21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا الّذين كفروا يردّوكم على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين (149) بل اللّه مولاكم وهو خير النّاصرين (150) سنلقي في
قلوب الّذين كفروا الرّعب بما أشركوا باللّه ما لم ينزّل به سلطاناً
ومأواهم النّار وبئس مثوى الظّالمين (151)
الإشارة بقوله:
الّذين كفروا إلى المنافقين الذين جنبوا المسلمين وقالوا في أمر- أحد- لو
كان محمد نبيا لم يهزم، والذين قالوا: قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول،
إلى نحو هذه الأقوال، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى
يوم القيامة، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم). [المحرر الوجيز: 2/383]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا الّذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا
خاسرين (149) بل اللّه مولاكم وهو خير النّاصرين (150) سنلقي في قلوب
الّذين كفروا الرّعب بما أشركوا باللّه ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم
النّار وبئس مثوى الظّالمين (151) ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسّونهم بإذنه
حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم
من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا
عنكم واللّه ذو فضلٍ على المؤمنين (152) إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ
والرّسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمًّا بغمٍّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم
ولا ما أصابكم واللّه خبيرٌ بما تعملون (153)}
يحذّر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإنّ طاعتهم تورث
الرّدى في الدّنيا والآخرة ؛ ولهذا قال: {إن تطيعوا الّذين كفروا يردّوكم
على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/131]
تفسير قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {بل اللّه مولاكم وهو خير النّاصرين}أي: هو وليكم، وإذا كان وليهم فهو ناصرهم {فإنّ حزب اللّه هم الغالبون}). [معاني القرآن: 1/477]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وبل
ترك للكلام الأول ودخول في غيره، وقرأ جمهور الناس «بل الله مولاكم» على
الابتداء والخبر، وهذا تثبيت، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بل الله» بالنصب
على معنى: بل أطيعوا الله). [المحرر الوجيز: 2/383]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ أمرهم بطاعته وموالاته، والاستعانة به، والتّوكّل عليه، فقال: {بل اللّه مولاكم وهو خير النّاصرين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/132]
تفسير
قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {سنلقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب بما أشركوا باللّه ما لم ينزّل به سلطانا ومأواهم النّار وبئس مثوى الظّالمين}
يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نصرت بالرعب)).
وقال: ((يرعب مني عدوي من مسيرة شهر)).
وقال اللّه عزّ وجلّ في سورة الحشر: {وقذف في قلوبهم الرّعب}.
وقوله عزّ وجلّ: {بما أشركوا باللّه ما لم ينزّل به سلطانا} أي: أشركوا به ما لم ينزل به حجة، والسلطان في اللغة: الحجة ومثله {ما أغنى عنّي ماليه*هلك عنّي سلطانيه} أي: ذهبت عني حجيته). [معاني القرآن: 1/477-478]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: سنلقي استعارة، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام، وهذا مثل قوله تعالى:
والّذين يرمون المحصنات [النور: 4] ونحوه قول الفرزدق: [الطويل]
هما نفثا في فيّ من فمويهما = على النّابح العاوي أشدّ رجام
وقرأ جمهور الناس
«سنلقي» بنون العظمة، وقرأ أيوب السختياني «سيلقي» بالياء على معنى هو،
وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين حيث وقع، وقرأ الباقون «الرعب»
بسكون العين، وهذا كقولهم:
عنق وعنق وكلاهما حسن
فصيح، وسبب هذه الآية: أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال: انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا
الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون
إلى المدينة، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فسر وسر المسلمون، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له
كفار قريش: أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم؟
ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك، وكان معبد بن أبي معبد
الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره، إلا أن خزاعة كلها
كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: والله يا محمد لقد
ساءنا ما أصابك، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك، فلما سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف، اشتد ذلك عليهم،
فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار،
وذلك أنه لما سمع الخبر، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء، وقريش قد أجمعوا
الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان
معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم
أر مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه، وندموا على ما
صنعوا، قال: ويلك ما تقول؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي
الخيل، قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني
أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعرا قال وما قلت؟
قال قلت: [البسيط]
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي = إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة = عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة = لمّا سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر، فوقع
الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون
للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة
كل كافر، ويجري معها قول النبي عليه السلام: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ويظهر
أن هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد
ظل الإسلام، قال بعض أهل العلم: إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر، ووعده
النصر، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار، نقص الرعب من كل كافر جزءا مع
زيادة شجاعة المؤمن، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين،
وقوله تعالى: بما أشركوا هذه باء السبب، والمعنى: أن المشرك بالله نفسه
مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب
منه، و «السلطان»: الحجة والبرهان، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة،
و «المأوى»: مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه، و«المثوى»،
مفعل من: ثويت، والتقدير: وبئس مثوى الظالمين هي). [المحرر الوجيز: 2/383-385]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
بشّرهم بأنّه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذّلّة لهم، بسبب كفرهم
وشركهم، مع ما ادّخره لهم في الدّار الآخرة من العذاب والنّكال، فقال:
{سنلقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب بما أشركوا باللّه ما لم ينزل به
سلطانًا ومأواهم النّار وبئس مثوى الظّالمين}.
