الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (77) إلى الآية (80) ]
23 Jan 2015
23 Jan 2015

4883

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم السادس

تفسير سورة آل عمران[من الآية (77) إلى الآية (80) ]
23 Jan 2015
23 Jan 2015

23 Jan 2015

4883

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم}
{أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} هذه الجملة خبر (إنّ)، ومعنى الخلاق: النصيب الوافر من الخير.
ومعنى قوله: {لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة}: في قوله: {لا يكلمهم الله} وجهان:
أحدهما: أن يكون إسماع الله أولياءه كلامه بغير سفير، خصوصية يخص اللّه بها أولياءه كما كلم موسى فكان ذلك خصوصية له دون البشر أجمعين.
2- وجائز أن يكون {ولا يكلمهم الله ولاينظر إليهم} تأويله الغضب عليهم، والإعراض عنهم كما تقول: " فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه، وتأويله أنه غضبان عليه، وإن كلمه بكلام سوء لم ينقض ذلك.
ومعنى{ولا يزكيهم}: لا يجعلهم طاهرين ولا يثني عليهم خيرا.
ومعنى {عذاب أليم} أي: موجع). [معاني القرآن: 1/434]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: الّذين يشترون بعهد اللّه الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته، واختلف المفسرون في سبب نزولها، فقال عكرمة: نزلت في أحبار اليهود، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث: إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي، فنزلت الآية، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلا قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية، فنكل الأشعث عن اليمين، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضا أخرى، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس، وقال الشعبي: نزلت الآية في رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثا لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها، فنزلت الآية بسببه، وقال سعيد بن المسيب، اليمين الفاجرة من الكبائر، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود: كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر، إذا فجر فيها صاحبها، وقد جعل الله «الأيمان» في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضا، والخلاق: الحظ والنصيب والقدر، وهو مستعمل في المستحبات، وقال الطبري: ولا يكلّمهم اللّه معناه بما يسرهم وقال غيره: نفى تعالى أن يكلمهم جملة لأنه يكلم عباده المؤمنين المتقين، وقال قوم من العلماء: وهي عبارة عن الغضب، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم ولا يزكّيهم يحتمل معنيين، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها، والآخر ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة وأليمٌ فعيل بمعنى، مفعل، فالمعنى، مؤلم). [المحرر الوجيز: 2/263-264]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ (77)}
يقول تعالى: إنّ الّذين يعتاضون عمّا عهدهم اللّه عليه، من اتّباع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وذكر صفته النّاس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزّهيدة، وهي عروض هذه الدّنيا الفانية الزّائلة " أولئك لا خلاق لهم في الآخرة " أي: لا نصيب لهم فيها، ولا حظّ لهم منها " ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة " أي: برحمةٍ منه لهم، بمعنى: لا يكلّمهم كلام لطفٍ بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرّحمة " ولا يزكّيهم " أي: من الذّنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النّار " ولهم عذابٌ أليمٌ " وقد وردت أحاديث تتعلّق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسّر منها:
الحديث الأوّل: قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا شعبة قال: عليّ بن مدرك أخبرني قال: سمعت أبا زرعة، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ" قلت: يا رسول اللّه، من هم؟ خابوا وخسروا. قال: وأعاده رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] ثلاث مرّاتٍ قال: "المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان". ورواه مسلمٌ، وأهل السّنن، من حديث شعبة، به.
طريقٌ أخرى: قال أحمد: حدّثنا إسماعيل، عن الحريري، عن أبي العلاء بن الشّخّير، عن أبي الأحمس قال: لقيت أبا ذرٍّ، فقلت له: بلغني عنك أنّك تحدّث حديثًا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال: أما إنّه لا تخالني أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ما سمعته منه، فما الّذي بلغك عنّي؟ قلت: بلغني أنّك تقول: ثلاثةٌ يحبّهم اللّه، وثلاثةٌ يشنؤهم اللّه عزّ وجلّ. قال: قلته وسمعته. قلت: فمن هؤلاء الّذين يحبّهم اللّه؟ قال: الرّجل يلقى العدوّ في فئةٍ فينصب لهم نحره حتّى يقتل أو يفتح لأصحابه. والقوم يسافرون فيطول سراهم حتّى يحنّوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحّى أحدهم فيصلّي حتّى يوقظهم لرحيلهم. والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتّى يفرّق بينهما موتٌ أو ظعن. قلت: ومن هؤلاء الّذين يشنأ اللّه؟ قال: التّاجر الحلّاف -أو البائع الحلّاف -والفقير المختال، والبخيل المنّان غريبٌ من هذا الوجه.
الحديث الثّاني: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن جرير بن حازمٍ قال: حدّثنا عديّ بن عديٍّ، أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة عن أبيه عدي -هو ابن عميرة الكنديّ-قال: خاصم رجلٌ من كندة يقال له: امرؤ القيس بن عابسٍ رجلا من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرضٍ، فقضى على الحضرميّ بالبيّنة، فلم يكن له بيّنةٌ، فقضى على امرئ القيس باليمين. فقال الحضرميّ: إن أمكنته من اليمين يا رسول اللّه ذهبت وربّ الكعبة أرضي. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "من حلف على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بها مال أحد لقي اللّه عزّ وجلّ وهو عليه غضبان" قال رجاءٌ: وتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول اللّه؟ فقال الجنّة" قال: فاشهد أنّي قد تركتها له كلّها. ورواه النّسائيّ من حديث عديّ بن عديٍّ، به.
الحديث الثّالث: قال أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من حلف على يمينٍ هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ، لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان".
فقال الأشعث: فيّ واللّه كان ذلك، كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ألك بيّنة؟ " قلت: لا فقال لليهوديّ: "احلف" فقلت: يا رسول اللّه، إذًا يحلف فيذهب مالي. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا} [إلى آخر] الآية: أخرجاه من حديث الأعمش.
