والضمير في منهم لبني إسرائيل، وقوله تعالى: قال من أنصاري إلى اللّه عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها يقال من أنصاري إلى اللّه، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس، والأنصار جمع نصير، كشهيد وأشهاد وغير ذلك، وقيل جمع ناصر، كصاحب وأصحاب وقوله: إلى اللّه يحتمل معنيين، أحدهما، من ينصرني في السبيل إلى الله؟ فتكون إلى دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها، والمعنى الثاني، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي؟ فيكون بمنزلة قوله ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [النساء: 1] فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم، إن- مع- تسد في هذه المعاني مسد «إلى» لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن إلى بمعنى مع حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق [المائدة: 6] فقال إلى بمعنى مع وهذه عجمة بل إلى في هذه الآية، غاية مجردة، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر، والحواريّون، قوم مر بهم عيسى عليه السلام، فدعاهم إلى نصره، واتباع ملته، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك، واختلف الناس لم قيل لهم الحواريّون؟ فقال سعيد بن جبير، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها، وقال أبو أرطأة، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وقال قتادة، الحواريون أصفياء الأنبياء، الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك نحوه.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا تقرير حال القوم، وليس بتفسير اللفظة، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام، ابن عمته بهم في قوله: وحواريّ الزبير، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ، إذ هي من الحور، وهو البياض، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري، وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار، الحواريات، لغلبة البياض عليهن، ومنه قول أبي جلدة اليشكري:
فقل للحواريات يبكين غيرنا = ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وحكى مكي: أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألوانا شتى من ماء واحد، وقرأ
جمهور الناس «الحواريّون» بتشديد الياء، واحدهم- حواريّ- وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي، وقرأ إبراهيم النخعي وأبوبكر الثقفي: «الحواريون» مخففة الياء في جميع القرآن، قال أبو الفتح: العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها، ومتى جاءت في نحو قولهم، العاديون والقاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه، فكان يجب على هذا أن يقال، الحوارون، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالا لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد، إذ التشديد محتمل للضمة، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة وحملها الضمة تذكر الحال المرادة فيها.
وقول الحواريين: واشهد يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه السلام، أي اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى كما تقول: أنا أشهد الله على كذا، إذا عزمت وبالغت في الالتزام، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع: اللهم اشهد، قال الطبري: وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى، لا ما تقولونه أنتم، يا من يدعي له الألوهية). [المحرر الوجيز: 2/233-235]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى اللّه قال الحواريّون نحن أنصار اللّه آمنّا باللّه واشهد بأنّا مسلمون (52) ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين (53) ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين (54)}
يقول تعالى: {فلمّا أحسّ عيسى} أي: استشعر منهم التّصميم على الكفر والاستمرار على الضّلال قال: {من أنصاري إلى اللّه} قال مجاهدٌ: أي من يتبعني إلى اللّه؟ وقال سفيان الثّوريّ وغيره: من أنصاري مع اللّه؟ وقول مجاهدٍ أقرب.
والظّاهر أنّه أراد من أنصاري في الدّعوة إلى اللّه؟ كما كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في مواسم الحجّ، قبل أن يهاجر: "من رجل يؤويني على [أن] أبلّغ كلام ربّي، فإنّ قريشًا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي" حتّى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر. وهكذا عيسى ابن مريم، انتدب له طائفةٌ من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه. ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم: {قال الحواريّون نحن أنصار اللّه آمنّا باللّه واشهد بأنّا مسلمون. ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين} الحواريّون، قيل: كانوا قصّارين وقيل: سمّوا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل: صيّادين. والصّحيح أنّ الحواريّ النّاصر، كما ثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا ندب النّاس يوم الأحزاب، فانتدب الزّبير، ثمّ ندبهم فانتدب الزّبير [ثمّ ندبهم فانتدب الزّبير] فقال: "إنّ لكلّ نبيٍّ حواريًا وحواريي الزّبير").