وقد ثبت في الصّحيحين عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب
مسيرة شهرٍ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلّت لي الغنائم، وأعطيت
الشّفاعة وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً وبعثت إلى النّاس عامّةً.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن أبي عديّ عن سليمان -يعني التّيميّ-عن
سيّار، عن أبي أمامة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "فضّلني
[ربّي] على الأنبياء -أو قال: على الأمم-بأربعٍ" قال "أرسلت إلى النّاس
كافّةً وجعلت لي الأرض كلّها ولأمّتي مسجدًا وطهورًا فأينما أدركت رجلا من
أمّتي الصّلاة فعنده مسجده و طهوره، ونصرت بالرّعب مسيرة شهرٍ يقذفه في
قلوب أعدائي وأحل لي الغنائم".
ورواه التّرمذيّ من حديث سليمان التّيميّ، عن سيّار القرشي الأمويّ مولاهم
الدّمشقيّ -سكن البصرة-عن أبي أمامة صديّ بن عجلان، رضي اللّه عنه، به.
وقال: حسنٌ صحيحٌ.
وقال سعيد بن منصورٍ: أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أنّ أبا يونس
حدّثه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "نصرت
بالرّعب على العدوّ".
ورواه مسلمٌ من حديث ابن وهبٍ.
وروى الإمام أحمد: حدّثنا حسين بن محمّدٍ، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن
أبي بردة، عن أبيه أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا،
وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرّعب شهرًا، وأعطيت
الشّفاعة، وليس من نبيٍّ إلّا وقد سأل شفاعته، وإنّي اختبأت شفاعتي، ثمّ
جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئًا".
تفرد به أحمد.
وروى العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {سنلقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب}
قال: قذف اللّه في قلب أبي سفيان الرّعب، فرجع إلى مكّة، فقال النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع، وقذف
اللّه في قلبه الرّعب". رواه ابن أبي حاتمٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/132-133]
تفسير
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {ولقد
صدقكم اللّه وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر
وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدّنيا ومنكم من يريد
الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضل على المؤمنين}
{إذ تحسّونهم بإذنه}معناه: تستأصلونهم قتلا، يقال حسهم القائد يحسهم حسّا إذا قتلهم.
ويقال هل حسست كذا وكذا، أي: هل رأيته أو علمته.
ويقال ما حسست فلانا، وهل حسست له - والكسر
أكثر - أي ما رفقت عليه ولا رحمته ويقال جيء به من حسّك وبسّك، أي من حيث
ما كان ولم يكن، كذلك لفظ الأصمعي.
وتأويله جيء به من حيث تدركه حاسّة - من حواسّك، أو يدركه تصرف من تصرفك، ومعنى {بإذنه}: بعلمه.
وقوله جلّ وعزّ: {حتى إذا فشلتم}أي: جبنتم عن عدوكم، {وتنازعتم} اختلفتم {من بعد ما أراكم ما تحبّون} لأنهم أعطوا النصر فخالفوا فيما قيل لهم في حربهم فعوقبوا بأن ديل منهم.