طريقٌ أخرى: قال أحمد: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا أبو بكر بن عيّاش، عن عاصم بن أبي النّجود، عن شقيق بن سلمة، حدّثنا عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من اقتطع مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لقي اللّه وهو عليه غضبان" قال: فجاء الأشعث بن قيس فقال: ما يحدّثكم أبو عبد الرّحمن؟ فحدّثناه، فقال: فيّ كان هذا الحديث، خاصمت ابن عمٍّ لي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بئرٍ لي كانت في يده، فجحدني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بيّنتك أنّها بئرك وإلا فيمينه" قال: قلت: يا رسول اللّه، ما لي بيّنةٌ، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري ؛ إنّ خصمي امرؤٌ فاجرٌ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من اقتطع مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لقي اللّه وهو عليه غضبان" قال: وقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا [أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ]}.
الحديث الرّابع: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن غيلان، حدّثنا رشدين عن زبّان، عن سهل بن معاذ بن أنسٍ، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ للّه تعالى عبادًا لا يكلّمهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا ينظر إليهم" قيل: ومن أولئك يا رسول اللّه؟ قال: "متبرّئٌ من والديه راغبٌ عنهما، ومتبرّئٌ من ولده، ورجلٌ أنعم عليه قومٌ فكفر نعمتهم وتبرّأ منهم".
الحديث الخامس: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا هشيم، أنبأنا العوّام -يعني ابن حوشب-عن إبراهيم بن عبد الرّحمن -يعني السّكسكي-عن عبد اللّه بن أبي أوفى: أنّ رجلًا أقام سلعةً له في السّوق، فحلف باللّه لقد أعطى بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلا} ورواه البخاريّ، من غير وجهٍ، عن العوّام.
الحديث السّادس: قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثةٌ لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ منع ابن السّبيل فضل ماءٍ عنده، ورجلٌ حلف على سلعةٍ بعد العصر -يعني كاذبًا-ورجلٌ بايع إمامًا، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له". ورواه أبو داود، والتّرمذيّ، من حديث وكيعٍ، وقال التّرمذيّ: حسن صحيح).
[تفسير القرآن العظيم: 2/62-65]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإنّ منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون}
هذه اللام في {وإنّ منهم لفريقا} تؤكد الكلام زيادة على توكيد (إنّ) لأن (إنّ) معناها توكيد الكلام، ولذلك صار لضم يوصل بها في الإيجاب، تقول: واللّه أن زيدا قائم، وكذلك تصل الضم باللام، فيقول واللّه لزيد قائم ولا تلي هذه اللام (إن) لا يجوز: " إن لزيدا قائم " بإجماع النحويين كلهم وأهل اللغة.
ومعنى {يلوون ألسنتهم بالكتاب} أي: يحرفون الكتاب، أي يعدلون عن القصد، (ويجوز يلوّون - بضم الياء والتشديد) (لتحسبوه، و- لتحسبوه) - بكسر السين وفتحها - يقال حسب يحسب ويحسب، جميعا، ويقال لويت الشيء إذا عدلته عن القصد ليّا ولويت الغريم ليانا إذا مطلته بدينه قال الشاعر:
قد كنت داينت بها حسانا... مخافة الإفلاس والليانا). [معاني القرآن: 1/434-435]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وإنّ منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون (78) ما كان لبشرٍ أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عباداً لي من دون اللّه
الضمير في منهم، عائد على أهل الكتاب، و «الفريق»، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق، إذا فصل وأبان شيئا عن شيء، ويلوون معناه: يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليّ، وحقيقة الليّ في الثياب والحبال ونحوها، فتلها وإراغتها، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيها بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم، خصم ألوى ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلو كان في ليلى شذى من خصومة = للوّيت أعناق الخصوم الملاويا
وقال الآخر: [الرجز]
ألفيتني ألوي بعيد المستمر
وقرأ جمهور الناس، «يلوون»، مضارع لوى، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، «يلوّون» بتشديد الواو وفتح اللام، من لوّى، على وزن فعّل بتشديد العين، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، وقرأ حميد «يلون» بضم اللام وسكون الواو، وهي في الأصل «يلون» مثل قراءة الجماعة، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات، فجاء «يلوون» فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلون» والكتاب في هذا الموضع التوراة، وضمير الفاعل في قوله لتحسبوه هو
للمسلمين وقوله وما هو من عند اللّه نفي أن يكون منزلا كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله، وما هو من عند الله، وقد تقدم نظير قوله تعالى ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون). [المحرر الوجيز: 2/264-265]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإنّ منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون (78)}
يخبر تعالى عن اليهود، عليهم لعائن اللّه، أنّ منهم فريقًا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويبدّلون كلام اللّه، ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنّه في كتاب اللّه كذلك، وينسبونه إلى اللّه، وهو كذبٌ على اللّه، وهم يعلمون من أنفسهم أنّهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كلّه؛ ولهذا قال: {ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون}
وقال مجاهدٌ، والشّعبيّ، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ: {يلوون ألسنتهم بالكتاب} يحرّفونه.
وهكذا روى البخاريّ عن ابن عبّاسٍ: أنّهم يحرّفون ويزيدون وليس أحدٌ من خلق اللّه يزيل لفظ كتابٍ من كتب اللّه، لكنّهم يحرّفونه: يتأوّلونه على غير تأويله.
وقال وهب بن منبّه: إنّ التّوراة والإنجيل كما أنزلهما اللّه لم يغيّر منهما حرفٌ، ولكنّهم يضلّون بالتّحريف والتّأويل، وكتبٍ كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، {ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه} فأمّا كتب اللّه فإنّها محفوظةٌ ولا تحوّل.
رواه ابن أبي حاتمٍ، فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شكّ أنّه قد دخلها التّبديل والتّحريف والزّيادة والنّقص، وأمّا تعريب ذلك المشاهد بالعربيّة ففيه خطأٌ كبيرٌ، وزياداتٌ كثيرةٌ ونقصانٌ، ووهم فاحشٌ. وهو من باب تفسير المعبّر المعرب، وفهم كثيرٍ منهم بل أكثرهم، بل جميعهم فاسدٌ. وأمّا إن عنى كتب اللّه الّتي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظةٌ لم يدخلها شيءٌ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/65]


تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون اللّه ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}أي: أن اللّه لا يصطفى لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه اللّه عزّ وجلّ: آيات النبوة وعلاماتها ونصب {ثمّ يقول}: على الاشتراك بين أن يؤتيه وبين يقول، أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة والقول للناس كونوا عبادا لي.
{ولكن كونوا ربّانيّين} والربانيون أرباب العلم والبيان، أي: كونوا أصحاب علم، وإنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، كما قالوا للكبير اللحية لحياني ولذي الجمة الوافرة جماني.
وقد قرئ - {بما كنتم تعلّمون الكتاب}. {تعلّمون} - بضم التاء وفتحها.
{وبما كنتم تدرسون}أي: بعلمكم ودرسكم علّموا الناس وبيّنوا لهم.
وجاء في التفسير {كونوا ربّانيّين} أي: علماء فقهاء ليس معناه كما تعلمون فقط، ولكن ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدى العلماء والحكماء، لأن العالم إنما ينبغي أن يقال له عالم إذا عمل بعلمه، وإلا فليس بعالم، قال اللّه: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}
ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا وفّوا العلم حقه - وقد فسرنا ما قيل في هذا في مكانه). [معاني القرآن: 1/435-436]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ما كان لبشرٍ معناه لأحد من الناس، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى: وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن اللّه [آل عمران: 145] وقوله تعالى: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [النحل: 60] فهذا منتف عقلا، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، والكتاب في هذه الآية اسم جنس، والحكم بمعنى الحكمة، ومنه قول النبي عليه السلام: إن من الشعر لحكما، وثمّ في قوله تعالى: ثمّ يقول معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام، وقوله عباداً هو جمع عبد، ومن جموعه عبيد وعبدى، قال بعض اللغويين، هذه الجموع بمعنى، وقال قوم، العباد لله، والعبيد والعبدى للبشر، وقال قوم: العبدى، إنما تقال في العبيد بني العبيد، وكأنه بناء مبالغة، تقتضي الإغراق في العبودية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى: واللّه رؤفٌ بالعباد [البقرة: 207] [آل عمران: 30] وعبادٌ مكرمون [الأنبياء: 26] يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه [الزمر: 53] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله إن تعذّبهم فإنّهم عبادك [المائدة: 118] فنوه بهم، وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: [السريع].
قولا لدودان عبيد العصى = ما غرّكم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى: وما ربّك بظلّامٍ للعبيد [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر: 53] قال الإمام أبو محمد: فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله: كونوا عباداً لي من دون اللّه اعبدوني واجعلوني إلها.
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى: ما كان لبشرٍ فقال النقاش وغيره: الإشارة إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى محمد عليه السلام، وسبب نزول الآية، أن أبا رافع القرظي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران: يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت، فنزلت الآية، في ذلك، قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم قل إن كنتم تحبّون اللّه فاتّبعوني [آل عمران: 31] وإنما معنى الآية، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليّهم الكتاب بألسنتهم، وقرأ جمهور القراء «ثم يقول» بالنصب، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو «ثم يقول» برفع اللام، وهذا على القطع وإضمار مبتدأ، وقرأ عيسى بن عمر، «عبادا لي» بتحريك الياء مفتوحة.
... ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79)
المعنى ولكن يقول: كونوا ربّانيّين وهو جمع رباني، واختلف النحاة في هذه النسبة، فقال قوم: هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه، العامل بطاعته، المعلم للناس ما أمر به، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان، ثم نسب إليه رباني، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني، فقال أبو رزين: الرباني: الحكيم العالم، وقال مجاهد: الرباني الفقيه، وقال قتادة وغيره: الرباني العالم الحليم، وقال ابن عباس: هو الحكيم الفقيه، وقال الضحاك: هو الفقيه العالم، وقال ابن زيد: الرباني والي الأمر، يرب الناس أي يصلحهم، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء، وقال مجاهد: الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وفي البخاري: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
