22 Jan 2015
تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ:{إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون}, {آدم} , قد بيّنّا أنه لا ينصرف, وأن اسمه مأخوذ من أديم الأرض, وهو وجهها, ولذا يقال لذي اللون الذي يشبه لون الأرض آدم.
و{خلقه من تراب}
ليست بمتصلة بآدم، إنما هو مبين قصة آدم ,ولا يجوز في الكلام أن تقول:
مررت بزيد قام؛ لأن زيداً معرفة, لا يتصل به قام, ولا يوصل به, ولا يكون
حالاً؛ لأن الماضي لا يكون حالاً أتت فيها، ولكنك تقول: مثلك مثل زيد، تريد
أنك تشبهه في فعله,ثم تخبر بقصة زيد , فتقول: فعل كذا وكذا.
وإنما قيل: إن مثله كمثل آدم؛ لأن اللّه أنشأ آدم من غير أب، خلقه من تراب، فكما خلق آدم من غير أب, كذلك خلق عيسى عليه السلام.
ويروى في التفسير أن: قوماً من نصارى نجران, صاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: إنك سببت صاحبنا، قال: ((ومن صاحبكم؟))، قالوا: عيسى، قال: ((وما قلت فيه؟))، قالوا: قلت إنه عبد، فقال -صلى الله عليه وسلم : ((ما ذلك بعار على أخي, ولا نقيصة، هو عبد , وأنا عبد)): قالوا: فأرنا مثله, فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم} إلى آخر الآية). [معاني القرآن: 1/422]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وذكر
ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، قالوا سبب نزول قوله تعالى: إنّ
مثل عيسى الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر
عيسى، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد، فقال النبي عليه
السلام، وما يضر ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
منه، فقالوا فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ وخرجوا من عند
النبي فأنزل الله عليه هذه الآية. وقوله تعالى: إنّ مثل عبر عنه بعض الناس،
بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى: مثل الجنّة [الرعد: 35] قالوا:
معناه صفة الجنة.
قال الإمام أبو محمد:
وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى: «أن المثل» الذي تتصوره
النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن
الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور
منها، وفي هذه الآية صحة القياس، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر
عيسى عليه السلام والكاف في قوله: كمثل اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله
عند اللّه عبارة عن الحق في نفسه، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم، وقوله:
خلقه من ترابٍ تفسير لمثل آدم، الذي ينبغي أن يتصور، والمثل والمثال بمعنى
واحد، ولا يجوز أن يكون خلقه صلة لآدم ولا حالا منه، قال الزجاج: إذ الماضي
لا يكون حالا أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه، مضمنه تفسير المثل، وقوله عز
وجل: ثمّ قال ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام، المعنى خلقه من تراب ثم
كان من أمره في الأزل أن قاله له كن وقت كذا، وعلى مذهب أبي علي الفارسي،
في أن القول مجازي، مثل وقال قطني، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين، ف ثمّ
على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين، وقراءة الجمهور «فيكون»، بالرفع على
معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب، وهي قراءة ضعيفة الوجه، وقد
تقدم توجيهها آنفا في مخاطبة مريم). [المحرر الوجيز: 2/240-241]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ
مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون (59)
الحقّ من ربّك فلا تكن من الممت رين (60) فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من
العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم
ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين (61) إنّ هذا لهو القصص الحقّ وما
من إلهٍ إلا اللّه وإنّ اللّه لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولّوا فإنّ
اللّه عليمٌ بالمفسدين (63)}
يقول تعالى: {إنّ مثل عيسى عند اللّه} في قدرة اللّه تعالى حيث خلقه من غير
أبٍ {كمثل آدم} فإنّ اللّه تعالى خلقه من غير أبٍ ولا أمٍّ، بل {خلقه من
ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} والّذي خلق آدم قادرٌ على خلق عيسى بطريق
الأولى والأحرى، وإن جاز ادّعاء البنوّة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أبٍ،
فجواز ذلك في آدم بالطّريق الأولى، ومعلومٌ بالاتّفاق أنّ ذلك باطلٌ،
فدعواها في عيسى أشدّ بطلانًا وأظهر فسادًا. ولكنّ الرّبّ، عزّ وجلّ، أراد
أن يظهر قدرته لخلقه، حين خلق آدم لا من ذكرٍ ولا من أنثى؛ وخلق حوّاء من
ذكرٍ بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكرٍ كما خلق بقيّة البريّة من ذكرٍ
وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {ولنجعله آيةً للنّاس} [مريم: 21].