وقوله جلّ وعزّ: (منكم من يريد الدّنيا) أي: منكم من قصده الغنيمة في حربه {ومنكم من يريد الآخرة} أي: يقصد بحربه إلى ما عند اللّه.
وقوله جلّ وعزّ: {ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضل على المؤمنين} ). [معاني القرآن: 1/478]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم
في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدّنيا ومنكم من
يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم واللّه ذو فضلٍ على
المؤمنين (152)
جاءت المخاطبة في هذه
الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها
لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة: منها وعظ الجميع وزجره، إذ من
لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله
تعالى- إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولا، وذلك أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير
هذه الآيات في قصة أحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو
صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين، ونهض
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن
أبي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا فهذا معنى قوله
تعالى: إذ تحسّونهم بإذنه والحس: القتل الذريع، يقال حسهم إذا استأصلهم
قتلا، وحس البرد النبات وقال رؤبة:
[الرجز]
إذا تشكّوا سنّة حسوسا = تأكل بعد الأخضر اليبيسا
قال بعض الناس: هو مأخوذ من الحاسة، والمعنى في حس: أفسد الحواس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، و «الإذن»: التمكين مع العلم بالممكن منه، وقوله تعالى:
حتّى إذا فشلتم يحتمل
أن تكون حتّى غاية مجردة، كأنه قال: إلى أن فشلتم، ويقوي هذا أن إذا بمعنى
«إذ» لأن الأمر قد كان تقضى، وإنما هي حكاية حال، فتستغني إذا على هذا
النظر عن جواب، والأظهر الأقوى أن إذا على بابها تحتاج إلى الجواب، وتكون
حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل، واختلف النحاة في جواب إذا
فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله تنازعتم، والواو زائدة، وحكى المهدوي عن
أبي علي أنه قال: الجواب قوله: صرفكم وثمّ زائدة.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه والخليل وفرسان الصناعة،
إن الجواب محذوف مقدر، يدل عليه المعنى، تقديره: انهزمتم ونحوه، و «الفشل» -
استشعار العجز وترك الجد، وهذا مما فعله يومئذ قوم، و «التنازع» هو الذي
وقع بين الرماة، فقال بعضهم: الغنيمة الغنيمة، الحق بنا بالمسلمين، وقال
بعضهم: بل نثبت كما أمرنا وعصيتم عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن
خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى: من بعد ما أراكم ما تحبّون
يعني من هزم القوم، قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم
هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت
الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل،
فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا
القوم، وقوله تعالى: منكم من يريد الدّنيا إخبار عن الذين حرصوا على
الغنيمة وكان المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن
مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد
الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد منكم من يريد الدّنيا وقوله تعالى: ومنكم من
يريد الآخرة إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالا للأمر
حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين،
وقوله تعالى: ليبتليكم معناه: لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص،
وقوله تعالى: ولقد عفا عنكم إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا
تحذير، والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة: ولقد أبقى
عليكم، ويحتمل أن يكون إخبارا بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد، فيكون بمنزلة
العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من
المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن: قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه
السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله،
نهوا عن شيء فضيعوه، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين
اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا
بأس عليه فسوف يعلم). [المحرر الوجيز: 2/386-388]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسّونهم بإذنه} قال ابن عبّاسٍ: وعدهم اللّه النّصر.
