21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير قوله
تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ):{إذ
تصعدون ولا تلوون على أحد والرّسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمّا بغمّ
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم واللّه خبير بما تعملون}
(تصعدون)
و(تصعدون) جميعا، قد قرئ بهما، فمن قال (تصعدون) فهو لكل من ابتدأ مسيرا من
مكان فقد أصعد، والصعود إنما يكون من أسفل إلى فوق.
ومن قرأ (تصعدون) فالمعنى إذ تصعدون في الجبل ولا تلوون على أحد.
وقوله عزّ وجلّ: {فأثابكم غمّا بغمّ}، أي: أثابكم بأن غممتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نالكم غمّ - بما عوقبتم به للمخالفة
وقال بعضهم {غمّا بغمّ} إشراف خالد بن الوليد عليهم بعد ما نالهم.
وقوله جلّ وعزّ: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} من غنيمة.
{ولا ما أصابكم}أي: ليكون غمكم بأن خالفتم النبي فقط). [معاني القرآن: 1/478-479]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرّسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم
غمًّا بغمٍّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم واللّه خبيرٌ بما
تعملون (153)
العامل في إذ قوله: عفا [آل
عمران: 152] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه: ذهب
في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب، «إذ تصعدون في الوادي».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه:
دخل في الصعيد، كما أصبح دخل
في الصباح إلى غير ذلك، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا
سفرا بعيدا وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل: [الرجز]
قد كنت تبكين على الإصعاد = فالآن صرّحت وصاح الحادي
وقرأ الحسن بن أبي الحسن
وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تصعدون» بفتح التاء والعين، من
صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر،
وقوله تعالى: ولا تلوون مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد: وهل يرد
المنهزم شيء؟
وهذا أشد من قول امرئ القيس:
[الطويل] أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا وقرأ ابن محيصن وابن كثير في
رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض
القراء «ولا تلؤون» بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم «ولا تلون»
بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم
نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش
وعاصم في رواية أبي بكر «تلوون» بضم التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن
قيس «على أحد» بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه
السلام، لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من
إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: إليّ عباد الله، والناس
يفرون. وفي قوله تعالى: في أخراكم مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف
الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا
وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس،
ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقوله تعالى: فأثابكم معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم
ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله:
[الوافر] تحيّة بينهم ضرب وجيع وكقول الآخر: [الفرزدق]: [الطويل]
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه = أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل القيود والسياط عطاء،
ومحدرجة: بمعنى مدحرجة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: غمًّا بغمٍّ فقال
قوم: المعنى «أثابكم غما» بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم: «أثابكم غما بغم»، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال،
وقالت جماعة كبيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم،
وهذه باء الجر المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد:
الغم الأول أن سمعوا: ألا إن محمدا قد قتل، والثاني، القتل والجراح الواقعة
فيهم، وقال الربيع وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضا
وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم
الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا
صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال: أنا رسول
الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم
أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم
كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا،
وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: ليس لهم أن يعلونا،
اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى
هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة-
أحد- اختلافا كثيرا، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب
بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران
تحت المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن
أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في
ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية،
وقوله تعالى: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم معناه: من الغنيمة وما أصابكم
معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: واللام من قوله: لكيلا متعلقة بأثابكم، المعنى: لتعلموا أن ما وقع
بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر
للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله
تعالى: واللّه خبيرٌ بما تعملون توعد). [المحرر الوجيز: 2/388-392]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ} أي: صرفكم عنهم {إذ تصعدون} أي: في الجبل هاربين من أعدائكم.
وقرأ الحسن وقتادة: {إذ تصعدون} أي: في الجبل {ولا تلوون على أحدٍ} أي:
وأنتم لا تلوون على أحدٍ من الدّهش والخوف والرّعب {والرّسول يدعوكم في
أخراكم} أي: وهو قد خلّفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من
الأعداء، وإلى الرّجعة والعودة والكرّة.
قال السّدّي: لمّا شدّ المشركون على المسلمين بأحدٍ فهزموهم، دخل بعضهم
المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصّخرة فقاموا عليها، وجعل الرّسول
صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو النّاس: "إليّ عباد الله، إليّ عباد اللّه".
فذكر اللّه صعودهم على الجبل، ثمّ ذكر دعاء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
إيّاهم فقال: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرّسول يدعوكم في أخراكم}.
وكذا قال ابن عبّاسٍ، وقتادة والرّبيع، وابن زيدٍ.
