22 Jan 2015
تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
(64)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللّه
ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه فإن تولّوا
فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}
معنى{سواء}: معنى:عدل، ومعنى كلمة : كلام فيه شرح قصة , وإن طال, وكذلك يقول العرب للقصيدة:كلمة.
يروى أن حسان بن ثابت الأنصاري كان إذا قيل له: أنشد , قال للقائل: هل أنشدت كلمة الحويدرة؟, يعني قصيدته التي أولها:
بكرت سمية بكرة فتمتعي= ويقال للعدل سواء وسوى وسوى.
قال زهير بن أبي سلمى:
أروني خطة لا ضيم فيها= يسوي بيننا فيها السواء
فإن ترك السّواء فليس بيني= وبينكم بني حصن بناء
يريد بالسواء: العدل
, كذا يقول أهل اللغة، وهو الحق, وهو من استواء الشيء، ولو كان في غير
القرآن لجاز: سواء بيننا وبينكم، فمن قال:سواء جعله نعتاً للكلمة , يريد:
ذات سواء، ومن قال: سواء, جعله مصدراً في معنى: استواء، كأن قال: استوت
استواء.
وموضع {ألّا نعبد إلّا اللّه}, موضع " أن " خفض على البدل من كلمة.
المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا اللّه، وجائز أن تكون أن في موضع رفع، كأن قائلاً قال: ما الكلمة؟.
فأجيب: فقيل: هي ألا نعبد إلا اللّه، ولو كان
ألّا نعبد إلّا اللّه, ولا نشرك به شيئاً؛لجاز على أن يكون تفسيراً للقصة
في تأويل أي: كأنهم قالوا: أي: لا نعبد إلا الله كما قال عزّ وجلّ: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا}, وقال قوم معنى أن ههنا معنى يقولون امشوا، والمعنى واحد لأن القول ههنا تفسير لما قصدوا له وكذلك " أي يفسّر بها، ولو كان {ألّا نعبد إلّا اللّه} بالجزم, لجاز على أن يكون " أن " كما فسّرنا في تأويل: أي ويكون {ألّا نعبد} على جهة النهي، والمنهي هو الناهي في الحقيقة؛ كأنّهم نهوا أنفسهم.
ومعنى{ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه},أي: نرجع إلى أن معبودنا اللّه، وأن عيسى بشر، كما أننا بشر؛ فلا نتخذه , ومعنى{فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}, أي: مقرون بالتوحيد, مستسلمون لما أتتنا به الأنبياء من قبل اللّه عزّ وجلّ).[معاني القرآن: 1/424-426]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف
المفسرون من المراد بقوله: قل يا أهل الكتاب تعالوا فقال قتادة: ذكر لنا
أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين
حاجوا في إبراهيم، وقاله الربيع وابن جريج، وقال محمد بن جعفر بن الزبير:
نزلت الآية في وفد نجران، وقاله السدي، وقال ابن زيد: لما أبى أهل نجران ما
دعوا إليه من الملاعنة، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء»، والذي
يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ أهل الكتاب يعمهم وسواهم من
النصارى واليهود، فدعا النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية،
وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب
إلى يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس «إلى كلمة» بفتح الكاف وكسر اللام، وروى
أبو
السمال: «كلمة» بفتح
الكاف وسكون اللام، وروي عنه أنه قرأ «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام، وذلك
على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد، كبد بكسر الكاف وسكون
الباء، و «الكلمة» هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها،
وهي ما فسره بعد ذلك بقوله ألّا نعبد الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة
كلمة، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد، وقال أبو العالية:
«الكلمة السواء»، لا إله إلا الله.
قال الفقيه الإمام:
وقوله: سواءٍ نعت للكلمة، قال قتادة والربيع وغيرهما: معناه إلى كلمة عدل،
فهذا معنى «السواء»، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «إلى كلمة عدل بيننا
وبينكم»، كما فسر قتادة والربيع، وقال بعض المفسرين: معناه إلى كلمة قصد.