وقد يستدلّ بهذه الآية على أحد القولين المتقدّمين في قوله: {إذ تقول
للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين. بلى
إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّكم بخمسة آلافٍ من
الملائكة مسوّمين} أنّ ذلك كان يوم أحدٍ لأنّ عدوّهم كان ثلاثة آلاف
مقاتلٍ، فلمّا واجهوهم كان الظّفر والنّصر أوّل النّهار للإسلام، فلمّا حصل
ما حصل من عصيان الرّماة وفشل بعض المقاتلة، تأخّر الوعد الّذي كان
مشروطًا بالثّبات والطّاعة؛ ولهذا قال: {ولقد صدقكم اللّه وعده} أي: أوّل
النّهار {إذ تحسّونهم} أي: تقتلونهم {بإذنه} أي: بتسليطه إيّاكم عليهم
{حتّى إذا فشلتم} وقال ابن جريجٍ: قال ابن عبّاسٍ: الفشل الجبن، {وتنازعتم
في الأمر وعصيتم} كما وقع للرّماة {من بعد ما أراكم ما تحبّون} وهو الظّفر
منهم {منكم من يريد الدّنيا} وهم الّذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة
{ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم} ثمّ أدالهم عليكم ليختبركم
ويمتحنكم {ولقد عفا عنكم} أي: غفر لكم ذلك الصّنيع، وذلك -واللّه
أعلم-لكثرة عدد العدوّ وعددهم، وقلّة عدد المسلمين وعددهم.
قال ابن جريجٍ: قوله: {ولقد عفا عنكم} قال: لم يستأصلكم. وكذا قال محمّد بن إسحاق، رواهما ابن جريرٍ {واللّه ذو فضلٍ على المؤمنين}.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي
الزّناد، عن أبيه، عن عبيد اللّه عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: ما نصر اللّه في
موطن كما نصره يوم أحدٍ. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عبّاسٍ: بيني وبين من
أنكر ذلك كتاب اللّه، إنّ اللّه يقول في يوم أحدٍ: {ولقد صدقكم اللّه وعده
إذ تحسّونهم بإذنه} يقول ابن عبّاسٍ: والحسّ: القتل {حتّى إذا فشلتم
وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدّنيا
ومنكم من يريد الآخرة} الآية وإنّما عنى بهذا الرّماة، وذلك أنّ النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم أقامهم في موضعٍ، ثمّ قال: "احموا ظهورنا، فإن
رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا. فلمّا غنم
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأباحوا عسكر المشركين أكبّت الرّماة جميعًا
[ودخلوا] في العسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم، فهم هكذا -وشبّك بين يديه-وانتشبوا، فلمّا أخلّ الرّماة تلك
الخلّة الّتي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم، فضرب بعضهم بعضًا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس
كثيرٌ، وقد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه أوّل النّهار،
حتّى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعةٌ أو تسعةٌ، وجال المسلمون جولةً نحو
الجبل ولم يبلغوا -حيث يقول النّاس-الغار، إنّما كان تحت المهراس، وصاح
الشّيطان: قتل محمّدٌ، فلم يشك فيه أنّه حقٌّ، فما زلنا كذلك ما نشك أنّه
حقٌّ، حتّى طلع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين السّعدين، نعرفه
بتلفّته إذا مشى -قال: ففرحنا حتّى كأنّه لم يصبنا ما أصابنا-قال: فرقي
نحونا وهو يقول: "اشتدّ غضب الله على قومٍ دمّوا وجه رسول الله". ويقول
مرّةً أخرى: "اللّهم إنّه ليس لهم أن يعلونا". حتّى انتهى إلينا، فمكث
ساعةً، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل، مرّتين -يعني
آلهته-أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطّاب؟ فقال عمر: يا
رسول اللّه، ألا أجيبه؟ قال: "بلى" قال: فلمّا قال: اعل هبل. قال عمر:
اللّه أعلى وأجلّ. فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعاد عنها أو: فعال!
فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطّاب؟ فقال عمر:
هذا رسول اللّه، وهذا أبو بكرٍ، وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان: يومٌ
بيوم بدرٍ، الأيّام دول، وإنّ الحرب سجال. قال: فقال عمر: لا سواءً،
قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار. قال إنّكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا
وخسرنا ثمّ قال أبو سفيان: إنّكم ستجدون في قتلاكم مثلةً ولم يكن ذلك على
رأي سراتنا. قال: ثمّ أدركته حميّة الجاهليّة فقال: أما إنّه إن كان ذلك لم
نكرهه.