وقد قال عبد اللّه بن الزّبعري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحدٍ في قصيدته -وهو مشركٌ بعد لم يسلم-الّتي يقول في أوّلها:
يا غراب البين أسمعت فقل = إنّما تنطق شيئًا قد فعل
إنّ للخير وللشر مدى = وكلا ذلك وجه وقبل
إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا = جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكّت بقباء بركها = واستحرّ القتل في عبد الأشل
ثمّ خفّوا عند ذاكم رقّصا = رقص الحفّان يعلو في الجبل
فقتلنا الضّعف من أشرافهم = وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
الحفّان: صغار النّعم.
وقد كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قد أفرد في اثني عشر رجلًا من
أصحابه، كما قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا زهير، حدّثنا أبو
إسحاق أنّ البراء بن عازبٍ قال: جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على
الرّماة يوم أحدٍ -وكانوا خمسين رجلًا-عبد اللّه بن جبير قال: ووضعهم
موضعًا وقال: "إن رأيتمونا تخطّفنا الطّير فلا تبرحوا حتّى أرسل إليكم وإن
رأيتمونا ظهرنا على العدوّ وأوطأناهم فلا تبرحوا حتّى أرسل إليكم قال:
فهزموهم. قال: فأنا واللّه رأيت النّساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسؤقهنّ
وخلاخلهن رافعاتٌ ثيابهن، فقال أصحاب عبد اللّه: الغنيمة، أي قوم الغنيمة،
ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ قال عبد اللّه بن جبيرٍ: أنسيتم ما قال لكم
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس
فلنصبينّ من الغنيمة. فلمّا أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الّذي
يدعوهم الرّسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
غير اثني عشر رجلًا فأصابوا منّا سبعين، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائةً: سبعين أسيرًا
وسبعين قتيلًا. قال أبو سفيان: أفي القوم محمّدٌ؟ أفي القوم محمّدٌ؟ أفي
القوم محمّدٌ؟ -ثلاثًا -قال: فنهاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن
يجيبوه، ثمّ قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي
القوم ابن الخطّاب؟ أفي القوم ابن الخطّاب؟ ثمّ أقبل على أصحابه فقال: أمّا
هؤلاء فقد قتلوا، قد كفيتموه. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت واللّه يا
عدوّ اللّه، إنّ الّذين عددت لأحياءٌ كلّهم، وقد بقى لك ما يسوؤك. فقال
يومٌ بيوم بدرٍ، والحرب سجال، إنّكم ستجدون في القوم مثلةً لم آمر بها ولم
تسؤني ثمّ أخذ يرتجز، يقول: اعل هبل. اعل هبل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "ألا تجيبوه ؟ " قالوا: يا رسول اللّه، ما نقول؟ قال: "قولوا:
اللّه أعلى وأجلّ". قال: لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "ألا تجيبوه؟ ". قالوا: يا رسول اللّه، وما نقول؟ قال:
"قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم".
وقد رواه البخاريّ من حديث زهير بن معاوية مختصرًا، ورواه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق بأبسط من هذا، كما تقدّم. واللّه أعلم.
وروى البيهقيّ في دلائل النّبوّة من حديث عمارة بن غزيّة، عن أبي الزّبير،
عن جابرٍ قال: انهزم النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحدٍ
وبقي معه أحد عشر رجلًا من الأنصار، وطلحة بن عبيد اللّه وهو يصعد الجبل،
فلقيهم المشركون، فقال: "ألا أحدٌ لهؤلاء؟ " فقال طلحة: أنا يا رسول اللّه،
فقال: "كما أنت يا طلحة". فقال رجلٌ من الأنصار: فأنا يا رسول اللّه،
فقاتل عنه، وصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن بقي معه، ثمّ قتل
الأنصاريّ فلحقوه فقال: "ألا رجلٌ لهؤلاء؟ " فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مثل قوله، فقال رجلٌ من الأنصار: فأنا يا
رسول اللّه، فقاتل عنه وأصحابه يصعدن، ثمّ قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل
قوله الأوّل فيقول طلحة: فأنا يا رسول اللّه، فيحبسه، فيستأذنه رجلٌ من
الأنصار للقتال فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله، حتّى لم يبق معه إلّا
طلحة فغشوهما، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من لهؤلاء؟ " فقال
طلحة: أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال: حسّ،
فقال رسول اللّه: "لو قلت: باسم الله، وذكرت اسم اللّه، لرفعتك الملائكة
والنّاس ينظرون إليك، حتّى تلج بك في جوّ السّماء"، ثمّ صعد رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وقد روى البخاريّ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن
أبي حازمٍ قال: رأيت يد طلحة شلّاء وقى بها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
-يعني يوم أحدٍ.
