الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (142) إلى الآية (145) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

5451

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم التاسع

تفسير سورة آل عمران[من الآية (142) إلى الآية (145) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

21 Aug 2015

5451

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}



تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين}
وقرأها الحسن: {ويعلم الصّابرين} بالكسر على العطف ومن قرأ {ويعلم الصابرين} فعلى النصب بالواو.
المعنى: ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين، ولما يعلم اللّه ذلك واقعا منهم. لأنه - جلّ وعزّ -يعلمه غيبا، وإنما يجازيهم على عملهم.
وتأويل {لمّا} أنّها جواب لقول القائل قد فعل فلان فجوابه لمّا يفعل وإذا قال فعل فجوابه لم يفعل، وإذا قال: لقد فجوابه ما يفعل، كأنه قال " واللّه هو يفعل، يريد ما يستقبل فجوابه لن يفعل ولا يفعل.
هذا مذهب النحويين). [معاني القرآن: 1/472-473]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين (142) ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)
أم هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام، وحسبتم معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد، وقوله: ولمّا يعلم نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل: كان كذا، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه: وقرأ جمهور الناس: بكسر الميم للالتقاء في قوله: ولمّا يعلم وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي: «ولما يعلم» بفتح الميم اتباعا لفتحة اللام، وقرأ الجمهور «ويعلم» على النصب بإضمار- أن- عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ: «ويعلم» بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد: «ويعلم» بكسر الميم جزما معطوفا على قوله ولمّا يعلم). [المحرر الوجيز: 2/369]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين} أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولم تبتلوا بالقتال والشّدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضّرّاء وزلزلوا [حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر اللّه ألا إنّ نصر اللّه قريبٌ]} [البقرة:214] وقال تعالى: {الم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون [ولقد فتنّا الّذين من قبلهم فليعلمنّ اللّه الّذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين]} [العنكبوت:1-3]؛ ولهذا قال هاهنا: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين} أي: لا يحصل لكم دخول الجنّة حتّى تبتلوا ويرى اللّه منكم المجاهدين في سبيله والصّابرين على مقارنة الأعداء). [تفسير القرآن العظيم: 2/127]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجل: {ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أي: كنتم تمنون القتال، هو سبب الموت، والمعنى: ولقد كنتم تمنون سبب الموت، وذلك أنهم كانوا يتمنون أن يطلق لهم القتال - قال الله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون النّاس كخشية اللّه أو أشدّ خشية}.
وقوله عزّ " جل: {فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} قيل فيه غير قول.
قال الأخفش: معناه التوكيد.
وقال بعضهم: وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والمعنى - واللّه أعلم -: فقد رأيتموه وأنتم بصراء كما تقول: قد رأيت كذا وكذا، وليس في عينيك عمة - أي: قد رأيته رؤية حقيقية.
وهو راجع إلى معنى التوكيد). [معاني القرآن: 1/473]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم خاطب المؤمنين بقوله: ولقد كنتم تمنّون الموت والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد- وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم، وقرأ الجمهور: «من قبل أن تلقوه»، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث- لقي- معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ مجاهد «من قبل» بضم اللام وترك الإضافة، وجعل أن تلقوه بدلا من الموت، وقوله تعالى: فقد رأيتموه يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر: رأيت البلايا، تحمل المنايا، وكما قال الحارث بن هشام: [الكامل]
ووجدت ريح الموت من تلقائهم = في مأزق والخيل لم تتبدد
يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه يريد لما اشتد به المرض، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه»، وقوله تعالى: وأنتم تنظرون يحتمل ثلاثة معان: أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر أن يكون المعنى وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا: المعنى: وأنتم تنظرون إلى محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟
والاضطراب بحسب ذلك، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب: وأنتم تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال: وأنتم حسباء أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء، قال ابن فورك: المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما تقدم). [المحرر الوجيز: 2/369-371]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولقد كنتم تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أي: قد كنتم -أيّها المؤمنون-قبل هذا اليوم تتمنّون لقاء العدوّ وتتحرّقون عليهم، وتودّون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الّذي تمنّيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا.
وقد ثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تمنّوا لقاء العدوّ، وسلوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف".
ولهذا قال: {فقد رأيتموه} يعني: الموت شاهدتموه في لمعان السّيوف وحدّ الأسنّة واشتباك الرّماح، وصفوف الرّجال للقتال.
