21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله جلّ وعزّ: {يا
أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما
عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم
الآيات إن كنتم تعقلون} البطانة:
الدخلاء الذين يستبطنون ويتبسط إليهم، يقال فلان بطانة لفلان أي مداخل له
ومؤانس، فالمعنى: أن المؤمنين أمروا ألا يداخلوا المنافقين ولا اليهود،
وذلك أنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين. فأمروا بألا
يداخلوهم لئلا يفسدوا عليهم دينهم.
وأخبر اللّه المؤمنين بأنهم لا يألونهم خبالا، أي لا يبقون غاية في إلقائهم فيما يضرهم.
وأصل الخبال في اللغة: ذهاب الشيء قال الشاعر:
ابني سليمي لستم ليد... إلا يدا مخبولة العضد
أي: قد ذهبت عضدها.
{ودّوا ما عنتم}أي: ودوا عنتكم، ومعنى العنت: إدخال المشقة على الإنسان، يقال فلان متعنت فلانا، أي: يقصد
إدخال المشقة والأذى عليه، ويقال قد عنت العظم يعنت عنتا إذا أصابه شيء
بعد الجبر، وأصل هذا كله مرق قولهم: (أكمة عنوت) إذا كانت طويلة شاقة
المسلك، فتأويل أعنتّ فلانا، حملته على المشقة). [معاني القرآن: 1/461-462]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم
خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد
بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
نهى الله تعالى المؤمنين
بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من
أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله: من دونكم يعني من دون
المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها
الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول
النبي صلى الله عليه وسلم: ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة
تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم
الله، وقوله: لا يألونكم خبالًا معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد
عليكم، تقول: ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير:
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم = فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا
أي لم يقصروا، والخبل
والخبال: الفساد، وقال ابن عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من
اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك،
وقال أيضا ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: نزلت في المنافقين: نهى الله
المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا
تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فسره الحسن بن أبي
الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا
تنقشوا في خواتيمكم (محمدا).
قال القاضي: ويدخل في هذه
الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي
أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه
الآية، وقيل لعمر:
إن هاهنا رجلا من نصارى
الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذا أتخذ بطانة
من دون المؤمنين، وما في قوله، ما عنتّم مصدرية، فالمعنى: ودّوا عنتكم، و
«العنت»: المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله تعالى:
ذلك لمن خشي العنت [النساء: 35] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك
الإرب قال السدي: معناه «ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى «ودوا» أن
تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى:
قد بدت البغضاء من أفواههم يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو
البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم
وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن يفتح فاه به
يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ
أحد عرض أخيه همسا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط،
وقوله: وما تخفي صدورهم أكبر إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما
يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء» بتذكير
الفعل، لما كانت البغضاء بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، قد بيّنّا
لكم الآيات إن كنتم تعقلون تحذيرا وتنبيها، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن
هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا). [المحرر الوجيز: 2/330-332]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما
عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم
الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون
بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من
الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119) إن تمسسكم حسنةٌ
تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم
شيئًا إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)}
يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتّخاذ المنافقين بطانةً، أي:
يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا
يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرّهم بكلّ ممكنٍ، وبما
يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويخرجهم ويشقّ
عليهم.
وقوله: {لا تتّخذوا بطانةً من دونكم} أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرّجل: هم خاصّة أهله الّذين يطّلعون على داخل أمره.
وقد روى البخاريّ، والنّسائيّ، وغيرهما، من حديث جماعةٍ، منهم: يونس، ويحيى
بن سعيدٍ، وموسى بن عقبة، وابن أبي عتيقٍ -عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن
أبي سعيدٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما بعث الله من نبي
ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالخير وتحضّه
عليه، وبطانةٌ تأمره بالسّوء وتحضّه عليه، والمعصوم من عصم الله ".