وفي الصّحيحين من حديث معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان النّهدي
قال: لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض تلك الأيّام،
الّتي قاتل فيهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غير طلحة بن عبيد اللّه
وسعدٍ، عن حديثهما وقال حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيدٍ وثابتٍ عن أنس بن
مالكٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أفرد يوم أحدٍ في سبعةٍ من
الأنصار ورجلين من قريشٍ، فلمّا رهقوه قال: "من يردّهم عنّا وله الجنّة
-أو: وهو رفيقي في الجنة؟ " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثمّ رهقوه
أيضًا، فقال: "من يردّهم عنّا وله الجنّة؟ " فتقدّم رجلٌ من الأنصار فقاتل
حتّى قتل. فلم يزل كذلك حتّى قتل السّبعة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا".
رواه مسلمٌ عن هدبة بن خالدٍ، عن حمّاد بن مسلمة به نحوه.
وقال الحسن بن عرفة: حدّثنا ابن مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشمٍ
الزّهريّ، قال سمعت سعيد بن المسيّب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاصٍّ [رضي
اللّه عنه] يقول: نثل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كنانته يوم أحدٍ
قال: "ارم فداك أبي وأمّي".
وأخرجه البخاريّ، عن عبد اللّه بن محمّدٍ، عن مروان بن معاوية.
وقال محمّد بن إسحاق حدّثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعدٍ، عن سعد بن أبي
وقاصٍّ؛ أنّه رمى يوم أحدٍ دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال
سعدٌ: فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يناولني النّبل ويقول:
"ارم فداك أبي وأمّي" حتّى إنّه ليناولني السّهم ليس له نصلٌ، فأرمي به.
وثبت في الصّحيحين من حديث إبراهيم بن سعدٍ عن أبيه، عن جدّه، عن سعد بن
أبي وقّاصٍّ قال: رأيت يوم أحدٍ عن يمين النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعن
يساره رجلين، عليهما ثيابٌ بيضٌ، يقاتلان عنه أشدّ القتال، ما رأيتهما قبل
ذلك اليوم ولا بعده، يعني: جبريل وميكائيل عليهما السّلام.
وقال أبو الأسود، عن عروة بن الزّبير قال: كان أبيّ بن خلف، أخو بني جمح،
قد حلف وهو بمكّة ليقتلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا بلغت
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حلفته قال: "بل أنا أقتله، إن شاء
اللّه". فلمّا كان يوم أحدٍ أقبل أبي في الحديد مقنّعا، وهو يقول: لا نجوت
إن نجا محمّدٌ. فحمل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريد قتله،
فاستقبله مصعب بن عمير، أخو بني عبد الدّار، يقي رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم بنفسه، فقتل مصعب بن عميرٍ، وأبصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم ترقوة أبيّ بن خلفٍ من فرجة بين سابغة الدّرع والبيضة، وطعنه فيها
بحربته، فوقع إلى الأرض عن فرسه، لم يخرج من طعنته دمٌ، فأتاه أصحابه
فاحتملوه وهو يخور خوار الثّور، فقالوا له: ما أجزعك إنّما هو خدشٌ؟ فذكر
لهم قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنا أقتل أبيا". ثمّ قال:
والّذي نفسي بيده لو كان هذا الّذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون. فمات
إلى النّار، فسحقًا لأصحاب السّعير.
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه، عن الزّهري، عن سعيد بن المسيّب بنحوه.
وذكر محمّد بن إسحاق قال: لمّا أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الشّعب، أدركه أبيّ بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال القوم: يا رسول
اللّه، يعطف عليه رجلٌ منّا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"دعوه" فلمّا دنا تناول رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] الحربة من
الحارث بن الصّمّة، فقال بعض القوم ما ذكر لي: فلمّا أخذها رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم منه انتفض بها انتفاضةً، تطايرنا عنه تطاير الشّعر عن
ظهر البعير إذا انتفض، ثمّ استقبله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فطعنه
في عنقه طعنةً تدأدأ منها عن فرسه مرارًا.
وذكر الواقديّ، عن يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه نحو ذلك.
قال الواقديّ: كان ابن عمر يقول: مات أبيّ بن خلفٍ ببطن رابغٍ، فإنّي لأسير
ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تتأجّح فهبتها، فإذا رجلٌ يخرج
منها في سلسلةٍ يجتذبها يهيج به العطش، وإذا رجلٌ يقول: لا تسقه، فإنّ هذا
قتيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، هذا أبيّ بن خلفٍ.
وثبت في الصّحيحين، من رواية عبد الرّزّاق، عن معمر، عن همّام بن منبّه، عن
أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"اشتدّ غضب الله على قومٍ فعلوا برسول الله -وهو حينئذٍ يشير إلى
رباعيته-اشتدّ غضب الله على رجلٍ يقتله رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في
سبيل الله".