والمتكلّمون يعبّرون عن هذا بالتخييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوسٍ كالمحسوس كما تتخيل الشّاة صداقة الكبش وعداوة الذئب).
[تفسير القرآن العظيم: 2/127]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا وسيجزي اللّه الشّاكرين}أي: قد مضت من قبله الرسل، المعنى إنّه يموت كما ماتت الرسل قبله.
{أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}أي: ارتددتم عن دينكم - وروي أن بعض من كان في يوم أحد ارتدّ، وبعضهم مضى مسافة ثلاثة أيام، فأعلم اللّه جلّ وعزّ أن الرسل ليست باقية في أممها أبدا وأنّه يجب التمسك بما أتت به، وإن فقد الرسول بموت أو قتل.
وألف الاستفهام دخلت على حرف الشرط ومعناها - الدخول على الجزاء، المعنى أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل، لأن الشرط والجزاء معلق أحدهما بالآخر فدخلت ألف الاستفهام على الشرط وأنبأت عن معنى الدخول على الجزاء، كما أنك إذا قلت هل زيد قائم فإنما تستفهم عن قياعه لا من هو، وكذلك قولك ما زيد قائما إنما نفيت القيام ولم تنف زيدا لكنك أدخلت " ما " على زيد لتعلم من الذي نفى عنه القيام.
وكذلك قوله عزّ وجلّ {أفإن متّ فهم الخالدون} ). [معاني القرآن: 1/474]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشّاكرين (144) وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن اللّه كتاباً مؤجّلاً
هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، وخلت معناه مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجيء تنكير «الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى: وقليلٌ من عبادي الشّكور [سبأ: 13] وقوله تعالى: وما آمن معه إلّا قليلٌ [هود: 40] إلى غير ذلك من الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام، وقوله تعالى: أفإن مات الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، وقال كثير من
المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.
قال الفقيه القاضي أبو محمد رحمه الله: وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله: أولو كان آباؤهم [البقرة: 170، المائدة: 104] ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فلن يضرّ اللّه شيئاً لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال الفقيه أبو محمد: فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، قال ابن إسحاق معنى وسيجزي اللّه الشّاكرين أي من أطاعه وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره: أنه قال في تفسير هذه الآية: «الشاكرون»: الثابتون على دينهم، أبو بكر وأصحابه وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، وما محمّدٌ إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه). [المحرر الوجيز: 2/371-374]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما محمّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئًا وسيجزي اللّه الشّاكرين (144) وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن اللّه كتابًا مؤجّلا ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشّاكرين (145) وكأيّن من نبيٍّ قاتل معه ربّيّون كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا وما استكانوا واللّه يحبّ الصّابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم اللّه ثواب الدّنيا وحسن ثواب الآخرة واللّه يحبّ المحسنين (148)}
لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشّيطان: ألا إنّ محمّدًا قد قتل. ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمّدًا. وإنّما كان قد ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فشجّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثيرٍ من النّاس واعتقدوا أنّ رسول اللّه قد قتل، وجوّزوا عليه ذلك، كما قد قصّ اللّه عن كثيرٍ من الأنبياء، عليهم السّلام، فحصل وهن وضعفٌ وتأخر عن القتال ففي ذلك أنزل اللّه [عزّ وجلّ] على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {وما محمّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل} أي: له أسوة بهم في الرّسالة وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نجيح، عن أبيه، أنّ رجلًا من المهاجرين مر على رجلٍ من الأنصار وهو يتشحّط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم قد قتل؟ فقال الأنصاريّ: إن كان محمّدٌ [صلّى اللّه عليه وسلّم] قد قتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: {وما محمّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل} رواه [الحافظ أبو بكرٍ] البيهقيّ في دلائل النّبوّة.
ثمّ قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعفٌ: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي: رجعتم القهقرى {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئًا وسيجزي اللّه الشّاكرين} أي: الّذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتّبعوا رسوله حيًّا وميّتًا.
وكذلك ثبت في الصّحاح والمساند والسّنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعدّدةٍ تفيد القطع، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشّيخين أبي بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما؛ أنّ الصّدّيق -رضي اللّه عنه-تلا هذه الآية لمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال البخاريّ: حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا اللّيث، عن عقيل عن ابن شهابٍ، أخبرني أبو سلمة؛ أنّ عائشة، رضي اللّه عنها، أخبرته أنّ أبا بكرٍ، رضي اللّه عنه، أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح حتّى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم النّاس حتّى دخل على عائشة فتيمّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو مغشى بثوبٍ حبرةٍ، فكشف عن وجهه [صلّى اللّه عليه وسلّم] ثمّ أكبّ عليه وقبّله وبكى، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي. واللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين؛ أمّا الموتة الّتي كتبت عليك فقد متّها.