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: وهذا قريب في المعنى من الأول، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف
بها في هذه التقديرات كلها، والذي أقوله في لفظة سواءٍ انها ينبغي أن تفسر
بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها
مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا
فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق
لا يتفاضل الناس فيه، ف سواءٍ على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر: هذا شريكي
في مال سواء بيني وبينه. والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل،
أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى
السواء الذي هو العدل، وعلى هذا الحد جاءت لفظة سواءٍ في قوله تعالى:
فانبذ إليهم على
سواءٍ [الأنفال: 58] على بعض التأويلات، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون
حرا مقاسما لك في عيشك، لكنت قد دعوته إلى السواء، الذي هو استواء الحال
على ما فسرته، واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم
أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه،
والله الموفق للصواب برحمته.
وقوله ألّا نعبد
يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى، إلى ألّا نعبد، فذلك على البدل من كلمةٍ
ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى، هي ألّا نعبد وما ذكره المهدوي وغيره من
أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع نعبد إكثار
منهم فاختصرته، واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب، أعلاها اعتقادهم
فيهم الألوهية، وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم، وبهذا فسر
عكرمة، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر
والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعا، وبهذا فسر ابن جريج، فجاءت الآية بالدعاء
إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه
السلام، وقوله تعالى: فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون أمر بتصريح مخالفتهم
بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد، أي سترون
أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون). [المحرر الوجيز: 2/244-246]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللّه
ولا نشرك به شيئًا ولا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللّه فإن تولّوا
فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون (64)}
هذا الخطاب يعمّ أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، ومن جرى مجراهم {قل يا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ} والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال
هاهنا. ثمّ وصفها بقوله: {سواءٍ بيننا وبينكم} أي: عدلٌ ونصفٌ، نستوي نحن
وأنتم فيها. ثمّ فسّرها بقوله: {ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئًا} لا
وثنا، ولا صنمًا، ولا صليبًا ولا طاغوتًا، ولا نارًا، ولا شيئًا بل نفرد
العبادة للّه وحده لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرّسل، قال اللّه تعالى:
{وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون}
[الأنبياء: 25]. [وقال تعالى] {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا
اللّه واجتنبوا الطّاغوت} [النّحل: 36].
ثمّ قال: {ولا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللّه} وقال ابن جريج:
يعني: يطيع بعضنا بعضًا في معصية اللّه. وقال عكرمة: يعني: يسجد بعضنا
لبعضٍ.
{فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون} أي: فإن تولّوا عن هذا النّصف
وهذه الدّعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الّذي شرعه اللّه
لكم.
وقد ذكرنا في شرح البخاريّ، عند روايته من طريق الزّهريّ، عن عبيد اللّه بن
عبد اللّه بن عتبة بن مسعودٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن أبي سفيان، في قصّته حين
دخل على قيصر، فسألهم عن نسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعن صفته
ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجليّة، مع أنّ أبا سفيان كان
إذ ذاك مشركًا لم يسلم بعد، وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح، كما هو
مصرّح به في الحديث، ولأنّه لمّا قال هل يغدر؟ قال: فقلت: لا ونحن منه في
مدة لا ندري ما هو صانعٌ فيها. قال: ولم يمكنّي كلمةً أزيد فيها شيئًا سوى
هذه: والغرض أنّه قال: ثمّ جيء بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فقرأه، فإذا فيه:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم، من محمّدٍ رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم،
سلامٌ على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك
مرّتين فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين، و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئًا ولا يتّخذ
بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللّه فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}.
وقد ذكر محمّد بن إسحاق وغير واحدٍ أنّ صدر سورة آل عمران إلى بضعٍ وثمانين
آيةً منها نزلت في وفد نجران، وقال الزّهريّ: هم أوّل من بذل الجزية. ولا
خلاف أنّ آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل
الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب، وبين ما ذكره محمّد بن إسحاق والزّهريّ؟
والجواب من وجوه:
أحدها: يحتمل أنّ هذه الآية نزلت مرّتين، مرّةً قبل الحديبية، ومرة بعد الفتح.