وقال هاهنا: {الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]
تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين}
{الحقّ من ربّك}, مرفوع على أنه، خبر ابتداء محذوف.
المعنى: الذي أنبأناك به في قصة عيسى عليه السلام: هو الحق من ربك.
{فلا تكن من الممترين} أي: من الشكاكين، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : خطاب للخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكك في قصة عيسى، ومعنى {من ربّك}, أي: أتاك من عند ربك).[معاني القرآن: 1/422-423]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: الحقّ من ربّك، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به، قوله من
ربّك، أو الحق ذلك، أو ما قلناه لك، ويجوز أن يكون خبر ابتداء، تقديره هذا
الحق والممترين هم الشاكون، والمرية الشك، ونهي النبي عليه السلام في عبارة
اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره، ولو قيل: فلا
تكن ممتريا لكانت هذه الدلالة أقل، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي
عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله). [المحرر الوجيز: 2/241]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال
هاهنا: {الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} أي: هذا القول هو الحقّ في
عيسى، الّذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال). [تفسير القرآن العظيم: 2/49]
تفسير
قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ:
{فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين}
{فمن حاجّك فيه}, أي: في عيسى.
{من بعد ما جاءك من العلم},
قيل له: هذا بعد أن أوحيت إليه البراهين, والحجج القاطعة في تثبيت أمر
عيسى: إنّه عبد، فأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة؛ لأن الحجة قد بلغت
النهاية في البيان, فأمر اللّه أن يجتمع هو, والنساء, والأبناء من
المؤمنين، وأن يدعوهم إلى أن يتجمعوا هم, وآباؤهم, ونساؤهم، ثم يبتهلون, ومعنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء، , وأصله: الالتعان ويقال: بهله الله, أي: لعنه اللّه، ومعنى لعنة الله:
باعده اللّه من رحمته، يقال: ناقة باهل, وباهلة إذا لم يكن عليها صرار،
وقد أبهل الرجل ناقته إذا تركها بغير صرار, ورجل باهل إذا لم يكن معه عصا, فتأويل البهل في اللغة:
المباعدة والمفارقة للشيء, فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المباهلة؛ لأمرين كلاهما فيه بيان أن علماءهم قد وقفوا على أن أمر النبي
صلى الله عليه وسلم حق؛ لأنهم إذا أبوا أن يلاعنوا, دل إباؤهم على أنهم قد
علموا أنهم إن باهلوه, نزل بهم مكروه، وأنهم إذا تركوا المبالهة؛ دل ذلك
ضعفهم, ومن لا علم عنده أن فرارهم من المباهلة دليل على أنهم كاذبون، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وقيل: إن بعضهم قال لبعض: إن باهلتموه
اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني, ولا نصرانية إلى يوم القيامة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم ناراً, وما بقي نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة)),
وهذا مكان ينبغي أن يمعن النظر فيه، ويعلم المؤمنون بيان ما هو عليه, وما
عليه من الضلال من خالفهم؛ لأنهم لم يرو أحد أنهم باهلوا النبي صلى الله
عليه وسلم, ولا أجابوا إلى ذلك).[معاني القرآن: 1/423-424]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: فمن حاجّك فيه معناه جادلك ونازعك الحجة، والضمير في قوله: {فيه}
يحتمل أن يعود على عيسى، ويحتمل أن يعود على الحقّ، والعلم الذي أشير إليه
بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى: فقل
تعالوا الآية، استدعاء المباهلة وتعالوا تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد
بها أولا تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه
وللبهيمة ونحو ذلك ونبتهل معناه نلتعن، ويقال عليهم بهلة الله بمعنى
اللعنة، والابتهال: الجد في الدعاء بالبهلة.