وقال الزّهريّ: وحدّثني أبو سلمة عن ابن عبّاسٍ، أنّ أبا بكرٍ خرج وعمر يحدّث النّاس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل النّاس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكرٍ: أمّا بعد، من كان يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت، قال اللّه تعالى: {وما محمّدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرّسل} إلى قوله: {وسيجزي اللّه الشّاكرين} قال: فواللّه لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ اللّه أنزل هذه الآية حتّى تلاها أبو بكرٍ، فتلقّاها النّاس منه كلّهم، فما سمعها بشرٌ من النّاس إلّا تلاها.
وأخبرني سعيد بن المسيّب أنّ عمر قال: واللّه ما هو إلّا أن سمعت أبا بكرٍ تلاها فعقرت حتّى ما تقلّني رجلاي وحتّى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، حدّثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة القنّاد، حدّثنا أسباط بن نصرٍ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ أنّ عليًّا كان يقول في حياة رسول اللّه: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} واللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه، واللّه لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت، واللّه إنّي لأخوه، ووليّه، وابن عمّه، ووارثه فمن أحقّ به منّي؟).
[تفسير القرآن العظيم: 2/128-129]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه كتابا مؤجّلا ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشّاكرين} المعنى: ما كانت نفس لتموت إلا بإذن اللّه، وقوله عزّ وجلّ: {كتابا مؤجّلا} على التوكيد، المعنى: كتب اللّه ذلك كتابا مؤجلا، أي: كتابا ذا أجل).
والأجل هو الوقت المعلوم، ومثل هذا التوكيد قوله - عزّ وجلّ: {كتاب اللّه عليكم} لأنه لما قال: {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم}
دل ذلك على: أنه مفروض عليهم فكان قوله: {كتاب اللّه عليكم} توكيدا.
وكذلك قوله عز وجلّ: {صنع اللّه الّذي أتقن كلّ شيء) لأنه لما قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب}دل ذلك على: أنه خلق اللّه وصنعه.
فقال: {صنع اللّه}وهذا في القرآن في غير موضع - وهذا مجراه عند جميع النحويين.
وقوله عزّ وجلّ: {ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها}أي: من كان إنما يقصد بعمله الدنيا أعطي منها، وكل نعمة فيها العبد فهي تفضل من اللّه إعطاء منه.
ومن كان قصده بعمله الآخرة آتاه اللّه منها.
وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا، لأنه لم يقل ومن يرد ثواب الآخرة لم نؤته إلا منها، واللّه عزّ وجلّ ذو الفضل العظيم). [معاني القرآن: 1/474-475]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك: وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، والعبارة بقوله: وما كان قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [النمل: 60] فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية: اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله: كتاباً نصب على التمييز ومؤجّلًا صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى: ويؤخّركم إلى أجلٍ مسمًّى [نوح: 4] ونحو هذا من الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ... ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشّاكرين (145)
قوله تعالى: نؤته منها مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى:
من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء: 18]، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله: ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي». كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن فورك: في قول الله تعالى: وسنجزي الشّاكرين إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة). [المحرر الوجيز: 2/374-375]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن اللّه كتابًا مؤجّلا} أي: لا يموت أحدٌ إلّا بقدر اللّه، وحتّى يستوفي المدة الّتي ضربها اللّه له؛ ولهذا قال: {كتابًا مؤجّلا} كقوله {وما يعمّر من معمّرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ} [فاطر:11] وكقوله {هو الّذي خلقكم من طينٍ ثمّ قضى أجلا وأجلٌ مسمًّى عنده} [الأنعام:2].
وهذه الآية فيها تشجيعٌ للجبناء وترغيبٌ لهم في القتال، فإنّ الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا العبّاس بن يزيد العبديّ قال: سمعت أبا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: قال رجلٌ من المسلمين -وهو حجر بن عديّ-: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدوّ، هذه النّطفة؟ -يعني دجلة- {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن اللّه كتابًا مؤجّلا} ثمّ أقحم فرسه دجلة فلمّا أقحم أقحم النّاس فلمّا رآهم العدوّ قالوا: ديوان، فهربوا .
وقوله: {ومن يرد ثواب الدّنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} أي: من كان عمله للدّنيا فقد نال منها ما قدّره اللّه له، ولم يكن له في الآخرة [من] نصيبٍ، ومن قصد بعمله الدّار الآخرة أعطاه اللّه منها مع ما قسّم له في الدّنيا كما قال: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيبٍ} [الشّورى:20] وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 18، 19] وهكذا قال هاهنا: {وسنجزي الشّاكرين} أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدّنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم).
[تفسير القرآن العظيم: 2/129-130]


* للاستزادة ينظر: هنا