[تفسير القرآن العظيم: 2/45-46]


تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين}, وأما معنى قوله:{فاكتبنا مع الشّاهدين}, أي: اكتبنا مع الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق، وحقيقة الشاهد أنه الذي يبين تصحيح دعوى المدعي، فالمعنى: صدقنا باللّه, واعترفنا بصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وثبتنا، فاكتبنا مع من فعل فعلنا). [معاني القرآن: 1/418]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم: ربّنا آمنّا بما أنزلت يريدون الإنجيل وآيات عيسى، والرّسول عيسى عليه السلام، وقولهم: فاكتبنا مع الشّاهدين عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب، عبروا عن فعل الله بهم ذلك وقال ابن عباس: قولهم مع الشّاهدين معناه اجعلنا من أمة محمد عليه السلام في أن نكون ممن يشهد على الناس). [المحرر الوجيز: 2/235-236]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا إسرائيل، عن سماكٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فاكتبنا مع الشّاهدين} قال مع أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم. وهذا إسنادٌ جيّدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/46]

تفسير قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين}المكر من الخلائق خبّ وخداع، والمكر من اللّه المجازاة على ذلك, فسمي باسم ذلك ؛لأنه مجازاة عليه كما قال عزّ وجلّ: {اللّه يستهزئ بهم}، فجعل مجازاتهم على الاستهزاء بالعذاب، لفظه لفظ الاستهزاء.
وكما قال جل وعز: {وجزاء سيّئة سيّئة مثلها}, فالأولى سيئة, والمجازاة عليها سمّيت باسمها، وليست في الحقيقة سيئة.
وجائز أن يكون: مكر اللّه استدراجهم من حيث لا يعلمون ؛ لأن الله سلّط عليهم فارس, فغلبتهم وقتلتهم، والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {الم (1) غلبت الرّوم (2) في أدنى الأرض}.
وقيل في التفسير أيضاً: إن مكر اللّه بهم كان في أمر عيسى أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيت فيه كوة , فدخل رجل ليقتله، ورفع عيسى من البيت, وخرج الرجل في شبهه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه, وجملة المكر من اللّه مجازاتهم على ما فعلوا).[معاني القرآن: 1/419]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال: ومكروا يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم، ويروى أنهم تحيلوا له، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتا فأخذوهم فيه، فهذا مكر بني إسرائيل، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكرا في قوله ومكر اللّه وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية، وعلى أن عيسى قال للحواريين: من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحدهم- أنا- فكان ذلك، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهوديا جاسوسا على عيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب، فهذا معنى قوله: ومكروا ومكر اللّه وهذه أيضا تسمية عقوبة باسم الذنب، والمكر في اللغة، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي، وقوله واللّه خير الماكرين معناه في أنه فاعل في حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل، والله سبحانه أشد بطشا وأنفذ إرادة، فهو خير من جهات لا تحصى، لا إله إلا هو، وذكر حصر عيسى عليه السلام، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/236]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى مخبرًا عن [ملأ] بني إسرائيل فيما همّوا به من الفتك بعيسى، عليه السّلام، وإرادته بالسّوء والصّلب، حين تمالؤوا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزّمان، وكان كافرًا، فأنهوا إليه أنّ هاهنا رجلًا يضلّ النّاس ويصدّهم عن طاعة الملك، ويفنّد الرّعايا، ويفرّق بين الأب وابنه إلى غير ذلك ممّا تقلّدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنّه ولد زانيةٍ حتّى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكّل به، فلمّا أحاطوا بمنزله وظنّوا أنّهم قد ظفروا به، نجّاه اللّه من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السّماء، وألقى اللّه شبهه على رجلٍ [ممّن] كان عنده في المنزل، فلمّا دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة اللّيل عيسى، عليه السّلام، فأخذوه وأهانوه وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشّوك. وكان هذا من مكر اللّه بهم، فإنّه نجّى نبيّه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنّهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن اللّه في قلوبهم قسوةً وعنادًا للحقّ ملازمًا لهم، وأورثهم ذلّةً لا تفارقهم إلى يوم التّناد؛ ولهذا قال تعالى: {ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين}). [تفسير القرآن العظيم: 2/46]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إذ قال اللّه يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون},(عيسى) اسم أعجمي عدل عن لفظ الأعجمية إلى هذا البناء، وهو غير مصروف في المعرفة ؛ لاجتماع العجمية والتعريف فيه, ومثال اشتقاقه من كلام العرب أنّ عيسى: فعلى, فالألف يصلح أن تكون للتأنيث، فلا تتصرف في معرفة ولا نكرة، ويكون اشتقاقه من شيئين:
أحدهما: العيس، وهو بياض الإبل،
والآخر: من العوس والعياسة؛ إلا أنه قلبت الواو يا لانكسار ما قبلها, فأمّا عيسى عليه السلام , فمعدول من يشوع كذا يقول أهل السريانية.