وروي في قصص هذه
الآية: أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو
الله، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن
النبي عليه السلام أنه قال: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا
يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى
ذلك، فروى الشعبي وغيره: أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد
والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له
ما صنعوا فذمّهم وقال لهم: إن كان نبيا ثم دعا عليكم هلكتم، وإن كان ملكا
فظهر لم يبق عليكم، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه؟ قال: إذا غدوتم فدعاكم
إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول
الله صلى الله عليه وسلم محتضنا حسينا آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه،
فدعاهم إلى الميعاد، فقالوا: نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم
صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء، قالوا: لا طاقة لنا بحرب العرب
ولكنا نؤدي الجزية قال: فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفا في رجب وألفا في
صفر وطلبوا منه رجلا أمينا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال
عليه السلام: لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة، وروى
محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم
قالوا: دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو
رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: يا معشر النصارى، والله لقد
عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما
لا عن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم،
فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل
وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي عليه السلام، فقالوا:
يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال
وقالوا له: ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا
فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام
جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم:
إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين
ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض، الحلة بأربعين وعلى أن
عليهم ثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا عارية
كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم، وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لو لاعنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض، وقال أيضا: لو فعلوا لاضطرم
عليهم الوادي نارا، وروى علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين
ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم، أليس عهدكم بالأمس
بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ فلا تلاعنوا فانتهوا، وفي هذه القصة
اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز
وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى
الله عليه وسلم، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل
العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى
الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة
وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز
للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه
السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم،
ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط). [المحرر الوجيز: 2/242-244]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى -آمرًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يباهل من عاند الحقّ في
أمر عيسى بعد ظهور البيان: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي: نحضرهم
في حال المباهلة {ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} أي: نلتعن
{فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} أي: منّا أو منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أوّل السّورة إلى هنا في وفد
نجران، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجّون في عيسى، ويزعمون فيه ما
يزعمون من البنوّة والإلهيّة، فأنزل اللّه صدر هذه السّورة ردا عليهم، كما
ذكره الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار وغيره.
قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم وفد نصارى نجران، ستّون راكبًا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم
يؤول إليهم أمرهم، وهم: العاقب، واسمه عبد المسيح، والسّيّد، وهو الأيهم،
وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس الحارث وزيدٌ، وقيسٌ، ويزيد،
ونبيهٌ، وخويلدٌ، وعمرٌو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس.
وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثةٍ منهم، وهم: العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم
وصاحب مشورتهم، والّذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسّيّد وكان عالمهم وصاحب
رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب
مدارسهم، وكان رجلًا من العرب من بني بكر بن وائلٍ، ولكنّه تنصّر، فعظّمته
الرّوم وملوكها وشرّفوه، وبنوا له الكنائس وموّلوه وأخدموه، لما يعلمونه من
صلابته في دينهم. وقد كان يعرف أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدّمة جيّدًا، ولكن احتمله جهله على
الاستمرار في النّصرانيّة لما يرى [من] تعظيمه فيها ووجاهته عند أهلها.
قال ابن إسحاق: وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير، قال: قدموا على رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلّى العصر،
عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعبٍ. قال:
يقول بعض من رآهم من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما رأينا بعدهم
وفدًا مثلهم. وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم يصلّون، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: دعوهم فصلّوا إلى
المشرق.
قال: فكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم أبو حارثة بن علقمة،
والعاقب عبد المسيح، أو السّيّد الأيهم، وهم من النّصرانيّة على دين الملك،
مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو اللّه، ويقولون: هو ولد اللّه، ويقولون: هو
ثالث ثلاثةٍ. تعالى اللّه [عن ذلك علوًّا كبيرًا] وكذلك قول النّصرانيّة،
فهم يحتجّون في قولهم: "هو اللّه" بأنّه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام،
ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطّين كهيئة الطّير، ثمّ ينفخ فيه فيكون طيرًا
وذلك كلّه بأمر اللّه، وليجعله آيةً للنّاس.