ورواه البخاريّ أيضًا من حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن
ابن عبّاسٍ قال: اشتدّ غضب اللّه على من قتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، بيده في سبيل اللّه، اشتدّ غضب اللّه على قومٍ دمّوا وجه رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، رحمه اللّه: أصيبت
رباعية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشجّ في وجنته، وكلمت شفته وكان
الّذي أصابه عتبة بن أبي وقّاصٍّ.
فحدّثني صالح بن كيسان، عمّن حدّثه، عن سعد بن أبي وقّاصٍّ قال: ما حرصت
على قتل أحدٍ قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقّاصٍّ وإن كان ما علمته
لسيّئ الخلق، مبغضًا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم".
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن الزّهريّ، عن عثمان الجزري، عن مقسم؛
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا على عتبة بن أبي وقّاصٍّ يوم أحد
حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: "اللّهمّ لا تحل عليه الحول حتّى يموت
كافرًا". فما حال عليه الحول حتّى مات كافرًا إلى النّار.
ذكر الواقديّ عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة، عن أبي
الحويرث، عن نافع بن جبيرٍ قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدًا
فنظرت إلى النّبل يأتي من كلّ ناحيةٍ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
وسطها، كلّ ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد اللّه بن شهابٍ الزّهريّ يقول
يومئذٍ: دلّوني على محمّدٍ، لا نجوت إن نجا، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم إلى جنبه ليس معه أحدٌ، ثمّ جاوره فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: واللّه
ما رأيته، أحلف باللّه إنّه منّا ممنوعٌ. خرجنا أربعةً فتعاهدنا وتعاقدنا
على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقديّ: الثّبت عندنا أنّ الّذي رمى في وجنتي رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم ابن قميئة والّذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقّاصٍّ.
وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة
بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أمّ المؤمنين عائشة، رضي اللّه
عنها، قالت: كان أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، إذا ذكر يوم أحدٍ قال ذاك يومٌ
كله لطلحة، ثمّ أنشأ يحدّث قال: كنت أوّل من فاء يوم أحدٍ، فرأيت رجلًا
يقاتل مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دونه -وأراه قال: حميّة فقال
فقلت: كن طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلًا من قومي أحبّ إليّ،
وبيني وبين المشركين رجلٌ لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم منه، وهو يخطف المشي خطفًا لا أحفظه فإذا هو أبو عبيدة بن
الجرّاح، فانتهينا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: وقد كسرت رباعيته
وشجّ في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "عليكما صاحبكما". يريد طلحة، وقد نزف، فلم نلتفت
إلى قوله، قال: وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك
بحقّي لما تركتني. فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم، فأزمّ عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيّته مع
الحلقة، ذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقّي لما تركتني، قال: ففعل
مثل ما فعل في المرّة الأولى، فوقعت ثنيّته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو
عبيدة، رضي اللّه عنه، أحسن النّاس هتما، فأصلحنا من شأن رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم، ثمّ أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضعٌ وسبعون
أو أقلّ أو أكثر من طعنةٍ ورمية وضربةٍ، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من
شأنه.
ورواه الهيثم بن كليب، والطّبرانيّ، من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند
الهيثم: فقال أبو عبيدة: أنشدك يا أبا بكرٍ إلّا تركتني؟ فأخذ أبو عبيدة
السّهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، ثمّ استل السّهم بفيه فبدرت ثنيّة أبي عبيدة.
وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضّياء المقدسيّ في كتابه وقد ضعّف عليّ بن
المدينيّ هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا، فإنّه تكلّم فيه يحيى بن
سعيدٍ القطّان، وأحمد، ويحيى بن معينٍ، والبخاريّ، وأبو زرعة، وأبو حاتمٍ،
ومحمّد بن سعدٍ، والنّسائيّ وغيرهم.
وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث: أنّ عمر بن السّائب حدّثه: أنّه
بلّغه أنّ مالكًا أبا [أبي] سعيدٍ الخدري لمّا جرح النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم يوم أحدٍ مصّ الجرح حتّى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مجّه. فقال: لا
واللّه لا أمجّه أبدًا. ثمّ أدبر يقاتل، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم: "من أراد أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنّة، فلينظر إلى هذا "
فاستشهد.
وقد ثبت في الصّحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازمٍ عن أبيه، عن سهل بن
سعد أنه سئل عن جرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: جرح وجه رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت
فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تغسل الدّم، وكان علي يسكب
عليها بالمجنّ فلمّا رأت فاطمة [رضي اللّه عنها] أنّ الماء لا يزيد الدّم
إلّا كثرةً، أخذت قطعة حصير فأحرقته، حتّى إذا صار رمادًا ألصقته بالجرح،
فاستمسك الدّم.
وقوله: {فأثابكم غمًّا بغمٍّ} أي: فجازاكم غما على غم كما تقول العرب: نزلت ببني فلانٍ، ونزلت على بني فلانٍ.