وقال النحويون في معنى قوله عزّ وجلّ{إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك}:
التقديم والتأخير، المعنى: إني رافعك, ومطهرك, ومتوفيك.
وقال بعضهم: المعنى على هذا اللفظ كقوله عزّ وجل: {اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها}, فالمعنى على مذهب هؤلاء: أن الكلام على هذا اللفظ.
ومعنى {وجاعل الذين اتبعوك فوق الّذين كفروا}: القراءة بطرح التنوين، والتنوين جائز، ولكن لا تقرأ به إلا أن تكون ثبتت بذلك رواية.
ومعنى {فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}, فيه قولان:
أحدهما: أنهم فوقهم في الحجة, وإقامة البرهان.
والآخر: أنهم فوقهم في اليد والبسطة والغلبة، ويكون {الذين اتبعوك} : محمداً صلى الله عليه وسلم, ومن اتبعه؛ فهم منصورون عالون). [معاني القرآن: 1/419-420]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إذ قال اللّه يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأمّا الّذين كفروا فأعذّبهم عذاباً شديداً في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فيوفّيهم أجورهم واللّه لا يحبّ الظّالمين (57)
قال الطبري: العامل في إذ قوله تعالى ومكر اللّه [آل عمران: 54] وقال غيره من النحاة: العامل فعل مضمر تقديره اذكر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو الأصوب، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم، و «عيسى» اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية- ايسوع- عدلته العرب إلى «عيسى»، واختلف المفسرون في هذا التوفي، فقال الربيع: هي وفاة نوم، رفعه الله في منامه، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء: المعنى أني قابضك من الأرض، ومحصنك أني مميتك، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر، فقال وهب بن منبه: توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك، عنده في السماء وفي بعض الكتب، سبع ساعات، وقال الفراء: هي وفاة موت ولكن المعنى، إنّي متوفّيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير، وقال مالك في جامع العتبية: مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ووقع في كتاب مكي عن قوم: أن معنى متوفّيك متقبل عملك، وهذا ضعيف من جهة اللفظ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة، وقيل أربعين سنة، ثم يميته الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فقول ابن عباس رضي الله عنه: هي وفاة موت لا بد أن يتمم، إما على قول وهب بن منبه، وإما على قول الفراء، وقوله تعالى: ورافعك إليّ عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله إليّ إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة، وقوله تعالى: ومطهّرك حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم، تشبيها لذلك كله بالأدناس، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له، وقوله تعالى: وجاعل اسم فاعل للاستقبال، وحذف تنوينه تخفيفا، وهو متعد إلى مفعولين، لأنه بمعنى مصيّر فأحدهما الّذين والآخر في قوله: فوق الّذين كفروا وقال ابن زيد: الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود، والآية مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكما دنيويا لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى، نص على ذلك قتادة وغيره، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكرا، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله، وقوله تعالى ثمّ إليّ مرجعكم الخطاب لعيسى، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له: ثمّ إليّ، أي إلى حكمي وعدلي، يرجع الناس، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها، وإذ هي مرادة في المعنى، وفي قوله تعالى: فأحكم إلى آخر الآية، وعد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين). [المحرر الوجيز: 2/237-239]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إذ قال اللّه يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأمّا الّذين كفروا فأعذّبهم عذابًا شديدًا في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فيوفّيهم أجورهم واللّه لا يحبّ الظّالمين (57) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم (58)}
اختلف المفسّرون في قوله: {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} فقال قتادة وغيره: هذا من المقدّم والمؤخّر، تقديره: إنّي رافعك إليّ ومتوفّيك، يعني بعد ذلك.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {إنّي متوفّيك} أي: مميتك.
وقال محمّد بن إسحاق، عمن لا يتّهم، عن وهب بن منبّه، قال: توفّاه اللّه ثلاث ساعاتٍ من النّهار حين رفعه اللّه إليه.
قال ابن إسحاق: والنّصارى يزعمون أنّ اللّه توفّاه سبع ساعاتٍ ثمّ أحياه.
وقال إسحاق بن بشرٍ عن إدريس، عن وهبٍ: أماته اللّه ثلاثة أيّامٍ، ثمّ بعثه، ثمّ رفعه.
وقال مطرٌ الورّاق: متوفّيك من الدّنيا وليس بوفاة موتٍ وكذا قال ابن جريرٍ: توفّيه هو رفعه.
وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النّوم، كما قال تعالى: {وهو الّذي يتوفّاكم باللّيل [ويعلم ما جرحتم بالنّهار]} [الأنعام: 60] وقال تعالى: {اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمًّى إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون]} [الزّمر: 42] وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول -إذا قام من النّوم-: "الحمد للّه الّذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النّشور"، وقال اللّه تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا. وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه} إلى قوله [تعالى] {وما قتلوه يقينًا. بل رفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزًا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا} [النّساء: 156 -159] والضّمير في قوله: {قبل موته} عائدٌ على عيسى، عليه السّلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلّا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، على ما سيأتي بيانه، فحينئذٍ يؤمن به أهل الكتاب كلّهم؛ لأنّه يضع الجزية ولا يقبل إلّا الإسلام.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، حدّثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن الحسن أنّه قال في قوله: {إنّي متوفّيك} يعني وفاة المنام، رفعه اللّه في منامه. قال الحسن: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لليهود: "إنّ عيسى لم يمت، وإنّه راجع إليكم قبل يوم القيامة".
وقوله تعالى: {ومطهّرك من الّذين كفروا} أي: برفعي إيّاك إلى السّماء {وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة} وهكذا وقع؛ فإنّ المسيح، عليه السّلام، لمّا رفعه اللّه إلى السّماء تفرّقت أصحابه شيعًا بعده؛ فمنهم من آمن بما بعثه اللّه به على أنّه عبد اللّه ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن اللّه، وآخرون قالوا: هو اللّه. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثةٍ. وقد حكى اللّه مقالاتهم في القرآن، ورد على كلّ فريقٍ، فاستمرّوا كذلك قريبًا من ثلاثمائة سنةٍ، ثمّ نبع لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النّصرانيّة، قيل: حيلةٌ ليفسده، فإنّه كان فيلسوفًا، وقيل: جهلا منه، إلّا أنّه بدل لهم دين المسيح وحرّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة -الّتي هي الخيانة الحقيرة-وأحلّ في زمانه لحم الخنزير، وصلّوا له إلى المشرق وصوّروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيّامٍ من أجل ذنبٍ ارتكبه، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلّا أنّه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت ما يزيد على اثني عشر ألف معبدٍ، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتّبعه الطّائفة الملكيّة منهم. وهم في هذا كلّه قاهرون لليهود، أيّدهم اللّه عليهم لأنّهم أقرب إلى الحقّ منهم، وإن كان الجميع كفار، عليهم لعائن اللّه.
فلمّا بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، فكان من آمن به يؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحقّ -كانوا هم أتباع كل نبيٍّ على وجه الأرض-إذ قد صدّقوا الرّسول النّبيّ الأمّيّ، خاتم الرّسل، وسيّد ولد آدم، الّذي دعاهم إلى التّصديق بجميع الحقّ، فكانوا أولى بكلّ نبيٍّ من أمّته، الّذين يزعمون أنّهم على ملّته وطريقته، مع ما قد حرّفوا وبدّلوا.
ثمّ لو لم يكن شيءٌ من ذلك لكان قد نسخ اللّه بشريعته شريعة جميع الرّسل بما بعث به محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم من الدّين الحقّ، الّذي لا يغيّر ولا يبدّل إلى قيام السّاعة، ولا يزال قائمًا منصورًا ظاهرًا على كلّ دينٍ. فلهذا فتح اللّه لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدّول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل اللّه، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربّهم، عزّ وجلّ، في قوله: {وعد اللّه الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنًا} الآية [النّور: 65] ولهذا لمّا كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقًّا سلبوا النّصارى بلاد الشّام وأجلوهم إلى الروم، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينيّة، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصّادق المصدوق أمّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية، ويستفيؤون ما فيها من الأموال، ويقتلون الرّوم مقتلة عظيمةً جدًّا، لم ير النّاس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءًا مفردًا. ولهذا قال تعالى: {وجاعل الّذين اتّبعوك فوق الّذين كفروا إلى يوم القيامة ثمّ إليّ مرجعكم} أي: يوم القيامة {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/46-48]


تفسير قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين كفروا فأعذّبهم عذابا شديدا في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}, العذاب في الدنيا: القتل الذي نالهم, وينالهم، وسبي الذراري, وأخذ الجزية، وعذاب الآخرة ما أعده اللّه لهم من النار.