ويحتجّون في قولهم بأنّه ابن اللّه، يقولون: لم يكن له أبٌ يعلم، وقد تكلّم في المهد بشيءٍ لم يصنعه أحدٌ من بني آدم قبله.
ويحتجّون في قولهم بأنّه ثالث ثلاثةٍ، بقول اللّه تعالى: فعلنا، وأمرنا،
وخلقنا، وقضينا؛ فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلّا فعلت وقضيت وأمرت
وخلقت؛ ولكنّه هو وعيسى ومريم وفي كلّ ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
فلمّا كلّمه الحبران قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أسلما"
قالا قد أسلمنا. قال: "إنّكما لم تسلما فأسلما" قالا بلى، قد أسلمنا قبلك.
قال: "كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدًا، وعبادتكما الصّليب
وأكلكما الخنزير". قالا فمن أبوه يا محمّد؟ فصمت رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم عنهما فلم يجبهما، فأنزل اللّه في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم،
صدر سورة آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آيةً منها.
ثمّ تكلّم ابن إسحاق على التّفسير إلى أن قال: فلمّا أتى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم الخبر من اللّه، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما
أمر به من ملاعنتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا
القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثمّ نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه،
فانصرفوا عنه، ثمّ خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح،
ماذا ترى؟ فقال: واللّه يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمّدًا لنبيٌّ
مرسلٌ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنّه ما لاعن قومٌ
نبيًّا قطّ فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنّه للاستئصال منكم إن فعلتم،
فإن كنتم [قد] أبيتم إلّا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في
صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا
ألّا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلًا من
أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنّكم
عندنا رضًا.
قال محمّد بن جعفرٍ: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ائتوني
العشيّة أبعث معكم القويّ الأمين"، فكان عمر بن الخطّاب يقول: ما أحببت
الإمارة قطّ حبّي إيّاها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظّهر
مهجّرا، فلمّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الظهر سلّم، ثمّ نظر
عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتّى رأى
أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه: "اخرج معهم، فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا
فيه". قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة، رضي اللّه عنه.
وقد روى ابن مردويه من طريق محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن
محمود بن لبيدٍ، عن رافع بن خديج: أنّ وفد أهل نجران قدموا على رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر نحوه، إلّا أنّه قال في الأشراف: كانوا اثني
عشر. وذكر بقيّته بأطول من هذا السّياق، وزياداتٍ أخر.
وقال البخاريّ: حدّثنا عبّاس بن الحسين، حدّثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبًا
نجران إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال
أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فواللّه إن كان نبيًّا فلاعنّاه لا نفلح نحن ولا
عقبنا من بعدنا. قالا إنّا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا
تبعث معنا إلّا أمينًا. فقال: "لأبعثنّ معكم رجلا أمينًا حقّ أمينٍ"،
فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة
بن الجرّاح" فلمّا قام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هذا أمين
هذه الأمّة".
[و] رواه البخاريّ أيضًا، ومسلمٌ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه من طرقٍ عن أبي إسحاق السّبيعي، عن صلة، عن حذيفة، بنحوه.
وقد رواه أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن صلة عن ابن مسعودٍ، بنحوه.
وقال البخاريّ: حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، عن خالدٍ، عن أبي قلابة،
عن أنسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لكلّ أمّةٍ أمينٌ وأمين
هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن يزيد الرّقّي أبو يزيد، حدّثنا فرات،
عن عبد الكريم ابن مالكٍ الجزري" عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال أبو
جهلٍ: إن رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي عند الكعبة لآتينّه
حتّى أطأ على عنقه. قال: فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أنّ
اليهود تمنّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النّار، ولو خرج الّذين
يباهلون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون مالًا ولا
أهلًا".