قال ابن جريرٍ: وكذا قوله: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل} [طه:71] [أي: على جذوع النّخل].
قال ابن عبّاسٍ: الغمّ الأوّل: بسبب الهزيمة، وحين قيل: قتل محمّدٌ صلّى
اللّه عليه وسلّم، والثّاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ ليس لهم أن يعلونا".
وعن عبد الرّحمن بن عوفٍ: الغمّ الأوّل: بسبب الهزيمة، والثّاني: حين قيل:
قتل محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة.
رواهما ابن مردويه، وروي عن عمر بن الخطّاب نحو ذلك. وذكر ابن أبي حاتمٍ عن قتادة نحو ذلك أيضًا.
وقال السّدّي: الغمّ الأوّل: بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثّاني: بإشراف العدوّ عليهم.
وقال محمّد بن إسحاق {فأثابكم غمًّا بغمٍّ} أي: كربا بعد كربٍ، قتل من قتل
من إخوانكم، وعلو عدوّكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: "قتل
نبيّكم" فكان ذلك متتابعًا عليكم غمًّا بغمٍّ.
وقال مجاهدٌ وقتادة: الغمّ الأوّل: سماعهم قتل محمّدٍ، والثّاني: ما أصابهم من القتل والجراح. وعن قتادة والرّبيع بن أنسٍ عكسه.
وعن السّدّي: الأوّل: ما فاتهم من الظّفر والغنيمة، والثّاني: إشراف العدوّ عليهم، وقد تقدّم هذا عن السّدّيّ.
قال ابن جريرٍ: وأولى هذه الأقوال بالصّواب قول من قال: {فأثابكم غمًّا
بغمٍّ} فأثابكم بغمكم أيّها المؤمنون بحرمان اللّه إيّاكم غنيمة المشركين
والظّفر بهم والنصر عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذٍ -بعد الّذي
أراكم في كلّ ذلك ما تحبّون -بمعصيتكم ربّكم، وخلافكم أمر النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم، غم ظنّكم أنّ نبيّكم قد قتل، وميل العدو عليكم بعد
فلولكم منهم.
وقوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي: على ما فاتكم من الغنيمة بعدوّكم
{ولا ما أصابكم} من القتل والجراح، قاله ابن عبّاسٍ، وعبد الرّحمن بن عوفٍ،
والحسن، وقتادة، والسّدّيّ {واللّه خبيرٌ بما تعملون}). [تفسير القرآن العظيم: 2/137-144]
تفسير قوله
تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي
صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (154)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعز: {ثمّ
أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمّتهم
أنفسهم يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة يقولون هل لنا من الأمر من
شيء قل إنّ الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان
لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب
عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم
واللّه عليم بذات الصّدور}
{ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاسا}أي: أعقبكم بما نالكم من الرّعب أن أمنكم أمنا تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام.
و {أمنة} اسم تقول أمن الرجل أمنا وأمنة، إذا لم ينله خوف.
و {نعاسا}: منصوب على البدل من {أمنة}، ويقرأ (يغشى) و {تغشى طائفة منكم} فمن قرأ (يغشى) - بالياء - جعله للنعاس ومن قرأ {تغشى} بالتاء جعله للأمنة.
والأمنة تؤدي معنى النعاس.
وإن قرئ يغشى جاز - وهذه الطائفة هم المؤمنون.
{وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم} وهم المنافقون.
وقوله جلّ وعزّ: {يظنّون باللّه غير الحقّ}أي: يظن المنافقون أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمحل.
{ظنّ الجاهليّة} أي: هم على جاهليتهم في ظنهم هذا والقراءة.
{وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} - قال سيبويه: المعنى: إذ طائفة قد أهمتهم وهذه واو الحال، ولو قرئت: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}، على إضمار فعل (أهم) الذي ظهر تفسيره كان جائزا.
المعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، وجائز أن يرتفع على أن يكون الخبر - يظنون ويكون قد أهمتهم نعت طائفة، المعنى: وطائفة تهمهم أنفسهم يظنون، أي: طائفة يظنون باللّه غير الحق.
وقوله عزّ وجلّ: {قل لو كنتم في بيوتكم}.
تقرأ {بيوتكم} بضم الباء وكسرها، وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم بكسر الباء، قال أبو إسحاق: وقرأناها بإقراء أبي عمرو عن عاصم {بيوتكم}
بضم الباء، والضم الأكثر الأجود - والذين كسروا (بيوت) كسروها لمجيء الياء
بعد الباء و " فعول " ليس بأصل في الكلام، ولا من أمثلة الجمع.
فالاختيار (بيوت)
مثل قلب وقلوب وفلس وفلوس.