وقد رواه الأوزاعيّ ومعاوية بن سلّامٍ، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة [عن أبي
هريرة مرفوعًا بنحوه فيحتمل أنّه عند الزّهريّ عن أبي سلمة] عنهما. وأخرجه
النسائي عن الزهري أيضًا وعلّقه البخاريّ في صحيحه فقال: وقال عبيد اللّه
بن أبي جعفرٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن أبي سلمة، عن أبي أيّوب الأنصاريّ،
فذكره. فيحتمل أنّه عند أبي سلمة عن ثلاثةٍ من الصّحابة واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو أيّوب محمّد بن الوزّان،
حدّثنا عيسى بن يونس، عن أبي حيّان التّيميّ عن أبي الزّنباع، عن ابن أبي
الدّهقانة قال: قيل لعمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: إن هاهنا غلاما من أهل
الحيرة، حافظٌ كاتبٌ، فلو اتّخذته كاتبًا؟ فقال: قد اتّخذت إذًا بطانةً من
دون المؤمنين.
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالةٌ على أنّ أهل الذّمّة لا يجوز استعمالهم
في الكتابة، الّتي فيها استطالةٌ على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم
الّتي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: {لا
يألونكم خبالا ودّوا ما عنتّم}.
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا إسحاق بن إسرائيل، حدّثنا هشيم، حدّثنا
العوّام، عن الأزهر بن راشدٍ قال: كانوا يأتون أنسًا، فإذا حدّثهم بحديثٍ
لا يدرون ما هو، أتوا الحسن -يعني البصريّ-فيفسّره لهم. قال: فحدّث ذات
يومٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لا تستضيؤوا بنار
المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن
فقالوا له: إنّ أنسًا حدّثنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا
تستضيؤوا بنار الشّرك ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فقال الحسن: أمّا قوله:
"ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم. وأما قوله:
"لا تستضيؤوا بنار الشّرك" يقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثمّ قال
الحسن: تصديق ذلك في كتاب اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا
بطانةً من دونكم}.
هكذا رواه الحافظ أبو يعلى، رحمه اللّه، وقد رواه النّسائيّ عن مجاهد بن
موسى، عن هشيمٍ. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم بإسناده مثله، من غير ذكر
تفسير الحسن البصريّ.
وهذا التّفسير فيه نظرٌ، ومعناه ظاهرٌ: "لا تنقشوا في خواتيمكم عربيّا أي:
بخطٍّ عربيٍّ، لئلّا يشابه نقش خاتم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّه
كان نقشه محمّدٌ رسول اللّه؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش
أحدٌ على نقشه. وأمّا الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه: لا تقاربوهم في
المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم؛
ولهذا روى أبو داود [رحمه اللّه] لا تتراءى ناراهما" وفي الحديث الآخر: "من
جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله"؛ فحمل الحديث على ما قاله الحسن، رحمه
اللّه، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظرٌ، واللّه أعلم.
ثمّ قال تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} أي: قد
لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه
في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيبٍ عاقلٍ؛
ولهذا قال: {قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/106-108]
تفسير قوله
تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ها
أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا لقوكم قالوا
آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إنّ اللّه
عليم بذات الصّدور}
خطاب للمؤمنين،
أعلموا فيه أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصحبون هؤلاء
المنافقين بالبر والنصيحة التي يفعلها المحب وأن المنافقين على ضد ذلك.
فأعلم اللّه جلّ وعزّ المؤمنين ما يسرّه المنافقون وهذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعض
النحويين: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف (بهذا) جعلته بين (ها) و
(ذا)، فيقول القائل أين أنت فيقول المجيب: هأنذا، قال وذلك إذا أرادوا جهة
التقريب، قال فإنما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التقريب وغيره.
ومعنى التقريب عنده: أنك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم فتقول هذا زيد.
والقول في هذا عندنا: أن الاستعمال في المضمر أكثر فقط، أعني أن يفصل بين " ها " و " ذا" لأن التنبيه أن يلي المضمر أبين.
فإن قال قائل:
ها زيد ذا، وهذا زيد، جاز، لا اختلاف بين الناس في ذلك، وهذا عندنا على
ضربين: - جائز أن يكون " أولا " في معنى الذين كأنه قيل: هأنتم الذين
تحبونهم ولا يحبونكم، وجائز أن يكون {تحبونهم} منصوبة على الحال و {أنتم} ابتداء، و {أولاء} الخبر.
المعنى: انظروا إلى أنفسكم محبين لهم.
نهوا في حال محبتهم إياهم.
ولم يشرحوا لم كسرت {أولاء}، وألاء أصلها السكون لأنها للإشارة.
ولكن الهمزة كسرت لسكونها وسكون الألف {وتؤمنون} عطف على تحبون.