قال الفقيه أبو محمد: فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله بما كنتم معناه: بسبب كونكم عالمين دارسين، فما مصدرية، ولا يجوز أن تكون موصولة، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه: كنتم تعلّمون، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان» قد استوفت خبرها ظاهرا، وهو تعلّمون وكذلك تعلّمون قد استوفى مفعوله وهو الكتاب ظاهرا، فلم يبق إلا أن ما مصدرية، إذ لا يمكن عائد، وتعلّمون بمعنى تعرفون، فهي متعدية إلى مفعول واحد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «تعلمون» بسكون العين، وتخفيف اللام، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تعلّمون» مثقلا، بضم التاء وكسر اللام، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، تقديره: تعلمون الناس الكتاب.
قال الفقيه الإمام: والقراءتان متقاربتا المعنى، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم تدرسون وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانيا، وليس التعليم شرطا في ذلك، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم، والعلم لا يتضمن التعليم، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح.
قال الفقيه الإمام: ومن حيث العالم بحال من يعلم، فالتعليم كأنه في ضمن العلم، وقراءة التخفيف عندي أرجح، وقرأ مجاهد والحسن «تعلّمون» بفتح التاء والعين، وشد اللام المفتوحة، وقرأ جمهور الناس، «تدرسون» بضم الراء، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره، وقرأ أبو حيوة «تدرسون» بكسر الراء، وهذا على أنه يقال في مضارع درس، يدرس ويدرس وروي عن أبي حيوة، أنه قرأ «تدرّسون» بضم التاء، وكسر الراء وشدها، بمعنى تدرسون غيركم). [المحرر الوجيز: 2/265-270]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ما كان لبشرٍ أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادًا لي من دون اللّه ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنّبيّين أربابًا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)}
قال محمّد بن إسحاق: حدّثنا محمّد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: قال أبو رافعٍ القرظي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنّصارى من أهل نجران، عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النّصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجلٌ من أهل نجران نصرانيٌّ يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منّا يا محمّد، وإليه تدعوننا؟ أو كما قال. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني". أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك من قولهما: {ما كان لبشرٍ أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة} [الآية] إلى قوله: {بعد إذ أنتم مسلمون}.
فقوله {ما كان لبشرٍ أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادًا لي من دون اللّه} أي: ما ينبغي لبشرٍ آتاه اللّه الكتاب والحكم والنّبوّة أن يقول للنّاس: اعبدوني من دون اللّه. أي: مع اللّه، فإذا كان هذا لا يصلح لنبيٍّ ولا لمرسلٍ، فلأن لا يصلح لأحدٍ من النّاس غيرهم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الحسن البصريّ: لا ينبغي هذا لمؤمنٍ أن يأمر النّاس بعبادته. قال: وذلك أنّ القوم كان يعبد بعضهم بعضًا -يعني أهل الكتاب-كانوا يتعبّدون لأحبارهم ورهبانهم، كما قال اللّه تعالى: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه [والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون]} [التّوبة:31] وفي المسند، والتّرمذيّ -كما سيأتي-أنّ عديّ بن حاتمٍ قال: يا رسول اللّه، ما عبدوهم. قال: "بلى، إنّهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم".
فالجهلة من الأحبار والرّهبان ومشايخ الضّلال يدخلون في هذا الذّمّ والتّوبيخ، بخلاف الرّسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنّما يأمرون بما أمر اللّه به وبلّغتهم إيّاه رسله الكرام. إنّما ينهونهم عمّا نهاهم اللّه عنه وبلّغتهم إيّاه رسله الكرام. فالرّسل، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، هم السّفراء بين اللّه وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرّسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتمّ قيامٍ، ونصحوا الخلق، وبلّغوهم الحقّ.
وقوله: {ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي: ولكن يقول الرّسول للناس: كونوا ربّانيين. قال ابن عبّاسٍ وأبو رزين وغير واحدٍ، أي: حكماء علماء حلماء. وقال الحسن وغير واحدٍ: فقهاء، وكذا روي عن ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاءٍ الخراسانيّ، وعطيّة العوفيّ، والرّبيع بن أنسٍ. وعن الحسن أيضًا: يعني أهل عبادةٍ وأهل تقوى.
وقال الضّحّاك في قوله: {بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} حقٌ على من تعلّم القرآن أن يكون فقيهًا: "تعلمون" أي: تفهّمون معناه. وقرئ {تعلّمون} بالتّشديد من التّعليم {وبما كنتم تدرسون} تحفظون ألفاظه).
[تفسير القرآن العظيم: 2/65-66]


تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ومعنى {ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}أي: ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين لأن الذين قالوا: إن عيسى عليه السلام إله عبدوه واتخذوه ربّا، وقال قوم من الكفار إن الملائكة أربابنا، ويقال إنهم الصابئون، ويجوز الرفع في {ولا يأمركم} أي: لا يأمركم اللّه). [معاني القرآن: 1/436]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنّبيّين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80) وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: «ولا يأمركم» برفع الراء، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفا، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة: «ولا يأمركم» نصبا، ولا خلاف في الراء من قوله: أيأمركم إلا اختلاس أبي عامر، فمن رفع قوله: «ولا يأمركم»، فهو على القطع، قال سيبويه: المعنى ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره: المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قراءة ابن مسعود: «ولن يأمركم»، فهذه قراءة تدل على القطع، وأما قراءة من نصب الراء، فهي عطف على قوله: أن يؤتيه [آل عمران: 79] والمعنى ولا له أن يأمركم، قاله أبو علي وغيره، وقال الطبري: قوله ولا يأمركم بالنصب، معطوف على قوله، ثمّ يقول [آل عمران: 79].
قال الفقيه أبو محمد: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى، والأرباب في هذه الآية وقوله تعالى: أيأمركم بالكفر تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده). [المحرر الوجيز: 2/270]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنّبيّين أربابًا} أي: ولا يأمركم بعبادة أحدٍ غير اللّه، لا نبيٍّ مرسلٍ ولا ملكٍ مقرّب {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} أي: لا يفعل ذلك؛ لأنّ من دعا إلى عبادة غير اللّه فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنّما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25] وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} الآية، [النّحل:36] وقال تعالى {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمن آلهةً يعبدون} [الزّخرف:45] وقال [تعالى] إخبارًا عن الملائكة: {ومن يقل منهم إنّي إلهٌ من دونه فذلك نجزيه جهنّم كذلك نجزي الظّالمين} [الأنبياء:29] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/67]


* للاستزادة ينظر: هنا