وقوله عزّ وجلّ {لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}
معنى (برزوا): صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف، أي: لأوصلتهم الأسباب التي عنها يكون القتل إلى مضاجعهم.
وقوله عزّ وجلّ: {وليبتلي اللّه ما في صدوركم}أي:
يختبره بأعمالكم لأنه علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة تقع على ما علم
مشاهدة، أعني على ما وقع من عامليه، لا على ما هو معلوم منهم.
وقوله عزّ وجلّ: {قل إنّ الأمر كلّه للّه}
فمن نصب فعلي توكيد {الأمر} ومن رفع فعلي الابتداء - و{للّه} الخبر ومعنى {الأمر كله لله} أي النصر وما يلقي من الرعب في القلوب للّه،أي: كل ذلك لله). [معاني القرآن: 1/479-480]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفسهم ....
ثم ذكر الله تعالى أمر
النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو
سفيان من موضع الحرب، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين
في تلك الساعة إليه:
اذهب فانظر إلى القوم، فإن
جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى
المدينة، فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر
أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين
في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد،
فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو
طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا، وقال الزبير بن
العوام، لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال ابن مسعود:
نعسنا يوم- أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من
الشيطان، وقرأ جمهور الناس «أمنة» بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي
«أمنة» بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: نعاساً
بدل، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملا
على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى»
بالتاء حملا على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه، والواو في
قوله تعالى: وطائفةٌ قد أهمّتهم هي واو
الحال كما تقول: جئت وزيد
قائم، قاله سيبويه وغيره قال الزجّاج: وجائز أن يكون خبر قوله وطائفةٌ
قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى: قد أهمّتهم أنفسهم
ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم: إلى أن اللفظة من
الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى:
أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب:
أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين: أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: أهمتهم أنفسهم المكاشفة. ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل محمد،
فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال.
قوله تعالى: ... يظنّون
باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة يقولون هل لنا من الأمر من شيءٍ قل إنّ
الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من
الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم
القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم واللّه
عليمٌ بذات الصّدور (154)
قوله تعالى: غير الحقّ
معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب،
وقوله: ظنّ الجاهليّة ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة
قبل الإسلام، وهذا كما قال: حميّة الجاهليّة [الفتح: 26] وتبرّج الجاهليّة
[الأحزاب: 33]، وكما تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في
الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه
الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل،
وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله تعالى: يقولون هل لنا من الأمر من
شيءٍ حكاية كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي ابن
سلول: قتل بنو الخزرج فقال: «وهل لنا من الأمر من شيء» ؟ يريد أن الرأي ليس
لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا
منهم قول بأجلين، وكأن كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من
أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن
يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في
الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى: قل إنّ الأمر كلّه للّه
اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ جمهور القراء «كلّه» - بالنصب على تأكيد
الأمر، لأن «كله» بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلّه لله» برفع كل
على الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة
«كل»، وقوله تعالى: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يحتمل أن يكون إخبارا
عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن
يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه
النزعات، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في
المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى: يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ
ما قتلنا هاهنا هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال
الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير
أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لو كان
لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب
هذا ممن شهد بدرا، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد
العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى: قل لو كنتم في
بيوتكم الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم
يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك
هو الذي كان في سابق الأزل، وقرأ جمهور الناس «في بيوتكم» بضم الباء، وقرأ
بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بيوتكم»، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس
«لبرز» بفتح الراء والباء على معنى: صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو
حيوة «لبرّز» بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس: «عليهم القتل»
أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن والزهري: «عليهم القتال»
وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز
المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى: وليبتلي
اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم الآية، اللام في قوله تعالى:
وليبتلي متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة
والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى
ليختبره فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء أزلا،
و «ذات الصدور» ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية).
[المحرر الوجيز: 2/392-396]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ
أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنةً نعاسًا يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد
أهمّتهم أنفسهم يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة يقولون هل لنا من
الأمر من شيءٍ قل إنّ الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك
يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم
لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللّه ما في صدوركم
وليمحّص ما في قلوبكم واللّه عليمٌ بذات الصّدور (154) إنّ الّذين تولّوا
منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا
اللّه عنهم إنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (155)}
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السّكينة والأمنة، وهو
النّعاس الّذي غشيهم وهم مستلئمو السّلاح في حال همّهم وغمّهم، والنّعاس في
مثل تلك الحال دليلٌ على الأمان كما قال تعالى في سورة الأنفال، في قصّة
بدرٍ: {إذ يغشّيكم النّعاس أمنةً منه [وينزل عليكم من السّماء ماءً
ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به
الأقدام]} [الأنفال:11].