هذا حديثٌ غريبٌ، وسياقٌ عجيبٌ، وهو من مرسلات ابن عبّاسٍ، فإنّه لم يشهد أحدًا ولا أبوه.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النّضر الفقيه، عن عثمان بن سعيدٍ، عن
سليمان بن داود بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاسٍ، به. وهكذا رواه ابن أبي
حاتمٍ والبيهقيّ في دلائل النّبوّة، من حديث سليمان بن داود الهاشميّ، به
ولبعضه شواهدٌ في الصّحاح وغيرها، فقال الإمام أحمد:
حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّادٌ، حدّثنا عطاء بن السّائب عن الشّعبيّ، عن ابن
مسعودٍ قال: إنّ النّساء كنّ يوم أحدٍ، خلف المسلمين، يجهزن على جرحى
المشركين، فلو حلفت يومئذٍ رجوت أن أبر: أنّه ليس أحدٌ منّا يريد الدّنيا،
حتّى أنزل اللّه عزّ وجلّ: {منكم من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ
صرفكم عنهم ليبتليكم} فلمّا خالف أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
وعصوا ما أمروا به، أفرد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في تسعةٍ: سبعةٌ
من الأنصار، ورجلين من قريشٍ، وهو عاشرهم، فلمّا رهقوه [قال: "رحم الله
رجلًا ردّهم عنّا". قال: فقام رجلٌ من الأنصار فقاتل ساعةً حتّى قتل، فلمّا
رهقوه] أيضًا قال: "رحم الله رجلا ردّهم عنّا". فلم يزل يقول ذا حتّى قتل
السّبعة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لصاحبه: "ما أنصفنا
أصحابنا".
فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"قولوا: الله أعلى وأجلّ". فقالوا: اللّه أعلى وأجلّ. فقال أبو سفيان: لنا
العزّى ولا عزّى لكم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قولوا: "الله
مولانا، والكافرون لا مولى لهم". ثمّ قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، يومٌ
علينا ويومٌ لنا ويومٌ نساء ويومٌ نسر. حنظلة بحنظلة، وفلانٌ بفلانٍ،
وفلانٌ بفلانٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا سواء. أمّا
قتلانا فأحياءٌ يرزقون، وقتلاكم في النّار يعذّبون". قال أبو سفيان: قد كان
في القوم مثلةٌ، وإن كانت لعن غير ملأ منّا، ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت
ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرّني. قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت
هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "أكلت شيئًا؟ " قالوا: لا. قال: "ما كان الله ليدخل شيئًا من حمزة
في النّار".
قال: فوضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حمزة فصلّى عليه، وجيء برجلٍ
من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلّى عليه، فرفع الأنصاريّ وترك حمزة، ثمّ جيء
بآخرٍ فوضعه إلى جنب حمزة فصلّى [عليه] ثمّ رفع وترك حمزة، حتّى صلّى عليه
يومئذٍ سبعين صلاةً.
تفرّد به أحمد أيضًا.
وقال البخاريّ: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق: عن
البراء قال: لقينا المشركين يومئذٍ، وأجلس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
جيشا من الرّماة، وأمّر عليهم عبد اللّه -يعني ابن جبير-وقال: "لا تبرحوا
إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا
تعينونا". فلمّا لقيناهم هربوا، حتّى رأينا النّساء يشتددن في الجبل، رفعن
عن سوقهن، وقد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال عبد
اللّه: عهد إليّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ألّا تبرحوا. فأبوا، فلمّا
أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلًا فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم
محمّدٌ؟ فقال: "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: "لا
تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن الخطّاب؟ فقال: إن هؤلاء قد قتلوا، فلو كانوا
أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله، قد أبقى
اللّه لك ما يحزنك فقال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم: "أجيبوه". قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: اللّه أعلى وأجلّ". فقال
أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
"أجيبوه". قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم". قال
أبو سفيان: يومٌ بيوم بدرٍ، والحرب سجال، وتجدون مثلةً لم آمر بها ولم
تسؤني.
تفرّد به البخاريّ من هذا الوجه، ثمّ رواه عن عمرو بن خالدٍ، عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه وسيأتي بأبسط من هذا.