وقد رواه التّرمذيّ، والنّسائيّ، من حديث عبد الرّزّاق، عن معمر، عن عبد الكريم، به. وقال التّرمذيّ: [حديثٌ] حسنٌ صحيحٌ.
وقد روى البيهقيّ في دلائل النّبوّة قصّة وفد نجران مطوّلةً جدًّا، ولنذكره
فإنّ فيه فوائد كثيرةً، وفيه غرابةٌ وفيه مناسبةٌ لهذا المقام، قال
البيهقيّ:
حدّثنا أبو عبد اللّه الحافظ وأبو سعيدٍ محمّد بن موسى بن الفضل، قالا
حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار، حدّثنا
يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جدّه قال يونس -وكان
نصرانيًّا فأسلم-: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى أهل نجران
قبل أن ينزل عليه طس سليمان: "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمّدٍ
الّنبيّ رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران سلم أنتم، فإنّي أحمد إليكم
إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من
عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية،
فإن أبيتم آذنتكم بحربٍ والسّلام".
فلمّا أتى الأسقف الكتاب فقرأه فظع به، وذعره ذعرًا شديدًا، وبعث إلى رجلٍ
من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة -وكان من همدان ولم يكن أحدٌ يدعى
إذا نزلت معضلة قبله، لا الأيهم ولا السّيد ولا العاقب-فدفع الأسقف كتاب
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى شرحبيل، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا
مريم، ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذرّيّة
إسماعيل من النّبوّة، فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرّجل، ليس لي في
النّبوّة رأيٌ، ولو كان أمرٌ من أمور الدّنيا لأشرت عليك فيه برأيي، وجهدت
لك، فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس. فتنحّى شرحبيل فجلس ناحيةً، فبعث الأسقف
إلى رجلٍ من أهل نجران، يقال له: عبد اللّه بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من
حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرّأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال
له الأسقف: فاجلس، فتنحى فجلس ناحيةً. وبعث الأسقف إلى رجلٍ من أهل نجران،
يقال له: جبّار بن فيضٍ، من بني الحارث بن كعبٍ، أحد بني الحماس، فأقرأه
الكتاب، وسأله عن الرّأي فيه؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد اللّه، فأمره
الأسقف فتنحّى فجلس ناحيةً.
فلمّا اجتمع الرّأي منهم على تلك المقالة جميعًا، أمر الأسقف بالنّاقوس
فضرب به، ورفعت النّيران والمسوح في الصّوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا
فزعوا بالنّهار، وإذا كان فزعهم ليلًا ضربوا بالنّاقوس، ورفعت النّيران في
الصّوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالنّاقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه
وأسفله -وطول الوادي مسيرة يومٍ للرّاكب السّريع، وفيه ثلاثٌ وسبعون قريةً،
وعشرون ومائة ألف مقاتلٍ. فقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، وسألهم عن الرّأي فيه، فاجتمع رأي أهل الرّأي منهم على أن يبعثوا
شرحبيل بن وداعة الهمدانيّ، وعبد اللّه ابن شرحبيل الأصبحيّ، وجبّار بن
فيضٍ الحارثيّ، فيأتونهم بخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فانطلق
الوفد حتّى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السّفر عنهم، ولبسوا حللا لهم
يجرّونها من حبرةٍ، وخواتيم الذّهب، ثمّ انطلقوا حتّى أتوا رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم، فسلّموا عليه، فلم يردّ عليهم وتصدّوا لكلامه نهارًا
طويلًا فلم يكلّمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان
ابن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ، وكانا معرفة لهم، فوجدوهما في ناسٍ من
المهاجرين والأنصار في مجلسٍ، فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرّحمن، إن نبيّكم
كتب إلينا بكتابٍ، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ
سلامنا، وتصدّينا لكلامه نهارًا طويلًا فأعيانا أن يكلّمنا، فما الرّأي
منكما، أترون أن نرجع؟ فقالا لعليّ بن أبي طالبٍ -وهو في القوم-: ما ترى يا
أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال عليّ لعثمان ولعبد الرّحمن: أرى أن يضعوا
حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم ثمّ يعودا إليه. ففعلوا فسلّموا،
فردّ سلامهم، ثمّ قال: "والّذي بعثني بالحقّ لقد أتوني المرّة الأولى، وإنّ
إبليس لمعهم" ثمّ ساءلهم وساءلوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا: ما
تقول في عيسى، فإنّا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرّنا إن كنت نبيًّا أن
نسمع ما تقول فيه ؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما عندي فيه
شيء يومي هذا، فأقيموا حتّى أخبركم بما يقول لي ربّي في عيسى". فأصبح الغد
وقد أنزل اللّه، عزّ وجلّ، هذه الآية: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم
[خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون. الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين.
فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على]
الكاذبين} فأبوا أن يقرّوا بذلك، فلمّا أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملًا على الحسن والحسين في خميل
له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذٍ عدّة نسوةٍ، فقال شرحبيل
لصاحبيه: قد علمتما أنّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا
إلّا عن رأيي وإنّي واللّه أرى أمرًا ثقيلًا واللّه لئن كان هذا الرّجل
ملكًا مبعوثًا، فكنّا أوّل العرب طعن في عينيه وردّ عليه أمره، لا يذهب لنا
من صدره ولا من صدور أصحابه حتّى يصيبونا بجائحةٍ، وإنّا لأدنى العرب منهم
جوارًا، ولئن كان هذا الرّجل نبيًّا مرسلًا فلاعنّاه لا يبقى على وجه
الأرض منّا شعر ولا ظفر إلّا هلك. فقال له صاحباه: يا أبا مريم، فما
الرّأي؟ فقال: أرى أن أحكّمه، فإنّي أرى رجلًا لا يحكم شططًا أبدًا. فقالا
له: أنت وذاك. قال: فلقي شرحبيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال
له: إنّي قد رأيت خيرًا من ملاعنتك. فقال: "وما هو؟ " فقال: حكمك اليوم إلى
اللّيل وليلتك إلى الصّباح، فمهما حكّمت فينا فهو جائزٌ. فقال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "لعلّ وراءك أحدًا يثرب عليك؟ " فقال شرحبيل: سل
صاحبيّ. فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يصدر إلّا عن رأي شرحبيل: فرجع
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يلاعنهم، حتّى إذا كان الغد أتوه
فكتب لهم هذا الكتاب: "بسم اللّه الرحمن الرّحيم، هذا ما كتب محمّدٌ النّبي
رسول الله لنجران -إن كان عليهم حكمه-في كلّ ثمرةٍ وكلّ صفراء وبيضاء
وسوداء ورقيقٍ فاضلٍ عليهم، وترك ذلك كلّه لهم، على ألفي حلّةٍ، في كلّ
رجبٍ ألف حلّةٍ، وفي كلّ صفرٍ ألف حلّةٍ" وذكر تمام الشّروط وبقيّة
السّياق.
والغرض أنّ وفودهم كان في سنة تسعٍ؛ لأنّ الزّهريّ قال: كان أهل نجران أوّل
من أدّى الجزية إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وآية الجزية إنّما
أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا
باليوم الآخر [ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من
الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون]} [التّوبة: 29].
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا أحمد بن داود
المكي، حدثنا بشر بن مهران، أخبرنا محمّد بن دينارٍ، عن داود بن أبي هندٍ،
عن الشّعبيّ، عن جابرٍ قال: قدم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم العاقب
والطّيّب، فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخذ بيد عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين،
ثمّ أرسل إليهما فأبيا أن يجيئا وأقرّا بالخراج، قال: فقال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلم: "والّذي بعثني بالحقّ لو قالا لا لأمطر عليهم الوادي
نارًا" قال جابرٌ: فيهم نزلت {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم} قال جابرٌ: {وأنفسنا وأنفسكم} رسول الله صلّى اللّه عليه
وسلّم وعليّ بن أبي طالبٍ {وأبناءنا} الحسن والحسين {ونساءنا} فاطمة.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه، عن عليّ بن عيسى، عن أحمد بن محمّد الأزهريّ
عن عليّ بن حجر، عن عليّ بن مسهر، عن داود بن أبي هندٍ، به بمعناه. ثمّ
قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه.