وقال [الإمام] أبو محمّدٍ عبد الرحمن ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ
الأشجّ، حدثنا أبو نعيم وكيعٌ عن سفيان، عن عاصمٍ، عن أبي رزينٍ، عن عبد
اللّه بن مسعودٍ قال: النّعاس في القتال من اللّه، وفي الصّلاة من
الشّيطان.
قال البخاريّ: قال لي خليفة: حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة،
عن أنسٍ، عن أبي طلحة، رضي اللّه عنه، قال: كنت فيمن تغشاه النّعاس يوم
أحد، حتّى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
هكذا رواه في المغازي معلّقًا. ورواه في كتاب التّفسير مسندًا عن شيبان، عن
قتادة، عن أنسٍ، عن أبي طلحة قال: غشينا النّعاس ونحن في مصافنا يوم أحدٍ.
قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
وقد رواه التّرمذيّ والنّسائيّ والحاكم، من حديث حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ،
عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر وما منهم يومئذٍ
أحدٌ إلّا يميد تحت جحفته من النّعاس. لفظ التّرمذيّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
ورواه النّسائيّ أيضًا، عن محمّد بن المثنّى، عن خالد بن الحارث، عن أبي
قتيبة، عن ابن أبي عديٍّ، كلاهما عن حميدٍ، عن أنسٍ قال: قال أبو طلحة: كنت
فيمن ألقي عليه النّعاس -الحديث.
وهكذا روي عن الزّبير وعبد الرّحمن بن عوفٍ، رضي اللّه عنه.
وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ أخبرني أبو الحسين محمّد بن
يعقوب، أخبرنا محمّد بن إسحاق الثّقفيّ، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن
المبارك المخزوميّ، حدّثنا يونس بن محمّدٍ، حدّثنا شيبان، عن قتادة، حدّثنا
أنس بن مالكٍ؛ أنّ أبا طلحة قال: غشينا النّعاس ونحن في مصافّنا يوم أحد،
فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال: والطّائفة الأخرى
المنافقون ليس لهم همٌّ إلّا أنفسهم، أجبن قومٍ وأرعنه، وأخذله للحقّ
{يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة} كذبة، أهل شكٍّ وريبٍ في اللّه،
عزّ وجلّ.
هكذا رواه بهذه الزّيادة، وكأنّها من كلام قتادة، رحمه اللّه، وهو كما قال؛
فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: {ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنةً نعاسًا
يغشى طائفةً منكم} يعني: أهل الإيمان واليقين والثّبات والتّوكّل الصّادق،
وهم الجازمون بأنّ اللّه سينصر رسوله وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وطائفةٌ
قد أهمّتهم أنفسهم} يعني: لا يغشاهم النّعاس من القلق والجزع والخوف
{يظنّون باللّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة} كما قال في الآية الأخرى: {بل
ظننتم أن لن ينقلب الرّسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا [وزيّن ذلك في
قلوبكم وظننتم ظنّ السّوء وكنتم قومًا بورًا]} [الفتح:12] وهكذا هؤلاء،
اعتقدوا أنّ المشركين لمّا ظهروا تلك السّاعة أنّها الفيصلة وأنّ الإسلام
قد باد وأهله، هذا شأن أهل الرّيب والشّكّ إذا حصل أمرٌ من الأمور الفظيعة،
تحصل لهم هذه الظّنون الشّنيعة.
ثمّ أخبر تعالى عنهم أنّهم {يقولون} في تلك الحال: {هل لنا من الأمر من
شيءٍ} قال اللّه تعالى: {قل إنّ الأمر كلّه للّه يخفون في أنفسهم ما لا
يبدون لك} ثمّ فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: {يقولون لو كان لنا من الأمر
شيءٌ ما قتلنا هاهنا} أي: يسرّون هذه المقالة عن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم.
قال [محمّد] بن إسحاق بن يسارٍ: فحدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن
الزّبير، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الزّبير قال: قال الزّبير: لقد رأيتني
مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين اشتدّ الخوف علينا، أرسل اللّه
علينا النّوم، فما منّا من رجلٍ إلّا ذقنه في صدره، قال: فواللّه إنّي
لأسمع قول معتب بن قشير، ما أسمعه إلّا كالحلم، [يقول] {لو كان لنا من
الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا} فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل اللّه [تعالى] {لو
كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا هاهنا} لقول معتب. رواه ابن أبي حاتمٍ.
قال اللّه تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى
مضاجعهم} أي: هذا قدرٌ مقدّرٌ من اللّه عزّ وجلّ، وحكمٌ حتم لا يحاد عنه،
ولا مناص منه.