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا عبيد اللّه بن سعيدٍ، حدّثنا أبو أسامة، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: لمّا كان يوم أحد
هزم المشركون، فصرخ إبليس: أي عباد اللّه، أخراكم. فرجعت أولادهم فاجتلدت
هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد اللّه، أبي
أبي. قال: قالت: فواللّه ما احتجزوا حتّى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر اللّه
لكم. قال عروة: فواللّه ما زالت في حذيفة بقيّة خيرٍ حتّى لقي اللّه عزّ
وجلّ.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير، عن
أبيه، عن جده أنّ الزّبير بن العوّام قال: واللّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم
[هند] وصواحباتها مشمّرات هوارب ما دون أخذهن كثيرٌ ولا قليلٌ ومالت
الرّماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النّهب وخلّوا ظهورنا
للخيل فأتتنا من أدبارنا، وصرخ صارخٌ: ألا إنّ محمّدًا قد قتل. فانكفأنا
وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللّواء، حتّى ما يدنو منه أحدٌ من
القوم.
قال محمّد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعًا، حتّى أخذته عمرة بنت
علقمة الحارثيّة، فدفعته لقريشٍ فلاثوا به وقال السّدّي عن عبد خيرٍ قال:
قال عبد اللّه بن مسعودٍ قال: ما كنت أرى أنّ أحدًا من أصحاب رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلم يريد الدّنيا حتّى نزلت فينا ما نزل يوم أحدٍ {منكم
من يريد الدّنيا ومنكم من يريد الآخرة}.
وقد روي من غير وجه عن ابن مسعودٍ، وكذا روي عن عبد الرّحمن بن عوف وأبي طلحة، رواهنّ ابن مردويه في تفسيره.
وقوله: {ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم} قال ابن إسحاق: حدّثني القاسم بن عبد
الرّحمن بن رافعٍ، أحد بني عديّ بن النّجّار قال: انتهى أنس بن النّضر، عمّ
أنس بن مالكٍ، إلى عمر بن الخطّاب وطلحة بن عبيد اللّه، في رجالٍ من
المهاجرين والأنصار، قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يخلّيكم ؟ فقالوا: قتل رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا
على ما مات عليه. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل.
وقال البخاريّ: حدّثنا حسّان بن حسّان، حدّثنا محمّد بن طلحة، حدّثنا حميد،
عن أنس بن مالكٍ: أنّ عمّه -يعني أنس بن النّضر-غاب عن بدرٍ فقال: غبت عن
أوّل قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لئن أشهدني اللّه مع رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليرينّ اللّه ما أجدّ فلقي يوم أحدٍ، فهزم
الناس، فقال: اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء -يعني المسلمين-وأبرأ
إليك ممّا جاء به المشركون، فتقدّم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا
سعد؟ إنّي أجد ريح الجنّة دون أحدٍ. فمضى فقتل، فما عرف حتّى عرفته أخته
ببنانه بشامةٍ وبه بضعٌ وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم.
هذا لفظ البخاريّ وأخرجه مسلمٌ من حديث ثابتٍ عن أنسٍ، بنحوه.
وقال البخاريّ [أيضًا] حدّثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب
قال: جاء رجلٌ حجّ البيت، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من هؤلاء القعود؟
قالوا: هؤلاء قريشٌ. قال: من الشّيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إنّي
سائلك عن شيءٍ فحدّثني. قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أنّ عثمان بن
عفّان فرّ يوم أحدٍ؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيّب عن بدرٍ فلم يشهدها؟ قال:
نعم. قال: فتعلم أنّه تخلّف عن بيعة الرّضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال:
فكبّر، فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عمّا سألتني عنه. أمّا فراره
يوم أحدٍ فأشهد أنّ اللّه عفا عنه، وأمّا تغيّبه عن بدرٍ فإنّه كان تحته
بنت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانت مريضةً، فقال له رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "إنّ لك أجر رجلٍ ممّن شهد بدرًا وسهمه". وأمّا تغيّبه
عن بيعة الرّضوان فلو كان أحدٌ أعزّ ببطن مكّة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث
عثمان، فكانت بيعة الرّضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة. فقال النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان". فضرب بها على يده، فقال:
"هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك".
ثمّ رواه البخاريّ من وجهٍ آخر عن أبي عوانة عن عثمان بن عبد اللّه بن موهبٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/133-137]