هكذا قال: وقد رواه أبو داود الطّيالسيّ، عن شعبة، عن المغيرة عن الشّعبيّ
مرسلًا وهذا أصحّ وقد روي عن ابن عبّاسٍ والبراء نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 2/49-55]
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ومعنى قوله عزّ وجلّ:{إنّ هذا لهو القصص الحقّ وما من إله إلّا اللّه وإنّ اللّه لهو العزيز الحكيم} أي: إن
هذا الذي أوحينا إليك من هذه البينات, والحجج التي آتيناك, لهو القصص
الحق، ويصلح أن تكون (هو) ههنا فصلاً، وهو الذي يسميه الكوفيون:عماداً،
ويكون القصص خبر أن، ويصلح أن يكون (هو) ابتداء، والقصص خبره، وهما جميعا
خبر (إنّ).
ومعنى{وما من إله إلّا اللّه}:من
دخلت توكيداً, ودليلاً على نفي جميع من ادعى المشركون أنهم آلهة,أي: إن
عيسى ليس بإله؛ لأنهم زعموا إنّه إله، فأعلم الله عزّ وجلّ أن لا إله إلا
هو، وأن من آتاه اللّه آيات يعجز عنها المخلوقون, فذلك غير مخرج له من
العبودية للّه، وتسميته إلهاً كفر باللّه.
ومعنى {العزيز}: هو الذي لا يعجزه شيء, و{الحكيم}: ذو الحكمة الذي لا يأتي إلا ما هو حكمة).[معاني القرآن: 1/424]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إنّ هذا لهو القصص الحقّ وما من إلهٍ إلاّ اللّه وإنّ اللّه لهو
العزيز الحكيم (62) فإن تولّوا فإنّ اللّه عليمٌ بالمفسدين (63) قل يا أهل
الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ اللّه ولا نشرك
به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه فإن تولّوا فقولوا
اشهدوا بأنّا مسلمون (64)
هذا خبر من الله
تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة ب هذا هي إلى ما تقدم في
أمر عيسى عليه السلام، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم: والقصص
معناه الأخبار، تقول: قص يقص، قصا وقصصا، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئا بعد
شيء، قال قوم: هو مأخوذ من قص الأثر، وقوله لهو يحتمل أن يكون فصلا ويحتمل
أن يكون ابتداء، ومن قوله من إلهٍ مؤكدة بعد النفي، وهي التي يتم الكلام
دونها لكنها تعطي معنى التأكيد). [المحرر الوجيز: 2/244]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال اللّه تعالى: {إنّ هذا لهو القصص الحقّ} أي: هذا الّذي قصصناه عليك يا
محمّد في شأن عيسى هو الحقّ الّذي لا معدل عنه ولا محيد {وما من إلهٍ إلا
اللّه وإنّ اللّه لهو العزيز الحكيم. فإن تولّوا} أي: عن هذا إلى غيره). [تفسير القرآن العظيم: 2/55]
تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: { فإن تولّوا فإنّ اللّه عليم بالمفسدين}, أي: فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان؛ فإن الله يعلم من يفسد من خلقه, فيجازيه على إفساده). [معاني القرآن: 1/424]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فإنّ اللّه عليمٌ بالمفسدين وعيد). [المحرر الوجيز: 2/244]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{فإن تولّوا} أي: عن هذا إلى غيره. {فإنّ اللّه عليمٌ بالمفسدين} أي: من
عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد واللّه عليمٌ به، وسيجزيه على ذلك شرّ
الجزاء، وهو القادر، الّذي لا يفوته شيءٌ [سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول
نقمه] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/55]
* للاستزادة ينظر: هنا