الثّاني: يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية،
وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق: "إلى بضعٍ وثمانين
آيةً" ليس بمحفوظٍ، لدلالة حديث أبي سفيان.
الثّالث: يحتمل أنّ قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية، وأنّ الّذي بذلوه
مصالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية، بل يكون من باب المهادنة
والمصالحة، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس
والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد اللّه بن جحشٍ في تلك السّريّة قبل بدرٍ،
ثمّ نزلت فريضة القسم على وفق ذلك.
الرّابع: يحتمل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا أمر بكتب هذا
[الكلام] في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد، ثمّ نزل القرآن موافقةً له
كما نزل بموافقة عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه في الحجاب وفي الأسارى، وفي
عدم الصّلاة على المنافقين، وفي قوله: {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}
[البقرة: 125] وفي قوله: {عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجًا خيرًا
منكنّ} الآية [التّحريم: 5] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/55-57]
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ(65)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التّوراة والإنجيل
إلاّ من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ فلم
تحاجّون فيما ليس لكم به علمٌ واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (66)
اختلف المفسرون فيمن
نزلت هذه الآية، فقال ابن عباس: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي
عليه السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا،
وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله الآية، وقال السدي
وقتادة: وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضا: أنهما قالا نزلت الآية بسبب
دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهوديا، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له،
والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحدا، وأن الآية في اليهود
والنصارى، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك؟ وهذه
الآية مبينة فساد هذه الدعاوى، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على
فسادها، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلا لم تحدث في الأرض، ولا وجدت إلا
بعد موته بمدة طويلة، ولما كان الدليل عقليا قال الله تعالى لهم موبخا أفلا
تعقلون؟). [المحرر الوجيز: 2/247]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التّوراة والإنجيل إلا من
بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ فلم تحاجّون
فيما ليس لكم به علمٌ واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم
يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين (67)
إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ والّذين آمنوا
واللّه وليّ المؤمنين (68)}
ينكر تعالى على اليهود والنّصارى في محاجّتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كلّ
طائفةٍ منهم أنّه كان منهم، كما قال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ:
حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، حدّثني سعيد بن جبيرٍ أو
عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا
يهوديًّا. وقالت النّصارى ما كان إبراهيم إلّا نصرانيًّا. فأنزل اللّه
تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم [وما أنزلت التّوراة والإنجيل
إلا من بعده أفلا تعقلون]} أي: كيف تدّعون، أيّها اليهود، أنّه كان
يهوديًّا، وقد كان زمنه قبل أن ينزّل اللّه التّوراة على موسى، وكيف
تدّعون، أيّها النّصارى، أنّه كان نصرانيًّا، وإنّما حدثت النّصرانيّة بعد
زمنه بدهرٍ. ولهذا قال: {أفلا تعقلون}). [تفسير القرآن العظيم: 2/57]
تفسير
قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف
القراء في قوله ها أنتم في المد والهمز وتركه، فقرأ ابن كثير، «هأنتم»، في
وزن هعنتم، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» استفهاما بلا همز، وقرأ الباقون،
«ها أنتم»، ممدودا مهموزا، ولم يختلفوا في مد هؤلاء وأولاء، فوجه قراءة ابن
كثير، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء، أراد «أأنتم»، ووجه قراءة نافع
وأبي عمرو أحد أمرين، يجوز أن تكون «ها» التي للتنبيه دخلت على «أنتم»،
ويكون التنبيه داخلا على الجملة، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت- يا-
التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا، وفي قول الشاعر: [البسيط]
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم = أمّ الهنيّد من زند لها واري
وقول الآخر: [البسيط]
يا لعنة الله والأقوام كلّهم = والصّالحين على سمعان من جار
وخففت الهمزة من
«أنتم» ولم تحقق بعد الألف، كما قالوا في هباءة هباة، ويجوز أن تكون الهاء
في ها أنتم بدلا من همزة الاستفهام، كوجه قراءة ابن كثير، وتكون الألف هي
التي تدخل بين الهمزتين، لتفصل بينهما، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم» مهموز
ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو، وحققوا الهمزة التي
بعد الألف، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع، ومن لم ير إلحاق الألف
للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو، فينبغي أن تكون «ها» في قوله
للتنبيه ولا تكون بدلا من همزة الاستفهام، وأما هؤلاء ففيه لغتان، المد
والقصر، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات: [الخفيف].