ومعنى {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: تصدقون بكتب الله كلها. -
{وإذا لقوكم قالوا آمنّا}أي: نافقوكم.
{وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم}
فأنبأ اللّه عزّ وجلّ - بنفقاتهم ههنا كما أنبأ به في قوله تعالى:
{وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم}
ويقال عضضت أعضّ، ويقال رجل عض إذا كان ملازم خصم، أي يصر على المخاصمة، والفعل منه عضضت. والعضّ علف الأمصار الذي.
تعلفه الإبل نحو النوى والقت والكسب، وإنما قيل له عض لأنه أكثر لبثا في المال وأبقى شحما.
والأنامل: واحدها أنملة وهي أطراف الأصابع ولم يأت على هذا المثال بغير هاء ما يعني غير الواحد إلا قولهم قد بلغ أشده.
أما الجمع فكثير فيه أو نحو أكعب وأفلس وأيمن وأشمل). [معاني القرآن: 1/462-464]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه وإذا
لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم
إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور (119)
تقدم إعراب نظير هذه الآية
وقراءتها في قوله تعالى آنفا: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ [آل
عمران: 66] والضمير في تحبّونهم لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله:
بطانةً من دونكم [آل عمران: 118] والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي
تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين
بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم
إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم
وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم، وقوله
تعالى: عضّوا عليكم الأنامل عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه
ومنه قول أبي طالب: [الطويل]
... ... ... ... = (يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل)
ومنه قول الآخر:
وقد شهدت قيس فما كان نصرها = قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
وهذا العض هو بالأسنان، وهي
هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد
يتبع هيئة النفس النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض
للمهموم ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة
وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر، ولا نظير لهذا
الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع، وقوله وتؤمنون بالكتاب كلّه
يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي
اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في
الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن
الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم: آمنّا معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث
إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا
المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا
من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم آمنّا،
«عض الأنامل من الغيظ»، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى:
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض
وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
قل موتوا بغيظكم، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة، قال قوم: بل أمر النبي صلى
الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:
وننمي في ارومتنا = ونفقأ عين من حسدا
وينظر إلى هذا المعنى في
قوله، موتوا بغيظكم قوله تعالى: فليمدد بسببٍ إلى السّماء ثمّ ليقطع [الحج:
15]، وقوله: إنّ اللّه عليمٌ بذات الصّدور وعيد يواجهون به على هذا
التأويل الأخير في موتوا بغيظكم و «ذات الصدور»: ما تنطوي عليه، والإشارة
هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو
بطن بنت خارجة، ومنه قولهم: الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات»: لفظ مشترك في
معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه). [المحرر الوجيز: 2/333-335]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله
تعالى: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي:
أنتم -أيّها المؤمنون-تحبّون المنافقين ممّا يظهرون لكم من الإيمان،
فتحبّونهم على ذلك وهم لا يحبّونكم، لا باطنًا ولا ظاهرًا {وتؤمنون بالكتاب
كلّه} أي: ليس عندكم في شيءٍ منه شكٌّ ولا ريب، وهم عندهم الشّكّ والرّيب
والحيرة.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن
جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتؤمنون بالكتاب كلّه} أي: بكتابكم وكتابهم، وبما
مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم
لكم. رواه ابن جريرٍ.
{وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ} والأنامل: أطراف الأصابع، قاله قتادة.
وقال الشّاعر:
أودّ كما ما بلّ حلقي ريقتى = وما حملت كفّاي أنملي العشرا
وقال ابن مسعودٍ، والسّدّي، والرّبيع بن أنسٍ: {الأنامل} الأصابع.
وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودّة، وهم في الباطن بخلاف
ذلك من كلّ وجهٍ، كما قال تعالى: {وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من
الغيظ} وذلك أشدّ الغيظ والحنق، قال اللّه تعالى: {قل موتوا بغيظكم إنّ
اللّه عليمٌ بذات الصّدور} أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك
منهم، فاعلموا أنّ اللّه متمّ نعمته على عباده المؤمنين ومكملٌ دينه،
ومعلٍ كلمته ومظهرٌ دينه، فموتوا أنتم بغيظكم {إنّ اللّه عليمٌ بذات
الصّدور} أي: هو عليمٌ بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنّه سرائركم من البغضاء
والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدّنيا بأن يريكم خلاف ما
تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشّديد في النّار الّتي أنتم خالدون فيها،
فلا خروج لكم منها). [تفسير القرآن العظيم: 2/108]
تفسير قوله
تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا إنّ اللّه بما يعملون محيط} أي: إن تظفروا وتخصبوا ساءهم ذلك.
{وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها}أي: إن نالكم ضد ذلك فرحوا، {(وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا}
ضمن اللّه - جلّ وعزّ - للمؤمنين النصر إن صبروا وأعلمهم أن عدوانهم وكيدهم غير ضار لهم.
و {لا يضرّكم} الأجود فيه: الضم لالتقاء الساكنين الأصل لا يضرركم، ولكن كثيرا من القراء والعرب يدغم في موضع الجزم.
وأهل الحجاز يظهرون التضعيف وهذه الآية جاءت فيها اللغتان جميعا:
1-فقوله تعالى: {إن تمسسكم} على لغة أهل الحجاز.
2-وقوله: {لا يضرّكم} على لغة غيرهم من العرب وكلا الوجهين حسن،
ويجوز {لا يضرّكم}
(ولا يضركم) فمن فتح فلأن الفتح خفيف مستعمل في التقاء السّاكنين في
التضعيف، ومن كسر فعلى أصل التقاء السّاكنين، وقد شرحنا هذا فيما سلف من
الكتاب.
وقرئت: لا يضركم من الضير، والضير والضّر جميعا بمعنى واحد.
وكذلك الضر - وقد جاء في القرآن: {قالوا لا ضير إنّا إلى ربّنا منقلبون}.
وجاء: {وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلّا إيّاه}.
وقد ذكر الفراء أن الكسائي سمع بعض أهل العالية يقول: (ما تضورّني) فلو قرئت على هذا لا يضركم جاز.
وهذا غير جائز ولا يقرأ حرف من كتاب الله مخالف فيه الإجماع على قول رجل من أهل العالية). [معاني القرآن: 1/464-465]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا
وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ (120)
«الحسنة والسيئة» في هذه
الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب
واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة
وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة
تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي
عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا
المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون
بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل
هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر: [البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى إزالتها = إلّا عداوة من عاداك من حسد
ولما قرر تعالى هذا الحال
لهؤلاء المذكورين، وأوجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله
تعالى: وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً تسلية للمؤمنين وتقوية
لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «لا
يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة،
وحكى الكسائي: ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب
الله لا ضير [الشعراء: 50] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها = مطبّعة من يأتها لا يضيرها
يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير:
وقال أناس لا يضيرك نأيها = بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة
والكسائي: «لا يضرّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر
يضر، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت
الراء للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد، ويجوز
فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فأما الكسر فلا أعرفها قراءة، وعبارة
الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، وأما فتح
الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه،
ويجوز أيضا أن يكون إعراب قوله، «لا يضركم»، رفعا إما على تقدير، فليس
يضركم، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن
تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله]: [الرجز]
يا أقرع بن حابس يا أقرع = إنّك إن يصرع أخوك تصرع
المراد أنك تصرع، وقرأ أبي
بن كعب: «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها
قوله تعالى في الآية إن تمسسكم ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و
«الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: وأكيد كيداً [الطارق: 16] إنما
هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى: إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ
وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما
تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما
على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد). [المحرر الوجيز: 2/335-337]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال: {إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها} وهذه الحال
دالّةٌ على شدّة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنّه إذا أصاب المؤمنين خصبٌ،
ونصرٌ وتأييدٌ، وكثروا وعزّ أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين
سنة -أي: جدب-أو أديل عليهم الأعداء، لما للّه في ذلك من الحكمة، كما جرى
يوم أحد، فرح المنافقون بذلك، قال اللّه تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين:
{وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا [إنّ اللّه بما يعملون محيطٌ]}
يرشدهم تعالى إلى السّلامة من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، باستعمال الصّبر
والتّقوى، والتّوكّل على اللّه الّذي هو محيطٌ بأعدائهم، فلا حول ولا قوّة
لهم إلّا به، وهو الّذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود
شيءٌ إلّا بتقديره ومشيئته، ومن توكّل عليه كفاه). [تفسير القرآن العظيم: 2/108-109]