وقوله: {وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم} أي: يختبركم بما
جرى عليكم، وليميز الخبيث من الطّيّب، ويظهر أمر المؤمن والمنافق للنّاس
في الأقوال والأفعال، {واللّه عليمٌ بذات الصّدور} أي: بما يختلج في
الصّدور من السّرائر والضّمائر). [تفسير القرآن العظيم: 2/144-146]
تفسير قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم إنّ اللّه غفور حليم} هذا خطاب للمؤمنين خاصة.
{إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا} أي:
لم يتولوا في قتالهم على جهة المعاندة، ولا على الفرار من الزحف رغبة في
الدنيا خاصة، وإنما أذكرهم الشيطان خطايا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا
على حال يرضونها، فلذلك عفا عنهم وإلا فأمر الفرار والتولي في الجهاد إذا
كانت العدة أقل من المثلين، أو كانت العدة مثلين، فالفرار أمر عظيم.
قال اللّه عزّ وجلّ: {ومن يولّهم يومئذ دبره إلّا متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه ومأواه جهنّم}
وهذا يدل أن أمر الوعيد لأهل الصلاة أمر ثابت، وأن التولي في الزحف من أعظم الكبائر). [معاني القرآن: 1/481]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان
ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم إنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (155)
اختلف المتأولون في من
المراد بقوله تعالى: إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان فقال
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن
العدو.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفا لقتال، وأسند الطبري
رحمه الله قال: خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه
إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى
الجمعان، قال: لما كان يوم- أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني
أنزو كأني أروى، والناس يقولون قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل
محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها، قال قتادة:
هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه الزلة،
قال ابن فورك: لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلا، أبو بكر، وعلي،
وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الأنصار أبو طلحة
وغيره وقال السدي وغيره: إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليهم
صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين
فروا إلى المدينة خاصة.
قال القاضي: جعل الفرار إلى
الجبل تحيزا إلى فئة، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين
فرارا كثيرا، منهم رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن
إسحاق: فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار
زرقيان، حتى بلغوا الجعلب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به
ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لقد
ذهبتم فيها عريضة، قال ابن زيد: فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة؟ أم
عن المؤمنين جميعا؟ و«استزل» - معناه طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى
وسوسته وتخويفه، وقوله تعالى: ببعض ما كسبوا ظاهره عند جمهور المفسرين: أنه
كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما
اكتسبوه أيضا هم من الفرار، وذهب الزجّاج وغيره: إلى أن المعنى، أن الشيطان
ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، قال
المهدوي: بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله: ببعض ما كسبوا إلى هذه
العبرة، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك
في بعضه، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في
الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد الله بن عدي
بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج:
معنى الآية، عفا اللّه عنهم إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من
الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات
مع الشرك وقتل النفس وغيرها). [المحرر الوجيز: 2/396-398]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال: {إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان
ببعض ما كسبوا} أي: ببعض ذنوبهم السّالفة، كما قال بعض السّلف: إنّ من ثواب
الحسنة الحسنة بعدها، وإنّ من جزاء السيئة السّيّئة بعدها.
ثمّ قال تعالى: {ولقد عفا اللّه عنهم} أي: عمّا كان منهم من الفرار {إنّ
اللّه غفورٌ حليمٌ} أي: يغفر الذّنب ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم، وقد
تقدّم حديث ابن عمر في شأن عثمان، رضي اللّه عنه، وتولّيه يوم أحدٍ، وأنّ
اللّه [قد] عفا عنهم، عند قوله: {ولقد عفا عنكم} ومناسبٌ ذكره هاهنا.
قال الإمام أحمد: حدّثنا معاوية بن عمرو، حدّثنا زائدة، عن عاصمٍ، عن
شقيقٍ، قال: لقي عبد الرّحمن بن عوفٍ الوليد بن عقبة فقال له الوليد: ما لي
أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرّحمن: أبلغه أنّي لم أفرّ
يوم عينين -قال عاصمٌ: يقول يوم أحدٍ-ولم أتخلّف عن بدرٍ، ولم أترك سنة
عمر. قال: فانطلق فخبر ذلك عثمان، قال: فقال: أمّا قوله: إنّي لم أفرّ يوم
عينين فكيف يعيرني بذنب قد عفا اللّه عنه، فقال: {إنّ الّذين تولّوا منكم
يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه
عنهم} وأمّا قوله: إنّي تخلّفت يوم بدرٍ فإنّي كنت أمرّض رقيّة بنت رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى ماتت، وقد ضرب لي رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم بسهمٍ، ومن ضرب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسهمٍ فقد
شهد. وأمّا قوله: "إنّي لم أترك سنّة عمر" فإنّي لا أطيقها ولا هو، فأته
فحدّثه بذلك). [تفسير القرآن العظيم: 2/146]