{وما لهم من ناصرين}, أي: ما لهم من يمنعهم في الدنيا؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قد أظهر الإسلام على دينهم, وجعل الغلبة لأهله، ولا أحد ينصرهم في الآخرة من عذاب اللّه). [معاني القرآن: 1/420-421]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فأمّا الّذين كفروا الآية، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل، وإنما المعنى، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون عذاباً شديداً في الدّنيا بالأسر والقتل والجزية والذل، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك، وقد أبرز الوجود هذا، وفي الآخرة معناه، بعذاب النار). [المحرر الوجيز: 2/239]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {فأمّا الّذين كفروا فأعذّبهم عذابًا شديدًا في الدّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} وكذلك فعل تعالى بمن كفر بالمسيح من اليهود، أو غلا فيه وأطراه من النّصارى؛ عذبهم في الدّنيا بالقتل والسّبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدّار الآخرة عذابهم أشدّ وأشقّ {وما لهم من اللّه من واقٍ} [الرّعد:34] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/48-49]

تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فيوفّيهم أجورهم واللّه لا يحبّ الظّالمين}
ومعنى {واللّه لا يحب الظّالمين}, أي: لا يرحمهم، ويعذبهم, ولا يثني عليهم خيراً, هذا معنى البغض من الله، ومعنى المحبة منه: الرحمة , والمغفرة, والثناء والجميل). [معاني القرآن: 1/421]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيها على درجة الكمال ودعاء إليها، وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء على الغيبة، والفعل مسند إلى الله تعالى، وقرأ الباقون وأبوبكر عن عاصم «فنوفيهم» بالنون، وهي نون العظمة، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله، وتقدم نظير قوله واللّه لا يحبّ الظّالمين في قوله قبل فإن تولّوا فإنّ اللّه لا يحبّ الكافرين [آل عمران: 32]). [المحرر الوجيز: 2/239]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فيوفّيهم أجورهم} أي: في الدّنيا والآخرة، في الدّنيا بالنّصر والظّفر، وفي الآخرة بالجنّات العاليات {واللّه لا يحبّ الظّالمين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم},أي: القصيص الذي جرى نتلوه عليك.
{من الآيات},أي: من العلامات, البينات, الدلالات على تثبيت رسالتك إذ كانت أخباراً لا يعلمها إلا قارئ كتاب, أو معلّم, أو من أوحيت إليه, وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمّيّاً: لا يكتب, ولا يقرأ الكتب على جهله النظر فيها, والفائدة منها: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمه أحد من الناس, فلم يبق إلا الوحي، والإخبار بهذه الأخبار التي يجتمع أهل الكتاب على الموافقة بالإخبار بها من الآيات المعجزات.
ومعنى {والذّكر الحكيم}، أي: ذو الحكمة في تأليفه, ونظمه, وإبانة الفوائد فيه, ويصلح أن تكون (ذلك) في معنى الذي ويكون (نتلوه) صلة، فيكون المعنى: الذي نتلوه عليك من الآيات, والذكر الحكيم, فيكون ذلك ابتداء, والخبر من الآيات). [معاني القرآن: 1/421-422]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم (58) إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون (59) الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين (61)
ذلك رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء، ونتلوه عليك خبر ابتداء وقوله من الآيات لبيان الجنس، ويجوز أن تكون للتبعيض، ويصح أن يكون نتلوه عليك حالا ويكون الخبر في قوله من الآيات وعلى قول الكوفيين يكون قوله نتلوه صلة لذلك، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري:
... ... ... ... = وهذا تحملين طليق
ويكون الخبر في قوله: من الآيات، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير، وهذا محمولا، ونتلوه معناه نسرده، ومن الآيات ظاهره آيات القرآن، ويحتمل أن يريد بقوله من الآيات من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب، فالمعنى أنها آيات لنبوتك، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون نتلوه حالا، والذّكر ما ينزل من عند الله، والحكيم يجوز أن يتأول بمعنى المحكم، فهو فعيل بمعنى مفعول، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة، فيكون بناء اسم الفاعل، قال ابن عباس، الذّكر القرآن، والحكيم الذي قد كمل في حكمته). [المحرر الوجيز: 2/239-240]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم} أي: هذا الّذي قصصناه عليك يا محمّد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفيّة أمره، هو ممّا قاله اللّه تعالى، وأوحاه إليك ونزّله عليك من اللّوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شكّ، كما قال تعالى في سورة مريم: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون. ما كان للّه أن يتّخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} [مريم: 34-35] وهاهنا قال تعالى). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]


* للاستزادة ينظر: هنا