هؤلا ثمّ هؤلاء قد أعطيت = نعالا محذوّة بنعال
وأما إعراب ها أنتم
هؤلاء فابتداء وخبر، وحاججتم في موضع الحال لا يستغنى عنها، وهي بمنزلة
قوله تعالى: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون [البقرة: 85] ويحتمل أن يكون هؤلاء بدلا
أو صفة ويكون الخبر حاججتم وعلى مذهب الكوفيين حاججتم، صلة لأولاء والخبر
في قوله: فلم تحاجّون ومعنى قوله تعالى: فيما لكم به علمٌ أي على زعمكم،
وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر
الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه
وثبت عندهم صحته.
قال الفقيه الإمام:
وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة، لأنهم
يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هنالك على حقيقته، وباقي
الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/247-248]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علمٌ [واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون]}
هذا إنكارٌ على من يحاجّ فيما لا علم له به، فإنّ اليهود والنّصارى تحاجوا
في إبراهيم بلا علمٍ، ولو تحاجّوا فيما بأيديهم منه علم ممّا يتعلّق
بأديانهم الّتي شرعت لهم إلى حين بعثة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم لكان
أولى بهم، وإنّما تكلّموا فيما لم يعلموا به، فأنكر اللّه عليهم ذلك،
وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشّهادة، الّذي يعلم الأمور
على حقائقها وجليّاتها، ولهذا قال: {واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/57-58]
تفسير
قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {ما كان إبراهيم يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}
ومعنى {حنيفا مسلما}.
معنى الحنف في اللغة:
إقبال صدور القدمين كل واحدة على أختها إقبالا يكون خلقة لا رجوع فيه
أبدا، فمعنى الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على ذلك العقد). [معاني القرآن: 1/427]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفاً مسلماً وما
كان من المشركين (67) إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا
النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين (68)
أخبر الله تعالى في
هذه الآية، عن حقيقة أمر إبراهيم، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك
الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية
والنصرانية، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفى نفس الملل وقرر الحالة
الحسنة، ثم نفى نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك،
وهذا كما تقول: ما أخذت لك مالا بل حفظته، وما كنت سارقا، فنفيت أقبح ما
يكون في الأخذ.
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية.
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: وهنا يدخل كل من اتبع الحنيفية في الفترات وهذا النّبيّ محمد صلى
الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة، والنّبيّ في الإعراب نعت أو
عطف بيان، أو بدل، وفي كونه بدلا نظر، والّذين آمنوا يعني بمحمد صلى الله
عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين، ثم أخبر أن
الله تعالى وليّ المؤمنين، وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في
الآخرة، و «الحنيف» مأخوذ من الحنف، وهو الاستقامة وقيل هو الميل، ومنه قيل
للمائل الرجل أحنف، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم، ومن الميل معناه
المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة
الحنيف، حتى قال بعضهم: الحنيف الحاج، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه
كالحج وغيره، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن
نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن
دينه، وقال له: إني أريد أن أكون على دينكم، فقال اليهودي: إنك لن تكون على
ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا
أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم، لم يكن
يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا الله، فخرج من عنده فلقي عالما من
النصارى، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي، إلا أن النصراني قال:
بنصيبك من لعنة الله،
فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعا يديه إلى الله،
وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، وروى عبد الله بن مسعود، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم
أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ إنّ أولى النّاس بإبراهيم الآية). [المحرر الوجيز: 2/249-250]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا
مسلمًا} أي: متحنفًا عن الشّرك قصدًا إلى الإيمان {وما كان من المشركين}
[البقرة: 135]
وهذه الآية كالّتي تقدّمت في سورة البقرة: {وقالوا كونوا هودًا أو نصارى
تهتدوا [قل بل ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين]} [البقرة: 135] ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/58]
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين}, أي: فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا: إنا على دين إبراهيم, ولهم ولاية.
{واللّه وليّ المؤمنين}, أي: يتولى نصرهم؛ لأن حزبهم هم الغالبون، ويتولى مجازاتهم بالحسنى).[معاني القرآن: 1/427]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفاً مسلماً وما
كان من المشركين (67) إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا
النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين (68)
أخبر الله تعالى في
هذه الآية، عن حقيقة أمر إبراهيم، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك
الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية
والنصرانية، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفى نفس الملل وقرر الحالة
الحسنة، ثم نفى نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك،
وهذا كما تقول: ما أخذت لك مالا بل حفظته، وما كنت سارقا، فنفيت أقبح ما
يكون في الأخذ.
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية.
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: وهنا يدخل كل من اتبع الحنيفية في الفترات وهذا النّبيّ محمد صلى
الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة، والنّبيّ في الإعراب نعت أو
عطف بيان، أو بدل، وفي كونه بدلا نظر، والّذين آمنوا يعني بمحمد صلى الله
عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين، ثم أخبر أن
الله تعالى وليّ المؤمنين، وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في
الآخرة، و «الحنيف» مأخوذ من الحنف، وهو الاستقامة وقيل هو الميل، ومنه قيل
للمائل الرجل أحنف، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم، ومن الميل معناه
المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة
الحنيف، حتى قال بعضهم: الحنيف الحاج، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه
كالحج وغيره، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن
نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن
دينه، وقال له: إني أريد أن أكون على دينكم، فقال اليهودي: إنك لن تكون على
ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا
أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟
قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم، لم يكن
يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا الله، فخرج من عنده فلقي عالما من
النصارى، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي، إلا أن النصراني قال:
بنصيبك من لعنة الله،
فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعا يديه إلى الله،
وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، وروى عبد الله بن مسعود، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم
أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ إنّ أولى النّاس بإبراهيم الآية). [المحرر الوجيز: 2/249-250] (م)
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ
والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين} يقول تعالى: أحقّ النّاس بمتابعة
إبراهيم الخليل الّذين اتّبعوه على دينه، وهذا النّبيّ -يعني محمّدًا صلّى
اللّه عليه وسلّم-والّذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن بعدهم.
قال سعيد بن منصورٍ: أخبرنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروقٍ، عن أبي الضّحى،
عن مسروقٍ، عن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه؛ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه
وسلم قال: "إنّ لكلّ نبيٍّ ولاةً من النّبيّين، وإنّ وليّي منهم أبي وخليل
ربّي عزّ وجلّ". ثمّ قرأ: {إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه [وهذا
النّبيّ والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين]}.
وقد رواه التّرمذيّ والبزّار من حديث أبي أحمد الزّبيري، عن سفيان
الثّوريّ، عن أبيه، به ثمّ قال البزّار: ورواه غير أبي أحمد، عن سفيان، عن
أبيه، عن أبي الضّحى، عن عبد اللّه، ولم يذكر مسروقًا. وكذا رواه التّرمذيّ
من طريق وكيع، عن سفيان، ثمّ قال: وهذا أصحّ لكن رواه وكيعٌ في تفسيره
فقال: حدّثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عبد الله ابن مسعودٍ قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ... فذكره.
وقوله: {واللّه وليّ المؤمنين} أي: ولي جميع المؤمنين برسله). [تفسير القرآن العظيم: 2/58]
* للاستزادة ينظر: هنا